1 - أبو بكر في حياة النبي
2 - بيعة أبي بكر
3 - العرب حين وفاة النبي
4 - بعث أسامة
5 - قتال من منعوا الزكاة
6 - التهيؤ لحروب الردة
7 - طليحة وغزوة البزاخة
8 - سجاح ومالك بن نويرة
9 - غزوة اليمامة
10 - بقية حروب الردة
11 - التمهيد للفتح وللإمبراطورية
12 - فتح العراق
13 - بين العراق والشام
14 - فتح الشام
15 - المثنى في العراق
16 - جمع القرآن
17 - حكومة أبي بكر
18 - مرض أبو بكر ووفاته
خاتمة
تقدير وشكر سجل المراجع
1 - أبو بكر في حياة النبي
2 - بيعة أبي بكر
3 - العرب حين وفاة النبي
4 - بعث أسامة
5 - قتال من منعوا الزكاة
6 - التهيؤ لحروب الردة
7 - طليحة وغزوة البزاخة
8 - سجاح ومالك بن نويرة
9 - غزوة اليمامة
10 - بقية حروب الردة
11 - التمهيد للفتح وللإمبراطورية
12 - فتح العراق
13 - بين العراق والشام
14 - فتح الشام
15 - المثنى في العراق
16 - جمع القرآن
17 - حكومة أبي بكر
18 - مرض أبو بكر ووفاته
خاتمة
تقدير وشكر سجل المراجع
الصديق أبو بكر
الصديق أبو بكر
تأليف
محمد حسين هيكل
«لو كنت متخذا من العباد خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا.»
حديث شريف
بسم الله الرحمن الرحيم * الحمد لله رب العالمين * الرحمن الرحيم * مالك يوم الدين * إياك نعبد وإياك نستعين * اهدنا الصراط المستقيم * صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين
تقديم
بقلم محمد حسين هيكل
يؤرخ العالم الإسلامي كله بهجرة النبي العربي
صلى الله عليه وسلم
من مكة إلى المدينة، والسر في اختيار هذا الحادث العظيم مبدأ للتاريخ الإسلامي أنه مبدأ نصر الله رسوله على الذين حاربوا دعوته في البلد الحرام ثم مكروا به ليقتلوه، وكان الصديق أبو بكر هو وحده صاحب رسول الله
صلى الله عليه وسلم
في هذه الهجرة، ولما مرض رسول الله
صلى الله عليه وسلم
مرضه الأخير، فلم يقو على الصلاة بالمسلمين، أمر أبا بكر أن يقوم في الصلاة بهم مقامه، ولم يرض أن يقوم عمر بن الخطاب هذا المقام.
وإنما اختار النبي أبا بكر ليصحبه في الهجرة، وليصلي بالمسلمين مكانه؛ لأن أبا بكر كان أول المسلمين إيمانا بالله ورسوله، وأكثرهم في سبيل إيمانه تضحية، ولأنه حرص منذ أسلم على معاونة النبي
صلى الله عليه وسلم
في الدعوة لدين الله وفي الدفاع عن المسلمين، ولأنه كان يؤثر النبي على نفسه، ويقف إلى جانبه في كل موقف؛ ثم إنه كان، إلى قوة إيمانه، من أدنى الناس إلى كمال الخلق، ومن أحب الناس إلى الناس وأكثرهم إلفا لهم ومودة.
لا عجب، وذلك بعض شأنه، أن يبايعه المسلمون خليفة لرسول الله، ولا عجب، وتلك مواقفه، أن ينصر الإسلام وينشر ظل الله في الأرض، فيكون التأريخ له مبدأ التأريخ للإمبراطورية الإسلامية التي امتدت من بعد في الشرق وفي الغرب، إلى الهند والصين في آسيا، وإلى مراكش والأندلس في إفريقية وأوربا، والتي وجهت الحضارة الإنسانية وجهة لا يزال العالم متأثرا بها إلى اليوم.
ولقد جال بخاطري، منذ فرغت من كتابي «حياة محمد»
صلى الله عليه وسلم
و«في منزل الوحي»، أن أقوم بدراسات في تاريخ هذه الإمبراطورية الإسلامية، وفي أسباب عظمتها وانحلالها، وإنما أغراني بالتفكير في هذا الأمر أن الإمبراطورية الإسلامية كانت أثرا لتعاليم النبي العربي وسنته، أما وقد درست حياته
صلى الله عليه وسلم ، ورأيت نتائج هذه الدراسة جديرة بأن تهدي الإنسانية طريقها إلى الحضارة التي تنشدها، فإن دراسة هذه الإمبراطورية وأطوارها ما يزيدنا قدرا للتأسي بالرسول وتعاليمه، وما ييسر لنا حظا جديدا من العلم بهذه الحياة الباهرة الجلال يزيد العلماء اقتناعا بما دعوت إليه من إمعان البحث فيما تنطوي عليه من حقائق نفسية، وأخرى روحية، ما يزال العلم يقف بوسائله حائرا دونها، لا يستطيع أن يثبتها بأدلته، ولا يستطيع مع ذلك أن ينفيها، وهي من بعد قوام سعادة الإنسان في الحياة ومقوم سلوكه فيها.
وأغراني بهذا التفكير كذلك ما أعتقده من أن معرفة الماضي هي وحدها التي تطوع لنا تطوير المستقبل وتوجيه جهودنا أثناءه إلى الغاية الجديرة بالإنسانية؛ فالماضي والحاضر والمستقبل وحده لا سبيل إلى انفصامها، ومعرفة الماضي هي وسيلتنا لتشخيص الحاضر، ولتنظيم المستقبل؛ كما أن معرفة الطبيب ماضي مريضه خير وسائل التشخيص والعلاج.
والحاضر الذي تمخضت عنه الإمبراطورية الإسلامية يتناول بنوع خاص كل الشعوب التي تتكلم العربية ، وتؤمن لذلك بأنها تمت لأهل شبه الجزيرة بصلة ونسب، ومصر مركز الدائرة من هذه الشعوب؛ تمتد حولها فلسطين وسوريا والعراق إلى الشرق، وطرابلس وتونس والجزائر ومراكش إلى الغرب، ويتناول هذا الحاضر بنوع عام جميع الشعوب التي تدين بالإسلام في آسيا وإفريقية وأوربا، لا جرم وماضي الإمبراطورية الإسلامية يربط على الزمان هذه الأمم والشعوب كافة أن تكون دراسته موضع عنايتها جميعا، وأن يرى كل منها صورته إلى أربعمائة وألف سنة خلت ماثلة في هذه الدراسة، وأن يتعرف من طريقها الأسباب التي أدت إلى ما أصاب هذه الصورة من شوه أو فساد، وأن يلتمس الوسيلة من طريق هذا التعرف لرد الصورة إلى جلالها الأول وبهائها المضيء.
وإني لأفكر في هذه الأمور وفيما يتصل بها إذ رغب إلي جماعة ممن أبدوا الرضا عن «حياة محمد» أن أتناول حياة خلفائه الأولين بالبحث، وأن أفرد لطائفة من أبطال المسلمين في العهد الأول تراجم مستفيضة، أسجل في كل واحدة منها سيرة واحد من هؤلاء الأبطال، ولئن أرضى مطلب هؤلاء الأصحاب نفسي وتملق رضاي عنها لقد أشفقت عليها مما طلبوا؛ فهو أمر يقصر دون إتمامه الجهد، وتنوء بإحسانه جماعة متضافرة.
وكانت الترجمة لعمر بن الخطاب مما أكثر الحديث فيه قوم رأوا سيرة الفاروق غرة في جبين التاريخ الإسلامي، قلت عند ذلك في نفسي: وما لي لا أبدأ بسيرة الصديق فأدرسها وأعرضها على النحو الذي عرضت به «حياة محمد»! لقد كان أبو بكر صفي محمد
صلى الله عليه وسلم
وخليله، وكان أكثر أصحابه اتصالا به، وكان لذلك أكثرهم تتبعا لتعاليمه وامتثالا إياها، وهو بعد رجل رقيق الخلق، رضي النفس، وإليه ينتسب عشرات الألوف ومئاتها من المسلمين المنتشرين في أنحاء الأرض، ثم إنه، إلى رفقه ورقته، هو الخليفة الأول، وهو الذي أقر الإسلام حين حاول المرتدون من العرب أن يقوضوا ركنه أو يثلموا متنه، كما أنه هو الذي مهد للفتح وللإمبراطورية، فلعلي، إذا وفقت لتدوين سيرته على النحو الذي أرجو أكون قد عبدت الطريق لكتابة تاريخ هذه الإمبراطورية كله أو بعضه، فأبلغ بذلك ما يريد الله أن أبلغه من هذا الغرض العظيم، وأمهد السبيل لمن شاء أن يتمه أو يأخذ فيه من جديد على نحو أدنى إلى الكمال.
ولو أني قر بي الجهد عند سيرة أبي بكر لكفاني ذلك ولاغتبطت به، وحسبك أن تتلو ما حدث في عهد الخليفة الأول لتسكن إليه وتستقر عنده، إن فيما رواه المؤرخون من وقائع هذا العهد لما ينطوي على عظمة نفسية تثير الدهشة، بل الإعجاب، بل الإكبار والإجلال، وأخشى أن أقول إنها تدعو إلى التقديس، أنت لا ترى هذه المعاني مصورة في أي من الكتب الأولى؛ لكن روايتها للحوادث تبرزها وإن لم تنطق بها، وتجلوها بينة واضحة وإن لم تذكرها ولم تحدث عنها.
فهذا الرجل الوديع السمح الأسيف، السريع إلى التأثر وإلى المشاركة، البائس في بؤسه، والضعيف في ضعفه، تنطوي نفسه على قوة هائلة لا تعرف التردد ولا الإحجام، وعلى قدرة ممتازة في بناء الرجال، وفي إبراز ملكاتهم ومواهبهم، وفي دفعهم إلى ميادين الخير العام ينفقون فيها كل ما آتاهم الله من قوة ومقدرة.
أين كانت هذه العبقرية التي انطوت عليها نفس أبي بكر أثناء حياة الرسول؟
عدت بالذاكرة إلى سيرة أبي بكر قبل خلافته، واستحضرت مواقفه من رسول الله، فبدت لي في ثوب جديد من الجلال تحيط بها هالة من عظمة تواضعت إلى جانب عظمة الرسول وجلاله؛ لكنها برزت أمامي بكل بهائها وجلالها حين قرنت صاحبها إلى سائر أصحاب رسول الله ومن اتبعه من المسلمين، فأين مواقفهم، على جلالها وعظمتها، من مواقفه أول الرسالة، وحين كانت قريش تنال رسول الله بالإساءة والأذى، وحين كان حديث الإسراء، وأول الهجرة، وفي مكافحة دسائس اليهود بيثرب؟!! إن كل موقف من هذه المواقف لكفيل وحده بأن يؤرخ لرجل وأن يثبت اسمه في كتاب الخلود، وعظمة أبي بكر مع ذلك هي العظمة الصامتة التي تأبى أن تتحدث عن نفسها؛ لأنها عظمة الروح وعظمة الإيمان الحق بالله وبما أوحى إلى رسوله
صلى الله عليه وسلم .
ثم ماذا؟ ثم إن رواية الحوادث في عهد أبي بكر تشهد له بحسن الرأي وبعد النظر، فهو حين فكر في غزو الفرس وفي غزو الروم لأول ما اطمأن إلى موقف المسلمين من حروب الردة في بلاد العرب، قد رأى في مبدأ المساواة الذي جاء الإسلام به قوة جديدة لا تستطيع فارس ولا تستطيع بزنطية أن تواجهها، فهذا المبدأ جدير بأن تهوي إليه نفوس الناس جميعا في هاتين الإمبراطوريتين اللتين قامتا على حكم الفرد وعلى نظام الطوائف وعلى التفاوت بين الناس، ليكن لكل من الإمبراطوريتين ما تشاء من عدد وعدة؛ فإن فكرة المساواة والعدل أقوى من كل قوة، والحكم القائم على أساس هذه الفكرة جدير بأن يكسب الناس إليه ما كان الإنصاف أساسه، لذلك لم يصد أبا بكر عن غزو العراق وغزو الشام ما كان من اختلاف طائفة من كبار الصحابة معه في الرأي، بل أمر بهذا الغزو مطمئنا إلى أن الله معينه وناصره، ولذلك نصح إلى من بعثهم على رأس هذا الغزو أن يتمسكوا بالمساواة وبالإنصاف والعدل لا يحيدون عنها قيد أنملة.
تتجلى هذه المعاني واضحة كل الوضوح من خلال الحوادث التي رواها المؤرخون الأولون عن هذا العهد القصير العظيم الذي تولى الصديق فيه أمر المسلمين؛ ويزيد ما كتبه المستشرقون بعض هذه المعاني وضوحا بما أوردته كتبهم من ملاحظات، وما حاولت أن تفسر به بعض الحوادث.
وهذه المعاني هي التي تجعل هذا العهد القصير خليقا أن يفرد له سفر مستقل يصور ذاتيته الخاصة وتكوينه التام.
وأنا أقصد ما أقول حين أذكر أن عهد الصديق له ذاتيته الخاصة وتكوينه التام، فهو على اتصاله بعهد الرسول قبله وبعهد عمر بعده، يمتاز بطابع يشخصه، فعهد الرسول كان عهد وحي من عند الله، أكمل الله به للناس دينهم، وأتم عليهم نعمته، ورضي لهم الإسلام دينا، وعهد عمر كان عهد تنظيم للحكم الذي استقرت قواعده، وللإمبراطورية التي تفتحت أبوابها، أما عهد أبي بكر فكان فترة الانتقال العصيبة الدقيقة التي تربط بين هذين العهدين، وتتميز مع ذلك عن كل منهما، بل تتميز عن كل عهد عرفه الناس في تاريخ الحكم واستقراره، وفي تاريخ الأديان وانتشارها.
في هذه الفترة الدقيقة صادفت أبا بكر صعاب بلغت من الشدة أن أثارت مخاوف المسلمين جميعا في أول عهده، فلما تغلب بفضل إيمانه عليها، وأمده الله بالتوفيق والنصر فيما تلاها، تولى عمر بن الخطاب سياسة المسلمين، فدبر أمورهم، وأقام بينهم عدلا وطد قواعد ملكهم، وجعل دول العالم تدين طائعة لسلطانهم.
أثارت الصعاب التي صادفت أبا بكر مخاوف المسلمين؛ ذلك لأن الوحدة العربية التي تمت في عهد الرسول لم تلبث أن اضطربت حين وفاته، بل لقد بدأت نذر هذا الاضطراب قبل أن يختار الله رسوله إليه، تنبأ مسيلمة بن حبيب باليمامة وبعث رسله إلى النبي بالمدينة يقولون له: إن مسيلمة نبي مثله، «وإن لنا نصف الأرض ولقريش نصف الأرض، ولكن قريشا قوم لا يعدلون»، وتنبأ الأسود العنسي باليمن وادعى السحر، وجعل يدعو الناس إليه خفية، حتى إذا عظم أمره سار من الجنوب وطرد عمال محمد، وتقدم إلى نجران ونشر في ذلك الأصقاع سلطانه، وبعث محمد إلى أعماله باليمن كي يحيطوا بالأسود أو يقتلوه، هذا إلى أن العرب الذين آمنوا بالتوحيد ونبذوا عبادة الأوثان لم يدر بخاطر أحدهم أن تعقب وحدتهم الدينية وحدة سياسية؛ بل إن كثيرا منهم راجعهم الحنين إلى عقائدهم الأولى، فلم يلبثوا حين علموا بوفاة رسول الله أن ارتدوا عن دين الله، وأن أعلن أكثر القبائل عدم الإذعان لسلطان المدينة، وعدوا الزكاة إتاوة مفروضة فامتنعوا من أدائها.
استطارت هذه الثورة عقب وفاة الرسول في بلاد العرب جميعا بسرعة مروعة كما تستطير النار في الهشيم، وبلغت أنباؤها أهل المدينة ممن حول أبي بكر بعد أن بايعوه، فتولاهم الدهش واختلفوا ما يصنعون، وكان رأي قوم، بينهم عمر بن الخطاب، ألا يقاتلوا الذين منعوا الزكاة ما داموا يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، ولعلهم أرادوا بذلك ألا يزيدوا عدد عدوهم فيتغلب عليهم، ولم يعدهم الله ما وعد رسوله من النصر، وليس ينزل الوحي على أحد منهم بعد أن اختار الله إليه خاتم الأنبياء والمرسلين، لكن أبا بكر أصر على قتال من منعوا الزكاة كما أصر على قتال من ارتدوا، فكانت حروب الردة التي استطالت عاما وبعض عام.
ولم تكن حروب الردة غزوات اشتبك فيها بضع مئين من جيش الخليفة وبضع مئين من خصومه، بل كانت بعضها طاحنة اشترك فيها عشرات الألوف من كل جانب، وقتل فيها المئات بل الألوف من هؤلاء ومن أولئك، ثم كان لها في تاريخ الإسلام أثر حاسم، ولو أن أبا بكر نزل على رأي من لم يريدوا هذه الحروب لساد الاضطراب بلاد العرب، ولما قامت الإمبراطورية الإسلامية، ولو أن جيوش أبي بكر لم تنتصر في هذه الحروب لكانت العاقبة أدهى وأمر، ولتغير في الحالين مجرى التاريخ في العالم كله، لذلك لا يكون غاليا من يقول: إن أبا بكر، بموقفه من ردة العرب وبانتصاره فيها، قد وجه تاريخ العالم، وكان يد الله في بعث الحضارة الإنسانية خلقا جديدا.
فلولا انتصار أبي بكر في حروب الردة لما بدأ غزو العراق وغزو الشام، ولما سارت جيوش المسلمين مظفرة تفتح الإمبراطوريتين الرومية والفارسية لتقيم الإمبراطورية الإسلامية على أنقاضهما، ولتحل الحضارة الإسلامية محل حضارتهما، ولولا حروب الردة، واستشهاد من استشهد من الصحابة لإحراز النصر فيها، لخيف ألا يسارع عمر فيشير على أبي بكر بجمع القرآن، وهذا الجمع هو الذي أدى إلى توحيد القراءة بلغة مضر في عهد عثمان، فظل كتاب الله الكريم أساسا ثابتا لكلمة الحق، ودعامة متينة للحضارة الإسلامية، ولولا نصر الله المسلمين في حروب الردة لخيف ألا يقر أبو بكر نظام الحكم في المدينة ليقيمه عمر من بعده على أساس من الشورى، سداه العدل والرحمة، ولحمته البر والتقوى.
هذه أحداث جليلة تمت في فترة قصيرة لم تعد سبعة وعشرين شهرا، ولعل قصر هذه الفترة هو الذي دعا بعضهم أن يتخطاها إلى عهد عمر، ظنا منهم أن أشهرا معدودات لا تتسع لعظائم تغير وجه العالم، ولو أن هؤلاء ذكروا أن الثورات التي نقلت الإنسانية أطوارا تمت كلها في مثل هذه الفترة، وأن العالم جعل يمتثل مبادئ هذه الثورات بعد ذلك شيئا فشيئا ويفيد منها لرقي الإنسانية في توجهها إلى الكمال، لما سارعوا إلى الانتقال من عهد الثورة الروحية التي أعلنها رسول الله في العالم كله إلى الإمبراطورية المترامية الأطراف التي دانت لهذه الثورة، دون أن يقفوا مليا عند هذه الفترة التي يحاول العرب فيها أن يقوموا برد الفعل في وجه ما جاء محمد به، شأنهم في ذلك شأن الناس في كل زمان ومكان؛ إذ يحاربون المبادئ الجديدة يحاولون إطفاء نورها، ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون.
كيف استطاع أبو بكر أن يواجه الصعاب التي استفتحت عهده، وأن يثبت لها ويتغلب عليها، وأن يبدأ التمهيد للفتح وللإمبراطورية وهذه الصعاب قائمة؟ لقد كانت لصفاته الذاتية أثر كبير في ذلك لا ريب، لكن هذه الصفات وحدها ما كانت لتبلغ به ما بلغ لولا صحبته الرسول عشرين سنة كاملة؛ ولذا يجمع المؤرخون على أن عظمة الصديق في خلافته تتصل بعظمته في صحبة الرسول أوثق اتصال، فهو قد أشرب أثناء الصحبة روح الدين الذي جاء به محمد، وأدرك مقاصده وأغراضه كاملة إدراك إلهام لا يتطرق إليه الخطأ ولا الريب، ومما أشربه وأدركه بإلهامه أن الإيمان قوة لا يغلبها غالب ما تنزه المؤمن عن كل غرض إلا ابتغاء الحق لوجه الحق وحده، هذه حقيقة روحية أدركها كثيرون من عصور شتى، لكنهم أدركوها بعقولهم، أما أبو بكر فأدركها بقلبه، ورآها بعينه ماثلة في رسول الله
صلى الله عليه وسلم
وفي عمله.
وهذا الإيمان الصادق بالحق هو الذي دفعه ليخالف أصحابه في أمر المرتدين، ويصر على قتالهم وإن خرج إليهم وحده، وما له لا يفعل وقد رأى النبي يقف وحيدا يدعو إلى الله بمكة فيخالفه أهل مكة جميعا، ثم يغرونه بالمال والملك وعظمة الجاه، ثم يحاربونه يبتغون بذلك أن يصدوه عن الحق الذي يدعو إليه، فلا يفتر عن أن يقول: «والله لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في يساري، على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه، ما تركته!»
وما له لا يفعل وقد رأى النبي في أعقاب أحد، وبعد أن انتصرت قريش على جيوش المسلمين ممن شهدا أحدا، ويتعقب قريشا، وينزل حمراء الأسد ويقيم بها ثلاثة أيام، يوقد النار طول ليله، حتى تزعزعت همة قريش وانصرفت إلى مكة، وقد استرد المسلمون من مكانتهم ما زعزعته أحد!
ثم ما له لا يفعل وقد رأى النبي يقف صبح حنين في عدد قليل من أصحابه ينادي في جيش المسلمين إذ يولون الأدبار: «أين أيها الناس، أين!» وهذه الألوف المؤلفة تفر تولاها الفزع، فلما عرف الناس موقف النبي وسمعوا نداء العباس: «يا معشر الأنصار الذين آووا ونصروا، يا معشر المهاجرين الذين بايعوا تحت الشجرة، إن محمدا حي فهلموا.» تصايحوا من كل جانب: «لبيك، لبيك»، وارتدوا إلى المعركة مستبسلين!
أي تأس كهذا التأسي يلهم المرء أن الإيمان قوة لا يغلبها غالب ما تنزه المؤمن عن كل غرض إلا ابتغاء الحق لوجه الحق وحده!! وأي رجل له من الإيمان ما لأبي بكر لا يضاعف تأسيه بالرسول قوة نفسه فيجعله من عناصر الوجود الحاسمة القاهرة! هذه هي القوة الروحية التي لا سلطان لشيء في الحياة عليها، والتي لا تعرف الضعف ولا التردد، ولا يغلبها لذلك غالب!
وهذه الأسوة الروحية التي التمسها أبو بكر في رسول الله، والتي جعلت للمسلمين الغلب على المرتدين من سائر العرب، قد دفعت إلى نفوس المسلمين جميعا حمية سمت بهم إلى إيمان بأنهم لا غالب لهم من دون الله، وحببت إليهم الاستشهاد في سبيل الحق، وجعلتهم يرون هذا الاستشهاد نصرا دونه كل نصر، وأنت ستقرأ في هذا الكتاب من آيات ذلك ما قل في التاريخ نظيره، لقد كان المسلمون في عهد رسول الله مطمئنين إلى النصر؛ لأن الله وعد به رسوله، فكان يمده بالملائكة، وكان يوحي إليه ما يحقق وعده جل ثناؤه، أما في عهد أبي بكر، وقد انتهى الوحي باختيار الله إليه رسوله، فقد أصبح الإيمان وحده، وأصبح التأسي برسول الله وبخليفته في السمو بهذا الإيمان إلى ما فوق كل اعتبار في هذه الحياة الدنيا، وأصبح الاستشهاد في سبيل هذا الإيمان، سر القوة، وسر النصر، وسر الرقي بما تنطوي عليه نفوسنا من معان إنسانية رفيعة إلى غاية الكمال الإنساني.
هذه حقيقة روحية استلهمها الصديق من تأسيه بالنبي، فجلتها لنا أعمال المسلمين في خلافته وبتوجيهه على نحو من الوضوح يجعلنا نلمسها وكأنها أمر مادي تقع عليه الحواس بمقدار ما تمتثله الروح، ونحن نلمس هذه الحقيقة الروحية في حروب الردة كما نلمسها في فتح العراق وفي فتح الشام، فلولا هذا الإيمان ما استطاع المسلمون، على قلتهم، أن يتموا في عهد الخليفة الأول ما تم من جلائل الأعمال، وما مهد للإمبراطورية الإسلامية العظيمة.
وقد استلهم أبو بكر من تأسيه بالرسول، إلى جانب هذه الحقيقة الروحية، حقيقة اجتماعية بعيدة الأثر في حياة الأمم، فكل أمة تعتز بنفسها، وتطمئن إلى قوتها، وتشعر بأن عليها رسالة واجبة الأداء للعالم، وبأن العالم يجب أن يسمع لهذا الرسالة - مثل هذه الأمة التي لا يقف في سبيلها سلطان وإن عظم، ولا تصدها عن أداء رسالتها قوة من القوى.
وتضافر هاتين الحقيقتين، الروحية والاجتماعية، قد كان في كل العصور والأمم أساسا لفوز الشعوب التي تندفع متأثرة بسلطانهما ولنجاح الرسالة التي تدعو هذه الشعوب لها.
والأمر كذلك بخاصة إذا قامت هذه الرسالة على أساس من الدعوة إلى نبذ العلم، والحرص على عدل قوامه المساواة الصحيحة بين الناس، ولطالما قامت إمبراطوريات على هذه الأساس في مختلف حقب التاريخ، ولطالما تداعت إمبراطوريات بعد قيامها؛ لأنها حادت عن هذه الطريق، فاتخذ خصومها انحرافا عنها وسيلة لمناوأتها ومقاومتها.
والمساواة سدى الإسلام، وهو لذلك إمبراطوري اللحمة، هذه حقيقة ندركها اليوم بعقولنا كما أدركها كثير ممن سبقونا بعقولهم، ثم لم يستطيعوا ولم نستطع أن نحتفظ بالإمبراطورية الإسلامية في العالم لظروف خاصة بنا أو خارجة عن إرادتنا، أما أبو بكر فأدركها بإلهامه وآمن بها عن يقين، فدفع المسلمين لتنفيذها، فأقروها في العالم فاستقرت أجيالا وقرونا.
أدرك أبو بكر بإلهامه أن الإسلام في صفاء جوهره دين مساواة بين الناس جميعا، فالدعوة به لم توجه إلى قوم بعينهم، وإنما وجهت إلى الناس كافة، وقد اصطفى رسول الله في حياته موالي رفعهن إلى أعز مكانة وأسماها، كما أقر جماعة من العجم على حكم العرب، فسلمان الفارسي كان من خاصته المقربين، وزيد بن ثابت، مولاه الذي اشترته خديجة ثم وهبته له فأعتقه وتبناه، كان القائد في غزوة مؤتة، كما كان على رأس أعمال كثيرة قبلها، وأسامة ابنه هو الذي عقد له الرسول قبل مرضه الأخير لواء جيش يضم جلة المهاجرين والأنصار، ومن بينهم أبو بكر؛ وقد أقر
صلى الله عليه وسلم
بازان الفارسي على حكم اليمن، ولم يكن الناس يتفاوتون عند رسول الله لعروبتهم ولا لمكانة قبائلهم، وإنما كانوا يتفاوتون بأعمالهم، وكان من أصحاب مشورة رسول الله ومن أولي الرأي بين المسلمين شبان أبرزهم إلى الصف الأول حسن إيمانهم وجميل بلائهم في سبيل الله، وكانت سيرة رسول الله هذه بعض ما أمر الله به في كتابه؛ إذ فاضل بين الناس بالتقوى، وإذ جعل جزاءهم رهنا بعملهم، وإذ رفع بعضهم فوق بعض درجات بهذا العمل وهذه التقوى، لا جرم، وتلك سنة رسول الله، أن يخفف العرب من غلواء نعرتهم الجنسية، وإن أقاموا على اعتزازهم بها، وإن جعلوا اصطفاء الله نبيه من بينهم حجتهم على سمو مكانتها، ولا جرم أن يتخذ أبو بكر من هذه المساواة الإسلامية بين الناس وبين الأجناس سنته، فتكون القوة التي تنهزم أمامها جيوش الفرس وجيوش الروم.
وأدرك أبو بكر بإلهامه أن الإسلام إمبراطوري في جوهره، فالدعوة إليه لم تنحصر في العرب، بل هي دعوة إلى الحق موجهة إلى الناس كافة في مشارق الأرض ومغاربها، أما وذلك مداها، وقد وجه النبي رسله إلى الملوك والأمراء يدعوهم إلى دين الله، فحق على كل من آمن بهذا الدين أن يدعو إليه، وأن ينشر كلمته هدى للناس ورحمة، ولكل مسلم في رسول الله أسوة حسنة، لقد أذاع رسول الله الدعوة في الناس على اختلاف أجناسهم، فلينشر خلفاؤه هذه الدعوة في أنحاء الأرض جميعا، وليجاهدوا في سبيل حريتها، لا يستكرهون أحدا ولا يقبلون من أحد أن يصدهم عن الحق الذي اهتدوا إليه، وليجعلوا العالم كله ميدان دعوته إلى هذا الحق وإن أصابهم في سبيل الله ما أصابهم؛ فإن استشهدوا فلهم عند الله جزاء الشهداء.
هذه المبادئ الجوهرية التي قامت دعوة النبي العربي على أساسها، والتي أدركها أبو بكر أدق الإدراك بإلهامه لما كان من صحبته رسول الله وتشبعه بتعاليمه، هي التي طوعت للصديق أن يذلل ما استفتح عهده من صعاب وأن يتغلب عليها، وهي التي أسرعت بالإمبراطورية الإسلامية إلى أنحاء العالم وأظلت أمما كثيرة منه بلوائها، ولقد ظلت هذه الأمم أجيالا متعاقبة ناهضة بعبء الحضارة في العالم، ثم أدركها الهرم الذي يدرك الأمم والإمبراطوريات، ثم تولتها السنة الطويلة التي تقابل موت الأفراد.
أفيرجع هذا الهرم ثم هذه السنة الطويلة إلى أن المبادئ الجوهرية تبين فسادها، أم يرجعان إلى أن الأمم التي انحلت عن الإمبراطورية الإسلامية جحدت هذه المبادئ وأخذت بنقيضها فأصابها الهرم والاضمحلال بصنيعها؟! ذلك كل تاريخ الإمبراطورية الإسلامية في قيامها وعظمتها وتدهورها، وهو تاريخ جدير بأن يدور على طريقة من البحث العلمي الوثيق الذي لا يعرف التعصيب ولا يرضاه، والذي يرمي إلى تحليل الحوادث وردها إلى أسبابها تحليلا يقره العقل ويتفق لذلك وما ركب في الطبيعة الإنسانية من نزوع روحي إلى الكمال، ومن تشبث مع ذلك بأهداب هذه الحياة الدنيا تدعونا إليه أهواؤنا وشهواتنا، فتحول بيننا وبين إدراك الغاية التي نبغي من هذا الكمال.
لا أراني في حاجة إلى أن أقول إن هذا الهرم وهذه السنة يرجعان إلى جحود الأمم التي انحلت عن الإمبراطورية الإسلامية للمبادئ الجوهرية التي قامت هذه الإمبراطورية على أساسها، مبادئ الإسلام في صفاء جوهره، ذلك أمر يلمسه المحقق المنصف لتاريخ هذه الإمبراطورية، ويراه في أطواره المتصلة منذ بدأ الخلاف بين المسلمين من أهل شبه الجزيرة إلى أن جسمت الفرقة بين العرب والعجم شقة هذا الخلاف، وفتحت به الأبواب واسعة للتدهور والانحلال.
ليس يتسع هذا التقديم لتفصيل هذا الأمر ولا لإجماله، فحسبي هذه الإشارة إليه، ولأقف هنا في حدود العهد القصير العظيم، عهد الصديق أبي بكر، ولأسجل ما كنت أشعر به من فيض المسرة حين تأريخي له، وأكبر رجائي أن أكون فيما كتبت عنه قد أرضيت في نفسي حب الحق، وبلغت بعض ما أردت من رسم الصورة التي حاولتها دقيقة، فيها من الحياة ما يبعث الماضي مجلوا على صفحة الحاضر، وأقول بعض ما أردت؛ لأنني كنت أحس دائما أن هذه الصورة ينقصها شيء غير قليل من الكمال لم يتسن لي أن أصل إليه لأسباب مختلفة.
وإنني لتضاعف غبطتي لو أن كتابي هذا نقل إلى نفس قارئه صورة واضحة من عهد الصديق خليل النبي العربي وصفيه، قد يشوب مطمعي هذا بعض الغلو، فلعهد الصديق - كما قدمت - صورة خاصة تامة التكوين يستشفها الإنسان من خلال ما كتب عنه ويتصورها في كمال بهائها، لكن البلوغ بصورة ما حد الكمال محتاج إلى جهد متصل يتعاقب على الأجيال، ويتناوله التمحيص من نواحيه المختلفة، ولم يبذل من الجهد في أمر الصديق وعهده ما يدني من هذا الكمال؛ فهو لا يزال مفتقرا إلى جهود جديدة يتضافر فيها البحث والتمحيص مع الموازنة بالعصر الذي عاش الصديق فيه، وبحياة الأمم صاحبة الأثر في هذا العصر، ولست في ريب من أن هذه الجهود ستبذل عما قريب، وستعاون على تمام الصورة التي تظهر هذا العهد واضحا، مجلوة بينة تفاصيله.
