ونزلت أنباء الهزيمة بشهريران نزول الصاعقة، فحم فمات، وأراد الفرس أن يملكوا عليهم ابنة كسرى ليفرغوا إلى تنظيم شئونهم كرة أخرى، ولم ينفذ لها أمر فخلعت، وخلفها على العرش سابور بن شهريران، واستوزر سابور الفرخزاد، وأراد أن يزوجه آزرميدخت ابنة كسرى، فغضبت ألا يكون زوجها من بيت الملك، وقالت لسابور: «يا بن عم، أتزوجني عبدي؟!» لكن سابور لم يسمع لقولها وأغلظ لها في الخطاب، فاستعانت بسياوخش الرازي أحد فتاك الأعاجم، فلما كانت ليلة العرس ودخل الفرخزاد مخدع آزرميدخت ثار به الفاتك فقتله ومن معه، ثم سار بابنة كسرى وأعوانها إلى سابور فحاصروه ودخلوا عليه فقتلوه، وجلست آزرميدخت على العرش مكانه.
ترامت هذه الأنباء إلى المثنى فاطمأن. وما خوفه من بلاط عاد إليه الاضطراب والغدر واختلاف الجالسين على العرش؟! لكنه إن أمن يومه فالحذر يقتضيه الحساب لغده. وسار بجيشه يطارد الفرس حتى بلغ أبواب المدائن، فهو يطمع في أن يفتحها، ولا بد له ليفتحها من مدد يقوي جيشه، وما كان أبو بكر ليمده وجيوش المسلمين كلها بالشام؛ لذلك كتب المثنى يخبر الصديق بانتصاره على الفرس ويستأذنه في الاستعانة بمن ظهرت توبتهم من أهل الردة. وإذ كان يعلم أن أبا بكر لا يطيب نفسا بهذا الرأي فقد أيده بأن التائبين من أهل الردة يطمعون في مغانم الغزو، وأنه لا يرى أحدا أنشط إلى معاونته في محاربة فارس منهم. وفي انتظار المدد أقام يدبر خطته ويحكم تدبيره، لكن انتظاره طال وأبطأ عليه رد الخليفة، هنالك انسحب في الجيش إلى أدنى أرض العراق من حدود البادية، واستخلف بشير بن الخصاصية على من بالعراق من المسلمين، وذهب بنفسه إلى المدينة يدافع عن رأيه، وألفى أبا بكر اشتد به المرض حتى أشفى على الموت، مع ذلك استقبله الخليفة وسمع إليه واقتنع برأيه وقال: علي بعمر، وكان قد استخلفه؛ فلما جاء قال له: «اسمع يا عمر ما أقول لك، ثم اعمل به، إني لأرجو أن أموت من يومي هذا، فإن أنا مت فلا تمسين حتى تندب الناس مع المثنى، وإن تأخرت إلى الليل فلا تصبحن حتى تندب الناس مع المثنى، ولا يشغلنكم مصيبة وإن عظمت عن أمر دينكم ووصية ربكم، وقد رأيتني متوفى رسول الله
صلى الله عليه وسلم
وما صنعت، ولم يصب الخلق بمثله، وبالله لو أني أني عن أمر الله وأمر رسوله لخذلنا، ولعاقبنا فاضطرمت المدينة نارا، وإن فتح الله على أمراء الشام فاردد أصحاب خالد إلى العراق، فإنهم أهله وولاة أمره وحده، وهم أهل الضراوة بهم والجرأة عليهم.»
ووعد عمر أن ينفذ أمر أبي بكر، وكان يقول من بعد: «قد علم أبو بكر أنه يسوءني أن أؤمر خالدا، فلهذا أمرني أن أرد أصحاب خالد وترك ذكره معهم.»
وعاد المثنى إلى العراق أول ما استخلف عمر، ورفع عمر الحظر عمن عادوا إلى الإسلام من المرتدين لينهضوا إلى حرب فارس، وما لهم لا يفعلون وقد فتح الله على المسلمين؟! ثم ما لهم لا يسارعون إلى الخيرات يتطهرون بجهادهم من حوبة ردتهم، فإن استشهدوا فلهم الجنة، وإن أقاموا بعد النصر فلهم من الفيء ما يجعل الحياة جنة أمامهم؟!
ولقد استفتح عمر عهده بمتابعة حروب فارس؛ فكان لهؤلاء الذين عادوا إلى الإسلام من حسن البلاء ما أرجو أن أقص نبأه في خلافة الفاروق.
الفصل السادس عشر
جمع القرآن
يقتضينا الحديث عن جمع القرآن أن نعود بالذاكرة إلى غزوة اليمامة، فعلى أثرها بدأت فكرة هذا الجمع، ثم نفذت، واستغرق التنفيذ ما بقي بعد اليمامة من خلافة الصديق، وفي رواية أنه استغرق زمنا من عهد عمر، وإنما أرجأنا الحديث في هذا الموضوع لئلا نقطع حديث الحرب والفتح، وليكون حديثنا عن جمع القرآن متصلا حتى وفاة أبي بكر.
Bilinmeyen sayfa