وعهد الصديق أحوج إلى هذا الجهد من غيره من العهود، فالمراجع العربية القديمة التي تتحدث عنه يشوبها اضطراب يجعل تتبع الحوادث المروية فيها عسيرا في بعض الأحيان كل العسر، ثم إنها كثيرا ما تثبت روايات هي أدنى إلى الخرافة منها إلى التاريخ، وقد يجد الإنسان في موازنة بعض هذه المراجع ببعض ما يعينه على تمحيص الحوادث، لكنها تتواتر روايتها أحيانا لحوادث يقف الإنسان منها موقف الحيرة، فلا يسعه أن يثبتها مع الإشارة إلى ما يخالجه من الريبة فيها.
وإني لأجد للمؤرخين الأولين أبلغ العذر عما شاب رواياتهم من اضطراب كان له أثره في جهود من بعدهم إلى عصرنا الحاضر، فهذه الفترة التي تولى الصديق فيها أمر المسلمين كانت فترة جهاد أي جهاد، حمل فيها كل من آمن بالله ورسوله عبئا عظيما لتأييد الدعوة إلى دين الله وما جاء به رسوله من عنده، اندفع هؤلاء جميعا إلى ميادين النضال، يجاهدون في سبيل الله، يقتلون ويقتلون، مستهينين بالحياة ونعمائها، مؤثرين البأساء، صابرين على الضراء، واهبين أنفسهم لله، لا يبتغون عن جهادهم أجرا إلا مثوبته جل شأنه، لم يكن يوم من أيامهم ينقضي في طمأنينة أو أمن، ولم يكن أحد منهم يفكر في أمسه؛ لأن غده يطالبه بأكثر مما عمل في ذلك الأمس، لذلك لم يفرغ أحد لتدوين ما حوته هذه الفترة من جسام الحوادث تدوينا منظما؛ وإنما تناقل الناس من بعد أنباءها يرويها بعضهم لبعض، ويتناقلها عن بعض، ثم لا يروونها ويتناقلونها بمثل ما يروون به ما حدث في عهد الرسول من تقديس وإجلال، وكيف يفعلون وقد كانوا في شغل متصل بالفتح وتنظيم الإمبراطورية التي تزداد كل يوم فسحة وسعة!! لذلك كان لا بد لمؤرخ هذا العهد من تقليب الروايات وموازنتها واقتناص الحقيقة من خلالها، وهذا جهد شاق حاوله الأقدمون على طريقتهم، ومع تقديرنا لجهدهم وإكبارنا لشأنهم، فإنهم لم يبرزوا عهد الصديق وحكمه في صورة يجلو وضوحها ما انطوى عليه من قوة تقف النظر وتبهر اللب وتثير في النفس غاية الإعجاب.
وحسبك أن ترجع إلى سجل المراجع التي أخذنا عنها هذا الكتاب، وأن تتلو فصوله لتقدر مبلغ الدقة فيما نقوله عن المتقدم منها، فبعض هذه المراجع لا يتعرض - إلا لماما - لأمور جليلة الخطر ترويها المراجع الأخرى مفصلة أدق التفصيل، فالطبري وابن الأثير والبلاذري لا يكادون يتعرضون لجمع القرآن؛ وجمع القرآن من جلائل الأعمال التي ازدان بها عهد الصديق إن لم يكن أجلها، وما يتعرض له هؤلاء المؤرخون من رواية الحوادث عن حروب الردة وعن فتح العراق ثم فتح الشام يقع عليه الخلاف بينهم، بل ترد الروايات المختلفة في أمره في الكتاب الواحد من كتبهم، حتى ليحار الإنسان أي الروايات يأخذ وأيها يدع، والخلاف على الزمن الذي حدثت فيه الوقائع لا يقل عن الخلاف في تصوير الوقائع جسامة، وكثيرا ما يكون تحديد التاريخ لبعض هذه الوقائع مغامرة لا تستند إلى أساس يمكن الاعتماد عليه في شيء من الدقة، ونسبة بعض الحوادث إلى بعض محير كذلك، فالطبري يروي أن حروب الردة وقعت في السنة الحادية عشرة للهجرة، وأن فتح العراق تم في السنة الثانية عشرة، وأن فتح الشام تم في السنة الثالثة عشرة، وأنت تكاد تظن إذ تقرأ هذا التعاقب الزمني أن فتح العراق لم يبدأ إلا بعد الفراغ من حروب الردة، وأن فتح الشام لم يبدأ إلا بعد أن استقر الأمر في العراق، لكن شيئا من التدقيق في مراجعة الحوادث ووقوعها لا يلبث أن يحملك على الريبة في هذا التعاقب، فإذا زدت في التدقيق تبينت أن فتح العراق بدأ وحروب الردة لا تزال قائمة، وأن فتح الشام بدأ في أعقاب حروب الردة وجيوش خالد بن الوليد لا تزال تعالج إقرار السكينة في العراق وتتوقع غزوات فيه جديدة.
ولا يقف مثار الحيرة عند هذا، فكثيرا ما يتعذر تتبع الحوادث في تسلسلها الجغرافي، بل إن بعض الروايات ليتنافى مع هذا التسلسل، دع عنك تغير أسماء الأماكن وما في تشابه بعضها من مثار جديد للحيرة، ولقد طبع بعض المستشرقين خرائط الإدريسي القديمة كما رسمها، وشفعوها بخرائط رسموها على النحو المألوف لنا، فسهل ذلك علينا معرفة الأماكن ومواقع بعضها من بعض، ولئن يسر ذلك لنا أن نحقق ما كان عسيرا تحقيقه فيما مضى، لقد أثار الريب في بعض الروايات حتى ليتعذر تصديقها، لذلك وقف بعض المؤرخين لعهد أبي بكر مترددين لا يكادون يصدقون ما يقرءون، وكأنما صرف ذلك كله غير واحد ممن أرادوا التأريخ للإسلام عن التصدي لهذه الأمور، فاكتفوا من عهد أبي بكر بإلمامات لا تصوره صورة كاملة تبرز كل ما لهذا العهد من جلال، وما له من تاريخ الإسلام وفي قيام الإمبراطورية الإسلامية من أثر حاسم.
أضف إلى هذا الاضطراب في المراجع أنها لا تتحدث عن الصديق أيام خلافته ما تتحدث عن خالد بن الوليد وعن القواد الذين دخلوا الشام وأقاموا به حتى جاءهم خالد من العراق ففتح وإياهم دمشق وهدم بعبقريته الحربية كل قوة معنوية للروم، وأنت إذ تقرأ هذه المراجع يكاد يخيل إليك أن أبا بكر قد أقام بالمدينة لا يشغله أمر عن العبادة، وهذا خطأ فاحش، فكل ما تم في عهد الصديق كان الصديق روحه ومصدره. أشرنا إلى ما كان بينه وبين عمر وطائفة من المسلمين من خلاف على قتال المرتدين ومن منعوا الزكاة، وإلى أنه تشبث بقتالهم ولو خرج إلى هذا القتال وحده، وسترى حين تتلو فصول هذا الكتاب أنه هو الذي دفع خالد بن الوليد ليسير إلى العراق يعزز قوات المثنى بن حارثة الشيباني، وأنه هو الذي دعا العرب في أنحاء شبه الجزيرة إلى فتح الشام، فلما أبطأ أبو عبيدة ومن معه من القواد عن التقدم فيه أمدهم هو بخالد بن الوليد، وفي أثناء ذلك كان هو الذي ينظم بيت المال، ويقسم الفيء بين المسلمين، ويولي العمال ويهيمن على أعمالهم، وقد بلغ به هذا التفرغ لشئون الدولة أن انقطع عن التفكير في كل شيء سواها من أموره الخاصة ومن أمور أهله وعياله، وهذا التفرغ التام لشئون الدولة، دقيقها وجليلها، هو الذي طوع له أن يتم في فترة وجيزة ما لا يتمه غيره في سنوات، بل ما قل أن يتمه غيره، ولعل سببا آخر كان ذا أثر فيما قدمنا عن موقف الرواة والمؤرخين من أبي بكر وعهده؛ فهم قد حسبوا أن صحبته الرسول عشرين سنة كاملة، واصطفاءه
صلى الله عليه وسلم
إياه حتى ليقول: «لو كنت متخذا من العباد خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا.» - حسبوا أن هذا وذاك أجل من كل ما تم في خلافته، ولا مرية في أن مكان الصديق من رسول الله لها في تقديرنا جميعا أجل أثر وأعظم مقام، لكن خلافة الصديق كانت حلقة أتمت هذا الأثر الجليل وتوجته.
لم يكن عمل الصديق في خلافته أقل جلالا من صحبته رسول الله، بل إنه كان في عهد الرسول ثاني اثنين، أولهما صفي الله لنبوته ومن خصه الله برسالته وأوحى إليه كتابه بينات من الهدى والفرقان، فالعبء الذي حمله أبو بكر أيام الرسالة كان عبء التابع المؤمن الذي لم تتلجلج قوة إيمانه بالله ورسوله، أما العبء الذي حمله بعد أن اختار الله رسوله إليه فحمله على أنه أول رجل في المسلمين وخليفة رسول الله بينهم، لم يكن فيه تابعا يدلي بالمشورة، بل كان متبوعا يشير أصحابه عليه، كما كان يشير هو ومن معه على رسول الله، وقد حمل هذا العبء بإيمان وأمانة وصدق، جزاه الله وجزى المسلمين عنه أحسن الجزاء، فإذا كان صدق أبي بكر في صحبة رسول الله من أسمى مظاهر العظمة الإنسانية القائمة على دعامة متينة من الإيمان السليم، فتجرد أبي بكر في خلافته للدفاع عن دين الله وللدعوة إليه ولإقامة الإمبراطورية الإسلامية لا يقل في جلال سموه عن صحبته الرسول وإيمانه الصادق به وبكل ما أوحاه الله إليه، وتاريخ خلافته جدير لذلك بأن يفصل أدق التفصيل.
هذا الاضطراب في المراجع، وهذا التأثر في تصوير عهد الخليفة الأول بعوامل لا يقر النقد التاريخي الكثير منها، قد كان له ما رأيت من أثر في كتب المتقدمين، ثم كان له أثره فيما تلاه ذلك من جهود من أخذوا عنهم وحاولوا أن يستنبطوا صورة الحقيقة كاملة من كتبهم، ولقد بلغ هذا التأثر ببعض المتأخرين أن جعلهم لا يقفون عند عهد أبي بكر إلا لماما ثم يتخطونه إلى عهد عمر فيطيلون الوقوف عنده، بل لقد بلغ الأمر ببعضهم أن يوازن بين عهد أبي بكر وعهد عمر ليفاضل بينهما، وهذه مفاضلة لا موضع لها بين رجلين بلغ كل منهما من مراتب العظمة ما قل أن يبلغه سياسي أو حاكم لأمة في تاريخ العالم كله، ولقد كان عهد عمر من أعظم عهود الإسلام لا ريب، فيه استقرت قواعد الإمبراطورية، واستتب نظام الحكم، ورف لواء الإسلام على مصر وغير مصر من البلاد التي اعتز بها الروم واعتز بها الفرس، لكن هذا العهد الفاروقي العظيم مدين لعهد الصديق ومتم له كدين خلافة الصديق لعهد الرسول وإتمامها له.
على أن الدراسات التي تمت والكتب التي وضعت عن أبي بكر وعهده في العصور الأخيرة كانت أدنى إلى الدقة والإنصاف، ومن الحق علي أن أشيد بما كان للمستشرقين من فضل السبق إلى هذه الدقة وإلى هذا الإنصاف، على تحيز بعضهم تحيزا دفعت إليه العاطفة الدينية، فقد صنف «الأب ماريني» كتابه عن «خلفاء محمد» في القرن الثامن عشر؛ وصنف «كوسان دبرسفال» مؤلفه «رسالة في تاريخ العرب» في أوائل القرن التاسع عشر؛ وكتاب «السير وليم ميور» عن «الخلافة الأولى» يرجع إلى سنة 1883، وفي أثناء ذلك، وإلى وقتنا الحاضر، لم يبرح المستشرقون في ألمانيا وإنجلترا وإيطاليا وفرنسا وغيرها من الدول يمحصون العهود الإسلامية المختلفة تمحيصهم غيرها من عصور التاريخ في مختلف أنحاء العالم.
أما وقد ذكرت جهود المستشرقين، فمن الحق علي أيضا أن أذكر جهود المؤرخين المسلمين والعرب، وما كان من إنصافهم عهد الصديق ومحاولتهم الدقة في أمره.
أرخ السيد رفيق العظم لهذا العهد منذ بضع عشرات من السنين في الجزء الأول من كتابه «أشهر مشاهير الإسلام»: وكان متأثرا بطريقة الأقدمين في كثير من مواقفه، وتحدث المرحوم «الشيخ محمد الخضري بك» فقال في ختام محاضرته له: «إنا نقول في ذلك قولا صريحا: لولا أبو بكر وعزيمته القوية، بعد معونة الله وتأييده، ما كان تاريخ المسلمين يسير سيره الذي عرف، حصل ذلك في وقت استولى فيه الذهول على أفئدة المسلمين كافة حتى أقواهم شكيمة وأشدهم قلبا.»
وأفرد الأستاذ «عمر أبو النصر» الجزء الأول من كتابه «خلفاء محمد» للصديق وعهده، كذلك تحدث المرحوم «الشيخ عبد الوهاب النجار» وغيره من المؤرخين عن هذا العهد حديثا جديرا بالتقدير.
والآن، وقد وفقني الله لوضع هذا الكتاب، فهل تتيح لي الأقدار أن أردفه بآخر عن عهد عمر، وبثالث وبرابع حتى أتم ما دار بخاطري أن أقوم به من دراسات في تاريخ الإمبراطورية الإسلامية؟ ذلك أمر علمه عند ربي، لقد استقر مني العزم أن أدون لعهد عمر، لكن بين العزم والتنفيذ مدى أرجو الله أن ييسره لي، مع صدق يقيني بقوله تعالى:
ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا * إلا أن يشاء الله واذكر ربك إذا نسيت وقل عسى أن يهدين ربي لأقرب من هذا رشدا (الكهف: 23، 24).
وأختم هذا التقديم بالضراعة إلى الله أن يوفق العلماء والباحثين لمتابعة البحث في حياة الصديق وفي عهد خلافته، حتى تتم ببحوثهم الصورة التي حاولت أن أجلوها في هذا الكتاب، وأحمد الله لما صادفني من التوفيق فيما حاولت. من الله الهدى، وبه التوفيق، وإليه يرجع الأمر كله.
الفصل الأول
أبو بكر في حياة النبي
ليس فيما انحدر إلينا من الروايات عن نشأة أبي بكر الأولى ما يعاون على تعرف شخصيته في هذا الطور من حياته، فما يروى عن طفولته وعن صباه لا غناء فيه، وما يروى عن أبيه وعن أمه لا يعدو ذكر اسميهما، وذكر ما كان من أبيه بعد أن أصبح أبو بكر رجلا من كبار المسلمين له في حياة أبيه أثر، ولا أثر لأبيه في حياته، وإنما يعنى المؤرخون من أمره بذكر قبيلته ومكانتها من قريش، شأنهم في ذلك كشأنهم في غيره مما يتصل بتاريخ العرب؛ إذ يرون في نسبتهم إلى قبيلة من القبائل ما يفسر بعض طباعهم وأخلاقهم، وقد يكون ذلك حسنا، وقد يراه المؤمنون بمبدأ الوراثة صالحا لتحقيق مذهبهم، وإن رأى غيرهم من المبالغة في تقديره ما يصرفهم عن الدقة في تمحيصه.
وأبو بكر من قبيلة تيم بن مرة بن كعب؛ فهو يلتقي في نسبه بالنبي
صلى الله عليه وسلم
ويرتفع إلى عدنان، وكان لكل من القبائل المقيمة بمكة اختصاص بأمر يتصل أو لا يتصل بمناصب الكعبة، فكان لبني عبد مناف السقاية والرفادة، ولبني عبد الدار اللواء والحجابة والندوة، وذلك قبل أن يولد هاشم جد النبي ، أما قيادة الجيوش فكانت لبني مخزوم أجداد خالد بن الوليد، وكانت الديات والمغارم لتيم بن مرة، وقد آل أمر الديات في الجاهلية إلى أبي بكر حين استدعاه فتولى الزعامة في قبيلته؛ لذلك كان إذا احتمل شيئا منها فسأل قريشا صدقوه وأمضوا حمالة من نهض معه، وإن احتملها غيره خذلوه.
وقد رويت في الإشادة بذكر تيم ومكانتها من قبائل العرب روايات تقصها كتب المتأخرين، ذكروا أن المنذر بن ماء السماء طلب امرأ القيس بن حجر الكندي فأجاره المعلى التيمي؛ فقال امرؤ القيس في ذلك:
أقر حشا امرئ القيس بن حجر
بنو تيم، مصابيح الظلام
ولهذا البيت سمي بنو تيم «مصابيح الظلام».
على أن ما تنسبه الروايات المختلفة لبني تيم من الصفات لا يختلف عما ينسب لغيرها من القبائل، ولا يميزها لذلك بطابع خاص يفيد المؤرخ أو يدل على صفة بذاتها فيمن ينسب إليها، فهذه الروايات تنسب إلى تيم من صفات الشجاعة والكرم والمروءة والنجدة وحماية الجار وما إليها ما تشترك القبائل العربية التي تعيش تحت سماء شبه الجزيرة في التمدح به والانتساب إليه.
لهذا لم يقف مؤرخو أبي بكر عند قبيلته أكثر مما ذكرت؛ وإنما بدءوا روايتهم بذكره وذكر أبويه، ثم تخطوا طفولته وصباه إلى شبابه وإلى ما كان يزاوله فيه من عمل، ذكروا أن اسمه عبد الله بن أبي قحافة، وأن أبا قحافة أبوه، واسمه عثمان بن عامر، وأن أم الخير أمه، واسمها سلمى بنت صخر بن عامر، وروي أنه كان يدعى قبل الإسلام عبد الكعبة، فلما أسلم دعاه رسول الله عبد الله، وقيل إنه كان يسمى عتيقا؛ لأنه لم يكن يعيش لأمه ولد، فنذرت أمه إن ولد لها ولد أن تسميه عبد الكعبة، وتتصدق به عليها، فلما عاش أبو بكر وشب سمي عتيقا، كأنه أعتق من الموت، على أن الرواة يذهبون إلى أن عتيقا لم يكن اسمه وإنما كان لقبا غلب عليه لبياض لونه، وتذهب رواية أخرى إلى أن عائشة ابنته سئلت: لم سمي أبو بكر عتيقا؟ فقالت: نظر إليه رسول الله فقال: هذا عتيق الله من النار، أو لأن أبا بكر أقبل يوما ومعه طائفة من أصحابه فقال رسول الله: «من سره أن ينظر إلى عتيق من النار فلينظر إلى هذا.» أما كنية أبي بكر التي لزمته حياته فلم تذكر الروايات سببها، وإن ذكر بعض المتأخرين استنباطا أنه كني بها؛ لأنه بكر بالإسلام قبل غيره.
وقد عاش أبو بكر في طفولته وصباه عيش أمثاله بمكة، فلما تخطى الصبا إلى الشباب عمل في التجارة بزازا يبيع الثياب، فوفق كل التوفيق، وقد تزوج صدر شبابه من قتيلة بنت عبد العزى، فولدت له عبد الله وأسماء، وأسماء هي التي لقبت من بعد ذات النطاقين، وتزوج بعد قتيلة أم رومان بنت عامر بن عويمر، فاستولدها عبد الرحمن وعائشة، ثم تزوج بالمدينة من حبيبة بنت خارجة، ثم من أسماء بنت عميس فولدت له محمدا، وكانت تجارته أثناء ذلك تزداد سعة وتزيده ربحا وثراء.
ولعل شخصه وخلقه كانا من أسباب نجاحه في هذه التجارة، فقد كان أبيض اللون، نحيفا، خفيف العارضين، معروق الوجه، غائر العينين، ناتئ الجبهة، عاري الأشاجع، كذلك وصفته ابنته عائشة أم المؤمنين، وكان رجلا رضي الخلق، رقيق الطبع، رزينا، لا يغلبه الهوى ولا تملكه الشهوة، وكان، لرزانته وحسن رأيه ورجاحه عقله، لا يشارك قومه في كثير من عقائدهم وعاداتهم، ذكرت عائشة أنه لم يشرب خمرا في جاهلية ولا إسلام، هذا على ما كان من حب أهل مكة الخمر وإدمانهم لها، وكان نسابة، حسن الحديث، لطيف المعاشرة، وصفه ابن هشام صاحب السيرة فقال: «كان أبو بكر رجلا مألفا لقومه، محببا سهلا، وكان أنسب قريش لقريش، وأعلم قريش بها وبما كان فيها من خير وشر، وكان رجلا تاجرا ذا خلق ومعروف، وكان رجال قومه يؤتونه ويألفونه لغير واحد من الأمر: لعلمه، وتجارته، وحسن مجالسته.»
وكان يعيش بمكة في الحي الذي تعيش فيه خديجة بنت خويلد، ويعيش فيه التجار النابهون الذين تذهب تجارتهم في رحلتي الشتاء والصيف إلى الشام وإلى اليمن، ومقامه بهذا الحي هو الذي ربط بينه وبين محمد بروابط الألفة بعد أن تزوج محمد من خديجة وانتقل إلى دارها، وكان أبو بكر يصغر محمدا بسنتين وأشهر، وأكبر الظن أن التقارب في السن والاشتباك في العمل والاتفاق في سكينة النفس ورضا الخلق، وفي الرغبة عما تزاول قريش من عادات وعقائد - أكبر الظن أن هذا كله كان ذا أثر في مودة محمد وأبي بكر مودة يختلف الرواة إلى أي حد توثقت عراها قبل أن يبعث محمد رسولا، فقد ذكر بعضهم أنها كانت وثيقة العرى قبل البعث، وأن توثق عراها ذو أثر في سبق أبي بكر إلى الإسلام، أما غير هؤلاء فيذكرون أن صلة الرجلين لم تتوثق إلا من بعد، وأن مودتهما الأولى كانت مودة جوار وتوافق في الميول ليس غير، ولعل أصحاب هذا الرأي يؤيدونه بما عرف من حب محمد العزلة والانقطاع عن الناس سنوات طويلة قبل بعثته، فلما بعثه الله واختاره لرسالته ذكر أبا بكر ورجاحة عقله، فتحدث إليه ودعاه إلى الواحد الأحد؛ ولم يتردد أبو بكر أن أجاب داعي الله، ومن يومئذ توثقت الصلة بين الرجلين، ثم زادها صدق أبي بكر في الإيمان بمحمد ورسالته متانة وقوة، كانت عائشة تقول: «ما عقلت أبوي إلا وهما يدينان الدين، وما مر علينا يوم قط إلا ورسول الله يأتينا فيه بكرة وعشية.»
ومنذ اليوم الأول شارك أبو بكر محمدا في الدعوة لدين الله، وكان إلف قومه إياه وحبهم الجلوس إليه والاستماع لحديثه، ذا أثر في استجابة المسلمين الأولين لهذه الدعوة، فقد تابع أبا بكر على الإسلام عثمان بن عفان، وعبد الرحمن بن عوف، وطلحة بن عبيد الله، وسعد بن أبي وقاص، والزبير بن العوام، كما أسلم من بعدهم، بدعوة أبي بكر، أبو عبيدة بن الجراح وكثيرون من أهل مكة.
وقد يعجب الإنسان كيف لا يتردد أبو بكر في قبول الدعوة إلى الإسلام أول ما وجهها محمد إليه، وكيف بلغ من عدم تردده أن يقول عنه رسول الله من بعد: «ما دعوت أحدا إلى الإسلام إلا كانت عنده فيه كبوة، ونظر وتردد، إلا ما كان من أبي بكر بن أبي قحافة، ما عكم
1
حين ذكرته له وما تردد فيه.» وليس كل العجب أن محمدا ذكر له التوحيد ودعاه إليه فاستجاب له، بل أكبر العجب أن محمدا قص عليه حديث حراء والوحي الذي نزل عليه، فلم يتردد في تصديقه، وإنما يزيل عجبنا، أو يخفف منه، أن أبا بكر كان من حكماء مكة الذين يرون عبادة الأصنام حمقا ومينا، وأنه كان يعرف من أمر محمد وأمانته وصدقه ورجحان عقله ما لم يدع في نفسه موضعا للريبة فيما قص عليه مما رأى وسمع، وبخاصة لأنه رأى في هذا الذي قصه الرسول عليه ما يتفق وموجب الحكمة وما لا يتردد العقل في تصديقه والأخذ به، على أن ما يزول من عجبنا لا يغير من تقديرنا جرأة أبي بكر في إقدامه ومجاوزته المعروف للناس في موقف دعا غيره ممن وجهت الدعوة إليهم للنظر والتردد والتماس الأناة والروية، وجرأة أبي بكر وإقدامه أجدر بالتقدير؛ لأنه كان تاجرا تقتضيه تجارته الحساب لصلاته بالناس وعدم مواجهتهم بما يخالف مألوف آرائهم وعقائدهم خشية ما يجره ذلك على معاملاته من سيئ الأثر، فما أكثر الذين لا يؤمنون بالكثير من آراء الناس ويرونها مينا باطلا وحديث خرافة، ثم يكتمون ذلك أو يتظاهرون بنقيضه التماسا للعافية، وجرا للمنفعة، وحرصا على ما بينهم وبين الناس من تجارة، وأنت لا تجد هذا النفاق في سواد الناس وعامتهم ما تجده في الخاصة والمثقفين منهم، بل إنك لتجده فيمن نصبوا أنفسهم لزعامة الناس والإبانة لهم عن وجه الحق في الحياة، لا جرم، وقد كان موقف أبي بكر منذ اللحظة الأولى ما ذكره رسول الله، أن يكون موضع التقدير غاية التقدير، والإعجاب غاية الإعجاب.
وقيام أبي بكر بالدعوة إلى الإسلام أدعى إلى العجب، فلعل تاجرا مثله يقتنع بصدق محمد كان يقنع بتصديقه سرا ولا يظهر الناس على شيء من أمره حتى تظل تجارته متصلة، ولعل محمدا كان يقنع منه بذلك ويحمده له، فأما أن يظهر أبو بكر إسلامه، وأن يدعو إلى الله ورسوله، وأن يصل من دعوته إلى إقناع المسلمين الأولين بتصديق محمد ومتابعته على دينه، فذلك ما لا عهد للناس به إلا فيمن سمت أنفسهم إلى حيث تقدر الحق لذاته، وترتفع به فوق منافع الحياة، وترى في تأييده والدعوة إليه ما يصغر من شأن الدنيا وعرضها وإن عظم، ولقد كان ذلك شأن أبي بكر في صحبته محمدا منذ أسلم إلى أن اختار الله محمدا، وإلى أن توفي أبو بكر من بعده.
وإني لأذكر ما كان لإسلام حمزة بن عبد المطلب وعمر بن الخطاب من أثر في توطيد كلمة الإسلام، وكيف أيد الله بهما دين الحق، لما عرف عنهما من قوة بأس، ومضاء عزم، وصلابة تخيف من يناوئها، ثم أذكر الصديق وإسلامه فلا أتردد في القول بأنه أول من أيد الله به دينه، فهذا الرجل الرضي النفس، الوديع الخلق، الرقيق الطبع، حتى لتسرع الدمعة إلى عينه لمرأى الألم يصيب غيره، قد بلغت قوة إيمانه بالدين الجديد، وبالرسول الذي جاء به من عند الله، مبلغا لا تدانيه قوة ولا يتغلب عليه سلطان، وهل كقوة الإيمان في الحياة شيء! وهل كسلطانه في الحياة سلطان! والذين يحسبون أن قوة البطش وسلطان البأس لهما في الحياة الأثر البالغ يتورطون في أفحش الخطأ، فالنفس الراضية المطمئنة إلى إيمانها بالحق، الداعية إليه بالحكمة والموعظة الحسنة، المتخذة من وداعة الخلق، ورقة الطبع، ومشاركة الضعيف والبائس في ألم البؤس والضعف في غيرها من النفوس فتطبعها بطابعها وتصوغها على غرارها، ولقد كان ذلك أثره (رضي الله عنه) في السنوات الأولى من الدعوة المحمدية، وبقي ذلك أثره إلى أن تولى الخلافة وإلى أن مات.
فهو لم يقف من تأييد الدعوة عند التحدث إلى أصحابه وإقناعهم بها، ولم يكفه أن يبذل للضعفاء والبائسين من رضا نفسه ووداعة خلقه ما يعزيهم عما كان خصوم الدعوة يرهقونهم به من أذى وتعذيب، بل كان ينفق من ماله، وكان يصطفي بهذه النفقة أولئك الضعفاء والبائسين ممن هداهم الله إلى الحق فأذاقهم أعداء الحق الضر وابتلوهم بألوان البأساء، وحسبك أن تعلم أنه كان له يوم أسلم أربعون ألف درهم مدخرة من ربح تجارته، وأنه أقام بعد إسلامه يتجر فيجني وارف الربح، فلما هاجر إلى المدينة بعد عشر سنوات لم يكن له من ذلك كله غير خمسة آلاف درهم، أما سائر ما كان عنده وما ادخر من بعد، فقد ذهب في سبيل الدعوة إلى الله والدعوة لدينه ولرسوله، وأيسر ذلك ما افتدى به الضعفاء والأرقاء الذين أسلموا، فعذبهم سادتهم بإسلامهم، وأذاقوهم الهون ألوانا.
رأى أبو بكر يوما بلالا الحبشي قد ألقاه سيده على الرمل في لظى الشمس، ووضع حجرا على صدره وتركه ليموت؛ لأنه أسلم، ولم يزد بلال وهو في هذه الحال على أن يكرر «أحد أحد»، عند ذلك اشتراه أبو بكر وأعتقه، وعذب عامر بن فهيرة، فاصطفاه أبو بكر راعيا لأغنامه، واشترى كثيرا كذلك من الموالي الذين يعذبون، رجالا ونساء، وأعتقهم.
على أن أبا بكر لم يسلم من أذى قريش، كما لم يسلم محمد من هذا الأذى، على رغم مكانته من قومه ومنع بني هاشم له، ولم ير أبو بكر قريشا تؤذي محمدا إلا وقف دونه وعرض حياته للذود عنه، روى ابن هشام أن شر ما نال قريش من رسول الله قد كان بعد أن عاب دينهم وسب آلهتهم، فقد اجتمعوا في الحجر يوما «فقال بعضهم لبعض: ذكرتم ما بلغ منكم، وما بلغكم عنه، حتى إذا باداكم بما تكرهون تركتموه، فبينما هم في ذلك طلع عليهم رسول الله
صلى الله عليه وسلم ؛ فوثبوا إليه وثبة رجل واحد وأحاطوا به يقولون: أنت الذي تقول كذا وكذا؟ لما كان يقول من عيب آلهتهم ودينهم، فيقول رسول الله
صلى الله عليه وسلم : نعم! أنا الذي أقول ذلك، فلقد رأيت رجلا منهم أخذ بمجمع ردائه، فقام أبو بكر (رضي الله عنه) دونه وهو يبكي ويقول: أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله! ثم انصرفوا عنه، فإن ذلك لأشد ما رأيت قريشا نالوا منه قط .»
وليس هذا الموقف شيئا إلى جانب غيره من المواقف التي تجلى فيها إيمان أبي بكر بمحمد وبرسالته إيمانا لا يلين ولا يتزعزع، وهذا الإيمان هو الذي جعل غير واحد من المستشرقين يتراجع دون اتهام النبي بما يتهمه به غلاتهم، فما كان أبو بكر في رزانته ورجاحة عقله ليصل إلى هذا الإيمان لو لم يتنزه كل عمل من أعمال الرسول عن كل شبهة، وبخاصة في ذلك الوقت الذي كان الرسول فيه موضع الاضطهاد من قومه، وهذا الإيمان الذي امتلأت به نفس أبي بكر هو الذي وقى الإسلام أن ينصرف الناس عنه عندما حدثهم رسول الله بحديث الإسراء.
فقد تحدث محمد إلى أهل مكة بأن الله أسرى به ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، وأنه صلى هناك، وسخر المشركون من هذا الحديث، وساور الريب فيه طائفة ممن أسلموا، وقال يومئذ غير واحد: هذا والله الأمر البين! والله إن العير لتطرد شهرا من مكة إلى الشام مدبرة وشهرا مقبلة، أيذهب محمد ذلك في ليلة واحدة ويرجع إلى مكة!! وارتد كثير ممن أسلموا، وتردد كثيرون وذهبوا إلى أبي بكر لما يعلمونه من إيمانه وصحبته محمدا، فذكروا له ما يقوله عن الإسراء، قال أبو بكر وقد تولاه الدهش لما سمع: «إنكم تكذبون عليه.» قالوا: «بلى، ها هو ذاك في المسجد يحدث الناس.» قال أبو بكر: «والله لئن كان قد قاله لقد صدق! إنه ليخبرني أن الخبر ليأتيه من الله من السماء إلى الأرض في ساعة من ليل أو نهار فأصدقه، فهذا أبعد مما تعجبون منه.» وجاء أبو بكر إلى المسجد واستمع إلى النبي يصف بيت المقدس، وكان أبو بكر قد جاءه، فلما أتم النبي صفة المسجد الأقصى قال أبو بكر: «صدقت يا رسول الله.» ومن يومئذ دعا محمد أبا بكر بالصديق.
أفخطر ببالك يوما أن تسأل: ترى لو أن أبا بكر ارتاب كما ارتاب غيره في حديث الرسول عن الإسراء، فما عسى أن يحدث من أثر هذه الريبة في حياة الدين الناشئ؟ وهل قدرت ما قد يؤدي ذلك إليه من تضاعف عدد المرتدين، ومن بلبلة العقيدة في نفس غيرهم من المسلمين؟ وهل ذكرت كيف ثبتت إجابة أبي بكر عقائد الكثيرين، وكيف حفظت للإسلام يومئذ مكانته؟ إن كنت قد سألت وقدرت وذكرت فلا ريب أنك لم تتردد من بعد في الحكم بأن الإيمان الصادق أقوى سلطانا في الحياة من قوى البطش والبأس جميعا، وأن كلمة أبي بكر هذه كانت عناية الله بدينه الحق، وأنها نصرته وأيدته أكثر مما أيدته قوة حمزة وعمر من قبل، وهي لذلك حقيقة بأن تجعل لأبي بكر في تاريخ الإسلام المكان الذي جعله الرسول له حين قال: «لو كنت متخذا من العباد خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا، ولكن صحبة وإخاء وإيمان حتى يجمع الله بيننا عنده.»
وكلمة أبي بكر في الإسراء تدل على إدراك تام للوحي والرسالة لا يؤتاه كثيرون، وتريك حكمة الله في أن يختاره الرسول صفيه يوم اصطفى الله رسوله ليبلغ الناس رسالته، وهي كذلك الحجة البالغة على أن الكلمة الطيبة كالشجرة الطيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء، يخلد أثرها على الزمان بفضل الله، فلا سلطان للزمان عليه ولا يأتي عليه النسيان.
أقام أبو بكر من بعد حديث الإسراء يرعى تجارته في حدود ما تحتاج إليه من جهد العارف بمداخلها ومخارجها، وينفق وقته في صحبة الرسول، وفي حماية الضعفاء الذين أسلموا، وفي دفع أذى قريش عنهم، وفي دعوة من تلين قلوبهم للإسلام، هذا وقريش تشتد في أذى النبي وفي أذى أبي بكر وسائر المسلمين، ولم يدر بخاطر الصديق أن يهاجر مع المسلمين الذين هاجروا إلى الحبشة فرارا إلى الله بدينهم،
2
بل ظل مع محمد بمكة يجاهد معه في سبيل الدعوة إلى دين الله، ويتلقى عنه ما يوحي الله إليه ليذيعه في الناس، ويبذل من رضا نفسه ومن طيبة خلقه ومن حر ماله كل ما يستطيع بذله، لخير من أسلم، ولهداية من لم يسلم.
وما كان أحوج المسلمين بمكة يومئذ إلى هذ الجهد وإلى هذه الرعاية من أبي بكر! فقد كان محمد يتلقى وحي ربه، وكان قد يئس من استجابة أهل مكة لدعوته، فوجه همه إلى القبائل يعرض نفسه عليها ويدعوها إلى الله، وقد ذهب إلى الطائف يستنصر أهلها فردوه ردا غير جميل، وكان في اتصاله بربه دائم التفكير في رسالته والدعوة إليها وفي الوسيلة لنجاح هذه الدعوة، هذا إلى أن قريشا لم تسكت قط عنه ولم تنقطع عن مناوأته، إزاء ذلك كله أخذ أبو بكر نفسه بالتفكير في أمر المسلمين المقيمين بمكة، وفي تنظيم الوسائل للسهر على طمأنينتهم.
ولئن لم تذكر كتب السيرة ولم يذكر من أرخو لأبي بكر من عمله في ذلك ما فيه غناء، إنني مع هذا لترتسم في نفسي صورة واضحة من عنايته ومن اتصاله الدائم بحمزة وبعمر وبعثمان وبكل ذي رأي في المسلمين أو سلطان لدفع أذى قريش عن الضعفاء الذين أسلموا، بل إنني لأتصور ما كان من اتصاله بغير المسلمين ممن أقاموا على دينهم ثم كانوا لا يرون إنه من الحق لقريش أن تناوئ من لا يقرها على عقيدتها في الأصنام وعبادتها، ولقد رأينا في سيرة الرسول كثيرين من هؤلاء قاموا يدفعون عن المسلمين أذى قريش؛ ورأينا الذين قاموا في نقض الصحيفة إذ تعاهدت قريش على مقاطعة محمد وأصحابه وعلى محاصرتهم حتى احتموا ثلاث سنوات تباعا في شعب من شعاب الجبل بظاهر مكة، لا يتصلون بالناس ولا يستحدثون إليهم إلا في الأشهر الحرم، ويقيني أن أبا بكر قد كان له في تحريك هؤلاء الذين لم يتابعوا محمدا على دينه، والذين غضبوا مع ذلك لما يصيبه من أذى قريش، أثر بالغ أدركه برفقه وحسن حديثه وجميل عشرته.
وما قام به أبو بكر من حماية المسلمين إبان نشأة الدين هو الذي زاده من محمد قربا، وهو الذي ربط بين الرجلين برابطة إخاء في الإيمان جعلت محمدا يصطفيه خليلا، فلما أذن الله لدينه أن ينتصر بقوة أهل يثرب بعد بيعتي العقبة، أذن محمد لأصحابه في أن يهاجروا إليها، كما أذن لهم من قبل في أن يهاجروا إلى الحبشة، ولم تعرف قريش أيهاجر محمد مع أصحابه إلى يثرب، أم يظل كما ظل بها حين هجرة المسلمين إلى الحبشة؟ أعرف أبو بكر من مقصد محمد ما لم تعرف قريش؟ كل ما يروى عن ذلك أن أبا بكر استأذن محمدا في الهجرة فقال له: «لا تعجل لعل الله يجعل لك صاحبا.» ولم يزد على ذلك.
ها هنا تبدأ صفحة أخرى من صحف الإيمان القوي الراسخ بالله ورسوله، فقد كان أبو بكر يعلم أن قريشا قامت، منذ عرفت بهجرة المسلمين إلى يثرب، ترد كل ما استطاعت رده منهم إلى مكة لتفتنه عن دينه، أو تعذبه وتنكل به، ثم إنه علم أن المشركين اجتمعوا بدار الندوة يأتمرون بمحمد ليقتلوه، فإن هو صحب محمدا في هجرته فأقدمت قريش على قتل الرسول قتلت أبا بكر لا محالة معه، مع ذلك لم يتردد حين استمهله محمد، بل شاعت الغبطة في أنحاء نفسه وأيقن أنه إن يهاجر مع الرسول يجعل الله له بذلك من الفضل والفخر ما لا يعدله فضل ولا فخر، وإن يقتل معه فإنما هو الاستشهاد الذي يجزى صاحبه جنة الخلد.
ومن يومئذ أعد أبو بكر راحلتين وأقام ينتظر مصيره ومصير صاحبه، وإنه لفي بيته ذات مساء إذ أقبل محمد كدأبه كل مساء، وأخبره أن الله أذن له في الهجرة إلى يثرب، ورغب الصديق إلى رسول الله أن يكون رفيقه في الهجرة، فأجابه إلى ما طلب، وعاد محمد إلى بيته وفتيان قريش يحاصرونه مخافة أن يفر، وأسر محمد إلى علي بن أبي طالب أن يتسجى برده الحضرمي الأخضر وأن ينام في فراشه، ففعل، فلما كان الثلث الأخير من الليل خرج في غفلة من فتية قريش إلى دار أبي بكر، فإذا هو يقظ ينتظره، وخرج الرجلان من خوخة في ظهر الدار وانطلقا جنوبا إلى غار ثور فاختبآ فيه.
وأطلقت قريش فتيانها في كل واد وفي كل جبل، يبحثون عن محمد ليقتلوه، فلما بلغوا ثورا تسلقه أحدهم إلى الغار، لعله أن يعثر به، وتصبب أبو بكر عرقا حين سمع تناديهم، وأمسك أنفاسه وبقي بلا حراك به وأسلم لله أمره، أما محمد فظل فيما كان فيه من ذكر الله والصلاة له، واقترب أبو بكر من صاحبه وألصق به نفسه، فهمس محمد في أذنه: «لا تحزن، إن الله معنا.»
وأدار الفتى القرشي بصره فيما حول الغار فرأى العنكبوت نسجت على فوهته، فانصرف يقول لأصحابه الذين سألوه ما له لم يذهب إليه: «إن عليه العنكبوت من قبل أن يولد محمد.» وانصرف الفتية قافلين يعضون البنان ندما، فلما بعدوا نادى محمد: «الحمد لله، الله أكبر!» وازداد أبو بكر بما رأى إيمانا وتثبيتا.
أفكان فزع أبي بكر حتى ليتصبب منه العرق ويمسك أنفاسه ويلتصق برسول الله بعض ما دعا إليه حب الحياة والحرص عليها، فهو يخشى على نفسه أن يصيبه المكروه؟ أم إنه لم يفكر في نفسه ما فكر في رسول الله، وإنه كان يود لو يفتدي رسول الله بنفسه إن استطاع؟ روى ابن هشام عن الحسن بن أبي الحسن البصري قال: «انتهى رسول الله
صلى الله عليه وسلم
وأبو بكر إلى الغار ليلا، فدخل أبو بكر (رضي الله عنه) قبل رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، فلمس الغار لينظر فيه سبعا أو حية، يقي رسول الله
صلى الله عليه وسلم
بنفسه.» وذلك كان شأنه في تلك اللحظة الدقيقة من حياته حين كان يسمع إلى فتيان قريش، فيهمس في أذن النبي: «لو بصر أحدهم تحت قدميه لأبصرنا.» لم يكن يفكر فيما قد يصيبه، وإنما كان يفكر في رسول الله وفي مصير الدين الذي يدعو إليه بأمر ربه لو أن هؤلاء الفتية ظفروا به فقتلوه، بل لعله لم يفكر في شيء بذاته تلك اللحظة، وإنما كان شأنه شأن الأم تخشى الخطر على ابنها، فهي ترتجف وتفزع ويتولاها الهلع ثم لا يساعفها عقلها برأي أو تفكير، فإذا دنا الخطر منها ألقت بنفسها في وجهه تريد أن تصده أو تموت دونه، أم إن أبا بكر كان أشد من هذه الأم هلعا وأكثر منها استهانة بالخطر إذا أقبل؛ لأن إيمانه بالله ورسوله كان أقوى من حب الحياة ومن فطرة الأمومة ومن كل ما تحسه نفوسنا أو يدور بخواطرنا، وما بالك بإيمان تجسم أمامه في رسول الله فتجسمت معه كل المعاني المقدسة في أعظم صورها قدسية وأسماها روحانية! أتصور الساعة أبا بكر في مجلسه ورسول الله إلى جانبه، وأتصور الخطر محدقا بهما مقبلا عليهما، فلا يسعفني خيالي بمثال يبرز كل ما في هذه الصورة الفذة من حياة لا نظير لها في كل صور الحياة.
قص التاريخ نبأ أشخاص وهبوا أنفسهم فداء زعيم من الزعماء أو ملك من الملوك، وفي عصرنا اليوم زعماء يقدسهم الناس، فهم أحب إليهم من أنفسهم، لكن موقف أبي بكر بالغار يختلف عن ذلك كل الاختلاف، وهو لذلك جدير بالتحليل يقوم به أشد علماء النفس دقة، وأكثرهم في التصوير براعة، فأين إيمان الناس بالزعماء أو الملوك من إيمان الصديق بالرسول الذي اصطفاه الله فأوحى إليه دينه الحق!! وأين لذلك افتداء الناس ملوكهم وزعماءهم مما جال بخاطر الصديق في هذه اللحظة التي خشي فيها الخطر على حياة الرسول، ثم كان أشد خشية ألا يدفع الخطر دافع؟!! هذا مقام من السمو لا سبيل للرقي إلى تصويره؛ ولذا أمسك كتاب السيرة عن الحديث فيه أو كادوا.
وسكن الناس عن الرجلين وتولاهم اليأس من العثور عليهما، فخرجا من مخبئهما وارتحلا، يواجهان ما في الطريق من أخطار لا تقل عما تعرضا له بالغار، وحمل أبو بكر ما بقي له من ربح تجارته خمسة آلاف درهم، فلما بلغا المدينة وتلقى الناس رسول الله ببشر دونه كل بشر، بدأ أبو بكر حياته فيها كأي رجل من المهاجرين، وإن ظلت له مكانته من رسول الله، مكانة الخليل والصديق والوزير المشير.
ونزل أبو بكر بالسنح من ضواحي المدينة على خارجة بن زيد من بني الحارث من الخزرج، فلما آخى النبي بين المهاجرين والأنصار كان أبو بكر وخارجة أخوين، وأدرك أبا بكر أهله وأبناؤه الذين كانوا بمكة فاستعان بهم على الحياة، فقد عملت أسرته - كما عملت أسرة عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب - في الزراعة في أراضي الأنصار، مزارعة مع ملاكها، ولعل خارجة بن زيد كان في هؤلاء الملاك؛ فقد توثقت الصلة بينه وبين أبي بكر من بعد، فتزوج ابنته حبيبة وجاءت منه بأم كلثوم، وكانت حبيبة حاملا بها حين وفاته.
ولم تقم أسرة أبي بكر معه بدار خارجة بن زيد بالسنح، بل أقامت أم رومان وابنتها عائشة وسائر أبناء أبي بكر بالمدينة، بدار تجاور دار أبي أيوب الأنصاري حيث نزل النبي، وكان هو يتردد عليهم، جاعلا معظم إقامته بالسنح مع زوجه الجديدة.
وبعد قليل من مقامه بالمدينة أصابته الحمى التي أصابت أكثر الذين هاجروا إليها من أهل مكة، بسبب ما بين موطنهم ومهجرهم من تفاوت في الهواء؛ فهواء مكة صحراوي جاف، وهواء المدينة رطب لكثرة ما فيها من مياه وزروع، يروى عن عائشة أن أباها أصابه من هذه الحمى رهق حتى لكان يهذي لشدة ما نزل به منها.
فلما اطمأن إلى موطنه الجديد، وإلى كدح أهله كدحا أغناه عن الأنصار، وجه كل همه إلى معاونة الرسول في تثبيت دعوته وتوطيد مركز المسلمين، لا يألو في ذلك جهدا ولا يضن بتضحية.
ولقد كان الغضب لا يعرف إلى هذا الرجل الوادع سبيلا إلا حين يرى خصوم الدعوى من اليهود والمنافقين يسخرون منها أو يكيدون لها، كان رسول الله قد عقد بين اليهود والمسلمين عهدا أن يكون لكل حرية الدعوة إلى دينه، وأن يباشر من شعائره ما يشاء، وكانت اليهود قد حسبت أول الأمر أنها قادرة على أن تكسب المسلمين من أهل مكة ليكونوا عونا لهم على الأوس والخزرج، فلما سقط في أيديهم وعجزوا عن التفريق بين المهاجرين والأنصار، بدءوا يكيدون للمسلمين ويسخرون من دينهم، اجتمع رهط من يهود على رجل منهم يقال له فنحاص، وكان من علمائهم وأحبارهم، ودخل عليهم أبو بكر فرآهم كذلك، فقال لفنحاص: «ويحك يا فنحاص! اتق الله وأسلم! إنك لتعلم أن محمدا لرسول الله، قد جاءكم بالحق من عنده ، تجدونه مكتوبا عندكم في التوراة والإنجيل.» قال فنحاص وعلى شفتيه ابتسامة السخر والتهكم: «والله، يا أبا بكر، ما بنا إلى الله من فقر، وإنه إلينا لفقير، وما نتضرع إليه كما يتضرع إلينا، وإنا عنه لأغنياء، وما هو عنا بغني، ولو كان عنا غنيا ما استقرضنا أموالنا، كما يزعم صاحبكم، ينهاكم عن الربا ويعطيناه، ولو كان غنيا عنا ما أعطانا!» وإنما يشير فنحاص بعبارته هذه إلى قوله تعالى:
من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة (البقرة: 245)، فلما رأى أبو بكر أن الرجل يستهزئ بقول الله ووحيه إلى نبيه، لم يملك نفسه أن ضرب وجه فنحاص ضربا شديدا وقال: «والذي نفسي بيده لولا العهد الذي بيننا وبينكم لضربت رأسك أي عدو الله!»
أليس عجبا أن تكون في أبي بكر هذه الحدة وهو من هو؛ لين طبع ورقة خلق ووداعة نفس، وأن تكون فيه وقد جاوز الخمسين!
وهذه الغضبة على فنحاص تذكرنا بغضبة مثلها، كانت له قبلها بأكثر من عشر سنين، ذلك حين غلبت الفرس الروم؛ والفرس مجوس، والروم أهل كتاب، فقد حزن المسلمون لتهكم المشركين بهم وزعمهم أن الروم غلبت؛ لأنهم أهل كتاب مثلهم، وتحدث مشرك في الأمر أمام أبي بكر وألح في الحديث فاغتاظ أبو بكر وراهنه عشرة جمال على أن تغلب الروم المجوس قبل عام، ذلك يدل على أنه لم يكن شيء في الحياة يثير ثائرة أبي بكر أو يهيج غضبه إلا ما اتصل بعقيدته وبإيمانه الصادق بالله ورسوله، كان هذا دأبه وهو في الأربعين، وظل هذا دأبه حين جاوز الخمسين، وحين تولى الخلافة من بعد ودبر أمر المسلمين.
وهذا الإيمان الصادق قد ملك على أبي بكر كل مشاعره في كل أطوار حياته منذ اتبع الرسول، وأنت تستطيع أن تفسر كل أحواله وكل أعماله وتصرفاته إذا نظرت إليها من هذه الناحية المعنوية، أما ما خلاها فقد كان ضعيف الأثر عنده؛ فلا تجارته، ولا أسرته، ولا أهواؤه، ولا شيء مما يتأثر به الناس في الحياة ومما كان يتأثر به كثير من المسلمين في ذلك العهد، قد كان ذا سلطان عليه، بل كان قلبه، وكان عقله، وكانت روحه، خالصة كلها لله ورسوله، وكانت كلها الإيمان الذي بلغ من مراتب الإيمان عليها، مراتب الصديقين، وحسن ذلك مقاما!
انظر إليه بعد ذلك في غزوة بدر: عدل المكيون صفوفهم، وعدل النبي صفوف المسلمين للقتال، وبنى المسلمون عريشا للنبي في المؤخرة، بإشارة سعد بن معاذ، حتى إذا لم يكن النصر في جانبهم لحق رسول الله بالمدينة، وأقام أبو بكر مع النبي في العريش يرقب معه سير المعركة، فلما ابتدأت، ورأى محمد كثرة عدوه وقلة رجاله، استقبل القبلة واتجه: فاتجه إلى ربه، وجعل ينشده ما وعده، ويهتف به أن يتم له النصر ويقول: «اللهم هذه قريش قد أتت بخيلائها تحاول أن تكذب رسولك! اللهم فنصرك الذي وعدتني! اللهم إن تهلك هذه العصابة اليوم لا تعبد!»
وما زال يهتف بربه مادا يديه مستقبلا القبلة حتى سقط رداؤه، ولم يطمئن حتى خفق خفقة من نعاس رأى خلالها نصر الله، وانتبه من بعدها مستبشرا، وخرج إلى الناس يحرضهم ويقول لهم: «والذي نفس محمد بيده لا يقاتلهم اليوم رجل فيقتل صابرا محتسبا مقبلا غير مدبر إلا أدخله الله الجنة.»
هذا موقف الرسول: لم يطمئن إلى انتصار رجاله القليلين على أعدائه الكثيرين، حتى اتصلت روحه بسر من ربه أراه النصر، وكشف أمامه حجب هذا اليوم الحاسم في حياة الإسلام، أما أبو بكر فظل إلى جانب الرسول ممتلئا إيمانا بأن الله لا ريب ناصر دينه، ممتلئا مع إيمانه بالنصر إعجابا بالرسول في مناجاة ربه، وإشفاقا على الرسول لشدة خوفه من مصير ذلك اليوم، وهذا ما دعاه، والرسول ينادي ويناشد ويستنجز ربه ما وعده، ويكرر ذلك ويعيده حتى سقط رداؤه، أن يهيب به وهو يرد الرداء على منكبيه: يا نبي الله، بعض مناشدتك ربك، فإن الله منجز لك ما وعدك!»
ألف الناس في كثير من المؤمنين بعقيدة لا يمارون فيها ولا يداجون، أن يبلغ منهم التعصب لعقيدتهم مبلغا يجعلهم أشداء لا يهنون، غلاظا لا يلينون، بل إن منهم لكثيرين لا يطيقون النظر إلى وجوه من يخالفونهم في هذه العقيدة، هؤلاء يرون أن الإيمان الحق يقتضيهم هذا التعصب وهذه الشدة والغلظة، أما الصديق فكان، على جلال إيمانه وعظم تعصبه لهذا الإيمان وشدته فيه شدة لا تهن ولا تتردد، بعيدا عن الغلظة، قريبا إلى اللين، عفوا عند القدرة، محسنا متى تم لإيمانه النصر، بذلك جمع في قلبه بين مبدأين من أسمى المبادئ الإنسانية: حب الحق، والرحمة، ففي سبيل الحق كان يستهين بكل شيء، وبالحياة قبل كل شيء، فإذا علت كلمة الحق، غلب فيها جانب الرحمة، وانقلب مؤمنا بها إيمانه من قبل بالحق، ضعيفا لها حتى لتذرف عينه الدمع ترسله مدرارا.
تم النصر للمسلمين في بدر، فرجعوا إلى المدينة ومعهم أسرى قريش، وكان هؤلاء يطمعون في الحياة، وفي العود إلى مكة، وإن أغلوا الفداء، لكنهم كانوا يخشون شدة محمد وبطشه بهم بعد الذي أذاقوه وأصحابه سنوات مقامه بينهم، قال بعضهم لبعض: «لو بعثنا إلى أبي بكر فإنه أوصل قريش لأرحامنا، وأكثرهم رحمة وعطفا، ولا نعلم أحدا آثر عند محمد منه.» وبعثوا إلى أبي بكر فقالوا له: «يا أبا بكر، إن فينا الآباء، والإخوان، والعمومة، وبني العمومة؛ وأبعدنا قريب، كلم صاحبك يمن علينا أو يفادنا.» فوعدهم خيرا، وخافوا أن يفسد ابن الخطاب عليهم أمرهم، فتحدثوا إليه بمثل حديثهم لأبي بكر، فنظر إليهم شزرا ولم يجب، وأقام أبو بكر نفسه شفيع هؤلاء القرشيين المشركين عند رسول الله، فجعل يستعطفه عليهم ويلين قلبه لهم، ويدفع حجج عمر في الشدة بهم، ويذكر ما بينهم وبين النبي من قرابة، وهو إنما صنع ما صنع من ذلك لما فطر عليه من طيب القلب والإيمان بالرحمة كإيمانه بالحق والعدل، ولعله كان يرى بعين بصيرته أن لسلطان الرحمة الغلب آخر الأمر، وأن الناس ينزلون على حكم صاحبها وعلى عقيدته ما رأوها رحمة إنسانية سامية، مبرأة من الضعف، منزهة عن الهوى، لا تحركها في النفس إلا القوة والقدرة، وإلا سلطان الإنسان على نفسه سلطانا يكبح من بطش القوة ويلين من عسف القدرة.
كانت غزوة بدر مبدأ حياة جديدة للمسلمين، وكانت كذلك مبدأ اتجاه جديد في حياة أبي بكر، بدأ المسلمون ينظمون سياستهم إزاء قريش وإزاء من ناوأهم من القبائل المحيطة بهم، وبدأ أبو بكر يشتغل مع النبي بهذا التنظيم أضعاف شغله بحماية المسلمين أيام مقامه بمكة، فقد كان المسلمون جميعا يعلمون أن قريشا لن يهدأ لها بال حتى تأخذ بثأرها من بدر؛ وكانوا يعلمون أنهم في حاجة إلى حماية دعوتهم الناشئة، وإلى دفع كل معتد عليهم، فلا بد من التقدير لذلك كله، وتدبير الأمر له، وما كان لأبي بكر، وموقفه من رسول الله ما رأيت، أن يشغل نفسه من بعد بغير هذا التقدير والتدبير، حتى لا تكون فتنة داخلية في المدينة بتحريض اليهود والمنافقين، وحتى لا يغزو المدينة غاز من الخارج.
والحق أن نصر المسلمين ببدر قد أعز كلمتهم، فحرك في نفوس منافسيهم حقدا عليهم أي حقد، حرك في نفوس اليهود حفائظ كانت ساكنة، وحرك في قلوب القبائل المجاورة للمدينة مخاوف كانت مطمئنة، ولم يكن بد، لاتقاء ما ينجم عن هذا وذاك، من سياسة حكيمة، وتقدير دقيق، ومشاورة متصلة بين النبي وأصحابه، وقد اتخذ النبي من أبي بكر وعمر وزيرين يمحص على ضوء ما بينهما من تباين في الطبع مع صدق المشورة، ما ينظم به سياسته الناشئة، هذا مع مشاورته غيرهما من سائر المسلمين، مشاورة كان لها أثرها الكبير في جمع الكلمة، وفي توزيع التبعة على الجميع، توزيعا يشعر كل واحد بأن عليه منها قسطا ونصيبا.
وكان من أثر ما تحرك من حفائظ اليهود أن حاصر المسلمون منهم بني قينقاع وأجلوهم عن المدينة، وكان من أثر ما تحرك من مخاوف القبائل أن جعل المحيطون بالمدينة يجتمعون للاعتداء عليها، فإذا سمعوا بخروج محمد إليهم ولوا فرارا وملئت قلوبهم رعبا.
وكانت هذه الأنباء تصل مكة، فلا تصد قريشا عن التفكير في الثأر لبدر، ولقد ذهبت تلتمس هذا الثأر، فالتقت بالمسلمين عند أحد، فدارت الدائرة وجه النهار عليها لكن مصير اليوم تغير حين خالف رماة المسلمين أمر النبي، وتركوا مواقفهم وانطلقوا يغنمون مع الغانمين، فقد اهتبل خالد بن الوليد الفرصة؛ فأوقعت قريش بالمسلمين فاضطربوا؛ وأصيب النبي بحجارة كان المشركون يقذفونها، فوقع لشقه، وأصيب في وجهه، وتنادت قريش أنه مات، ولولا أن أحاط به من أبطال المسلمين من افتدوه بأنفسهم وأرواحهم، لكان لله في خلقه من يومئذ شأن غير الشأن، ومن يومئذ صار أبو بكر أكثر ملازمة للنبي في غزواته وحين مقامه بالمدينة، وأنت تذكر أن حياة المسلمين، إلى أن استقر لهم الأمر بعد فتح مكة وإسلام ثقيف بالطائف، قد كانت حياة غزو، ودفع للغزو، أو استعداد لدفعه، دع عنك الغزوات الصغرى التي كانت أدنى إلى المناوشات، فقد كان اليهود، وعلى رأسهم حيي بن أخطب، لا يفتئون يؤلبون على المسلمين، وكانت قريش تبذل جهد الطاقة لإضعافهم والقضاء على سلطانهم، فكانت غزوات بني النضير والخندق وبني قريظة وما تخللها من الغزوات الصغرى، أثر سياسة اليهود وحقد قريش.
صار أبو بكر أكثر ملازمة للنبي في هذه المواقف والمواقع جميعا، وهو أشد ما يكون برسالته إيمانا وتصديقا، فلما اطمأن رسول الله إلى منعة المدينة وآن له أن يوجه خطته توجيها جديدا يمهد الله به لإكمال دينه، كان لأبي بكر مواقف زادت المسلمين اقتناعا بأنه الرجل الذي يلي رسول الله مكانة من نفوسهم، وسموا في تقديرهم.
بعد ست سنوات من هجرة المسلمين إلى المدينة أذن محمد في الناس بالحج إلى البيت العتيق، وبلغ قريشا مسيرة القوم، فأقسموا لا يدخل محمد مكة عليهم عنوة، وأقام محمد وأصحابه بالحديبية بظاهر مكة، وهو مستمسك بالسلام، رافض كل دعوة إلى منازلة قريش، معلن أنه جاء حاجا ولم يجئ غازيا، وتبادل مع قريش الرسل، وانتهى الأمر بينه وبينهم إلى عهد رضي به أن يرجع عنه عامه وأن يعود إليهم العام الذي يليه.
غضب كثير من المسلمين، بينهم عمر بن الخطاب، لتراجعهم ورجوعهم، ورأوا في هذا العهد إعطاء للدنية في دينهم، أما أبو بكر فآمن وصدق بحكمة رسول الله، فلما نزلت سورة الفتح آمن الناس جميعا بأن عهد الحديبية كان فتحا مبينا، وبأن أبا بكر كان الصديق في هذه، كما كان في غيرها من مواقفه.
كانت الدعوة الإسلامية تزداد على الأيام كمالا؛ وكان المسلمون بالمدينة يزدادون بذلك بأسا وقوة، وكان من مظاهر قوتهم أن حاصروا اليهود في خيبر وفدك وتيماء، وأخضعوهم لسلطانهم، تمهيدا لإجلائهم عن بلاد العرب، ثم كان من مظاهر قوتهم وكمال الدعوة أن أرسل محمد إلى الملوك والأمراء بفارس، وبزنطية، ومصر، والحيرة، واليمن، وما جاور بلاد العرب أو دخل فيها من الإمارات، يدعوهم إلى الإسلام، فأما المظهر الأسنى لهذا الكمال وهذه القوة، فذلك فتح مكة، وحصار الطائف، بهذا كله تألق نور الدين الجديد في شبه الجزيرة، وجاوزها إلى الإمبراطوريتين العظيمتين اللتين كانتا قابضتين على ناصية العالم في ذلك العصر: الروم، وفارس، وبذلك اطمأن الرسول والمسلمون إلى نصر الله، وإن استمسكوا بخطة الحذر، حتى لا يدهمهم من أية ناحية من يحاول أن يغشى على هذا النور أو أن يضعف سلطانه.
وحين رأت العرب هذه القوة جاءت وفودهم تترى من أنحاء شبه الجزيرة، تعلن إيمانها بالدين الجديد، أليس هذا الداعي إليه قد كان وحيدا فريدا، وها هو ذا قد انتصر على اليهود، وعلى النصارى، وعلى المجوس، وعلى المشركين!! وهل ينتصر إلا الحق! وهل آية أدل على أن دعوته هي الحق الخالص من انتصاره على هؤلاء جميعا، وهو لا يبتغي عليهم سلطانا، ولا يطلب إليهم إلا أن يؤمنوا بالله، وأن يعملوا الصالحات!! هذا منطق إنساني أقره الناس في كل زمن وآمنوا به أينما وجدوا وهو منطق يقره العقل ما أثبتت السنون قوة حجته فلم يغلبه غالب.
وأذن الله أن يتم المسلمون فروض دينه، والحج تمام هذه الفروض، لكن تتابع الوفود لم يتح لرسول الله أن يغادر المدينة إلى بيت الله الحرام، لذلك أمر أبا بكر أن يحج بالناس، فخرج في ثلاثمائة من المسلمين، حجوا وطافوا وسعوا، وفي هذا الحج أعلن علي بن أبي طالب إلى الناس - أو أعلن أبو بكر في رواية أخرى - أن لا يحج بعد ذلك العام مشرك، ثم أجل الناس أربعة أشهر، ليرجع كل قوم إلى مأمنهم وبلادهم، ومن يومئذ إلى اليوم، وإلى ما يشاء الله، لم يحج إلى البيت الحرام مشرك، ولن يحج إليه مشرك.
وفي السنة العاشرة من الهجرة، حج رسول الله حجة الوداع، وحج أبو بكر معه، وسار
صلى الله عليه وسلم ، وصحبه نساؤه جميعا، وتبعه من العرب مائة ألف أو يزيدون، ولم يطل مقام النبي بالمدينة بعد عوده من الحج، حتى أمر بتجهيز جيش لجب إلى الشام، جعل فيه المهاجرين الأولين، ومنهم أبو بكر وعمر، وعسكر هذا الجيش بالجرف، ثم ترامى إليه أن رسول الله مرض، فلم يتحرك إلى غرضه؛ لأن المرض اشتد بالنبي شدة أثارت مخاوف الناس عليه.
ولما ثقل عليه المرض أمر أن يصلي أبو بكر بالناس. روي عن عائشة أنها قالت: «لما ثقل رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، جاء بلال يؤذنه بالصلاة، فقال: مروا أبا بكر فليصل بالناس، قلت: يا رسول الله، إن أبا بكر رجل أسيف وإنه متى يقم مقامك لا يسمع الناس، فلو أمرت عمر! قال: مروا أبا بكر يصلي بالناس، فقلت لحفصة: قولي له إن أبا بكر رجل أسيف، وإنه متى يقم مقامك لا يسمع الناس، فلو أمرت عمر! ... فقالت له حفصة، فقال: إنكن لأنتن صواحب يوسف، مروا أبا بكر فليصل بالناس! فقالت حفصة لعائشة: ما كنت لأصيب منك خيرا.»
وصلى أبو بكر بالناس كأمر النبي، وإنه لغائب يوما إذ دعا بلال إلى الصلاة ونادى عمر أن يصلي بالناس، وكان عمر جهير الصوت، فلما كبر في المسجد سمعه محمد من بيت عائشة، فقال: «فأين أبو بكر؟ يأبى الله ذلك والمسلمون!» ولقد ظن بعضهم أن النبي استخلف أبا بكر من بعده بما أنه قد أمره بالصلاة مكانه؛ فالصلاة بالناس أول مظهر للقيام مقام رسول الله.
وفي أثناء هذا المرض خرج محمد إلى المسلمين يوما بالمسجد، وقال فيما قال لهم: «إن عبدا من عباد الله خيره الله بين الدنيا وبين ما عنده، فاختار ما عند الله.» ثم أمسك، وقد أدرك أبو بكر أن النبي إنما يعني نفسه، فأجهش بالبكاء وقال: «نحن نفديك بأنفسنا وأبنائنا.» وأمر محمد أن تقفل أبواب المسجد إلا باب أبي بكر، ثم قال مشيرا إلى الصديق: «إني لا أعلم أحدا كان أفضل خليل رسول الله في الصحبة عندي يدا منه، وإني لو كنت متخذا من العباد خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا، ولكن صحبة وإخاء وإيمان حتى يجمع الله بيننا عنده.»
وفي اليوم الذي قبض فيه النبي خرج ساعة الصبح إلى المسجد، معتمدا على علي بن أبي طالب والفضل بن العباس، وكان أبو بكر يصلي ساعتئذ بالناس، فلما رأى الناس النبي فرحوا وتفرجوا، فأشار إليهم أن اثبتوا على صلاتكم، وأحس أبو بكر أنهم لم يصنعوا ذلك إلا لرسول الله، فتأخر عن مكانه، فأومأ إليه النبي: أن كما أنت، وجلس رسول الله عن يسار أبي بكر فصلى قاعدا.
وعاد النبي بعد هذه الصلاة إلى دار عائشة، لكنه ما لبث أن عادته الحمى، فدعا بإناء فيه ماء بارد جعل يده فيه ويمسح بمائه وجهه، وبعد سويعة من ذلك اختار الرفيق الأعلى، واختار ما عند الله.
وترك رسول الله هذه الحياة الدنيا، وقد أكمل الله للناس دينهم، وأتم عليهم نعمته، فماذا يصنع العرب من بعده؟ إنه لم يستخلف خليفة، ولم يضع للحكم نظاما مفصلا، فليجتهدوا، ولكل مجتهد نصيب.
الفصل الثاني
بيعة أبي بكر
اختار الله رسوله إلى جواره في الثاني عشر من ربيع الأول عام 11 للهجرة (الثالث من شهر يونيو سنة 632 للميلاد)، وكان
صلى الله عليه وسلم
صبح ذلك اليوم قد شعر بشيء من العافية من مرضه، فخرج من بيت عائشة إلى المسجد وتحدث إلى المسلمين، ودعا لأسامة بن زيد بالخير، وأمره أن يسير بجيشه لغزو الروم، فلما تطاير إلى الناس أن رسول الله قد مات بعد سويعات من جلوسه بينهم وحديثه إليهم تولاهم الذهول، وقام عمر بن الخطاب فيهم خطيبا ينفي الخبر، ويذكر أن رسول الله ما مات، ولكنه ذهب إلى ربه كما ذهب موسى بن عمران؛ فقد غاب عن قومه أربعين ليلة ثم رجع إليهم بعد أن قيل قد مات، وانطلق عمر يهدد القائلين بوفاة الرسول ويذكر أنه
صلى الله عليه وسلم
سيرجع إليهم فيقطع أيديهم وأرجلهم.
وكان أبو بكر قد ذهب إلى داره بالسنح من ضواحي المدينة بعد أن عاد النبي (عليه السلام) من المسجد إلى دار عائشة، فلما نما في الناس نبأ وفاته ذهب في أثر الصديق من أبلغه إياه فكر راجعا، فبصر بالمسلمين وبعمر يخطبهم، فلم يقف بل قصد إلى بيت عائشة حيث ألفى النبي
صلى الله عليه وسلم
مسجى في ناحية من البيت، فكشف عن وجهه وجعل يقبله ويقول: «ما أطيبك حيا وما أطيبك ميتا!» وخرج إلى الناس فقام فيهم فقال: «أيها الناس، من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت.» ثم تلا قوله تعالى:
وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين (آل عمران: 144) فلما سمع عمر هذه الآية خر إلى الأرض ما تحمله رجلاه، وأيقن أن رسول الله قد مات، ووجم الناس لما سمعوا ولما رأوا، وأقاموا في ذهولهم لا يدرون ما يصنعون.
نقف هنيهة ها هنا لنصور ناحية من نفسية أبي بكر يدل عليها موقفه هذا أبلغ الدلالة، فلو أن رجلا من المسلمين جاز أن يبلغ منه الجزع لوفاة الرسول ما بلغ من عمر، لكان ذلك الرجل أبا بكر؛ فهو صفي النبي وخليله، ومن آثره في كل موقف على نفسه، وهو الذي أجهش بالبكاء لقول رسول الله: «إن عبدا من عباد الله خيره الله بين الدنيا وبين ما عنده، فاختار ما عند الله.» وهو الذي قال حين سمع هذه الكلمة والعبرة تخنقه: «نحن نفديك بأنفسنا وأرواحنا!» لكن جزعه لوفاة الرسول لم يذهله ما أذهل عمر، وهو لم يلبث، حين أيقن أن الله اختار رسوله إليه، أن خرج إلى الناس وخطبهم بما قرأت.
وهذه الكلمات التي ألقاها عليهم، وهذه الآية التي تلاها من القرآن لإقناعهم، تدل على قوة في مواجهة الحقائق تنأى بصاحبها عن أن يذهله نبأ فاجع كموت رسول الله، وقد اقترنت هذه القوة النفسية بصفة أخرى زادتها جلالا ومهابة، وهي بعد النظر إلى المستقبل، وهاتان الصفتان تثيران العجب من رجل كله الرفق والرقة، وكله التقديس لمحمد ومحبته أكثر من حبه الحياة وما فيها.
وهذه القوة النفسية البالغة التي كانت سند أبي بكر في هذه الساعة العصيبة الرهيبة، ساعة فجيعة المسلمين لفقد نبي الله ورسوله، هي التي كانت سنده في الساعات الكثيرة العصيبة التي مرت من بعد به وبالمسلمين، وهي التي وقت المسلمين ووقت الإسلام فتنة لولاها لتعرضوا لمحن لا يعلم إلا الله ما كان يصيبهم ويصيب النشأة الجديدة من جرائها.
لم يكن عمر والمسلمون الذين أحاطوا به واستراحوا إلى قوله إن النبي لم يمت، إلا الذين أذهلهم النبأ عن التفكير فيما وراءه، أما الذين أيقنوا بحقيقة هذا النبأ أول ما عرفوا به، فلم يثنهم الحزن عن هذا التفكير، فقد آل أمر المدينة إلى الرسول بعد أن استقر بها، وبعد أن تم لدينه السلطان فيها، فلمن عسى أن ينتقل هذا الأمر من بعده، وقد امتد سلطان الرسول على سائر العرب بعد أن دانوا بالإسلام، وبعد أن ارتضى الكتابيون الذين أقاموا على دينهم أن يدفعوا الجزية؟ ترى أيظل للمدينة هذا السلطان؟ وإن ظل لها فلمن من أهلها يئول؟
لقد كان الأنصار من أهل المدينة يجدون على المهاجرين أنهم آووهم ونصروهم أول ما جاءوا إليهم ضيوفا مع الرسول، فلما اطمأنوا أرادوا أن يستأثروا بالأمر دونهم، كانت هذه روحهم في عهد النبي، فكان من الطبيعي أن تظهر واضحة حين وفاته؛ بل لقد ظهرت في حياة الرسول بعد فتح مكة وغزاة حنين والطائف، فقد أجزل محمد العطاء من فيء هذه الغزاة إلى المؤلفة قلوبهم من أهل مكة، فلما رأى الأنصار ذلك تحدث فيه بعضهم إلى بعض وقال قائل منهم: لقي والله رسول الله قومه. فلما بلغت هذه المقالة النبي طلب إلى سعد بن عبادة سيد الخزرج أن يجمعهم إليه؛ فلما اجتمعوا قال لهم: «يا معشر الأنصار، مقالة بلغتني عنكم، وجدة وجدتموها في أنفسكم! ألم آتكم ضلالا فهداكم الله، وعالة فأغناكم الله، وأعداء فألف بين قلوبكم؟» وأطرق الأنصار لما سمعوا، وكان كل جوابهم: «بلى! الله ورسوله أمن وأفضل.» وسألهم النبي: «ألا تجيبوني يا معشر الأنصار!» فظلوا مطرقين ولم يزيدوا على أن قالوا: «بماذا نجيبك يا رسول الله؟ لله ورسوله المن والفضل.»
هنالك تولى محمد الجواب عنهم فقال: «أما والله لو شئتم لقلتم فلصدقتم ولصدقتم: أتيتنا مكذبا فصدقناك، ومخذولا فنصرناك، وطريدا فآويناك، وعائلا فآسيناك.» قال هذه العبارة والتأثر باد عليه، ثم أردف: «أوجدتم يا معشر الأنصار، في لعاعة من الدنيا تألفت بها قوما ليسلموا ووكلتكم إلى إسلامكم!! ألا ترضون، يا معشر الأنصار، أن يذهب الناس بالشاة والبعير، وترجعون برسول الله إلى رحالكم!! فوالذي نفس محمد بيده لولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار، ولو سلك الناس شعبا وسلك الأنصار شعبا، لسلكت شعب الأنصار، اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار.» ولقد بلغ من تأثر الأنصار بهذه العبارة التي صدرت من أعماق قلب النبي، فقالها وكله العطف والمحبة لأولئك الذين بايعوه ونصروه وأعزوه، أن بكوا وقالوا: «رضينا برسول الله قسما وحظا.»
ولم يكن فيء حنين وعطاء المؤلفة قلوبهم أول ما أثار المخاوف في نفوس الأنصار، بل ثارت مخاوفهم قبل ذلك وعلى أثر فتح مكة، حين رأوا النبي يقوم على الصفا ويدعو، وحين رأوه يحطم الأصنام ويتم في يوم واحد ما دعا إليه منذ عشرين سنة، فقد خيل إليهم أنه تارك المدينة فعائد إلى وطنه الأول، وقال بعضهم لبعض: «أترون رسول الله إذ فتح الله عليه أرضه وبلده لمقيم بها؟» فلما اتصل بمحمد نبأ مخافتهم قال: «معاذ الله، المحيا محياكم، والممات مماتكم.»
طبيعي، وذلك كان شعور الأنصار، أن يسرعوا إلى التفكير في أمر مدينتهم أول ما عرفوا أن النبي مات، ترى أيظل أمر هذه المدينة وأمر العرب إلى المهاجرين الذين أقاموا ضعافا بمكة لا مأوى لهم ولا نصير حتى أعزتهم المدينة، أم يكون الأمر لأهل المدينة الذين قال فيهم الرسول إنه أتاهم مكذبا فصدقوه، ومخذولا فنصروه، وطريدا فآووه، وعائلا فآسوه؟ تحدث بعض الأنصار إلى بعض في هذا، وتداعوا إلى سقيفة بني ساعدة، وكان سعد بن عبادة مريضا في داره فأخرجوه إليهم ليكون صاحب الرأي فيهم، وأصغى سعد إلى حديثهم، ثم قال لابنه أو لبعض بني عمه: «إني لا أقدر لشكواي أن أسمع القوم كلهم كلامي، ولكن تلق مني قولي فأسمعهموه.» ثم جعل يتكلم فينقل الرجل إلى الحاضرين كلامه، قال بعد أن حمد الله وأثنى عليه: «يا معشر الأنصار، إن لكم لسابقة في الدين، وفضيلة في الإسلام ليست لقبيلة من العرب. إن محمدا (عليه السلام) لبث بضع عشرة سنة في قومه يدعوهم إلى عبادة الرحمن، وخلع الأنداد والأوثان، فما آمن به من قومه إلا رجال قليل: وما كانوا يقدرون على أن يمنعوا رسول الله ولا أن يعزوا دينه، ولا أن يدافعوا عن أنفسهم ضيما عموا به، فلما أراد لكم ربكم الفضيلة ساق إليكم الكرامة وخصكم بالنعمة، فرزقكم الله الإيمان به وبرسوله، والمنع له ولأصحابه، والإعزاز له ولدينه، والجهاد لأعدائه، فكنتم أشد الناس على عدوه منكم، وأثقله على عدوه من غيركم، حتى استقامت العرب لأمر الله طوعا وكرها، وأعطى البعيد المقادة صاغرا داحرا، وحتى أثخن الله (عز وجل) لرسوله بكم الأرض، ودانت بأسيافكم له العرب، وتوفاه الله وهو عنكم راض، وبكم قرير عين؛ فاستبدوا بهذا الأمر دون الناس، فإنه لكم دون الناس.»
سمع الحاضرون مقالة سعد ثم أجابوه بأجمعهم: «وفقت في الرأي، وأصبت في القول، ولن نعدو ما رأيت، نوليك هذا الأمر؛ فإنك فينا مقنع، ولصالح المؤمنين رضا.»
أفكان هذا الإجماع صريحا قويا صادرا عن عزيمة لا تهن ولا تكبو؟ لو أنه كان كذلك لأسرع القوم إلى بيعة سعد بن عبادة، ولدعوا الناس إلى متابعتهم على بيعته، لكن القوم ما لبثوا أن ترادوا الكلام بينهم قبل أن يقبل أحد على بيعة سعد: قال قائل منهم: «فإن أبت مهاجرة قريش فقالوا: نحن المهاجرون، وصحابة رسول الله الأولون، ونحن عشيرته وأولياؤه، فعلام تنازعوننا هذا الأمر بعده؟» وأنصت الحاضرون إلى هذا القول، ورأوا فيه من الحق ما حسبه بعضهم لا يدفع، هنالك قالت طائفة منهم: «فإنا نقول إذن منا أمير ومنكم أمير ولن نرضى بدون هذا الأمر أبدا.»
ولم يخف على ابن عبادة ما تنطوي عليه هذه المقالة من تردد يقعد بصاحبه دون غايته؛ لذلك قال حين سمعها: «هذا أول الوهن!» ولعله إنما رآها أول الوهن أن رأى الذين يقولونها من بني الأوس، فما كان بنو الخزرج ليقولوا مثلها وهو رئيسهم الذي يرشحونه لولاية الأمر من بعد الرسول، والأوس والخزرج كانوا دائما على خلاف بينهم، منذ نزل أجدادهم الأولون المدينة قادمين من اليمن حين هجرة الأزد إلى الشمال، فقد ألفى هؤلاء الأجداد اليهود بالمدينة فخضعوا لسلطانهم زمنا، ثم ثاروا بهم وأنزلوهم عن مكان السلطان منهم، ومن يومئذ نشبت بين القبيلتين خصومة طالما ردت السلطان لليهود، ورأى الفريقان ما يجره ذلك عليهم من ضعف، فهموا أن يولوا عليهم أحدهم عبد الله بن محمد من الخزرج، بعد أن أفنت وقعة بعاث الكثيرين منهم، وأعلت كلمة إسرائيل بينهم، وإنهم لكذلك إذ قدم منهم جماعة مكة حاجين، فتعرض لهم النبي يدعوهم إلى الله، وقال بعضهم لبعض: «والله إنه للنبي الذي تواعدكم به يهود، فلا يسبقنكم إليه.» ثم أجابوا دعوته، وأسلموا وقالوا له: «إنا تركنا قومنا - أي الأوس والخزرج - ولا قوم بينهم من العداوة والشر ما بينهم، فعسى أن يجمعك الله بهم، وإن يجمعهم عليك فلا رجل أعز منك.» وعاد هؤلاء إلى المدينة، فأنبئوا قومهم بما رأوا، فكان ذلك مقدمة بيعة العقبة الكبرى، ومقدمة هجرة الرسول إلى المدينة، وبدء انتشار الإسلام فيها.
جمع الدين الجديد كلمة المؤمنين به، ثم زادهم التفافهم حول النبي إخاء ومودة بذلك ضعف سلطان اليهود ضعفا مهد لجلائهم من بعد عن المدينة وعن بلاد العرب جميعا، على أنه بقيت مع ذلك في نفوس الأوس والخزرج آثار من خصومتهم الأولى، كانت تبدو كلما حركها من اليهود أو المنافقين من ادعى الإسلام باطلا ليفرق بين أهله، وذلك ما يدعو إلى الظن بأن سعد بن عبادة لم يقل حين نظر إلى القوم في السقيفة يستمعون إلى من يقول: منا أمير ومن قريش أمير: «هذا أول الوهن» إلا لأن أصحاب هذه المقالة كانوا من بني الأوس.
بينما كان الأنصار في سقيفة بني ساعدة يتداولون أمرهم بينهم يريدون أن ينفردوا بالسلطان على العرب، كان عمر بن الخطاب وأبو عبيدة بين الجراح وطائفة من كبار المسلمين ومن سوادهم يتحدثون بالمسجد عن وفاة الرسول، وكان أبو بكر وعلي بن أبي طالب وأهل بيت النبي يحيطون بجثمانه ويعدون العدة لتجهيزه ودفنه، وبدأ ابن الخطاب مذ أيقن بوفاة النبي يفكر فيما عسى أن يكون الأمر من بعده، ولم يدر بخلده أن الأنصار سبقوه إلى هذا التفكير، أو أنهم يريدون أن يستبدوا بالأمر دون الناس، فقال ابن سعد في الطبقات: «أتى عمر أبا عبيدة بن الجراح فقال: ابسط يدك فلأبايعك، فأنت أمين هذه الأمة على لسان رسول الله. فقال أبو عبيدة لعمر: ما رأيت لك فهة
1
قبلها منذ أسلمت، أتبايعني وفيكم الصديق وثاني اثنين!» وإنهم لفي هذا الحديث إذ جاءهم نبأ الأنصار واجتماعهم في سقيفة بني ساعدة، فأرسل عمر إلى أبي بكر في بيت عائشة أن اخرج إلينا، فأجاب أبو بكر الرسول: «إني مشتغل.» فرد عمر رسوله يقول لأبي بكر: «إنه قد حدث أمر لا بد لك من حضوره.»
وخرج أبو بكر إلى عمر وقد تولاه العجب؛ أي أمر يمكن أن يدعى إليه فيصرفه عن جهاز رسول الله! قال عمر: «أما علمت أن الأنصار قد اجتمعت في سقيفة بني ساعدة يريدون أن يولوا هذا الأمر سعد بن عبادة، وأحسنهم مقالة من يقول منا أمير ومن قريش أمير!» ولم يتردد أبو بكر حين سمع ذلك أن مضى مع عمر مسرعين إلى السقيفة ومعهما أبو عبيدة بن الجراح، وكيف يتردد والأمر أمر المسلمين ومصيرهم، بل أمر هذا الدين الذي أوحي إلى محمد ومصيره! إن حول جثمان الرسول أهله يقومون بما يجب لجهازه ودفنه، فلينطلق مع صاحبيه إلى السقيفة، فذلك واجب عليه لله ورسوله لا يستطيع غيره أن ينهض به، وهو لم يتخل يوما عن أداء الواجب والنهوض بأجسم التبعات وإن اقتضاه ذلك بذل ماله ونفسه.
مضى ثلاثة الرجال لم يثنهم أن لقيهم عاصم بن عدي وعويم بن ساعدة فقالا لهم: ارجعوا فإنه لا يكون ما تريدون، فلما قالا: «يا معشر المهاجرين، لا تأتوهم واقضوا أمركم.» قال عمر: «والله لنأتينهم.»
وبلغ الثلاثة السقيفة والأنصار لا يزالون في حوارهم لم يبايعوا سعدا ولم يقطعوا في ولاية الأمر برأي، ودهش الأنصار حين رأوهم فأمسكوا عن القول، وكأنما سقط في أيديهم، وسأل عمر بن الخطاب عن رجل مزمل بين ظهرانيهم من هو، فأجابوا: هذا سعد بن عبادة به وجع، وجلس أبو بكر وصاحباه بين القوم وكل تتمشى في نفسه الهواجس يسأل نفسه: عم يسفر هذا الاجتماع؟
والحق أنه كان اجتماعا جليل الخطر في حياة الإسلام الناشئ، ولولا ما أبدى أبو بكر في هذا الاجتماع من قوة الحزم وصلابة الإرادة لأوشك هذا الدين الجديد أن يثور الخلاف عليه في موطنه كما ثار في مواطن أخرى من بلاد العرب، وأن يثور وجثمان صاحب الرسالة ما يزال في بيته لم يثو في قبره.
أرأيت لو أن الأنصار أصروا على أن يستبدوا بالأمر دون الناس استجابة لدعاء سعد بن عبادة ولم ترض قريش أن يكون لغيرها الأمر، فأي مسرح للثورة كانت تصبح مدينة الرسول! ولأية ثورة جائحة مسلحة وجيش أسامة في أحشائها فيه المهاجرون وفيه الأنصار وكلهم مدجج بسلاحه قد لبس درعه واتخذ للقتال عدته!! ولو أن المهاجرين الذين ذهبوا إلى السقيفة كانوا غير أبي بكر وعمر وأبي عبيدة ممن ليس لهم في نفوس المسلمين جميعا ما لوزيري رسول الله ولأمين الأمة من مكانة، لشجر الخلاف بينهم وبين الأنصار، ولخيف على جماعة المسلمين من الاختلاف وما يجر إليه، ولكان لذلك أثره الذي لا يفكر اليوم فيه مؤرخ، ولما وقف الأكثرون من اجتماع السقيفة عند رواية الحوادث وذكر الخطب التي تبودلت وما تم على أثرها من بيعة أبي بكر، أما الذين يقدرون الحوادث قدرها، فيرون لهذا الاجتماع التاريخي من الأثر في حياة الإسلام ما كان لبيعة العقبة الكبرى، وما كان لهجرة الرسول من مكة إلى المدينة، ويرون فيما كان من أبي بكر وحسن تصرفه في الموقف عمل الرجل السياسي، بل رجل الدولة البعيد مرمى النظر، والذي يقدر النتائج ويرتب للاحتمالات، ويوجه كل جهده إلى الغرض الذي يريد أن يحقق به أعظم الخير ويتقي به كل ضر أو أذى.
ألفنا في حياتنا الحاضرة عبارات يصور بها الساسة أحوالا أو أعمالا يحسبونها بدعا لم يسبقهم إليه في التاريخ أحد، ومن مألوف ما نسمع في هذا الزمن عبارة «الهجوم السلمي»، وهذا الهجوم السلمي لم يكن مجهولا في العصور الماضية، بل هذا الهجوم هو ما لجأ إليه أبو بكر وأتمه صاحباه في ذلك الاجتماع التاريخي الجليل الخطر.
لما اطمأن بالمهاجرين الثلاثة المجلس خرج الأنصار من صمتهم وزايلتهم دهشتهم، ولم يخف أشدهم حماسة حرصهم على أن يكون الأمر من بعد الرسول لهم، قال عمر: «وكنت قد زويت
2
كلاما أردت أن أقوم به فيهم، فلما أن دفعت إليهم ذهبت لأبتدئ المنطق، فقال لي أبو بكر: «رويدا حتى أتكلم ثم انطق بعد بما أحببت».» وإنما خشي أبو بكر شدة عمر في القول، وليس الموقف موقف شدة أو عنف، بل موقف سياسة وحسن مدخل، ونهض أبو بكر فحمد الله وأثنى عليه وذكر رسول الله وما جاء به من رسالة التوحيد ثم قال: « ... عظم على العرب أن يتركوا دين آبائهم، فخص الله المهاجرين الأولين من قومه بتصديقه، والإيمان به، والمؤاساة له، والصبر معه، على شدة أذى قومهم لهم، وتكذيبهم إياهم، وكل الناس مخالف لهم زار عليهم، فلم يستوحشوا لقلة عددهم، وشنف
3
الناس لهم، وإجماع قومهم عليهم، فهم أول من عبد الله في الأرض ، وآمن بالله وبالرسول، وهم أولياؤه وعشيرته، وأحق الناس بهذا الأمر من بعده، ولا ينازعهم ذلك إلا ظالم.
وأنتم يا معشر الأنصار، من لا ينكر فضلهم في الدين، ولا سابقتهم العظيمة في الإسلام، رضيكم الله أنصارا لدينه ورسوله، وجعل إليكم هجرته، وفيكم جلة أزواجه وأصحابه، فليس بعد المهاجرين الأولين عندنا بمنزلتكم، فنحن الأمراء وأنتم الوزراء، لا تفتاتون بمشورة، ولا تقضى دونكم الأمور.»
نحن الأمراء وأنتم الوزراء، لا تفتاتون بمشورة، ولا تقضى دونكم الأمور، ما أقرب هذا القول من رأي الأنصار الذين قالوا: منا أمير ومن المهاجرين أمير، وهذا القول أدخل في باب النظام وأدنى إلى أن تسير الأمور سيرة صلاح وإصلاح. هذا حق، ولعل أبا بكر قصد إليه فكان قصده حسن السياسة وبعد النظر، ولعل الأوس الذين كانوا ينفسون على الخزرج قد استراحوا إليه، ولعل كثيرين من بني الخزرج أنفسهم لم ينفروا منه، فهذا أبو بكر لم يرد للمهاجرين أن يستبدوا بالأمر دون الناس كما فعل سعد بن عبادة، بل جعل الأنصار وزراء فأشركهم في الأمر ولم يشرك غيرهم، وإن كان من غيرهم في بعض أنحاء شبه الجزيرة من هم أكثر قوة وأعز نفرا. وهو إنما أشركهم على الأساس الذي جعل به الإمارة للمهاجرين: مقامهم في السبق إلى نصر الرسول وتأييده. لا جرم إذن أن يستريح الجميع إلى هذا القول، فهو عدل كل العدل، وأساسه الحق كل الحق.
ورأى الذين أخذت منهم الحماسة للأنصار مأخذها ما ترك كلام أبي بكر في نفوس أهل السقيفة، وخشوا أن ينفض إجماعهم الأول وأن يغصبهم المهاجرون الأمر ويستأثروا بالسلطان دونهم، هنالك قام أحدهم فقال: «أما بعد، فنحن أنصار الله وكتيبة الإسلام، وأنتم يا معشر المهاجرين رهط منا وقد دفت دافة من قوامكم وإذا هم يريدون أن يختزلونا
4
من أصلنا ويغصبونا الأمر.» ولم يرض أبو بكر أن يذر مقامه بعد هذا الذي سمع، فتوجه كرة أخرى للأنصار فقال: «يا أيها الناس! نحن المهاجرين أول الناس إسلاما، وأكرمهم أحسابا، وأوسطهم دارا، وأحسنهم وجوها، وأكثرهم ولادة في العرب ، وأمسهم رحما برسول الله، أسلمنا قبلكم، وقدمنا في القرآن عليكم، فقال تبارك وتعالى:
والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان (التوبة: 100) فنحن المهاجرون وأنتم الأنصار إخواننا في الدين، وشركاؤنا في الفيء، وأنصارنا على العدو، أما ما ذكرتم فيكم من خير فأنتم له أهل، وأنتم أجدر بالثناء من أهل الأرض جميعا؛ فأما العرب فلن تعرف هذا الأمر إلا لهذا الحي من قريش، فمنا الأمراء ومنكم الوزراء.»
كرر أبو بكر هذه الكلمة الأخيرة التي تركت من الأثر في النفوس أول ما قيلت ما توجس غلاة الأنصار معه خيفة، فقام الحباب بن المنذر بن الجموح فقال: «يا معشر الأنصار! املكوا عليكم أمركم، فإن الناس في فيئكم، ولن يجترئ مجترئ على خلافكم، ولم يصدر الناس إلا عن رأيكم، أنتم أهل العز والثروة، وأولو العدة والمنعة والتجربة، وذوو البأس والنجدة، وإنما ينظر الناس إلى ما تصنعون، فلا تختلفوا فيفسد عليكم رأيكم، وينتقض عليكم أمركم، أبى هؤلاء إلا ما سمعتم، فمنا أمير ومنكم أمير.»
لم يكد الحباب يفرغ من حديثه حتى نهض عمر بن الخطاب، وكان قد أمسك قبل ذلك عن الكلام طوعا لأبي بكر، فقال: «هيهات لا يجتمع اثنان في قرن، والله لا ترض العرب أن يؤمروكم ونبيها من غيركم، ولكن العرب لا تمتنع أن تولي أمرها من كانت النبوة فيهم وولي أمورهم منهم، ولنا بذلك على من أبى من العرب الحجة الظاهرة والسلطان المبين، من ذا ينازعنا سلطان محمد وإمارته ونحن أولياؤه وعشيرته، إلا مدل بباطل، أو متجانف لإثم، أو متورط في هلكه!»
وأجاب الحباب عمر: «يا معشر الأنصار! املكوا على أيديكم ولا تسمعوا مقالة هذا وأصحابه فيذهبوا بنصيبكم من هذا الأمر، فإن أبوا عليكم ما سألتموه فأجلوهم عن هذه البلاد، وتولوا عليهم هذه الأمور، فأنتم والله أحق بهذا الأمر منهم، فإنه بأسيافكم دان لهذا الدين من دان ممن لم يكن يدين، أنا جذيلها المحكك، وعذيقها المرجب! أما والله إن شئتم لنعيدنها جذعة!»
قال عمر وقد سمع لهذا النذير: «إذن يقتلك الله!» وأجاب الحباب: «بل إياك يقتل!»
هاتان العبارتان الأخيرتان نذير شر، ولو أن الحباب كانت في جانبه كثرة الأنصار لكان أيسر ما ينشأ عنها أن يضجوا وأن يسرعوا إلى نصرته بالإقبال على مبايعة سعد بن عبادة، وليفعل المهاجرون بعد ذلك ما يشاءون، ولعل طائفة منهم قد تغامزت بذلك أو بشيء يشبهه يكون جوابا لهذا الحوار العنيف بين عمر والحباب، بل لقد ذكر الطبري أن الحباب انتضى سيفه وهو يتكلم، فضرب عمر يده فسقط السيف، فأخذه عمر ثم وثب على سعد بن عبادة، على أن أبا عبيدة بن الجراح تدخل في الأمر وكان قد لزم الصمت إلى تلك اللحظة، فقال موجها حديثه إلى أهل المدينة: «يا معشر الأنصار! كنتم أول من نصر وآزر، فلا تكونوا أول من بدل وغير.»
وانتهز بشير بن سعد أبو النعمان بن بشير من زعماء الخزرج هذه الكلمة الحكيمة من أبي عبيدة فقام بين قومه وقال: «إنا والله وإن كنا أولي فضيلة في جهاد المشركين وسابقة في هذا الدين، ما أردنا به إلا رضا ربنا، وطاعة نبينا، والكدح لأنفسنا، فما ينبغي لنا أن نستطيل على الناس بذلك ولا نبتغي من الدنيا عرضا؛ فإن الله ولي النعمة علينا بذلك، ألا إن محمدا
صلى الله عليه وسلم
من قريش وقومه أحق به وأولى، وايم الله لا يراني الله أنازعهم في هذا الأمر أبدا، فاتقوا الله ولا تخافوهم ولا تنازعوهم.»
وأجال أبو بكر بصره في الأنصار ليرى ما تركت مقالة بشير من الأثر فيهم، فألفى الأوس وكأنما يهمس بعضهم في أذن بعض، وألفى بني الخزرج يبدو على الكثير منهم أن قول بشير أقنعهم، فأيقن أن الأمر قد استوى وأن اللحظة لحظة الفصل فلا ينبغي أن تترك، وإذ كان جالسا بين عمر وأبي عبيدة فقد أخذ بيد كل منهما، وقال يدعو الأنصار إلى الجماعة ويحذرهم الفرقة ثم أردف: «هذا عمر وهذا أبو عبيدة، فأيهما شئتم فبايعوا.»
هنالك كثر اللغط وخيف الاختلاف، أيبايعون عمر وهو على ما هو عليه من شدة، وهو مع ذلك وزير النبي وأبو حفصة أم المؤمنين! أم يبايعون أبا عبيدة ولم يكن له إلى يومئذ في المسلمين ما كان لعمر من كلمة ومقام! لكن عمر لم يدع لهذا الخلاف أن تنبت شجرته؛ فقد نادى بصوته الجهوري: «ابسط يدك يا أبا بكر.» وبسط أبو بكر يده فبايعه عمر وهو يقول: «ألم يأمر النبي بأن تصلي أنت يا أبا بكر بالمسلمين! فأنت خليفة الله، فنحن نبايعك لنبايع خير من أحب رسول الله منا جميعا.»
وبايع أبو عبيدة وهو يقول: «إنك أفضل المهاجرين، وثاني اثنين إذ هما في الغار، وخليفة رسول الله على الصلاة أفضل دين المسلمين، فمن ذا ينبغي له أن يتقدمك أو يتولى هذا الأمر عليك!» وإن عمر وأبا عبيدة يبايعان أبا بكر إذ أسرع بشير بن سعد فبايعه.
عند ذلك ناداه الحباب بن المنذر: يا بشير بن سعد، عققت، ما أحوجك إلى ما صنعت! أنفست الإمارة على ابن عمك! (يقصد ابن عبادة).
قال بشير: لا والله! ولكني كرهت أن أنازع قوما حقا جعله الله لهم.
والتفت أسيد بن حضير زعيم الأوس إلى قومه وهم ينظرون إلى ما صنع بشير بن سعد وقال لهم: «والله لئن وليتها الخزرج عليكم مرة لا زالت لهم عليكم بذلك الفضيلة ولا جعلوا لكم معهم فيها نصيبا أبدا، قوموا فبايعوا أبا بكر!» وقام الأوس فبايعوا أبا بكر، ثم قام من الخزرج من اطمأنوا إلى كلام بشير يبايعون مسرعين، حتى ضاق بهم المكان من السقيفة، وكاد الناس في تكاثرهم على البيعة يطئون سعد بن عبادة، فقال ناس من أصحابه: اتقوا سعد لا تطئوه. قال عمر: اقتلوه قتله الله! ووجه إلى سعد كلاما عنيفا، فقال له أبو بكر: «مهلا يا عمر! الرفق هاهنا أبلغ.» وحمل سعدا أصحابه فأدخلوه داره حيث بقي أياما ثم قيل له: «أقبل فبايع فقد بايع الناس وبايع قومك.» وأبى سعد أن يبايع وقال: «وأما والله حتى أرميكم بما في كنانتي من نبل، وأخضب سنان رمحي، وأضربكم بسيفي ما ملكته يدي، وأقاتلكم بأهل بيتي ومن أطاعني من قومي، فلا أفعل!» فلما اتصل هذا الحديث بأبي بكر قال له عمر: «لا تدعه حتى يبايع.» وخالف بشير رأي عمر فقال: «إنه قد لج وأبى، وليس بمبايعكم حتى يقتل، وليس بمقتول حتى يقتل ولده وأهل بيته وطائفة من عشيرته، فاتركوه؛ فليس تركه بضاركم، إنما هو رجل واحد.»
وسمع أبو بكر إلى رأي بشير وأجازه، وتركوا سعدا؛ فكان لا يصلي بصلاتهم، ويحج ولا يفيض بإفاضتهم، وأقام على ذلك حتى مات أبو بكر.
تمت بيعة أبي بكر بالسقيفة وجثمان النبي لا يزال في بيته من حوله أهله: علي بن أبي طالب والعباس بن عبد المطلب ومن اشترك معهم في جهازه، وعلى مقربة منهم في المسجد طائفة من المهاجرين، وتمت هذه البيعة كما رأيت في أحوال جعلت بعض الرواة ينسب إلى عمر بن الخطاب أنه قال: إنها كانت فلتة. فأما غير هؤلاء الرواة فيرى أن أبا بكر وعمر وأبا عبيدة ذهبوا على اتفاق بينهم أن يكون الأمر لأبي بكر، وأيما هاتين الروايتين صحت فالذي لا مرية فيه أن ما تم في السقيفة قد وقى الإسلام الناشئ فتنة ليس يعلم إلا الله ما كان يحدث فيها، وقد مهد للقضاء على كل خلاف بين المسلمين، كما مهد للسياسة التي رسمها الرسول أن تنجح النجاح الذي مهد للإمبراطورية الإسلامية من بعد، والذي أذاع دين الله بفضل منه جل شأنه في مشارق الأرض ومغاربها.
ومن يوم السقيفة لم يبق للأنصار في ولاية أمر المسلمين مطمع أو مأرب، فقد كانت بيعة عمر بن الخطاب ثم بيعة عثمان بن عفان، ثم كان الخلاف بين علي ومعاوية، ولم يكن للأنصار من ذلك كله إلا نصيب سائر العرب، وكأنما آمنوا بما قال أبو بكر من أن العرب لن تعرف هذا الأمر إلا لهذا الحي من قريش، بل كفاهم من بعد ذلك أن عاشوا في كنف المهاجرين مطمئنين إلى وصية رسول الله في مرضه الأخير حين قال: «يا معشر المهاجرين، استوصوا بالأنصار خيرا، فإن الناس يزيدون والأنصار على هيئتها لا تزيد؛ وإنهم كانوا عيبتي التي أويت إليها، فأحسنوا إلى محسنهم، وتجاوزوا عن مسيئهم.» •••
لم يلبث أبو بكر وسائر من كانوا بالسقيفة حين تمت البيعة أن عادوا إلى المسجد والوقت مساء والمسلمون مع ذلك يتلقفون الأنباء من بيت عائشة عن جهاز الرسول، وفي الغد من بعد ذلك اليوم جلس أبو بكر في المسجد، فقام عمر يعتذر عما تحدث به إلى المسلمين بالأمس من أن النبي لم يمت فقال: «إني قلت لكم بالأمس مقالة ما كانت مما وجدت في كتاب الله، ولا كانت عهدا عهده إلي رسول الله، ولكني قد كنت أرى أن رسول الله سيدبر أمرنا ويبقى ليكون آخرنا، إن الله قد أبقى فيكم كتابه الذي هدى به رسوله، فإن اعتصمتم به هداكم الله كما هداه به، وإن الله قد جمع أمركم على خيركم صاحب رسول الله
صلى الله عليه وسلم
وثاني اثنين إذ هما في الغار، فقوموا فبايعوا.» فبايع الناس جميعا بيعة العامة بعد بيعة الخاصة بالسقيفة.
وقام أبو بكر بعد أن تمت البيعة وألقى في الناس خطابا كان أول حديث له في خلافته، ثم كان آية من آيات الحكمة وفصل الخطاب، قال (رضي الله عنه) بعد أن حمد الله وأثنى عليه: «أما بعد، أيها الناس! فإني قد وليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني، الصدق أمانة، والكذب خيانة، والضعيف فيكم قوي عندي حتى أريح عليه حقه إن شاء الله، والقوي فيكم ضعيف عندي حتى آخذ الحق منه إن شاء الله، لا يدع قوم الجهاد في سبيل الله إلا ضربهم الله بالذل، ولا تشيع الفاحشة في قوم إلا عمهم الله بالبلاء، أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإن عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم، قوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله.»
أفكانت بيعة العامة هذه بيعة إجماع من المسلمين لم يتخلف عنها أحد ما تخلف سعد بن عبادة عن بيعة الخاصة بالسقيفة؟ المشهور أن طائفة من كبار المهاجرين تخلفوا عنها، وأن علي بن أبي طالب والعباس بن عبد المطلب من بني هاشم كانا من المتخلفين، ذكر اليعقوبي أنه قد «تخلف عن بيعة أبي بكر قوم من المهاجرين والأنصار ومالوا مع علي بن أبي طالب، منهم العباس بن عبد المطلب، والفضل بن العباس، والزبير بن العوام بن العاص، وخالد بن سعيد، والمقداد بن عمرو، وسلمان الفارسي، وأبو ذر الغفاري، وعمار بن ياسر، والبراء بن عازب، وأبي بن كعب»، وأن أبا بكر شاور عمر بن الخطاب وأبا عبيدة بن الجراح والمغيرة بن شعبة في أمرهم، فأشاروا عليه أن يلقى العباس بن عبد المطلب وأن يجعل له في الأمر نصيبا يكون له ولعقبه من بعده، فيقع الخلاف بذلك بينه وبين ابن أخيه علي بن أبي طالب، فيكون ذلك حجة لأبي بكر وأصحابه به على علي، وقد فعل أبو بكر ما أشاروا به، وقال للعباس في حديث طويل: «ولقد جئناكم ونحن نريد أن يكون لك في هذا الأمر نصيب يكون لك ويكون لمن بعدك من عقبك إذ كنت عم رسول الله.» ورد العباس هذا العرض بعد حديث أورده اليعقوبي كذلك: «إن كان هذا الأمر لنا فلا نرضى ببعضه دون بعض.»
وفي رواية ذكرها اليعقوبي، وذكرها غيره من المؤرخين، ولا يزال لها الشهرة، أن جماعة من المهاجرين والأنصار اجتمعوا مع علي بن أبي طالب في دار فاطمة بنت رسول الله يدعون إلى مبايعته، وبينهم خالد بن سعيد يقول: «فوالله ما في الناس أحد أولى بمقام محمد منك!» وبلغ أبا بكر وعمر اجتماعهم بدار فاطمة، فأتيا في جماعة حتى هجموا الدار، وخرج علي ومعه السيف، فلقيه عمر فصارعه فصرعه وكسر سيفه ودخلوا الدار، فخرجت فاطمة وقالت: «والله لتخرجن أو لأكشفن شعري ولأعجن إلى الله.» فخرجوا وخرج من كان في الدار، وأقام القوم أياما ثم جعل الواحد بعد الواحد يبايع، ولم يبايع علي إلا بعد وفاة فاطمة، أي بعد ستة أشهر، وقيل في رواية: إنه بايع بعد أربعين يوما، ويروى أن عمر بن الخطاب جمع الحطب حول دار فاطمة وأراد أن يحرقها أو يبايع علي أبا بكر.
وأشهر الروايات في تخلف علي وبني هاشم وأكثرها ذيوعا ما أورده ابن قتيبة في الإمامة والسياسة وما شاكله من روايات من عاصره أو تأخر عنه، وهي تجري بأن عمر بن الخطاب ذهب في عصابة إلى بني هاشم بعد أن تمت البيعة لأبي بكر، وطلب إليهم أن يخرجوا فيبايعوا كما بايع الناس، وكان بنو هاشم في بيت علي، وقد أبوا وأبى من كان معهم أن يجيبوا دعوة عمر، بل خرج الزبير بن العوام إلى عمر وأصحابه بالسيف، فقال عمر لأصحابه: عليكم بالرجل فخذوه، فأخذوا السيف من يده، فانطلق فبايع، وقيل لعلي بن أبي طالب: بايع أبا بكر، فقال: «لا أبايعكم وأنا أحق بهذا الأمر منكم وأنتم أولى بالبيعة لي، أخذتم هذا الأمر من الأنصار واحتججتم عليهم بالقرابة من النبي
صلى الله عليه وسلم ، وتأخذونه منا أهل البيت غصبا، ألستم زعمتم للأنصار أنكم أولى بهذا الأمر منهم لما كان محمد منكم، فأعطوكم المقادة وسلموا إليكم الإمارة! فإذن أحتج عليكم بمثل ما احتججتم على الأنصار، نحن أولى برسول الله حيا وميتا، فأنصفونا إن كنتم تؤمنون، وإلا فبوءوا بالظلم وأنتم تعلمون.»
قال عمر: «إنك لست متروكا حتى تبايع!»
وأجاب علي في حرارة وقوة: «احلب حلبا بك شطره، وشد له اليوم يردده عليك غدا، والله يا عمر لا أقبل قولك ولا أبايعه.»
وخشي أبو بكر أن يبلغ الحوار بهما إلى العنف، فتدخل بين الرجلين وقال: «فإن لم تبايع فلا أكرهك.»
وتوجه أبو عبيدة بن الجراح إلى علي متلطفا فقال: «يا بن عم، إنك حديث السن، وهؤلاء مشيخة قومك، ليس لك مثل تجربتهم ومعرفتهم بالأمور، ولا أرى أبا بكر إلا أقوى على هذا الأمر منك وأشد احتمالا واستطلاعا، فسلم لأبي بكر هذا الأمر؛ فإنك إن تعش ويطل بك بقاء فأنت لهذا الأمر خليق وحقيق في فضلك ودينك وعلمك وفهمك وسابقتك ونسبك وصهرك.»
هنا ثار ثائر علي وقال: «الله الله يا معشر المهاجرين! لا تخرجوا سلطان محمد في العرب من داره وقعر بيته إلى دوركم وقعور بيوتكم وتدفعوا أهله عن مقامه في الناس وحقه، فوالله، يا معشر المهاجرين، لنحن أحق الناس به لأننا أهل البيت، ونحن أحق بهذا الأمر منكم ما كان فينا القارئ لكتاب الله، الفقيه في دين الله، العالم بسنن رسول الله، المضطلع بأمر الرعية، الدافع عنهم الأمور السيئة، القاسم بينهم بالسوية، والله إنه لفينا، فلا تتبعوا الهوى فتضلوا عن سبيل الله فتزدادوا من الحق بعدا.»
وكان بشير بن سعد حاضرا هذا القول فيما يروي رواته، فلما سمعه قال: «لو كان هذا الكلام سمعته الأنصار منك يا علي قبل بيعتها لأبي بكر ما اختلفت عليك.»
خرج علي محنقا غاضبا، فذهب إلى فاطمة فخرج بها من دارها فحملها على دابة ليلا فأخذ يطوف بها مجالس الأنصار تسألهم النصرة، فكانوا يقولون: «يا بنت رسول الله، قد مضت بيعتنا لهذا الرجل، ولو أن زوجك وابن عمك سبق إلينا قبل أبي بكر ما عدلنا به.»
ويجيبهم علي وقد زاده هذا الجواب غضبا: «أفكنت أدع رسول الله
صلى الله عليه وسلم
في بيته لم أدفنه وأخرج أنازع الناس سلطانه!» وتردف فاطمة: «ما صنع أبو الحسن إلا ما كان ينبغي له، ولقد صنعوا ما الله حسيبهم عليه وطالبهم.»
هذا هو المشهور عن موقف علي بن أبي طالب وأصحابه من بيعة أبي بكر، وينكر بعض المؤرخين هذا المشهور من تخلف بني هاشم أو غيرهم من المهاجرين إنكارا صريحا، ويذكرون أن أبا بكر بويع بعد السقيفة بإجماع لم يتوقعه أحد.
روى الطبري حديثا بإسناده أن سعيد بن زيد سئل: أشهدت وفاة رسول الله
صلى الله عليه وسلم ؟ قال: نعم، قيل: فمتى بويع أبو بكر؟ قال: يوم مات رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، كرهوا أن يبقوا بعض يوم وليسوا في جماعة، قيل: أخالف عليه أحد؟ قال: لا، إلا مرتد أو من قد كاد أن يرتد لولا أن الله عز وجل ينقذهم من الأنصار، قيل: فهل قعد أحد من المهاجرين؟ قال: لا، تتابع المهاجرون على بيعته من غير أن يدعوهم. وفي رواية أن علي بن أبي طالب كان في بيته إذ جاءه من أنبأه أن أبا بكر قد جلس للبيعة، فخرج في قميص له ما عليه إزار ولا رداء عجلا كراهية أن يبطئ عنها حتى بايعه، ثم جلس إليه وبعث إلى ثوبه فأتاه فتجلله ولزم مجلسه.
وتجري بعض الروايات في أمر علي وبيعته مجرى وسطا بين ما قدمناه، من ذلك ما قيل من أن أبا بكر صعد المنبر عقب البيعة فنظر في وجوه القوم فلم ير الزبير، فدعا به فجاء فقال له: ابن عمة رسول الله
صلى الله عليه وسلم
وحواريه، أردت أن تشق عصا المسلمين! فقال: لا تثريب يا خليفة رسول الله، فقام فبايعه، ثم نظر في وجوه القوم فلم ير عليا، فدعا به فجاء فقال له: ابن عم رسول الله
صلى الله عليه وسلم
وختنه على ابنته، أردت أن تشق عصا المسلمين! فقال: لا تثريب يا خليفة رسول الله، فقام فبايعه.
وتذهب طائفة من الروايات إلى أن بني أمية هم الذين أرادوا أن يثيروا الثائرة بين بني هاشم وأبي بكر، قيل لما اجتمع الناس على بيعة أبي بكر أقبل أبو سفيان وهو يقول: والله إني أرى عجاجة لا يطفئها إلا دم، يا آل عبد مناف، فيم أبو بكر من أموركم؟! أين المستضعفان! أين الأذلان علي والعباس! وأنشد يتمثل:
ولا يقيم على ضيم يراد به
إلا الأذلان عير الحي والوتد
هذا على الخسف محبوس برمته
وذا يشج فلا يبكي له أحد
على أن الروايات التي ذكرها هذا الحديث لأبي سفيان تكاد تجمع على أن عليا أبى أن يتابعه، وأنه قال له: «إنك والله ما أردت بهذا إلا الفتنة، وإنك والله طالما بغيت الإسلام شرا!» أو قال له: «يا أبا سفيان، طالما عاديت الإسلام وأهله فلم تضره بذلك شيئا، إني وجدت أبا بكر لها أهلا.» •••
والذين ينفون تخلف علي عن البيعة يذهبون إلى أن روايات تخلفه قد وضعت من بعد، ويرجحون أنها وضعت في عهد العباسيين لغايات سياسية، ويقولون إنها استندت إلى واقعة متفق على صحتها، ولكنها لا تتصل بالبيعة في قليل ولا كثير، هذه الواقعة أن فاطمة ابنة النبي والعباس عمه أتيا أبا بكر بعد استخلافه يطلبان ميراثيهما من رسول الله في أرض فدك وفي سهمه من خيبر، فقال لهما أبو بكر: «أما إني سمعت رسول الله يقول: «نحن معاشر الأنبياء لا نورث، ما تركناه صدقة.» إنما يأكل أهل محمد في هذا المال، وإني والله لا أدع أمرا رأيت رسول الله يصنعه إلا صنعته.» فغضبت فاطمة لذلك وهجرت أبا بكر فلم تكلمه في ذلك حتى ماتت، فدفنها علي ليلا ولم يؤذن بها أبا بكر، وقد مكثت فاطمة ستة أشهر بعد وفاة أبيها، وكان علي يغاضب أبا بكر غضبا لها، فلما ماتت مال إلى مصالحته وصالحه.
هذا حديث فاطمة وعلي ومقاطعتهما أبا بكر بعد بيعته، أما ما يضاف إلى هذا الحديث من أن عليا امتنع من البيعة إلى أن ماتت فاطمة، وأن أبا بكر ذهب بعد ذلك إليه في منزله فألفاه في بيت بني هاشم، وأن عليا قام حين ذاك وقال: إنه لم يمنعنا من أن نبايعك إلا أنا كنا نرى لنا في هذا الأمر حقا فاستبددتم به علينا. وأن أبا بكر ذكر في جوابه: «والله ما ألوت في هذه الأموال التي كانت بيني وبينكم غير الخير.» أما ما يضاف من ذلك كله فيرده من ينفون تخلف علي عن البيعة بأن الحديث لم يتخط هذه الأموال، وأن فاطمة والعباس ما كانا ليطالبا أبا بكر بها قبل أن يبايعه المسلمون جميعا بالخلافة؛ لأنه لم يكن له قبل ذلك في أمرها رأي.
يرجح أكثر الذين ينفون التخلف عن البيعة أن روايات هذا التخلف وضعت في عهد العباسيين لغايات سياسية؛ أما سائرهم فيرجحون أنها وضعت قبل ذلك، ومنذ اختلف بنو هاشم وبنو أمية على الأمر إبان حروب علي ومعاوية.
وهؤلاء يقولون: إن امتداد الفتح إلى العراق وفارس أدى بجماعة من الفرس لابتداع هذه الأقاويل، وقد استجمت هذه الجماعة من الفرس بعد انتصار الأمويين وأقامت في استجمامها تتحين الفرص حتى تهيأت لأبي مسلم الخراساني، فكان من أمره وأمر العباسيين ما كان.
فأما الذين يقولون بتخلف علي وبني هاشم عن البيعة أربعين يوما أو ستة أشهر، وقولهم هو المشهور كما قدمنا، فيستندون إلى ما سبق من الروايات، وإلى أن عليا والذين تخلفوا معه لم يشتركوا في جيش أسامة، مع ما كان لعلي من شجاعة وبأس في القتال اشتهر بهما في غزوات النبي، واشتهر بهما من بعد في جميع أدوار حياته، وهم يردون قول الذين ينفون التخلف عن البيعة بأن حجة المهاجرين على الأنصار في ولاية الأمر كانت أنهم أدنى صلة بالنبي، وأن العرب لا تعرف إلا قريشا؛ لأنهم سدنة الكعبة والذين تشخص إليهم أبصار الناس جميعا من أهل شبه الجزيرة، وهذه الحجة هي بذاتها سند بني هاشم في التقدم على غيرهم لخلافة رسول الله؛ فلا غرو أن يستمسكوا بها وأن يؤدي ذلك إلى تخلفهم عن بيعة أبي بكر، وذلك ما فعل علي، وتلك كانت حجته وحجة أصحابه، فإذا هم رضوا البيعة من بعد فإنما فعلوا حتى لا تكون فتنة تفسد إجماع المسلمين، وبخاصة بعد أن ظهرت في العرب الردة، وبعد أن انتفض العرب على سلطان المدينة انتفاضا أوشك أن يهدد انتشار الدين الذي جاء به محمد من عند الله.
على رغم هذا الخلاف بين الرواة في أمر البيعة واشتراك بني هاشم وسائر المهاجرين فيها أو تخلف جماعة منهم عنها، فالاتفاق تام على أن أبا بكر ولي الأمر بعد الرسول غير منازع منذ اليوم الأول، ولم يذكر أحد من القائلين بالتخلف عن بيعته أن واحدا من بني هاشم أو من غيرهم حاول أن يثير ثائرة مسلحة أو هم بمناهضة الخليفة الأول، أفكان ذلك لمكانة أبي بكر من رسول الله، حتى قال: لو كنت متخذا من العباد خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا، أم كان لصحبته رسول الله في الهجرة ولما تحلى به من فضائل وما كان له في نصر الرسول من مواقف، أم كان لأن رسول الله أنابه عنه في الصلاة أثناء مرضه الأخير؟ أيا كان السبب الذي دعا المسلمين لبيعة أبي بكر بالخلافة ويوم وفاة النبي، فالثابت أنه لم يناهضه أحد ولم ينضم إلى من تخلف عن بيعته أحد، وذلك ينهض دليلا على أن المسلمين الأولين تصوروا الخلافة بغير ما تصورها خلفهم من بعد منذ الدولة الأموية، وأنهم كانوا أدنى في تصورها إلى معاني الحياة العربية البحتة القريبة منهم، والتي كانت معروفة في أنحاء شبه الجزيرة قبل مبعث النبي (عليه السلام)، فلما اتسعت رقعة الفتح الإسلامي واختلط العرب بغيرهم من أهل الأمم التي فتحوا، تغير تصور المسلمين لفكرة الخلافة تبعا لهذا الاختلاط ولهذه السعة في المملكة الإسلامية.
تصور المسلمون الخلافة تصورا عربيا بحتا، فالمتفق عليه أن النبي
صلى الله عليه وسلم
لم يوص بالخلافة لأحد، وما حدث يوم الوفاة من تنازع الأنصار والمهاجرين في سقيفة بني ساعدة، وما لعله حدث من خلاف بين بني هاشم وسائر المهاجرين بعد بيعة العامة، لا يذر محلا للشبهة في أن أهل المدينة اجتهدوا في أمر الخلافة عند اختيار الخليفة الأول، وأنه لم يكن لذلك سند في كتاب ولا سنة؛ فاختار المقيمون بالمدينة من رأوه أصلح المسلمين لتولي أمورهم، ولو أن الأمر امتد إلى ما وراء المدينة من قبائل العرب لكان الشأن غير ما كان، ولما كانت بيعة أبي بكر فلتة موفقة، على حد تعبير عمر بن الخطاب.
ولم تكن السنة التي اتبعت في اختيار أبي بكر هي التي اتبعت في اختيار الخليفتين من بعده: عمر وعثمان، فقد أوصى أبو بكر قبل وفاته باختيار عمر بن الخطاب، ثم جعل عمر الخلافة من بعده في ستة ذكرهم بأسمائهم وترك لهم أمر اختيار أحدهم، فلما كان مقتل عثمان وما حدث على أثره من خلاف بين علي ومعاوية، استتب الأمر للأمويين يتوارثه الأبناء عن الآباء، أما وتلك رواية الحوادث فلا محل للقول بأن لولاية الأمر في الإسلام نظاما مقررا، وإنما هو اجتهاد أملته الأحداث في أحوال الجماعة الإسلامية المتغيرة، وأملته على صور مختلفة تلائم تغير هذه الأحوال .
وكان النظام الذي سار عليه أبو بكر عربيا بحتا كذلك، وكان لاتصاله الزمني الوثيق بعهد النبي، ولاتصال الصديق نفسه بالرسول وتأثره به على النحو الذي سبق تصويره، أثر فيه لم يلبث أن تغير من بعد بحكم الأحوال وبحكم امتداد الفتح الإسلامي، وقد ظل هذا التغير في نظام الحكم يجاري البيئة التي يقوم فيها، حتى لم يكن ثمة وجه للشبه بين العهد العباسي في أوج مجده وعهد الخليفة الأول أبي بكر، ولا بينه وبين عهود عمر وعثمان وعلي.
وعهد أبي بكر يكاد يكون فريدا في نوعه؛ فهو الاتصال الطبيعي لعهد الرسول في السياسة الدينية، وفي السياسة الزمنية، صحيح أن الدين كان قد كمل، ولم يبق لأحد أن يغير فيه أو ينسخ منه، لكن العرب ما لبثت حين مات النبي أن فكرت في الردة، وأن ارتد الكثير من قبائلها؛ فلم يكن لأبي بكر بد من أن يضع لتلافي هذا الأمر الخطير خطة ينفذها، وكان النبي قد بدأ مع الدول التي تجاوره سياسة تتصل بدعوته؛ فلم يكن لأبي بكر مفر من متابعتها.
كيف فعل في هذه وفي تلك؟ ذلك ما سنفصله من بعد.
الفصل الثالث
العرب حين وفاة النبي
بينما يختلف أهل المدينة ثم يتفقون على بيعة أبي بكر إذا النعاة يسرعون إلى القبائل يحملون إليها النبأ بوفاة النبي، والواقع أنه لم يسر نبأ في بلاد العرب بسرعة البرق ما سار النبأ بوفاة رسول الله، ولم يلبث العرب حين ذاع النبأ فيهم أن اشرأبت أعناقهم من كل صوب يريدون أن يلقوا عن عواتقهم سلطان المدينة، وأن يعودوا إلى ما كانوا عليه قبل مبعث محمد إليهم وانتشار أمره فيهم، لذلك ارتد العرب في كل قبيلة، ونجم النفاق، واشرأبت اليهودية والنصرانية، وكثر أعداء المسلمين؛ فأصبح هؤلاء لفقد نبيهم كالغنم في الليلة المطيرة الشاتية.
لقد رأيت ما نجم بالمدينة بين المهاجرين والأنصار من نزاع على خلافة الرسول، ولولا حكمة أبي بكر وعمر وما أراده الله لدينه من النصر لما انحسم النزاع كما انحسم، ولما انتهى إلى النتيجة الموفقة التي انتهى إليها.
ولم يكن ما حدث بالمدينة بالشيء المذكور إذا قيس بما حدث بغيرها؛ فقد هم أهل مكة أنفسهم بالردة عن الإسلام حتى خافهم عتاب بن أسيد عامل رسول الله على أم القرى فتوارى منهم، ولولا أن قام فيهم سهيل بن عمرو فقال لهم بعد أن ذكر وفاة النبي: «إن ذلك لم يزد الإسلام إلا قوة، فمن رابنا ضربنا عنقه.» لترددوا في موقفهم، على أن سهيلا أضاف إلى هذا الإرهاب ترغيبا كان له أثره، أضاف: «والله ليتمن الله عليكم هذا الأمر كما قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم .»، ولعل هذه الكلمة كانت أقوى أثرا في نفوسهم من التهديد، وكانت لذلك سبب رجوعهم عن ردتهم، فقد رأوا الأمر بالمدينة آل إلى أبي بكر وإلى أبناء مكة من قريش، فاطمأنوا إلى ما ذكره سهيل من حديث رسول الله، واستمسكهم بالإسلام وأقاموا عليه.
وهمت ثقيف بالطائف أن ترتد، فقام عثمان بن أبي العاص عامل النبي عليهم فقال: «يا أبناء ثقيف! كنتم آخر من أسلم، فلا تكونوا أول من ارتد.» وذكرت ثقيف موقف النبي منها بعد حنين، وذكرت ما بينها وبين مكة من أواصر النسب والقربى، فاستمسكت بالإسلام، ولعل قيام أبي بكر بالخلافة ونهوض أهل مكة إلى جانبه في أمرها، قد كان له من الأثر في ثقيف مثل ما كان له في أم القرى.
كذلك ثبتت القبائل المقيمة بين مكة والمدينة والطائف على إسلامها، ثبتت عليه مزينة وغفار وجهينة وبلي وأشجع وأسلم وخزاعة، أما سائر العرب فاضطرب أمرهم، فارتد منهم من كان عهدهم بالإسلام قريبا، ومن لم تكن نفوسهم قد أشربت تعاليمه، وتبلبلت عقائد سائرهم، ثم كان خيرهم من بقي على الإسلام ولم يرض مع ذلك عن بقاء السلطان لأهل المدينة مهاجريهم والأنصار، هؤلاء رأوا في أداء الزكاة جزية تفرضها المدينة عليهم، وتأباها نفوسهم التي ألفت الاستقلال عن كل سلطان، وهم إنما أدوها منذ أسلموا إلى الرسول الذي يوحى إليه، والذي اصطفاه الله من بين عباده نبيا، أما وقد اختار النبي جوار ربه، فأهل المدينة جميعا لا يفضلونهم في شيء، وليس لهم ما كان للنبي من حق في المطالبة بها.
كانت القبائل التي أبت إيتاء الزكاة هي القبائل القريبة من المدينة من عبس وذبيان ومن انضم إليهم من بني كنانة ومن غطفان وفزارة، أما الذين قصت ديارهم عن المدينة فكانوا أكثر إلحاحا في ردتهم، وكان أكثرهم يتابعون رجالا منها ادعوا النبوة، كطليحة في بني أسد، وسجاح في بني تميم، ومسيلمة في اليمامة وذي التاج لقيط بن مالك في عمان، هذا إلى ما كان من أتباع طائفة كبيرة من أهل اليمن للأسود العنسي، ومتابعتهم إياه إلى حين مقتله، ثم إمعانهم بعد ذلك في الفتنة والانتقاض إلى آخر حروب الردة.
وليست ترجع هذه الصورة في انتقاض الحواضر والبوادي على سلطان قريش وفي ردتها عن الإسلام إلى موقعها الجغرافي من المدينة وكفى، بل ترجع كذلك إلى عوامل عربية وأخرى أجنبية، بدت آثارها وبرزت في الفترة الأخيرة من حياة الرسول.
فالإسلام لم ينتشر ولم يستقر في الأصقاع النائية عن مكة والمدينة من شبه الجزيرة إلا بعد فتح مكة وغزاة حنين وحصار الطائف، أما إلى ذلك العهد فقد ظل نشاط رسول الله محصورا في المنطقة المحيطة بالمدينتين المقدستين، لم يخرج الإسلام عن حدود مكة إلا قبيل الهجرة إلى يثرب، ومن بعد الهجرة ظلت جهود النبي سنوات متعاقبة موجهة إلى كفالة الحرية للدعوة الإسلامية في موطنها الجديد، فلما قضى المسلمون على سلطان اليهود بيثرب، ثم لما فتحوا مكة، بدأ العرب يدينون بدين الحق، وأقبلت الوفود تترى من أنحاء شبه الجزيرة تعلن إسلامها، وجعل النبي يبعث إليهم عماله يفقهونهم في الدين ويجبون منهم الصدقات.
طبيعي ألا يتأصل الدين في نفوس هذه القبائل ما تأصل في نفوس أهل مكة والمدينة، وفي نفوس العرب القريبين منهما، لقد اقتضى استقرار الإسلام في منبته عشرين سنة كاملة، جاهده خصومه أثناءها أشد الجهاد، وناصبوه عداوة اتصلت على السنين، ثم كان من أثرها أن انتصر على خصومه، وأن ثبتت تعاليمه في نفوس العرب الذين اتصلوا برسول الله وبأصحابه من أهل مكة والطائف والمدينة وما جاورها من البلاد والقبائل، أما من نأى عن هذه البقعة التي شهدت نشاط محمد سنوات تباعا، داعيا إلى الله وإلى دين الله، فلم يتأثر بتعاليم هذا الدين الجديد ما تأثرت؛ ولذلك انتفض على الدين وعلى أهله، وحاول الرجوع إلى استقلاله السياسي وإلى استقلاله الديني.
ولم تكن العوامل الأجنبية أقل أثرا في هذا الانتقاض من العامل الجغرافي، لقد كانت مكة والمدينة وما جاورهما من القبائل بعيدة عن الإذعان لنير الفرس والروم المتحكمين يومذاك في شئون العالم، أما شمال شبه الجزيرة المتصل بالشام، وجنوب شبه الجزيرة المتصل بالفرس والقريب من الحبشة، فكانا متأثرين بسلطان هاتين الإمبراطوريتين، بل كانت فيهما مناطق نفوذ لهما، وإمارات تابعة لحكمهما، فلا عجب إذن أن يحاول أصحاب هذا النفوذ وهذا حكم مناوأة الدين الجديد بشتى الأساليب؛ بالدعاية السياسية للاستقلال الذاتي، وبالدعاية الدينية للمسيحية تارة، ولليهودية ثانية، وللوثنية العربية تارة ثالثة.
كان نشاط هذه العوامل كلها واضح الأثر لأول ما انتشر الخبر بوفاة النبي؛ وكان هذا النشاط باديا في شيء من الحذر قبل وفاته، وسترى من أثر ذلك في غضون هذا الكتاب ما لا يدع لديك مجالا للشك فيه، وقد أقامت هذه العوامل الجغرافية والأجنبية لنفسها منطقا يغري بالتصديق بها والانضواء تحت لوائها، وهذا المنطق الذي أذاعه الدعاة بين مختلف القبائل هو الذي دعاهم للانتقاض وللفتنة.
قال الذين أبوا أداء الزكاة فيما بينهم: إذا كان المهاجرون والأنصار قد اختلفوا في ولاية الأمر، وكان رسول الله قد قبض ولم يوص بمن يخلفه، فخليق بنا أن نحتفظ باستقلالنا احتفاظنا بالإسلام دينا، وأن يكون لنا ما جعله المهاجرون والأنصار لأنفسهم من حق في اختيار من يقوم مقام رسول الله فينا، أما أن نذعن لأبي بكر أو لغير أبي بكر فليس ذلك من الدين ولا من كتاب الله في شيء، وإنما تجب الطاعة علينا لمن نوليه نحن أمورنا.
ولعل الذين حدثتهم أنفسهم بمثل ذلك أن يكون لهم من العذر عنه أن رسول الله أقر لمدن العرب ولقبائلها حظا من الاستقلال الذاتي طوع لأهلها أن يفكروا في استرداد هذا الاستقلال كاملا بعد وفاته، فهو قد أبقى بدهان عامل الفرس على أرض اليمن في ملكه حين أعلن بدهان إسلامه وألقى نير المجوس، وهو قد ترك لسائر الأمراء، في البحرين وفي حضرموت وفي غيرهما، ما كان لهم من سلطان بعد أن آمنوا بالله ورسوله، وكان أمره أن توزع الزكاة التي تجبى من بعض هذه الأنحاء على الفقراء من أهلها، ولم يفرض الإسلام الجزية إلا على أهل الكتاب، والعرب مسلمون كأهل المدينة، فما لهم يؤدون الزكاة لصاحب السلطان في المدينة!! وما لهم لا تبقى صلتهم بالمدينة صلة وحدة في الدين لا شأن لها بسياسة الحكم!! وإذا كان لأهل المدينة من السابقة في الإسلام ما يجعلهم أدرى بفروضه وتعاليمه، فحسبهم أن يبعثوا إلى سائر البلاد والقبائل من يفقههم في الدين على ما كان يصنع رسول الله، وأن يكونوا وإياهم أشبه شيء بعصبة أمم إسلامية، لا تبغي إحداها على الأخرى، ولا تلتمس الوسيلة للاعتداء على استقلالها.
دار هذا التفكير بخواطر بعض القبائل القريبة من المدينة ومكة والطائف، أما أهل اليمن وما حاذاها من جنوب شبه الجزيرة، وأما سائر الأصقاع البعيدة عن منزل الإسلام، فإنما أسلم الكثير من أهلها إكبارا لسلطان محمد الذي امتد في سنوات قليلة حتى جاور الروم والفرس في ملكيهما، فكان امتداده السريع معجزة بهرت الأنظار، وأخذت بالألباب، وجعلت الوفود من كل القبائل تقبل إلى المدينة تترى معلنة إلى النبي إسلامها وإسلام القبائل التي تنتمي إليها، أما وقد ذاع فيها النبأ بوفاة النبي فلا عجب أن يتزلزل إيمانها وأن ترتد عن دين طرأ عليها، بل لا عجب أن تثور بهذا الدين وأن تتابع الذين يذكون فيها نار الفتنة باسم العصبية والنعرة العربية.
ولقد خدع هؤلاء أول ما قام فيهم من يدعي النبوة منهم ويزعم أنه يوحى إليه كما يوحى إلى محمد، خدعوا عن الإسلام بعد قليل من إقبالهم عليه؛ بل خدع بعضهم عنه والنبي ما يزال بين أظهر العرب لم يختر جوار ربه. سمع كثير من بني أسد لطليحة حين ادعى النبوة، وأيد زعمه بالتنبؤ بموقع الماء في يوم كان قومه فيه يسيرون ويكاد الظمأ يقتلهم. وسمع كثير من بني حنيفة لمسيلمة حين بعث اثنين من رجاله إلى محمد يبلغانه أن مسيلمة نبي مثله، وأنه له نصف الأرض ولقريش نصف الأرض ولكن قريشا لا يعدلون، وسمع أهل اليمن للأسود العنسي ذي الخمار حين تولى أمر اليمن وطرد منها عمال النبي، على أن رسول الله لم يعر هؤلاء المدعين كثيرا من عنايته، ثقة منه بأن قوة الحق في دين الله كفيلة بإظهار كذبهم، وبأن إيمان المؤمنين بالله كفيل بالقضاء عليهم.
وكان هؤلاء المدعون للنبوة يشعرون بموقفهم ذاك من رسول الله، فلم يثر به أحد منهم ثورة الأسود العنسي ذي الخمار، فقد قيل إنه تنبأ وظهر أمره وقتل في عهد الرسول، على أن جماعة من المؤرخين يذكرون أنه سلك مسلك زميليه فصبر حتى قبض النبي، ثم قام بالثورة على الإسلام، يقول اليعقوبي في تاريخه: «أما الأسود بن عنزة العنسي فقد كان تنبأ على عهد رسول الله، فلما بويع أبو بكر ظهر أمره واتبعه على ذلك قوم، فقتله قيس بن مكشوح المرادي وفيروز الديلمي، دخلا عليه منزله وهو سكران فقتلاه.» ويقول الطبري في إحدى الروايات: «فأول حرب كانت في الردة بعد وفاة النبي
صلى الله عليه وسلم
كانت حرب العنسي، وكانت حرب العنسي باليمن.»
لم تكن شبه الجزيرة إذن هادئة مطمئنة في العهد الأخير من حياة الرسول، ولم تكن كلها قد سكنت واستقرت تحت لواء واحد ودين واحد، بل كانت أسباب الفتنة تضطرم تحت ثراها، ونذر الثورة تتبدى في جوها؛ وكانت بوادر الانتقاض في الشمال الشرقي وفي الجنوب كله تأجج نارا لا يسكن من انتشارها إلا القوة الروحية التي أمد الله بها رسوله، وإلا النصر الذي كان يلازم أعلامه، بل إن هذا النصر لم يسكت مسيلمة ولا أسكت الأسود العنسي عن القيام في قومهما يزعمان النبوة، ليكون لبني حنيفة ولليمن ولغيرهم من العرب أن يدعوا لأنفسهم ما تدعيه قريش لنفسها، ولولا حكمة رسول الله وحسن رأيه وبعد نظره وفضل الله عليه وعلى الإسلام لخيف أن تتلظى الفتنة وأن يصلى العرب جميعا نارها في حياته.
وأغلب الظن أن فتنة العنسي قامت في آخر عهد الرسول، وسواء أصح ذلك أم صح أنها قامت في عهد أبي بكر، فإن لقصة هذه الثورة على ما يرويها المؤرخون طرافة تستوقف النظر وتكشف عن جوانب من النفس الإنسانية تدعو إلى التفكير.
فقد بعث رسول الله بين رسله إلى الملوك رسولا إلى كسرى عاهل الفرس يدعوه إلى الإسلام، فلما ترجم له كتاب النبي استشاط غيظا وأرسل إلى بازان
1
عامله على اليمن يأمره بأن يبعث إليه برأس هذا الرجل الذي بالحجاز، وكانت الروم في ذلك الوقت قد غلبت كسرى ووهنت من أمره، فلما تناول بازان رسالة سيده بعث بها إلى محمد، فرد محمد عليه ينبئه بأن شيرويه خلف أباه كسرى، ويدعوه إلى الإسلام وأن يبقى عاملا على اليمن، وكانت أنباء الفتنة في فارس واعتلاء شيرويه عرشها وانتصار الروم عليها قد اتصلت ببازان؛ لذلك أسرع إلى تلبية دعوة محمد، وأقام هذا الفارسي عاملا للنبي العربي على أهل اليمن، بعد أن كان عامل الفرس عليها.
ومات بازان، فقسم رسول الله سلطانه بين أشخاص عدة، منهم شهر بن بازان تولى أمر صنعاء وما جاورها، ومنهم أشخاص من أهل اليمن، وآخرون من رجاله
صلى الله عليه وسلم
بالمدينة، وإن هؤلاء الولاة لينظم كل منهم أمر ولايته إذ جاءتهم كتب من الأسود العنسي ينذرهم فيها أن يردوا ما بأيديهم فهو أولى به، وكانت تلك أول ظاهرة لفتنته.
وكان للأسود كاهنا يقيم بجنوب اليمن، وكان مشعبذا يصطنع فنونا من الحيل ويستهوي الجماهير بعباراته، ولقد تنبأ ولقب نفسه رحمان اليمن، أي الذي ينطق باسم الرحمان، كما لقب مسيلمة نفسه رحمان اليمامة.
2
وكان يزعم أن له شيطانا يظهره على كل شيء، ويظهره على خطط أعدائه، وكان يقيم بكهف خبان من بلاد مذحج، وقد هوت إليه جماعة كبيرة من العوام سحرت بحديثه، وفتنت بما يزعم من حديث شيطانه.
نهض الأسود على رأس هذه الجماعة بعد أن أعلن الفتنة، وسار إلى نجران فأجلى عنها خالد بن سعيد وعمرو بن حزم أميري المسلمين عليها، وانضم من أهل نجران إلى الأسود من بهرهم انتصاره، وساروا معه إلى صنعاء حيث لقي شهر بن بازان فقتله وهزم جنده، عند ذلك فر المسلمون المقيمون بصنعاء وفي مقدمتهم معاذ بن جبل؛ ولحق خالد بن سعيد وعمرو بن حزم بالمدينة، وتم للأسود الغلب، وصار إليه ملك اليمن، وأسلم الناس لأمره ورأيه، ودانت له البوادي والحواضر ما بين مفازة حضرموت إلى الطائف إلى البحرين والأحساء إلى عدن.
ولقد تعجب إذ تعلم أن الأسود لقي شهر بن بازان بصنعاء وليس معه إلا سبعمائة فارس، منهم من خرج معه من مذحج ومنهم من انضم إليه من نجران، وبهذا العدد القليل انتصر هذا الكاهن المشعبذ على أهل هذه الأصقاع واستطار أمره بينهم كالحريق، ولم تجد قوة منهم إلى مقاومته سبيلا، ولعلك إن تلتمس لذلك تأويلا تجده في أن هذه البلاد كانت خاضعة لفارس، ثم خضعت من بعدهم للمسلمين من أهل الحجاز، وأنت تعرف ما كان بين اليمن والحجاز من خصومة ترجع إلى أقدم الحقب، فلما قام هذا العنسي يسترد اليمن لأهل اليمن لم يجد من يقاومه، ولم يجد الفرس أنصار شهر وأبيه ولا وجد المسلمون أبناء الحجاز نصيرا من أهل البلاد يدفع عنهم كيد الأسود وشعبذته، ولعلك واجد هذا التأويل كذلك في أن هذه البلاد كانت مسرحا لأديان مختلفة: كانت فيها اليهودية، والنصرانية، والمجوسية؛ وكانت هذه الأديان تجاور فيها أصنام العرب وعبادتها، ثم كان الإسلام الحديث بين هؤلاء اليمنيين لما تقو في نفوسهم أصوله، فلما قام ذلك المتنبئ فيهم يدعوهم إليه ويهيب بقوميتهم ويزعم أنه يطرد الأجانب من بلادهم، أسرعوا إليه ملبين دعوته؛ فلم يكن أمام المسلمين إلا الفرار، ولم يكن أمام البقية الباقية من الفرس إلا الإذعان أو الموت.
بلغت هذه الأنباء محمدا بالمدينة وهو يعد العدة لغزو الروم، وللانتقام من مؤتة، تعزيزا لهذا الجانب المحفوف بالخطر من جوانب شبه جزيرة العرب؛ وكان لذلك يجهز جيش أسامة، أفيصرف هذا الجيش إلى اليمن يسكن ثائرتها، ويرد على المسلمين هيبتهم؟! أم يستعين على هذا الأسود بمن كان باليمن من المسلمين، فإن قدروا عليه فذاك، وإلا كان انتصار جيوش المسلمين على الروم، والروم قد غلبوا الفرس من زمن غير بعيد، جديرا بأن يعيد الأمر في شبه الجزيرة إلى نصابه؛ فإن لم يعد وجه محمد جيشه ليقمع الأسود وغير الأسود من الخارجين عليه؟! هذا الرأي الأخير هو ما اطمأن محمد إليه، لذلك بعث رسوله وبر بن يحنس بكتاب إلى زعماء المسلمين إلى اليمن يأمرهم فيه بالقيام على دينهم والنهوض في الحرب، والقضاء على الأسود إما غيلة وإما مصادمة، وأن يستعينوا على ذلك بمن يرون عنده نجدة ودينا، واكتفى محمد من أمر اليمن بهذا، وجعل كل همه لتنظيم جيش أسامة والتغلب على الروم.
ومرض رسول الله من بعد ذلك مرضا وقف بسببه جيش أسامة عن المسير، أما الأسود العنسي فأخذ يستمتع بنصره وينظم ملكه، يقيم القواد على الجيوش والعمال على الإمارات؛ بذلك ثبت ملكه، واستغلظ أمره، ودانت له سواحل اليمن إلى عدن، كما دانت له الجبال والبوادي من صنعاء إلى الطائف.
واستعمل الأسود على جنده قيس بن عبد يغوث، وجعل وزيريه فيروز وداذويه الفارسيين، ثم إنه تزوج آزاد امرأة شهر بن بازان، وكانت ابنة عم فيروز، بهذا وبذاك انضم العرب والفرس إلى لوائه، فلما رأى من تعاظم شأنه ما رأى خيل إليه أنه دانت له الأرض، فلم يبق له إلا أن يأمر فيطاع.
على أن العوامل التي أدت إلى انتصاره قد تضافرت من بعد على الائتمار به، ذلك أنه لما استغلظ أمره وأثخن في الأرض استخف بقيس وبفيروز وداذويه، وجعل يرى في الأخيرين وفي سائر الفرس من تنطوي أضالعهم على المكر به.
وعرفت امرأته الفارسية ذلك منه، فثار في عروقها دم قومها، وتحركت في نفسها عوامل الحقد على الكاهن القبيح، قاتل زوجها الشاب الفارسي الذي كانت تحبه من أعماق قلبها، ولقد استطاعت بسجيتها النسوية أن تخفي ذلك عنه، وأن تسخو في البذل له من أنوثتها سخاء جعله يركن إليها ويطمع في وفائها له، لكنه شعر بأن الرجال الذين حوله، وزيريه وقائد جيشه، لا يضمرون له من الولاء ما يراه حقا عليهم لولي نعمتهم، وإذا كان الجيش أشد ما يحذر ويخاف فقد دعا إليه قيس بن عبد يغوث وأنبأه أن شيطانه أوحى إليه يقول: «عمدت إلى قيس فأكرمته حتى إذا دخل منك كل مدخل، وصار في العز مثلك، مال ميل عدوك، وحاول ملكك، وأضمر على الغدر.» وأجاب قيس: «كذب وذي الخمار؛ لأنت أعظم في نفسي وأجل عندي من أن أحدث بك نفسي.» وأجال الأسود في قيس نظره من مفرق رأسه إلى أخمصه، وقال له: «ما أجفاك! أتكذب الملك! قد صدق الملك وعرفت الآن إنك تائب مما اطلع عليه منك.»
وخرج قيس من عنده وكله الريبة فيما يضمر له، ولقي فيروز وداذويه فذكر لهما ما جرى بينه وبين الأسود وسألهما رأيهما، فقالا: نحن في حذر، وإنهم لفي ذلك إذا أرسل الأسود إليهما يحذرهما مما يأتمران مع أصحابهما به، وخرجا من عنده ولقيا قيسا وهم جميعا في ارتياب وعلى خطر عظيم.
واتصل نبأ ما يجري ببلاط ذي الخمار بمن بقي من المسلمين باليمن أو على مقربة منها، وذكروا رسالة النبي لهم، فأرسلوا إلى قيس وأصحابه أنهم وإياهم على رأي واحد في أمر الأسود، وعرف المسلمون الذين أقاموا بنجران وبغيرها من تلك الأنحاء سرا من هذه الأنباء، فكتبوا إلى زملائهم القريبين من الأسود أنهم ورجالهم طوع أمرهم في قتاله، واستمهلهم زملاؤهم وطلبوا إليهم أن يلزموا أماكنهم، وألا يقوموا بأمر يدعو لريبة فيهم أو ينبه أصحاب الأسود لهم.
وإنما كان ذلك رأي المقيمين على مقربة من الأسود؛ لأنهم رأوا أخذه غيلة أدنى إلى النجاح من محاربته، فقد دخلت آزاد زوجه في مؤامرتهم وإن تظاهرت له بالحب أعظم الحب، وطوع لها اتصالها بفيروز وداذويه وقيس أن تدبر وإياهم أمر اغتياله، دلتهم على حجرة نومه، وأظهرتهم على أن القصر الذي تقيم به معه حوله الحرس من كل ناحية إلا من خلف هذه الحجرة؛ فلينقبوها إذا كان الليل، وليدخلوا من النقب، وليقتلوا غريمهم؛ فإن يفعلوا فقد تخلصوا وخلصوها منه.
وقد فعلوا، فلما كان الفجر تنادوا بشعارهم الذي اتفقوا مع أصحابهم عليه، ثم نادوا بأذان الإسلام وقالوا: نشهد أن محمدا رسول الله، وأن عبهلة - وهو اسم الأسود العنسي - كذاب، وألقوا إليهم رأسه، وأحاط بهم حرس القصر، وتنادى الناس في المدينة فخرجوا في عماية الصبح، واضطرب الأمر، ثم استقر على أن يتولاه قيس وفيروز وداذويه، وكان لآزاد في استقراره كما كان لها في اضطرابه من قبل أكبر الأثر.
أفقتل العنسي قبل موت الرسول أم بعده؟ ذلك ما اختلف فيه، وقد ذكرنا رواية اليعقوبي من قبل، أما الطبري وابن الأثير فيذكران أنه مات قبل أن اختار رسول الله الرفيق الأعلى، وأنه
صلى الله عليه وسلم
أوحي ذلك إليه ليلة حدوثه فقال: «قتل العنسي، قتله رجل مبارك من أهل بيت مباركين.» قيل من قتله؟ قال: «قتله فيروز.»
والرواية الأخرى تذهب إلى أن موت العنسي لم يصل النبأ به إلى المدينة إلا بعد أن قبض رسول الله، وأنه كان أول بشارة أتت أبا بكر وهو بالمدينة، وتجري الرواية بأن فيروز قال: «لما قتلنا الأسود عاد أمرنا كما كان، وأرسلنا إلى معاذ بن جبل فصلى بنا ونحن راجون مؤملون لم يبق شيء نكرهه إلا تلك الخيول من أصحاب الأسود، ثم جاء موت النبي فانتقضت الأمور واضطربت الأرض.»
كيف اضطربت، ولماذا اضطربت؟ تفصيل ذلك لا يدخل في نطاق هذا الفصل، وحسبنا ما أجملنا عنه في أوله، وسنتناول حوادثه في موضعها من جهاد أبي بكر أهل الردة.
وإنما أفضنا في حديث عبهلة وثورته بالمسلمين في اليمن لتواتر الروايات بأنه قام بهذه الثورة في عهد الرسول، فأما ما كان من أمر اليمن على عهد أبي بكر فيتخطى العنسي وثورته ومقتله، ويتناول ما تم بعد ذلك من أحداث نفصلها في موضعها.
كانت ثورة اليمن هذه أعنف مظاهر الانتقاض على الدين الجديد في بلاد العرب حين وفاة النبي، لكن اليمامة وما حاذى الخليج الفارسي من القبائل قد كان يتلظى بنذر الثورة في هذا العهد كذلك، فكان المسلمون فيه على حذر، يلجئون إلى المصانعة حينا وإلى البطش حينا آخر، ليظل سلطانهم قائما وكلمتهم مسموعة، ولا عجب أن يكون ذلك أمر حواضر واد تبعد عن منزل الوحي بمكة والمدينة، وتتصل بالفرس وتبادلهم التجارة وتقر لهم بتفوق الحضارة، بل لا عجب أن تكون للفرس يد خفية في تحريك هذه الحواضر والبوادي لتنتقض على الدين الجديد والسلطان الناشئ.
أشرنا إلى بعث مسيلمة بن حبيب من بني حنيفة رسولين إلى محمد بالمدينة يحملان رسالة جاء فيها: «من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله، سلام عليك، أما بعد فإني قد أشركت في الأمر معك، وإن لنا لنصف الأرض ولقريش نصف الأرض، ولكن قريشا قوم لا يعدلون.» وسأل النبي الرسولين حين سمع الكتاب: فما تقولان؟ قالا: نقول كما قال، فنظر إليهما مغضبا وقال: أما والله لولا أن الرسل لا تقتل لضربت أعناقكما! ثم كتب إلى مسيلمة: «بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى مسيلمة الكذاب، أما بعد فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده المتقين.»
لم يغفل رسول الله عما تنطوي عليه رسالة مسيلمة من نذير، لذلك بعث من المسلمين نهارا الرحال، وكان قد فقه الدين، ليشغب على مسيلمة، وليفقه المسلمين من أهل اليمامة في الإسلام، وسنرى من بعد كيف انضم نهار إلى مسيلمة، وكيف شهد بأنه شريك محمد في الرسالة، بذلك ازداد مسيلمة نفوذا وازداد ادعاؤه انتشارا، وتجاوبت باليمامة أصداء انتصار العنسي في اليمن فقوى تجاوبها ساعد مسيلمة وفت في أعضاد المسلمين، لكن رسول الله لم يتجه بسياسته إلى قمع هذه الفتنة قبل استفحالها، موقنا أن الله ناصره على الروم في الشمال، وأن انتصاره عليهم سيكون له الأثر الحاسم في القضاء على أسباب الانتقاض والثورة الداخلية في أنحاء بلاد العرب.
فقد كانت سياسته
صلى الله عليه وسلم
متجهة إلى حماية التخوم العربية في الشمال من عدوان هرقل ورجاله عليها، فهرقل هو الذي دحر الإمبراطورية الفارسية، وهو الذي رد الصليب الأعظم إلى بيت المقدس، وهو لذلك الذي تخشى صولته، وقد ارتد جيش المسلمين في مؤتة فلم يقو على قتال الروم وإن لم ينهزم أمامهم، وكانت تبوك غزوة موفقة، لكنها لم تبعد المخاوف من انحدار الروم إلى بلاد العرب، فإذا استطاعت قوات المسلمين أن تظهر على الروم في غزاة حاسمة قوى ذلك من عزم المنتشرين منهم في قبائل العرب، فلا يلبث كل منتقض عليهم أن يرجع عن انتقاضه، وأن يسلم المقادة إليهم طائعا أو كارها، وكيف لا يفعل وقد تغلغل المسلمون في أنحاء شبه الجزيرة من الشمال إلى الجنوب، وصاروا قوة يحسب حسابها، فلم يقو مسيلمة في اليمامة، ولا لقيط في عمان، ولا طليحة في بني أسد، أن يناصبوها العداوة في جهر وإعلان.
لكن لقيطا وطليحة كانا كمسيلمة يتربصان لإعلان عصيانهما أن تدور الدوائر على المسلمين، وأقام هؤلاء الثلاثة كل في ناحيته ينشر دعوته في غير ضجة أو جلبة، ودون أن يطعن على النبي الهاشمي أو ينتقص من رسالته، وإنما كانت دعواهم أنه نبي، وأنهم أنبياء مثله، بعث في قومه، وبعث كل منهم في قومه، وأنهم يريدون لأقوامهم الهدى كما يريد هو لقومه الهدى، وبوسائل تنقصها جرأة الأسود العنسي وإن لم ينقصها دهاؤه هيئوا حول المسلمين المقيمين بين أظهرهم جو قلق وتربص تتلظى نيران الفتنة تحت رماده ريثما تتقد فيه.
ولم يكد النبأ بوفاة الرسول ينتشر في بلاد العرب حتى بدأت نذر هذه الفتنة تتحرك في كل أنحاء شبه الجزيرة، وقد تحركت في صور مختلفة وألوان متباينة تباين العوامل التي أثارتها، وسنفصل ذلك من بعد في وضوح وجلاء، لكنا نقف من حديث هؤلاء المتنبئين وتربصهم بالإسلام عند أمور لها بالعرب حين وفاة النبي أوثق اتصال.
أول هذه الأمور أن رسول الله قبض وبوادر الفتنة تجري نذرها في جو شبه الجزيرة، بل يوشك قسم كبير منها أن يضطرب أشد اضطراب، فقد رأيت كيف استغلظ أمر الأسود وامتد ملكه من أقصى الجنوب عند حضرموت إلى مكة والطائف، ثم رأيت كيف تربص مسيلمة وطليحة بالمسلمين، وهذه الربوع التي أعلنت العصيان على دين محمد وسلطانه كانت أكثر بلاد شبه الجزيرة حضارة وأضخمها ثروة كما كانت أكثرها ببلاد الفرس اتصالا، فلا عجب وذلك شأنها أن يلفت انتفاضها نظر الخليفة الأول، وأن يطيل تفكيره في تدبير سياستها، ليعيدها إلى حظيرة الإسلام، وليقر فيها الأمن والسلام.
الأمر الثاني الذي تدل عليه فتنة الأسود وتربص مسيلمة وطليحة أن الاضطراب الديني بلغ بين القوم في ذلك العصر أن استهل تحريك النفوس باسمه، ولم يكن ذلك يرجع إلى تعصب الناس لدين من الأديان، بل كان يرجع على العكس إلى عدم استقرار العقيدة في النفوس استقرار طمأنينة وسكينة، فالنصرانية واليهودية والمجوسية والأصنام كانت كلها تتجاور، وكان لكل منها أنصار ظاهرون أو مستترون؛ لكنها كانت جميعا موضع الجدل: أيها الحق، وأيها أدنى إلى تحقيق الخير والسعادة للناس، وهذا هو ما سهل على الذين ادعوا النبوة أن يطالعوا الناس بمزاعمهم، وأن يخدعوهم بألوان من المظاهر يتخذونها آيات صدقهم، وبهذه الوسيلة استطاع المتنبئون أن يجمعوا حولهم من الأتباع ما جمعوا، وأن يحرزوا أول أمرهم من النجاح ما أحرزوا.
ولم يكن ادعاء النبوة وتصديق الناس هذا الادعاء هو العنصر الجوهري في نجاح هؤلاء المدعين، فقد رأيت أن الأسود اعتمد على عوامل أخرى، في مقدمتها برم أهل اليمن بالفرس كبرمهم بأهل الحجاز، وسترى من ذلك في أمر مسيلمة وطليحة ما يؤيد قولنا كل التأييد. ولو أن الإسلام كان قد استقر في النفوس وبلغ منها مبلغ العقيدة والإيمان لما قامت لواحد من هؤلاء المدعين قائمة، فللعقيدة المتأصلة سلطان على النفوس قل أن يغلبه سلطان، لكن أهل هذه الأصقاع لم يكونوا قد آمنوا وإن كانوا قد أسلموا؛ فلما أتيح لهم أن يخلعوا إسلامهم باسم القومية أو باسم غيره لم يصدهم عن ذلك إيمان حق، فاندفعوا وراء الأسود وغير الأسود من المتنبئين.
ويزيد رأينا هذا تأييدا ما كان من بقاء مكة والطائف على الإسلام، صحيح أن أهل اليمن بدأ فيهم الإسلام واطمأن إلى سلطان الحاكم منذ دان بازان بدين الحق، وكان ذلك قبل أن يطمئن الإسلام إلى سلطان الحاكم بمكة والطائف، لكن قيام رسول الله بمكة سنوات الدعوة الأولى، وهي تزيد على عشر، واتصاله بالطائف وأهلها أثناء ذلك، ترك من الأثر الديني في نفوس المكيين والثقفيين ما لم يتركه إسلام بازان والفرس المحيطين به في اليمن، وتعاليم رسول الله كانت أبقى أثرا في مكة والطائف، حتى مع ثورتهما عليه، من تعاليم معاذ بن جبل باليمن وإن تمتع من حماية بازان بما تمتع به.
الأمر الثالث الذي نستخلصه، أن فتنة اليمن شجعت اليمامة وشجعت بني أسد على القيام بفتنتهم إثر وفاة النبي، فقد كان طليحة ومسيلمة يخشيان قوة المسلمين ويريان أن لا قبل لهما بمقاومتها، ولذلك لم يثورا بها ولم يخرجا عليها، فلما اجترأ الأسود على رفع لواء العصيان ولقي من النجاح ما لقي وأثار مخاوف المسلمين، امتدت عدوى الجرأة منه إلى طليحة وإلى مسيلمة، ثم زادها جرأة أن اختار النبي الرفيق الأعلى، ولو أن الأسود لم يقم قومته ولم يعلن فتنته لبقي الآخران على استحياء في إعلان فتنتهما، ولما جرؤ واحد منهما على مواجهة سلطان المسلمين.
ولم يقض موت الأسود على أسباب الفتنة التي كانت تتلظى يومئذ في أنحاء شبه الجزيرة، بل بقيت أسباب هذه الفتنة تضطرم ويزداد اضطرامها حتى اندلعت وفاة الرسول.
ويعلل بعض المستشرقين هذه الظاهرة في بلاد العرب لذلك العهد بما كان بين أهلها من تباين في نوع الحياة قل أن يجد الإنسان له في غير هذه البلاد نظيرا، وبما أدى هذا التباين إليه على حقب التاريخ من خصومات لم تهدأ، فحياة الحضر وحياة البدو تتجاوران في هذا المحيط تجاورا عجيبا، وبين البداوة والحضارة من التباين ما يجعل الوحدة القومية لبلاد ذلك شأنها أمرا غير ميسور، ثم إن حياة البداوة تجعل الإذعان لحاكم على النحو الذي يفهمه أهل الحضر مستحيلا أو يشبه المستحيل، فالبدوي لا يعدل باستقلاله الفردي شيئا، والقبيلة البادية ترى في استقلالها حياتها، وترى كل تحيف من هذا الاستقلال عدوانا عليها لا بد من دفعه، وقد كان هذا وما يتصل به سبب الخصومة التي تأصلت على الزمان بين اليمن وأهل الشمال.
والمستشرقون الذين يبدون هذا الرأي يذهبون إلى أن هذا التباين في طباع أهل البادية وأهل الحضر، وما جر إليه من خصومة بين الشمال والجنوب، كان له أثر بالغ في اضطراب العرب قبيل وفاة النبي وفي السنة الأولى من خلافة أبي بكر، فالإسلام دين توحيد في العقيدة، وبذلك قضى على عبادة الأصنام، فامتد الإيمان بالله الواحد الأحد إلى أنحاء بلاد العرب جميعا، أولا يخشى العرب أن يمتد الأمر من وحدة الإيمان بالله إلى وحدة سياسية تجني على استقلال أهل البادية وتثير الخصومات القديمة؟! ذلك ما دار بخواطرهم فيما يرى هؤلاء المستشرقون، ذلك ما أدى إلى انتقاض اليمن وغير اليمن في ذلك العهد.
وسواء أصح هذا التعليل أم لم يصح، فلسنا نستطيع أن نتجاهل العامل الأجنبي في تحريك البواعث التي أدت إلى انتقاض العرب وردتهم، لقد رأى عاهل الفرس وإمبراطور الروم في رسالة محمد إليهما وإلى غيرهما من الملوك والأمراء ليدينوا بالإسلام ما جعلهما يعملان على إيقاظ نار الفتنة في بلاد ليس بها من أسباب الوحدة غير الدين الجديد يجمع كلمتها ويضاعف قوتها، ولا شيء كالفتنة يضعضع العزائم ويفتت في أعضاد الأمم.
وأيا كانت الأسباب التي أدت إلى فتنة العنسي، ثم إلى فتنة طليحة وفتنة مسيلمة، وإلى انتقاض العرب على سلطان المسلمين حتى فيما جاور المدينة، فإن الأمر الثابت أن وفاة النبي بعثت كل أسباب الفتنة من مرقدها.
كيف دبر أبو بكر لمواجهة هذه الفتنة والقضاء عليها؟ وكيف استطاع أن يتغلب على عوامل الفتنة وأن يجمع كلمة العرب؟ وكيف مهد للإمبراطورية الإسلامية كي يقيمها خلفاؤه على أقوى دعامة وأمتن أساس؟
ذلك كل عهده، وفي هذا الكتاب حديثه.
الفصل الرابع
بعث أسامة
لم تكن نذر الانتقاض في بلاد العرب لتخفى على أبي بكر وأصحابه من المهاجرين والأنصار بالمدينة، وكيف تخفى عليهم وقد كان ما شجر بينهم في سقيفة بني ساعدة جديرا بأن ينبئهم إلى خطرها!! أفيلقي خليفة رسول الله كل باله إليها، ويعدل عن سياسة رسول الله في شأنها؟ أم تراه يجري على خطة الرسول في تأمين التخوم بين العرب والروم، تاركا أمر هذه الفتنة الداخلية إلى تطور الحوادث؟
لقد كان أول أمر أصدره بعد أن تمت له البيعة بالخلافة أن قال: «ليتم بعث أسامة.»
وأسامة هو قائد الجيش الذي أمر النبي بتجهيزه من جلة المسلمين مهاجريهم والأنصار لغزو الروم، بعد الذي كان بينهم وبين المسلمين في مؤتة وفي تبوك، ذلك أنه (عليه السلام) كان يخشى دائما أن يدهم الروم المسلمين، متأثرين بما بين الدين الناشئ ودينهم المسيحي من خلاف، متأثرين أكثر من ذلك بتحريض اليهود الذين نزحوا إلى فلسطين بعد أن أجلاهم النبي عن المدينة وعن تيماء وفدك وعن أكثر المواطن التي كانوا يقيمون بها، ولعل ما حدث بمؤتة وتبوك جعله يضاعف العناية بحماية التخوم العربية الرومية، فقد سار جيش المسلمين إلى مؤتة فاستشهد من قواده زيد بن حارثة وجعفر بن أبي طالب وعبد الله بن رواحة، ثم داور خالد بن الوليد بالجيش حتى عاد به إلى المدينة سليما وإن لم ينتصر، وقد سار (عليه السلام) على رأس المسلمين إلى تبوك، فكانت مسيرته نذيرا حمل خصومه على التراجع إلى ما وراء حدودهم دون قتال، لا عجب وقد أثارت هاتان الغزوتان الثارات بين المسلمين والروم أن يجهز النبي جيش أسامة بن زيد بن حارثة، وأن يكون تجهيز هذا الجيش بعض سياسته في تأمين تخوم شبه الجزيرة من الروم ذوي البأس في ذلك العهد.
وكان أسامة حدثا لما يبلغ العشرين، وإنما ولاه رسول الله على الجيش ليجعل له من فخار النصر ما يجزي به استشهاد أبيه بمؤتة، وما يعود الشباب الاضطلاع بجسام التبعات، ولقد أمره أن يوطئ الخيل تخوم البلقاء والداروم من أرض فلسطين، وأن ينزل على أعداء الله وأعدائه في عماية الصبح، وأن يمعن فيهم قتلا، وأن يحرقهم بالنار، وأن يتم دراكا حتى لا تسبق إلى أعدائه أنباؤه فإذا تم له النصر فليسرع بالعودة غانما مظفرا.
تذمر كثيرون منذ اليوم الأول من تعيين حدث كأسامة على رأس جيش يضم جلة المهاجرين والأنصار وتحدثوا في ذلك، صحيح أن أسامة كان موضع عطف النبي منذ طفولته، وأنه لقب لذلك «حب النبي وابن حبه»، ولقد بلغ من إعزاز النبي إياه أن أردفه وراءه عند ذهابه إلى مكة في العام الثامن للهجرة وأدخله معه الكعبة، وصحيح أن أسامة كان الشجاعة والإقدام منذ نشأته، حتى لقد انضم إلى جيش المسلمين في طريقهم إلى أحد، وإنما أعيد إلى المدينة قبل الموقعة لصغر سنه، ثم إنه أبلى من بعد في حنين أحسن البلاء وثبت فيها ثبات الأبطال الصناديد، لكن المتذمرين كانوا يرون ذلك شيئا، وتولي إمارة جيش فيه أبو بكر وعمر وكبار المسلمين شيئا آخر، ولقد بلغ تذمرهم النبي وهو في مرضه الأخير، وجيش أسامة مقيم بالجرف يتأهب للمسير، فأمر نساءه فأراقوا عليه سبع قرب من ماء حتى تنزل عنه الحمى، ثم خرج إلى المسجد وقال بعد أن حمد الله وصلى على أصحاب أحد: «أيها الناس، أنفذوا بعث أسامة، فلعمري لئن قلتم في إمارته لقد قلتم في إمارة أبيه من قبله، وإنه لخليق للإمارة وإن كان أبوه لخليقا لها.»
ولما اشتد المرض بالرسول لم يتحرك جيش أسامة من الجرف، روي عن أسامة أنه قال: «لما ثقل رسول الله
صلى الله عليه وسلم
هبطت وهبط الناس معي إلى المدينة، فدخلت على رسول الله وقد أصمت فلا يتكلم، فجعل يرفع يده إلى السماء ثم يضعها علي، فأعرف أنه يدعو لي.» وفي ساعة الصحو الذي سبق وفاة الرسول صبح يوم الوفاة استأذنه أسامة في السير بالجيش فأذن له، لكن حدوث الوفاة بعد سويعات رد أسامة والجيش إلى المدينة كرة أخرى، ثم كان أسامة مع أهل البيت الذين تولوا جهاز الدفن، فكان هو وشقران مولى النبي يصبان الماء على جثمانه وعلي يغسله وعليه قميصه.
فلما أمر أبو بكر بإنفاذ بعث أسامة بعد أن تمت بيعته عاد المسلمون إلى تذمرهم وأخذوا يلتمسون الوسيلة للخلاص من موقف لم يرضوا عنه، ورأى بعضهم ما كان من خلاف بين المهاجرين والأنصار على الخلافة، وما ترامى إلى المدينة من أنباء العرب واليهود والنصارى وتحفزهم بعد موت النبي للوثبة بالمسلمين وبدينهم، فقالوا يوجهون الكلام إلى أبي بكر: «إن هؤلاء جل المسلمين، والعرب على ما ترى قد انتفضت بك، فليس ينبغي أن تفرق عنك جماعة المسلمين.» قال أبو بكر: «والذي نفس أبي بكر بيده، لو ظننت أن السباع تخطفني لأنفذت بعث أسامة كما أمر رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، ولو لم يبق في القرى غيري لأنفذته.»
وقيل إن أسامة لما رأى ما عليه الناس طلب إلى عمر بن الخطاب أن يرجع إلى أبي بكر فيستأذنه في أن يعود بالجيش ليكون عونه على المشركين فلا يتخطفون المسلمين، وقالت الأنصار لعمر: «فإن أبى إلا أن نمضي، فأبلغه عنا واطلب إليه أن يولي أمرنا رجلا أقدم سنا من أسامة.» وأبلغ ابن الخطاب أبا بكر رسالة أسامة، فلم يلبث حين سمعها أن ثار ثائره وقال: «لو خطفتني الكلاب والذئاب لم أرد قضاء قضى به رسول الله
صلى الله عليه وسلم .» أما رسالة الأنصار أن يولي عليهم رجلا أقدم سنا من أسامة فقد وثب لها أبو بكر وكان جالسا فأخذ بلحية عمر وقال مغضبا: «ثكلتك أمك وعدمتك يا بن الخطاب! استعمله رسول الله
صلى الله عليه وسلم
وتأمرني أن أنزعه!» ورجع عمر إلى الناس فسألوه عما صنع فقال: «امضوا، ثكلتكم أمهاتكم ما لقيت في سبيلكم من خليفة رسول الله.»
هذا الحديث في رواياته المختلفة يصور لنا سياسة أبي بكر أول ما تولى الخلافة، وهذه السياسة تتلخص في قوله لفاطمة ابنة رسول الله حين طالبته بميراثها عن أبيها: «إني والله ما أدع أمرا رأيت رسول الله يصنعه إلا صنعته.» وهو قد أعلنها إلى الناس ساعة قال لهم: «ليتم بعث أسامة، ألا لا يبقين بالمدينة أحد من جند أسامة إلا خرج إلى عسكره بالجرف.» فقد وقف بينهم خطيبا بعد أن رد المعترضين منهم وقال: «يا أيها الناس، إنما أنا مثلكم، وإني لا أدري لعلكم ستكلفوني ما كان رسول الله
صلى الله عليه وسلم
يطيق، إن الله اصطفى محمدا على العالمين وعصمه من الآفات، وإنما أنا متبع ولست بمبتدع، فإن استقمت فتابعوني، وإن زغت فقوموني، وإن رسول الله قبض وليس أحد من هذه الأمة يطلبه بمظلمة ضربة سوط فما دونها، ألا وإن لي شيطانا يعتريني، فإذا أتاني فاجتنبوني ...» ثم حثهم على العمل الصالح قبل أن يجيء أجلهم، وأن يعتبروا بالآباء، والأبناء والإخوان، وألا يغبطوا الأحياء إلا بما يغبطون به الأموات.
إنما أنا متبع ولست بمبتدع، ولن أدع أمرا رأيت رسول الله يصنعه إلا صنعته؛ هذه سياسة الخليفة الأول، ولأبي بكر أكثر من كل إنسان أن يتخذها سياسته، فهو قد صحب رسول الله على ما رأيت منذ بعثه إلى أن اختاره الله إليه، ثم إنه كان يؤمن بالله ورسوله إيمانا لا يكبو ولا يتزعزع، وكان لاتصاله القلبي والروحي برسول الله يعرف من أمره ما لا يعرفه غيره، وهو وحده الذي قال فيه رسول الله قبل يومين اثنين من وفاته: «إني لا أعلم أحدا كان أفضل في الصحبة عندي يدا منه، وإني لو كنت متخذا من العباد خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا، ولكن صحبة وإخاء وإيمان حتى يجمع الله بيننا عنده.» وأنت قد رأيت من صحبته وإخائه وإيمانه في حياة النبي ما لم يبلغه عمر ولا علي ولا أحد غيرهما من أمس المسلمين به
صلى الله عليه وسلم
ثلة وقربى، فلا جرم كان اتباعه النبي اتباعا صحيحا صادرا عن إيمان وبينة: إيمان يجعله مطمئنا إلى أنه لن يخطئ ما اتبع الرسول، وبينة تجعله يسلك الطريق التي يرى أن الرسول كان لا ريب يسلكها.
سمع الناس مقالة عمر بعد عوده إليهم بالجرف يبلغهم رسالة أبي بكر، فلم يكن لهم إلا الإذعان لأمر الخليفة طوعا أو كرها، وخرج أبو بكر بعد ذلك حتى جاء المعسكر، فأشخصهم وشيعهم وهو ماش وأسامة راكب ليزيدهم لإمارة أسامة إذعانا وتسليما، وكأنما غلب أسامة الحياء أن يرى هذا الشيخ الوقور صاحب رسول الله وخليفته على المسلمين يسير إلى جانبه، ودابته من ورائه يقودها عبد الرحمن بن عوف، فقال: «يا خليفة رسول الله، والله لتركبن أو لأنزلن.» قال أبو بكر: «والله لا تنزل ووالله لا أركب، وما علي أن أغبر قدمي في سبيل الله ساعة!» فلما آن له أن يودع الجيش قال لأسامة: «إني رأيت أن تعينني بعمر فافعل.» فأذن أسامة لعمر أن يدع الجيش وأن يرجع مع أبي بكر.
لعمرك ما عسى أن يقول المتذمرون بعد هذا الصنيع وقد بايعوا أبا بكر بالأمس ليلي أمر المسلمين جليله ودقيقه! ... والذين أذعنوا من قبل كرها لم يسعهم بعد هذا التصرف الحكيم إلا أن يرضوا أو يتعرضوا للقالة ويتهموا بالأثرة، وكثيرا ما كان للخوف من رأي الغير فينا وحكمه علينا سلطان على تصرفاتنا وأعمالنا يعدل سلطان اقتناعنا الذاتي، وإن اختلفت البواعث وتباينت النيات.
وآن لأبي بكر أن يودع الجيش، فوقف في رجاله خطيبا وقال: «أيها الناس، قفوا أوصكم بعشر فأحفظوها عني: لا تخونوا، ولا تغلوا، ولا تغدروا، ولا تمثلوا ولا تقتلوا طفلا صغيرا ولا شيخا كبيرا ولا امرأة، ولا تعقروا نخلا ولا تحرقوه، ولا تقطعوا شجرة مثمرة، ولا تذبحوا شاة ولا بقرة ولا بعيرا إلا لمأكلة، وسوف تمرون بأقوام قد فرغوا أنفسهم في الصوامع فدعوهم وما فرغوا أنفسهم له، وسوف تقدمون على قوم يأتونكم بآنية فيها ألوان الطعام، فإذا أكلتم منها شيئا بعد شيء فاذكروا اسم الله عليه، وتلقون أقواما قد فحصوا أوساط رءوسهم وتركوا حولها مثل العصائب فاخفقوهم بالسيف خفقا، اندفعوا باسم الله، أقناكم الله بالطعن والطاعون.»
وقال لأسامة وهو يوشك أن يتحرك بالجيش: «اصنع ما أمرك به نبي الله
صلى الله عليه وسلم ، ابدأ ببلاد قضاعة، ثم ائت آبل، ولا تقصرن في شيء من أمر رسول الله، ولا تعجلن لما خلفت عن عهده.»
وسار الجيش وعاد أبو بكر وعمر بن الخطاب إلى المدينة، سار هذا الجيش وقائده الشاب على رأسه يقطع البيد ويتخطى المفاوز في هذه الأيام الشديدة القيظ من شهر يونية، وبعد عشرين يوما من مسيرته بلغ البلقاء حيث تقع مؤتة، وحيث استشهد زيد بن حارثة وصاحبه جعفر بن أبي طالب وعبد الله بن رواحة.
هناك نزل أسامة بعسكره فأغار على آبل، وبث خيوله في قبائل قضاعة، وقضى على كل من وقف في وجهه من أعداء الله وأعداء رسوله قضاء لا يعرف هوادة ولا رحمة، وكان شعار المسلمين وصيحتهم في الحرب ذلك اليوم: «يا منصور أمت.»
قتل المسلمون أثناء هذه الغزاة، وأسروا، وأحرقوا القرى التي قاومتهم، وغنموا ما شاء الله أن يغنموا. بذلك انتقم أسامة لأبيه وللمسلمين في مؤتة، وبذلك نفذ أمر رسول الله أن يوطئ الخيل تخوم البلقاء والداروم من أرض فلسطين، وأن ينزل على أعداء الله وأعدائه في عماية الصبح، وأن يمعن فيهم قتلا، وأن يحرقهم بالنار، وقد أتم ذلك دراكا فلم تسبق إلى أعدائه أنباؤه، فلما أتمه عاد بالجيش مظفرا إلى المدينة ممتطيا الجواد الذي مات أبوه عليه.
عاد بالجيش الظافر إلى المدينة، لم يغره النصر باقتفاء أثر أعدائه أو باقتحام تخوم الروم والتوغل في ديارهم، وعاد وقد زادت حداثة سنه في جلال انتصاره، وجعلت المهاجرين والأنصار الذين تذمروا من قبل لإمارته يحدثون مفاخرين بحسن بلائه وعظيم إقدامه، ويرددون مؤمنين قوله
صلى الله عليه وسلم : «إنه لخليق للإمارة، وإن كان أبوه لخليقا لها.»
ولم يدر بخاطر أحد من أمراء الجيش الظافر أن يدفع أسامة لاقتفاء أثر عدوه، ذلك أن السياسة التي جرى عليها رسول الله والتي كانت ماثلة في نفوس المسلمين جميعا، كانت تقف عند تأمين التخوم بين العرب والروم، فلا يحدث الروم أنفسهم بغزو العرب انتقاما لليهود أو غير اليهود ممن كانوا يأتمرون بالمسلمين.
وكان ذلك طبيعيا؛ إذ كان الروم لا يزال اسمهم يزلزل الشعوب بمنعة إمبراطوريتهم ونفوذ سلطانهم؛ لم يغير من ذلك ما كان بينهم وبين العرب من نزاع كانوا فيه أصحاب الكلمة العليا إلى السنوات الأخيرة من حياة النبي، ألم يذهب دحية الكلبي بكتاب رسول الله إلى هرقل، وهرقل في أوج نصره، في السنة السابعة من الهجرة، أي قبل وفاة النبي بسنوات ثلاث، فرأى من قوة الروم وبأسهم ما رأى! ألم يذهب اليهود في هذه السنة السابعة إلى فلسطين بعد هزيمتهم في خيبر وفي فدك وتيماء، وقلوبهم كلها الحفيظة على محمد وعلى من اتبعه، يأتمرون لتأليب الروم عليهم كيما يقاتلوهم ويظفروا بهم كما قاتلوا الفرس وظفروا بها! لا جرم إذن أن يقف المسلمون من سياستهم عند حماية تخومهم من اعتداء الروم، وأن يكر أسامة، بعد أن تم له النصر على أعدائه، راجعا إلى المدينة ليقف إلى جانب أبي بكر والمسلمون معه، دون أن يدور غزو الروم بخاطره أو خواطرهم، ودون أن يتوقع أحد منهم أن هذا الغزو سيبدأ بعد سنتين اثنتين، يبدؤه أبو بكر بحكم الحوادث ثم يتمه خلفاؤه، فيكون فيه القضاء على هذه الإمبراطورية الرومية التي ظلت قرونا مرهوبة الجانب تعنو لكلمتها الجباه، وتتصدع من هول بأسها العروش.
عاد أسامة إذن بالجيش الظافر، وبلغ ظاهر المدينة، فتلقاه أبو بكر، وكان قد خرج في جماعة من كبار المهاجرين والأنصار للقائه وكلهم فرح وتهلل؛ وتلقاه أهل المدينة الذين خفوا في أثر أبي بكر وأصحابه بصيحات السرور والإعجاب والتقدير لبسالته وبسالة جيشه، ودخل أسامة المدينة تحيط به هالة من فخار النصر، فقصد من فوره إلى المسجد حيث صلى شكرا لله على ما أنعم عليه وعلى المسلمين، وكانت عودة الجيش إلى المدينة بعد أربعين، وقيل سبعين، يوما من مغادرته إياها.
يحاول بعض المستشرقين أن يهونوا من أمر هذه الغزوة وأن يصغروا من شأنها، مع ما كان من اعتباط المسلمين بها وإكبارهم للذين تم لهم النصر فيها، يقول المستشرق «فكا» محرر فصل أسامة في دائرة المعارف الإسلامية: «وقد بعث انتصار أسامة البشر في نفوس أهل المدينة بعد أن أحزنتهم حروب الردة، وأصبح لانتصاره من الخطر ما لا يتفق مع قيمته الحقة، بل عد فيما بعد فاتحة للحملة التي وجهت لغزو الشام.» وصحيح أن هذه الغزوة ليست جسيمة بالقياس إلى ما نعرف من غزوات اليوم، وليست جسيمة بالقياس إلى بعض الغزوات التي تمت في ذلك الحين، فقد اكتفى أسامة منها بأن دهم القبائل التي فجأها وأن غنم منها دون أن يلقى جيش الروم، لكن الأمر الذي لا ريب فيه أنها كانت بعيدة الأثر في حياة المسلمين، وفي حياة العرب الذين تمتد بلادهم على حدودهم، قال أعداؤهم من العرب الذين تسامعوا بهذه الغزوة: «لو لم يكن للقوم قوة ما أرسلوا جيوشهم تغير على من بعد عنهم من القبائل القوية.» وانزعج هرقل حين بلغته أنباء هذه الغزوة، فبعث جيشا قويا عسكر بالبلقاء، وتلك الحجة البالغة على أن الروم والعرب جميعا حسبوا حساب المسلمين بعد هذه الغزاة التي جعلت عرب الشمال، فيما خلا دومة الجندل، لا يلحون في التحرش بالمدينة والانتقاض عليها.
على أن الأمر لم يكن كذلك فيما سوى الشمال من أنحاء شبه الجزيرة، رأيت من قبل أن قبائل في سائر أنحائها نزعت إلى العصيان في السنوات الأخيرة من حياة النبي، ورأيت أن جماعة من أهل هذه القبائل ادعوا النبوة، ولولا الفزع الذي كان يتولى هذه القبائل ويتولى المتنبئين فيها بسبب ما كان النبي يأخذهم به من حزم وما كان المسلمون يبدونه من بأس وقوة إيمان، إذن لسرت روح الانتفاض في أنحاء كثيرة، فلما اختار محمد جوار ربه ارتدت العرب إما عامة وإما خاصة في كل قبيلة، ونجم النفاق، واشرأبت اليهود والنصارى، واضطرب المسلمون لفقد نبيهم ولقلتهم وكثرة عدوهم، فلم يكن بد من سياسة حكيمة حازمة ترد الأمر إلى نصابه، وتنصر دين الله في إبان نشأته.
وهذا ما صنع أبو بكر حين جرد أبطال المسلمين لحروب الردة، وللقضاء على الثائرين بدين الله وبخليفة رسوله.
الفصل الخامس
قتال من منعوا الزكاة
بينما كان أسامة في طريقه إلى تخوم الروم، كان النبأ بوفاة النبي يدفع العرب إلى الثورة بسلطان المدينة. زادت ثورة اليمن ضراما على من قتل العنسي . وبدأ مسليمة في بني حنيفة وطليحة في بني أسد يدعوان الناس إلى التصديق بنبوتهما ويلقيان من النجاح ما جعل عيينة بن حصن يقول عن طليحة: «نبي من الحليفين - يعني أسدا وغطفان - أحب إلينا من نبي من قريش، وقد مات محمد وطليحة حي.»
جاءت الرسل بهذه الأنباء وبما هو شر منها لأبي بكر أول ما استخلف، فلما بسطوا أمامه الأمر قال لهم: «لا تبرحوا حتى تجيء رسل أمرائكم وغيرهم بأدهى مما وصفتم وأمر من انتقاض الأمور.» ولم يلبثوا أن قدمت كتب أمراء النبي في الأنحاء المختلفة من شبه الجزيرة بانتقاض عام أو بانتقاض خاص، ولم تخف هذه الكتب ما كان من اعتداء المنتقضين على من بقي على إسلامه بين أظهرهم، وكذلك تضرمت الأرض حول أبي بكر نارا؛ فكان لا بد له من معالجة هذه الحال التي لم ير المسلمون مثلها مذ فتحت مكة وأسلمت ثقيف.
وكان هذا الاضطراب الذي أصاب العرب قد انتهى بقوم إلى أن يرتدوا عن الإسلام، في حين بقي آخرون على إسلامهم ثم أبوا أداء الزكاة لأبي بكر، وسواء أكان إباؤهم أداءها راجعا إلى حرص الناس على المال وتحايلهم على التحلل من بذله كتحايلهم على اقتناصه وإمساكه، وذهابهم في هذا وفي ذاك إلى حد التضحية بالحياة في سبيله، أم كان راجعا إلى عدهم إياها إتاوة لم يبق بعد وفاة رسول الله ما يسوغ دفعها لمن اختاره أهل المدينة أميرا عليهم، فإنهم أضربوا عن أدائها وأعلنوا أنهم لن ينزلوا على حكم أبي بكر في أمرها.
كان ذلك شأن القريبين من المدينة من قبائل عبس وذبيان بنوع خاص، فماذا عسى أن يصنع المسلمون معهم؟ ليس من اليسير مقاتلتهم بعد أن أنفذ أبو بكر بعث أسامة فلم يبق بالمدينة جيش يدفع عنها، أيرضون منهم أن يمنعوا الزكاة، وبذلك يستميلونهم إليهم لعلهم يجدون منهم عونا على الذين نكثوا أيمانهم وارتدوا عن إسلامهم؟ أم يحاربونهم فيزيدون بذلك عدد عدوهم، وقد لا يكون لهم في غيبة الجيش بحربهم قبل؟
جمع أبو بكر كبار الصحابة يستشيرهم في قتال الذين منعوا الزكاة، وكان رأي عمر بن الخطاب وطائفة من المسلمين معه ألا يقاتلوا قوما يؤمنون بالله ورسوله، وأن يستعينوا بهم على عدوهم، ولعل أصحاب هذا الرأي كانوا كثرة الحاضرين في حين كان الذين أشاروا بالقتال هم القلة، وأغلب الظن أن المجادلة بين القوم في هذا الأمر البالغ الخطر طالت واحتدمت أيما احتدام، فقد اضطر أبو بكر أن يتدخل بنفسه فيها يؤيد القلة؛ ولقد اشتد في تأييد رأيه في ذلك المقام، يدل على ذلك قوله: «والله لو منعوني عقالا كانوا يؤدونه إلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم
لقاتلتهم على منعه.» ولم يثن هذا المقال عمر عن أن يرى ما في القتال من تعريض المسلمين لخطر تخشى مغبته، فقال في شيء من الحدة: «كيف نقاتل الناس وقد قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فمن قالها عصم مني ماله ودمه إلا بحقها وحسابهم على الله».»
لم يتريث أبو بكر ولم يتردد في إجابة عمر فقال: «والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال، وقد قال: «إلا بحقها».» ويتم الرواة هذا الحديث بأن عمر قال من بعد: «فوالله ما هو إلا أن رأيت الله شرح صدر أبي بكر للقتال فعرفت أنه الحق.»
يذكرنا هذا الحديث بما دار بين رسول الله ووفد ثقيف حين أقبلوا من الطائف يعلنون استعدادهم للإسلام ويطلبون إليه أن يعفيهم من الصلاة؛ فقد أبى محمد يومئذ أن يجيبهم إلى ما طلبوا من ذلك وقال: «إنه لا خير في دين لا صلاة فيه.» ولعل أبا بكر قصد إلى مثل ذلك حين قال: «والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة.»
بعثت عبس وذبيان ومن انضم إليهم من بني كنانة ومن غطفان وفزارة جموعا منهم أقامت على مقربة من المدينة، ثم إن هذه الجموع انشطرت فرقتين، أقامت إحداهما بالأبرق من الربذة، وسارت الأخرى إلى ذي القصة أقرب محلة من المدينة على طريق نجد، وأرسل رؤساء هذه الجموع وفودا منهم إلى المدينة نزلوا على وجوه الناس وتحملوا بهم على أبي بكر على أن يقيموا الصلاة وألا يؤتوا الزكاة، فكان جواب أبي بكر ما رأيت: «والله لو منعوني عقالا لجاهدتهم عليه.»
ورجعت هذه الوفود إلى من بعثوهم بعدما اطلعوا على عورة المدينة وعرفوا أنها مكشوفة ليس بها من يدافع عنها، وأدرك أبو بكر منهم ذلك، فجمع الناس وقال لهم: «إن الأرض كافرة، وقد رأى وفدهم منكم قلة، وإنكم لا تدرون أليلا تؤتون أو نهارا، وأدناهم منكم على بريد، وقد كان القوم يأملون أن نقبل منهم ونوادعهم، وقد أبينا عليهم ونبذنا عهدهم، فاستعدوا وأعدوا.» ثم إنه دعا إليه عليا والزبير وطلحة وعبد الله بن مسعود وجعلهم على مداخل المدينة، وأمر سائر الناس أن يكونوا بالمسجد في عدة القتال.
ولم يخطئ أبا بكر حدسه، فلم يلبث أهل المدينة إلا ثلاثا، حتى زحف عليهم مانعو الزكاة يريدون أن يضعضعوا من عزيمتهم للقتال، فيتجاوز الخليفة عن هذا الفرض من فروض الإسلام، وأحس العسس المقيمون على مداخل المدينة مأتى القوم، فنبهوا عليا والزبير وطلحة وابن مسعود ومن معهم من الرجال، وأرسل هؤلاء إلى أبي بكر بالخبر، فأجابهم أن الزموا أماكنكم، وخرج في أهل المسجد على الإبل حتى بلغهم، ثم خرجوا جميعا يواجهون هؤلاء يريدون أن يلبسوا الليل للغدر بهم، ولم يكن يدور بخواطر أهل هذه القبائل أن سيقاومهم أحد بعد الذي عرفوا من أمر المدينة وأهلها، فلما فاجأهم أبو بكر ومن معه أخذوا فولوا الأدبار، فاتبعهم المسلمون حتى ذا حسا؛ وكانت القبائل قد تركت في هذه المحلة مددا من الرجال لعلهم يحتاجون إليهم، وشعر هذا المدد بمجيء القوم منهزمين وباتباع المسلمين إياهم، فوقف دون هؤلاء وأولئك، ودار بين الفريقين في غسق الليل قتال لم يتكشف لأحد منهم أثره، وكان الذين أقاموا بذي حسا من أهل القبائل قد جاءوا بأنحاء
1
نفخوها وربطوها بالحبال وضربوها بأرجلهم في وجوه الإبل التي امتطاها رجال المدينة، ولم تكن هذه الإبل إبل حرب ألفت مكايد القتال؛ ولذلك نفرت براكبيها مرتدة حتى دخلت بهم المدينة.
فرحت عبس وذبيان ومن ناصرهم بفرار المسلمين وظنوا بهم الوهن، وبعثوا إلى من بذي القصة ينبئونهم بما حدث، وأقبل أهل ذي القصة عليهم وتبادلوا وإياهم الرأي ألا يذروا المدينة حتى يوادعهم أبو بكر على ما أرادوا، أما أبو بكر والمسلمون معه فلم يغمض لهم تلك الليلة جفن، بل بات يتهيأ ويعبئهم، فلما كان الثلث الأخير من الليل خرج يمشي على رأسهم، وقد جعل لهم ميمنة وميسرة وساقة، وأغذوا جميعا السير، فما طلع الفجر حتى كانوا مع العدو في صعيد واحد، دون أن يسمع العدو لهم همسا ولا حسا، وكيف يسمع وقد اطمأن إلى انتصاره وبات ناعم الجفن بنوم هانئ، ووضع المسلمون السيوف في القوم، فهبوا فزعين يقاتلون، ولكن هيهات! لقد أمعن رجال أبي بكر فيهم قتلا وهم في عماية الصبح يضطرب حابلهم بنابلهم، وذر قرن الشمس وهم يولون الأدبار منهزمين لا يلوون على شيء، واتبعهم أبو بكر حتى نزل بذي القصة وهم يفرون أمامه فرار النعام، عند ذلك تركهم ونزل بعسكره في منازلهم من هذه المحلة، ثم جعل بها النعمان بن مقرن صاحب ميمنته وجعل معه عددا يدفع الذين أرادوا على الصديق نصرا فخذلوا، وعزا فذلوا.
هنا يقف الإنسان خاشعا ملكه الإعجاب بأبي بكر وبإيمانه وثباته وحزمه فذلك موقف يذكرنا بمواقف الرسول (عليه السلام)، وإن لهذه الغزوة الأولى من غزوات أبي بكر لجلالا ما أشبهه بجلال غزوة بدر، وقف المسلمون يوم بدر ومحمد على رأسهم وعددهم لا يزيد على ثلاثمائة يقاتلون المشركين من أهل مكة وعددهم يزيد على ألف، وهنا وقف أهل المدينة، ومنهم المقاتل ومنهم غير المقاتل، وأبو بكر على رأسهم، وهم قلة أمام هذه الجموع الغفيرة من عبس وذبيان وغطفان وغيرهم من القبائل، ويومئذ تحصن محمد بإيمانه وإيمان أصحابه، وبنصر الله إياهم على المشركين، وهنا تحصن أبو بكر بإيمانه وإيمان أصحابه، فانتصر كما انتصر الرسول، ثم كان لنصره الأثر البالغ في حياة المسلمين.
على أن ما يملك الإنسان من الإعجاب بأبي بكر في هذا الموقف لا يشوبه من العجب شيء، فقد آلى الصديق على نفسه منذ اللحظة الأولى ألا يدع شيئا كان يصنعه رسول الله إلا صنعه، أما وذلك عزمه الذي لا يحيد عنه، فلا عجب أن يأبى المساومة في أمر يتصل بما فرض الله في كتابه، وأن يذكر كلما طلب إليه أحد أن ينزل عن شيء لم يكن رسول الله ليرضى أن ينزل عنه، هذه الكلمة الخالدة على الزمن من كلمات رسول الله: «والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه ما تركته.» هذا ما صنع أبو بكر حين تحدث إليه أصحابه في العدول عن بعث أسامة، وهذا كان موقفه حين تحدثوا إليه فيما يطلب العرب من منع الزكاة، وذلك الإيمان الصادق الذي لا يغلبه في الحياة غالب؛ لأنه يستهين بالموت ويسمو لذلك على كل ما في الحياة.
وهذا الإيمان الصادق الذي لا يغلبه الموت ولا يغلبه زخرف هذه الحياة الدنيا، هو الذي حفظ الإسلام في صفائه وكماله في ذلك الوقت الدقيق الذي كان يومئذ يتخطاه.
وإنك لفي حل أن تسأل نفسك: ترى ما كان عسى أن يئول إليه أمر المسلمين لو أن أبا بكر قبل مشورة عمر وأصحابه في شأن الذين طلبوا منع الزكاة، ووادع هؤلاء الطالبين على ذلك؟ ولا إخالني في حاجة إلى أن أدلك على الجواب، فأنت تعرفه كما أعرفه، كانت قبائل كثيرة من العرب إلى ذلك الوقت ما تزال قريبة عهد بالجاهلية وبالوثنية، فلو أن أبا بكر رضي النزول عن فرض من فروض الدين لاتصلت المساومات، ولوجد طليحة ومسيلمة وغيرهما من المتنبئين الوسيلة للتشكيك فيما جاء محمد به من عند ربه، ثم لوجدوا من هذه القبائل القريبة العهد بالجاهلية مصدقا لهم ومطيعا، بل مؤمنا بهم يموت في سبيلهم وينصرهم على دين الحق.
وأنت تستطيع أن تقدر ما كان لحزم أبي بكر ثم لانتصاره بذي القصة من أثر حين تعلم أن المشركين من بني ذبيان وعبس وثبوا على من فيهم من المسلمين فقتلوهم كل قتلة، هذه الظاهرة التي دفع إليها الغضب والشعور بالذلة والانتقام الوضيع قد زادت انتصار المسلمين جلالا وزادت المسلمين ثباتا على دينهم في كل قبيلة، وجعلتهم يهرعون بالزكاة يؤدونها إلى خليفة رسول الله، لقد رأوا أبا بكر يغلب هؤلاء المرتدين بقوة إيمانه، في حين كان جيشه مع أسامة على تخوم الروم، فأيقنوا أن الغلب لدين الحق والإيمان به، وأن الانتقام الوضيع الذي لجأت القبائل إليه لن يمحو عنها عار هزيمتها، وأنها ستدفع ثمن هذا الانتقام غاليا.
وكيف لهم أن يرتابوا وقد حلف أبو بكر ليقتلن في كل قبيلة من المشركين بمن قتلوا من المسلمين وزيادة، وهو لا محالة فاعل متى عاد أسامة وآن لجيش المسلمين أن يأخذ هؤلاء الآثمين بذنوبهم.
هرع المسلمون من كل قبيلة يؤدون الزكاة إلى خليفة رسول الله على أثر انتصاره بذي القصة، وكان أول الذين يؤدون الزكاة صفوان والزبرقان من رؤساء بني تميم، وعدي بن حاتم الطائي عن قومه من طيء، واستقبل الناس هؤلاء السفراء عن عشائرهم في بشر أي بشر، وكان الناس يقول بعضهم لبعض إذا طلع أحدهم: هذا نذير، فيقول أبو بكر: «بل هو بشير، وهو حام ليس بوان.» ويجيب الناس أبا بكر يقولون: «طالما بشرت بالخير!»
لم يكن أبو بكر غالبا إذ دعا هؤلاء حماة ومبشرين بالخير، فقد كان المسلمون بالمدينة وفيما جاورها في حاجة يومئذ إلى سند يشد أزرهم بعد الذي رأوا من خطر يوشك أن يهدد كيانهم، روي عن عبد الله بن مسعود أنه قال: «لقد قمنا بعد رسول الله
صلى الله عليه وسلم
مقاما كدنا نهلك فيه لولا أن الله من علينا بأبي بكر أجمعنا على ألا نقاتل على ابنة مخاض وابنة لبون، وأن نعبد الله حتى يأتينا اليقين، فعزم الله لأبي بكر على قتالهم، فوالله ما رضي منهم إلا بالخطة المخزية أو الحرب المجلية، فأما الخطة المخزية فأن يقروا بأن من قتل منهم في النار ومن قتل منا في الجنة، وأن يدوا قتلانا، وأن نغنم ما أخذنا منهم، وأن ما أخذوا منا مردود علينا، وأما الحرب المجلية فأن يخرجوا من ديارهم.»
وإن الناس لفي طمأنينتهم بالمدينة إلى نصر الله أبا بكر، وقد جاء إليهم المسلمون من مختلف القبائل بالزكاة؛ إذ أقبل أسامة عائدا من أرض الروم غانما مظفرا يسوق أمامه غنائمه ويلحق به جيشه، ويستقبلهم أبو بكر وكبار الصحابة بالجرف، ويحف الناس بهم في أثر الصديق وأصحابه ينشدون من حولهم أغاني العزة والنصر، وذهب أسامة من فوره إلى المسجد، فركز اللواء الذي عقده له رسول الله، وصلى شكرا لله على ما نصره وأعز بجيش المسلمين كلمة الحق ودين الهدى.
ما هذا كله؟ أليست هي المعجزة أراد الله أن يتم بها لدينه! وهل تتضافر الأقدار بمحض المصادفة هذا التضافر الذي دوى في أنحاء شبه الجزيرة، فشد من عزائم المسلمين في كل قبيلة، ورفع من رءوسهم في وجه عدوهم فما يدري مرتد ما يقول لهم!!
ورأى أبو بكر في حصافته ودقة تقديره الأمور ألا يريح أعداءه وأن يضاعف ذلتهم، فقال لأسامة وجنده: استريحوا وأريحوا ظهوركم. ثم استخلف أسامة على المدينة، ونادى في رجاله الأولين بالخروج معه إلى ذي القصة، وناشده المسلمون قائلين: «ننشدك الله يا خليفة رسول الله أن تعرض نفسك؛ فإنك إن تصب لم يكن للناس نظام، ومقامك أشد على العدو، فابعث رجلا، فإن أصيب أمرت آخر.» لكن أبا بكر كان إذا اعتزم أمرا لم يرجع عنه؛ لذلك قال لهم: «لا! والله لا أفعل، ولأواسينكم بنفسي.» وخرج ومن حوله الميمنة والميسرة والساقة، كما خرج من قبل، حتى نزل على أهل الربذة بالأبرق فيما وراء ذي القصة، هناك قاتل عبسا وبني ذبيان وبني بكر فغلبهم وأجلاهم عن مواقعهم، وكانت الأبرق في ملك بني ذبيان، فلما جلوا عنها أعلن أبو بكر أنها أصبحت في ملكه وملك أصحابه، وقال: «حرام على بني ذبيان أن يتملكوا هذه البلاد وقد غنمناها الله.» وبقيت هذه الأماكن من بعد يحتلها المسلمون، فلم يرض أبو بكر أن يردها إلى بني ثعلبة حين جاءوا إليه بعد أن استقرت الأمور يريدون العود فيها إلى منازلهم.
تمت هزيمة الثائرين الذين أرادوا أن يمنعوا الزكاة، وتمت هذه المرة والمدينة في منعة أي منعة بجيش أسامة، وفي رخاء بما جاء به من الغنائم، وبما حمل إليها من زكاة المسلمين الذين آتوا الزكاة منذ انتصر خليفة رسول الله.
أفما آن لبني ذبيان وعبس وغطفان وبني بكر وغيرهم من القبائل القريبة من المدينة أن ترجع عن انتقاضها، وأن تذعن لأبي بكر وتعلن الإسلام لأمر الله ولخليفة رسول الله؟ لقد تحطمت الثورة التي قام بها العنسي في اليمن، ولقد انتصر المسلمون على تخوم الروم، ولقد بدا أبو بكر في ثوب من قوة الإيمان لا غالب له، وهذه القبائل كانت إلى أن اختار الله إليه رسوله مسلمة صادقة في دينها، فخير لها أن تعود إلى حظيرة الإسلام وأن تمد يدها إلى الصديق بالطاعة، وأن تكون معه على عدو الله وعدوه، ذلك ما يوجبه العقل وما يقضي به منطق الحوادث، فأولئك المسلمون من المهاجرين والأنصار هم الذين تغلبوا على أهل شبه الجزيرة جميعا بقوة إيمانهم؛ وهم اليوم في قوة لم تكن لهم أيام بدر والغزوات الأولى في عهد الرسول، فمكة معهم، والطائف معهم، وسلطانهم معترف به في مختلف البقاع، ثم إن من أهل هذه القبائل الثائرة بأبي بكر مسلمين إن استطاعت القبائل أن تفتن بعضهم فلا سلطان لها على الأعزة منهم، مخافة الثارات والفتن التي تنجم عن تعصب البطون والأفخاذ لذوي المكانة فيها، فأذعنت لحكم العقل وسمعت لحجة المنطق.
كلا! بل أخذتها العزة بالإثم، غرها بالله الغرور، وصدق عليها المثل: العناد يورث الكفر، لذلك جلت عن مواطنها وانحازت إلى طليحة بن خويلد المتنبئ في بني أسد وكفرت بنعمة الله عليها بالإسلام، ولم يستطع المؤمنون الذين أقاموا على دين الله بينها أن يقاوموا عنادها وكفرها، فنزح منهم من نزح معها كارها برما لا يملك من أمر نفسه شيئا، وقوى انحيازها بأس طليحة ومسيلمة وقوى روح التمرد في اليمن ، لذلك بقي أبو بكر في موقفه الأول من العزم على مقاتلتهم حتى يتم أمر ربك، ولو أن هذه القبائل أذعنت لحكم العقل وأصاخت لإملاء المنطق لضعضع أمرها من عزم طليحة وأشباهه، ولأسرعت شبه الجزيرة إلى حمى الإسلام والسلام.
ولست تجد تعليلا لهذا العناد ولهذا الانقلاب عن الإسلام إلا ما قدمنا من تعصب القبائل وحرصها البدوي على سلطانها، ومن المغالاة في ذلك إلى حد لا يكبح من جماحه غير البأس، فإذا كانت قد ردت على أعقابها حين حاولت مهاجمة المدينة، أو كانت قد أجليت عن بعض منازلها من بعد، فطبيعتها البدوية تدعوها إلى الثأر لنفسها، ولتثأر لنفسها انضمت إلى بني أسد وإلى طليحة، لعلها تجد في عونهما ما يرفع عنها عار الذلة، وما يرد إليها شيئا من الكرامة.
فأما أبو بكر فكان قد سما فوق الاعتبارات القبلية وما يتصل بها، وتوجه بكل قلبه ورأيه وعزيمته إلى تنفيذ الخطة التي رسمها رسول الله، تلك سياسته التي أعلنها يوم بويع، والتي سار عليها إلى أن لقي ربه.
الفصل السادس
التهيؤ لحروب الردة
هزم أبو بكر عبسا وذبيان وبني بكر ومن انضم إليهم وأجلاهم عن مواقعهم بالأبرق، فانحازوا إلى طليحة بن خويلد الأسدي ببزاخة، وقد أعلن أبو بكر أن الله غنمه هذه البلاد فلن يردها إلى أصحابها، وأنه جعل الأبرق لخيول المسلمين، وأرعى سائر بلاد الربذة الناس وجعلها صدقات للذين آمنوا، ورجع الصديق إلى المدينة وهو يفكر في الوسيلة التي يقضي بها على الذين ارتدوا عن الإسلام القضاء المبرم، فما كان ليذرهم في شتى الأنحاء من شبه الجزيرة يثورون به وبدين الله، وما كان ليصالحهم أو يوادعهم قبل أن يثوبوا إلى الله وأن يرجعوا مسلمين.
وأقام بالمدينة، حتى إذا اطمأن إلى أن جيش أسامة جم خرج به إلى ذي القصة فوزع الجند أحد عشر لواء، جعل على كل لواء منها أميرا، ثم أصدر إلى كل منهم أمره أن يستنفر من يمر به من المسلمين أولي القوة وأن يسير لقتال المرتدين.
1
احتفظ أبو بكر للمدينة بقوة تحميها كانت دون كل الألوية عددا، ذلك أن المدينة كانت يومذاك بمأمن من غارة المغير، وكانت في رخاء زاد أهلها اطمئنانا للحياة، وكيف لقبيلة أن تغير عليها والغارات توجه منه إلى كل صوب، وقد تداول سمع الناس من أنباء جندها المظفر وما له من الأيد والبسالة ما جعل دفع هذ الجند غاية ما يطمع فيه الثائرون بها!
ومن يومئذ أقام أبو بكر بالمدينة لم يبرحها، ولم يكن ذلك رغبة منه عن مشاركة المسلمين في مواقعهم، بل لأن المدينة أصبحت مكان القيادة العامة للجند كله، والمرجع الذي تصدر منه الأوامر بالتحرك من مكان إلى آخر، فقد كان مما أمر به أبو بكر قواده ألا ينتقل أحدهم من حرب جماعة تغلب عليها إلى مواجهة أخرى لمقاتلتها حتى يستأذنه؛ وذلك إيمانا منه بأن وحدة القيادة في الحرب بعض ما تقضي به السياسة الحكيمة، وما يكفل الغلب والفوز.
وقد لاحظ جماعة من الأنصار أن أبا بكر جعل الأولوية للمهاجرين ولم يجعل لهم منها نصيبا، وهو إنما فعل هذا ليبقي أهل المدينة على قوات الدفاع عنها؛ فهم أعلم بأمرها، وأحرص من غيرهم على الزود عن حياضها، أما ما ظنه بعضهم من أنه استبقاهم حذرا منهم بعد الذي أبدوه في سقيفة بني ساعدة فلا مسوغ له.
فهذه الألوية إنما عقدت لقتال المرتدين، ولم يكن الأنصار دون المهاجرين إيمانا بالله ورسوله، فالحذر من ناحيتهم في هذا القتال لا مسوغ له، ولو مثل هذا التأويل ساغ في شأن الأنصار لساغ كذلك في شأن كبار المهاجرين أمثال علي، وطلحة، والزبير، ممن أقاموا كما كما أقام عمر بن الخطاب بالمدينة ليشيروا على أبي بكر، فيكون مركز القيادة العامة قويا بهم وبما يضعون من خطط ويدبرون من أمور.
ومم كان أبو بكر يحذر أو يخشى؟ إنه لم يتول الخلافة رغبة منه فيها، بل لأن أولي الرأي بالمدينة رأوه أصلحهم لها، ولقد أبدى منذ تولاها من التقدير لأعبائها ما يشهد بأنه قبلها مضحيا في سبيل الله، كان مما قاله وهو يخطب الناس بعد قليل من تمام بيعته: «أما بعد، فإني وليت هذا الأمر وأنا له كاره ووالله لوددت أن بعضكم كفانيه!» وخطب مرة فقال بعد أن حمد الله وأثنى عليه: «إن أشقى الناس في الدنيا والآخرة الملوك.» فرفع الناس رءوسهم دهشا فقال: «ما لكم أيها الناس! إنكم لطعانون عجلون، إن من الملوك من إذا ملك زهده الله فيما بيده، ورغبه فيما بيد غيره ... فهو كالسراب الخداع، جذل الظاهر، حزين الباطن.» وكان منزل أبي بكر بالسنح عند زوجته حبيبة بنت خارجة منزلا بدويا صغيرا لم يغير منه ولا غير من منزله بالمدينة بعد ما بويع، بل أقام به ستة أشهر يغدو على رجليه من السنح إلى المدينة، وربما ركب فرسا له، وكان يتجر في الثياب، فلما رأى أعباء الدولة أشق من أن تتفق والتجارة قال: «لا والله ما يصلح أمر الناس والتجارة! وما يصلح لهم إلا التفرغ والنظر في شأنهم، ولا بد لعيالي ما يصلحهم.» وترك التجارة ووظف له من بيت مال المسلمين ما يصلحه ويصلح عياله، فلما حضرته الوفاة قال: «ردوا ما عندنا من مال المسلمين فإني لا أصيب من هذا المال شيئا، وإن أرضي بمكان كذا للمسلمين بما أصبت من أموالهم.» قال عمر بن الخطاب وهو يستولي على هذه الأرض بعد ما استخلف: «لقد أتعب أبو بكر من بعده.»
رجل ذلك شأنه مم يحذر؟! وما كان عسى أن يحذر يوم عقد الألوية الأحد عشر وكانت مكانته قد توطدت بين المسلمين، بل بين العرب جميعا، بما أبدى من حزم وحسن رأي وصدق إيمان وحرص على التضحية كانت كلها بعض صفاته في جميع أدوار حياته، ثم بلغت أوج قوتها وصفائها في هذه الآونة التي جلل الشيب فيها رأسه بعد أن تخطى الستين وتولى خلافة رسول الله، لذلك لم يخامر أحدا الريب في مقاصده، ولم يتردد أحد في تنفيذ ما أمر به.
ولقد كان اللواء الذي عقده لخالد بن الوليد أمنع الألوية الأحد عشر وأقواها، وكان به خيرة المقاتلة من المهاجرين والأنصار، ولعل خالدا هو الذي اختارهم، وسترى من بعد أنهم أبلوا في حروب الردة خير بلاء، ثم كان لهم في حروب العراق والشام بلاء لا تبليه الأيام، ولا يجني عليه النسيان.
ولا عجب أن يكون ذلك شأن لواء على رأسه خالد بن الوليد، فقد كان خالد عبقريا في الحرب لا يغلب، آتاه الله موهبتها، كما آتى هذه الموهبة الإسكندر الأكبر، وجنكيز خان، ويوليوس قيصر، وهانيبال، ونابليون، كان بطلا مقداما وفارسا مغامرا، ثم كان له من سلامة الحكم وسرعته ما يجنبه كل خطر للمغامرة أو الإقدام، وكان مداورا في الحرب ألهم سرها وتجلى له ما جل ودق من أمرها، وكان الناس جميعا يشهدون له بهذا، وقد سماه رسول الله «سيف الله» حين تولى أمر الجيش «بمؤتة» بعد مقتل زيد بن حارثة، وجعفر بن أبي طالب، وعبد الله بن رواحة، فداور به في وجه الروم ثم ارتد به سالما ينتصر ولم يلحقه عار الهزيمة، وبقي خالد سيف الله في كل وقائعه إلى أن مات.
وكان خالد قبل إسلامه بطل قريش المغوار وفارسها المعلم، لذلك كان في وقائع بدر وأحد والخندق على جيش المشركين، وكان له من صفات الجندي خشونة في الطبع، وميل إلى الشدة والبطش وتسرع لولا سلامة حكمه لأضر به، من ثم كان لا يهاب الأقران ولا يخشى أحدا، لما ذهب رسول الله إلى مكة في عمرة القضاء بعد عهد الحديبية ثم عاد إلى المدينة، وقف خالد بن الوليد في جمع من قريش يقول: «لقد استبان لكل ذي عقل أن محمدا ليس بساحر ولا شاعر، وأن كلامه من كلام رب العالمين، فحق على كل ذي لب أن يتبعه.» ودار لذلك بينه وبين عكرمة بن أبي جهل حوار لم يبلغ العنف فيه مبلغا تخشى مغبته، ولم يكن أبو سفيان حاضرا هذا الاجتماع، فلما بلغه إسلام خالد بعث في طلبه وسأله أحق ما بلغه عنه، أجابه خالد إنه حق، وإنه أسلم، وشهد برسالة محمد؛ فغضب أبو سفيان وقال: «واللات والعزى لو أعلم أن الذي تقول حق لبدأت بك قبل محمد.» وكان جواب خالد في حدة المعتز بنفسه: «فوالله إنه لحق على رغم من رغم.»
ولحق خالد بالمدينة، فلم يلبث أن سمت مكانته بين المسلمين بوصفه محاربا، فلما كانت مؤتة كان سيف الله فيها، ثم كان سيف الله من بعد؛ فتح الله به العراق والشام وأذل به فارس والروم الإمبراطوريتين العظيمتين صاحبتي الأمر والنهي في شئون العالم يومئذ، فلا عجب أن يختاره أبو بكر أميرا على لوائه الأمنع، ولا عجب أن يكون لخالد في حروب الردة وما تلاها ما سنقص عليك نبأه من بعد.
هل سير أبو بكر هذه الألوية الأحد عشر للقتال أول ما تم تجهيزها؟ وهل سيرها كلها دفعة واحدة؟ ذلك ما يذكره بعض الرواة وإن دلت الوقائع على خلافه، لكنه على كل حال لم يسير أولها حتى بدأ بهجوم سلمي مهد به لها خير تمهيد، فقد أذاع في الناس من أهل شبه الجزيرة جميعا كتابا تحدث فيه إلى من بلغه هذا الكتاب من عامة أو خاصة، أقام على الإسلام أو رجع عنه، وقد بدأ هذا الكتاب بحمد الله والثناء عليه، وذكر بعثه محمدا بالحق من عنده بشيرا ونذيرا، ثم أشار إلى وفاة رسول الله بعد أن بلغ ما أمره الله أن يبلغه للناس، وأن الله قد بين ذلك لأهل الإسلام فقال:
إنك ميت وإنهم ميتون
وقال:
وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفإن مت فهم الخالدون
وقال للمؤمنين:
وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين (آل عمران: 144) وإنما أراد الصديق بذكر هذه الآيات أن يدفع بها ما ثار من الفتنة بقول الذين قالوا: لو أن محمدا كان رسولا حقا ما مات، وبعد أن فرغ من ذلك ومن الإيصاء بتقوى الله والاعتصام بدينه قال: «وقد بلغني رجوع من رجع منكم عن دينه بعد أن أقر بالإسلام وعمل به، اغترارا بالله (عز وجل)، وجهالة لأمره ، وإجابة للشيطان ... وإني قد أنفذت إليكم فلانا في جيش من المهاجرين والأنصار والتابعين بإحسان، وأمرته ألا يقاتل أحدا ولا يقتله حتى يدعوه إلى داعية الله، فمن استجاب وأقر وكف وعمل صالحا قبل منه وأعانه عليه، ومن أبى أن يقاتله على ذلك، ولا يبقي على أحد منهم قدر عليه، وأن يحرقهم بالنيران ويقتلهم كل قتلة، ويسبي النساء، والذراري، ولا يقبل من أحد إلا الإسلام، فمن آمن فهو خير له، ومن تركه فلن يعجز الله، وقد أمرت رسولي أن يقرأ كتابي في كل مجمع لكم، والداعية الأذان.» لذلك كان المسلمون إذا أذنوا فأذن الناس كفوا عنهم، وإن لم يؤذنوا سألوهم ما هم عليه، فإن أبوا عاجلوهم.
أذاع أبو بكر هذه الرسالة في مختلف الأنحاء من شبه الجزيرة، وإنما ابتغى بها أن يدع للمترددين فرصة للتفكير؛ فإنه قد انساق كثيرون وراء الدعاء مخافة ما يصيبهم إذا أقاموا على إسلامهم، أو أمسكوا على الأقل عن نصرة زعماء الردة، بذلك تحقن دماء، وبه يتضعضع عزم كثيرين فلا يقاومون، وسترى أن هذا الأثر الذي قصد إليه أبو بكر من هجومه السلمي قد تحقق منه حظ عظيم.
على أن أبا بكر لم يقصد من هجومه ذاك مداورة يقف عندها، فإن أنتجت أثرها فذاك، وإن لم تنتجه التمس وسيلة غيرها لهجوم سلمي آخر، كلا! بل لقد كان جادا كل الجد في كل كلمة من كلمات كتابه، وفي كل صورة من صور التهديد التي ذكرها فيه، فهو لم يلبث حين أتم هذا الكتاب يعذر فيه للمرتدين وينذرهم أن كتب إلى أمراء الألوية عهدا لقتال من رجع عن الإسلام أن يجاهدوهم بعد أن يعذروا إليهم فيدعوهم بدعاية الإسلام، فإن أجابوا الأمير على جند المسلمين أمسك عنهم، وإن لم يجيبوه شن غارته عليهم حتى يقروا له، ثم ينبئهم بالذي عليهم والذي لهم، فيأخذ ما عليهم، ويعطيهم ما لهم، لا ينظرهم، ومن يجب الدعوة لم يكن لأحد عليه سبيل، وكان الله حسيبه بعد فيما استسر به، أما من لم يجب داعي الله فليقتل وليقاتل حيث كان، ولا يقبل منه إلا الإسلام، وليقتل بالسلاح والنيران.
بهذين الكتابين وبالألوية التي عقدها أبو بكر تم التجهيز لحروب الردة، وأنت ترى في هذا كله صورة صحيحة للسياسة الحازمة التي اتبعها أبو بكر في خلافته، وقد يحسبها البعض عجبا من أبي بكر مع ما عرف عنه من لين الطبع ودماثة الخلق والحرص على تألف القلوب بالحسنى، لكنها ليست عجيبة البتة وإيمان الصديق بالله ورسوله لم يعرف التردد إليه سبيلا، والطبائع الرقيقة تأبى العنف ولا تميل إلى الشدة في مألوف ما بين الناس من تجارة الحياة، فأما إن اتصل الأمر بشيء يؤمن أصحاب هذه الطبائع به، فلن تقاس بشدتهم شدة ولا بقوتهم قوة، وكأنما ركب في الفطرة الإنسانية مقدار من الشدة واللين يتقارب قدره في كل فرد من الناس جميعا، ثم يتفاوتون في تقدير الأوقات والمناسبات التي تجب فيها الشدة أو يجب فيها اللين، فمنهم من تغلب الشدة طبعه أكثر الوقت، فإذا رأيته حسبته لا يلين أبدا، ومنهم من تغلب الرقة طبعه أكثر الوقت، فإذا رأيته حسبته لا يشتد أبدا، والواقع أنك ترى من تغلب الشدة طبعه يلين أحيانا، فإذا به يبلغ في رقته وفي لينه حدا لا يجده الإنسان فيمن ألف منهم لين الجانب ورقة الطبع، والذين تغلبهم الرقة معظم الوقت وتبلغ منهم حد التألم للغير والبكاء لشقائه، يصلون من البأس والبطش أحيانا إلى حد لا يجده الإنسان فيمن كانت الشدة بعض طبعهم.
أفكان يظن أحد أن يقف أبو بكر من بعث أسامة ذلك الموقف الحاسم مخالفا كبار المسلمين، مهاجريهم والأنصار؛ أو أن يشتد في أمر الذين منعوا الزكاة لا يصده عن قتالهم غياب جيش المسلمين عن المدينة؟! وسترى له من بعد مواقف كهذه تثير عجبك وإعجابك لبأس رجل كله الرقة والرفق ولين الجانب.
وقد بينا تأويل ذلك من قبل حين تحدثنا عن إيمان الصديق بالله ورسوله، كان هذا الإيمان عنده هو الحق لا حق غيره، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وكان حقا كله، فصله الله في كتابه الذي أوحاه إلى محمد عبده ورسوله، فإذا جاز أن يساوم الناس بعضهم بعضا على أمر في الحياة، فلن تتناول المساومة هذا الحق المتصل بالله جل شأنه، والذي لا يملك أحد من أمره إلا التسليم به والإذعان له، فمن حدثته نفسه بالخروج عليه فلا شأن لأبي بكر معه إلا أن يقاتله حتى يرده إلى الحق أو يقتله، وهو يقاتله ولو كان الصديق وحده، ولو لم يبق في القرى غيره، كذلك كان في أمر من منعوا الزكاة، فأحر به أن يكونه في أمر من تمت ردتهم أو حدثتهم أنفسهم أن يؤمنوا برسول غير محمد رسول الله.
آن لأبي بكر بعد أن تم التهيؤ لقتال المرتدين أن يبدأ هذه الحرب الحاسمة في حياة الإسلام، فلقد كانت حربا حاسمة لا ريب، ولئن لم ينتصر المسلمون فيها ليكونن ذلك النذير بعود العرب إلى جاهليتهم الأولى، لكن الله جل ثناؤه قدر أن يظهر دينه على الدين كله، وجعل أبا بكر أول آية له تطالع الناس بما أراد وقدر؛ لذلك لم يعرف تاريخ الإسلام ولن يعرف حروب ردة كالتي واجهها أبو بكر فتغلب بإيمانه عليها، ثم كانت طليعة انتشار الإسلام في الخافقين.
الفصل السابع
طليحة وغزوة البزاخة
باءت عبس وذبيان وبنو بكر ومن آزرهم في مهاجمة المدينة بعار الهزيمة، فانحازت إلى طليحة بن خويلد الأسدي، وانضم إلى هؤلاء قبائل طيء وغطفان وسليم وما جاورها من أهل البادية الواقعة شرق المدينة وإلى شمالها الشرقي، وكانوا جميعا يقولون ما يقوله عيينة بن حصن ومن معه من بني فزارة: «نبي من الحليفين - يعنون أسدا وغطفان - أحب إلينا من نبي من قريش، وقد مات محمد وطليحة حي.»
ولم يكن هؤلاء في ريب من أن أبا بكر سيتجهز لهم ويحاربهم، لكنهم أصروا على مناهضته، وعلى متابعة طليحة، تمردا على سلطان المدينة، وحرصا على استقلالهم، واستكبارا أن يؤتوا الزكاة؛ إذ هم يرونها إتاوة يؤديها التابع للمتبوع، وكان طليحة يقيم بسميراء، ثم انتقل منها إلى بزاخة يحسبها أمنع موقعا وخيرا في الحرب مكانا.
وطليحة لم يتنبأ بعد موت رسول الله، بل تنبأ في العهد الأخير من حياته، شأنه في ذلك شأن الأسود العنسي ومسيلمة، وهو لم يدع العرب إلى العودة لعبادة الأصنام، كما لم يدعهم غيره من المتنبئين إلى العودة لعبادتها، لقد قضى محمد على هذه الوثنية في بلاد العرب قضاء مبرما، فامتدت دعوة التوحيد إلى أنحاء شبه الجزيرة جميعا، واستقرت في النفوس استقرارا جعل التفكير في الأصنام ضربا من الهذيان يستحيي منه كل إنسان، وإنما زعم أولئك المتنبئون أنهم يوحى إليهم كما يوحى إلى محمد، وأن الملك يأتيهم من السماء كما يأتي محمدا، وقد حاول بعضهم محاكاة القرآن فيما أوهم أنه يوحى إليه، وحفظت الروايات لنا صورا لما زعموا من ذلك يصعب القطع بصحة نسبتها، فهو من السخف بحيث يتعذر على أي إنسان أن يتصور كيف يرضى متنبئ إذاعتها باسمه في الناس، وكيف يقبل الناس عليه أو يتبعونه حين يرونه ينسب هذا الهذر إلى الوحي ويدعي أنه من كلام رب العالمين، وحسبك أن تتلو ما قيل إن طليحة زعم أنه أوحي إليه لترتاب في أن يدعيه رجل تجتمع العرب حوله، ثم يكون له من بعد في الإسلام مواقف لا يزال يحفظها التاريخ عن وقائع الفتح في إبان عهد عمر بن الخطاب، ومما تذكر الروايات عما زعم طليحة أنه أوحي إليه قوله: «والحمام واليمام، والصرد الصوام، قد صمن قبلكم بأعوام، ليبلغن ملكنا العراق والشام.»
لقد طالما قرأنا عن سجع الكهان في الجاهلية، وكلنا نذكر أن قريشا حاربت محمدا بأنه كاهن، وبأن ما يوحى إليه هو بعض هذا السجع، ولقد استبان لمن عاصروا النبي أن هذه الدعاية هراء حين توجه إلى القرآن، ثم استبان للعرب وللناس جميعا أن القرآن معجزة محمد، لن يستطيع الإنس والجن أن يأتوا بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا، ولقد كان طليحة كاهنا، كما كان الأسود العنسي كاهنا، أفهذا السجع الذي ادعوه وحيا كان من سجع الكهان؟! لئن صح ذلك لقد كان الكهان طرازا من المشعبذين أعجب طراز، ولقد كان ما ينسب إليهم من الحكمة مما يزري بالحكمة.
وسواء أصحت نسبة هذه الأقوال إلى طليحة أم لم تصح فإنه قام يدعو إلى آراء لم يحفظ لنا التاريخ منها شيئا يذكر، وكل ما يحدثنا به أنه أنكر الركوع والسجود في الصلاة، وقال: إن الله لم يأمر أن تمرغوا وجوهكم في التراب، أو أن تقوسوا ظهوركم في الصلاة، فإن يكن ما نسب إليه من ذلك صحيحا فلعله نقله عن الصلاة عند المسيحيين، وإنما ترجع قلة ما بقي لنا من آثار طليحة ومسيلمة وأضرابهما إلى مثل السبب الذي ترجع إليه قلة ما لدينا عن الأصنام؛ فقد عفى المسلمون الأولون على ذلك كله، ولم يفكر أحد منهم في تدوينه أو روايته، ولم يدون من بعد إلا ما عد تدوينه تأييدا للدين القيم، وأنت تعرف أن المسلمين لم يدونوا في الصدر الأول شيئا إلا ما كان من جمع أبي بكر كتاب الله، فأما جمع السنة والحديث فقد حدث بعد القرن الأول، وقد اقتضى العاملين عليه من المشقة ما لم يهونه إلا عظيم الرجاء في مثوبة الله عنه، فلا عجب وذلك هو الشأن أن تخامرنا الريبة في كثير من الروايات عن طليحة وغيره من المتنبئين، وبخاصة إذا لم تتفق هذه الروايات والمعروف من حياة العرب في حضرهم وبدوهم، ولم تتسق مع ما يتصل بها من الأحداث والشئون.
تنبأ طليحة في بني أسد، كما تنبأ الأسود في اليمن ومسيلمة في اليمامة، في حياة النبي، هنالك وجه محمد ضرار بن الأزور إلى عماله على بني أسد يأمرهم بالقيام على كل من ارتد، ونزل المسلمون واردات، ونزل طليحة ومن معه سميراء، وكان عدد المسلمين يزداد، وعدد المرتدين ينقص، لتواتر الأنباء عن نصر المسلمين في شتى الميادين، حتى هم ضرار بالسير إلى طليحة لمقاتلته، ولقد سبقه أحد المسلمين يريد أن يريح من هذا المتنبئ فضربه بالسلاح فنبا عنه ولم يصبه، وأسرع المحيطون بطليحة فأذاعوا هذا الأمر في الناس وجعلوا يقولون: إن السلاح لا يجوز في نبيهم ، وإن المسلمين ليتجهزن لمواجهة هذا الموقف إذ جاءهم النبأ بوفاة رسول الله، فاضطربوا وتناقص عددهم، وهرع الكثيرون منهم إلى طليحة يتابعونه ويؤيدونه، فلما انحازت إليه عبس وذبيان بعد أن هزمهم أبو بكر بذي القصة استغلظ أمره وظن أن لن يغلب.
اجتمع إلى عبس وذبيان من القبائل ما زاد طليحة قوة، ذلك أن أسدا وغطفان وطيئا كان بينهما حلف في الجاهلية من قبل أن يبعث رسول الله، ثم إن أسدا وغطفان اجتمعتا على طيء فأجلوها عن ديارها، وانقطع بذلك ما بينها وبينهما، فلما مات رسول الله قام عيينة بن حصن الفزاري في غطفان فقال: «ما أعرف حدود غطفان منذ انقطع ما بيننا وبين بني أسد، وإني لمجدد الحلف الذي كان بيننا في القديم ومتابع طليحة، والله لأن نتبع نبيا من الحليفين أحب إلينا من أن نتبع نبيا من قريش، وقد مات محمد وبقي طليحة.» وتابع عيينة قومه على رأيه، فاشتدت بهم شوكة المرتدين حتى فر من كان بينهم من المسلمين إلى المدينة.
اجتمعت هذه القبائل في بزاخة معلنة ردتها وخروجها على سلطان المدينة، وتهيأ أبو بكر فعقد الألوية لقتالهم، وبعث إليهم، كما بعث إلى غيرهم من أهل شبه الجزيرة، بكتابه يهددهم فيه بالقتال والقتل إن لم يعودوا إلى حظيرة الإسلام، وكان خالد بن الوليد هو الموكل بطليحة وبمالك بن نويرة من بعد، فهل أسرع بالسير إليه ليناجزه ويناجز معه كل هذه القبائل؟ كلا! بل أذاع أبو بكر أنه خارج بنفسه على رأس جيش إلى خيبر حتى يلاقي خالدا فيعينه على جموع المرتدين ثم إنه طلب إلى عدي بن حاتم، وكان قد جاء بالزكاة إلى المدينة كما أسلفنا، أن يذهب إلى قومه طيء يخوفهم عاقبة أمرهم إذا أصروا على ردتهم، ولم يقصد خالد إلى البزاخة من فوره، بل جنح إلى أجأ وأظهر أنه خارج إلى خيبر لينضم إلى جيش الخليفة ثم ينصب الجيشان على البزاخة، وبلغ عدي قومه وقد ذاعت هذه الأنباء في الناس.
وتحدث عدي إلى بني طيء يدعوهم ليرجعوا إلى الإسلام، وليكونوا مع أبي بكر صفا، قالوا: «لا نتابع أبا الفصيل أبدا.» وأبو الفصيل كنية أراد خصوم الصديق أن يسخروا بها من كنيته أبي بكر، هنالك قال عدي: «لقد أتاكم قوم ليبيحن حريمكم، ولتكننه بالفحل الأكبر، فشأنكم به.» وذكر لهم من عدة المسلمين وعددهم ما روعهم وأفزعهم وأراهم الفصيل فحلا حقا، وأنى لهم أن يرتابوا في حديث عدي وقد هزم أبو بكر عبسا وذبيان ومن ناصرهما حين كانت جيوشه بعيدة عنه على تخوم الروم؟! وفيم يقاتلون أبا بكر وعدي لا يطلب إليهم إلا أن يقيموا على ما كانوا عليه في عهد الرسول؟! وهل تراهم يعرضون أنفسهم وأبناءهم ونساءهم لما عرف عن خالد بن الوليد من شدة وقسوة لغير شيء إلا أن يستبدلوا طليحة بأبي بكر؟!
تحدث بعضهم إلى بعض في هذا، فرأوا أن عديا على الحق، وأنه يخلص لهم الرأي ويصدقهم النصيحة، عند ذلك توجهوا إليه بالقول: «إذن فاستقبل الجيش فنهنهه عنا حتى نستخرج من لحق بالبزاخة منا؛ فإنا إن خالفنا طليحة وهم في يديه قتلهم وارتهنهم.» وفرح عدي بما بلغ من إقناعهم، وكر راجعا إلى السنح فاستقبل خالدا وقال له: «يا خالد! أمسك عني ثلاثا يجتمع لك خمسمائة مقاتل لتضرب بهم عدوك، وذلك خير لك من أن تعجلهم إلى النار وتشاغل بهم.» ولم يكن خالد ليخفى عليه، وهو الخبير النابغة في الحرب، أن انسلاخ طيء عن طليحة يضعفه ويفت في عضده، لذلك أمسك ثلاثة أيام عن السير، في حين عاد عدي إلى قومه فألفاهم أرسلوا إلى إخوانهم بالبزاخة أن يأتوهم مددا يعاونهم على جند المسلمين قبل أن يهاجموا طليحة، وراقت هذه الحجة طليحة، فتركهم ينصرفون إلى طيء، فلما تحدثوا إلى قومهم وتحدث إليهم قومهم برأي عدي اقتنعوا وعاد عدي بإسلامهم إلى خالد.
وارتحل خالد نحو الأنسر يريد جديلة، وتعرض له عدي كرة أخرى فقال له: «إن طيئا كالطائر، وإن جديلة أحد جناحي طيء، فأجلني أياما لعل الله أن ينتقذ جديلة كما انتقذ الغوث.» ولم يتردد خالد في إجابته إلى ما طلب، فذهب إلى جديلة، فلم يزل بهم حتى بايعوه، فجاء خالدا بإسلامهم، ولحق بالمسلمين منهم ألف راكب، يقول المؤرخون: فكان عدي خير مولود ولد في أرض طيء وأعظمه عليهم بركة.
بلغت أنباء طيء وجديلة طليحة وهو فيمن بقي معه بالبزاخة، ولست في حاجة إلى أن أذكر ما وهنت هذه الأنباء من عزمه وأضعفت من قوته، لكنه أصر مع ذلك على موقف المقاومة إذا هوجم، وما كان له أن يفعل غير ذلك وإلى جانبه عيينة بن حصن على رأس سبعمائة من فزارة، وهو أشد الناس حنقا على أبي بكر وحرصا على توهين سلطان المسلمين، فعيينة هو الذي كان على رأس فزارة في غزوة الأحزاب: وكان صاحب كتيبة من الكتائب الثلاث التي حاولت مهاجمة المدينة بعد اتفاق الأحزاب مع بني قريظة، ثم إنه هو الذي أراد الإغارة على المدينة بعد قليل من هزيمة الأحزاب فصده رسول الله، وحمله على الفرار في غزاة ذي قرد، فإن يكن قد أسلم بعد مواقفه تلك، فإنما أسلم مذعنا للقوة التي لا تغلب، أما وقد قبض الله رسوله إليه فلن يرضى عن سلطان أبي بكر. لن يستطيع طليحة إذن أن يرجع عن نبوته بعد أن غادرته طيء وجديلة وهو يعلم أن رجوعه يقلب عليه عيينة ويثير عليه كل من حوله، ويعرض حياته للخطر، فليقم حيث هو، ولينتظر خالد بن الوليد ومن معه، ثم ليكن الأمر بعد ذلك ما يكون.
وآن لخالد أن يتحرك لمقاتلة المرتدين، فأرسل طليعة له عكاشة بن محصن وثابت بن أقرم الأنصاري، وكانا من سادات العرب وأبطالها ذوي الشوكة، ولقي عكاشة وثابت جبالا أخا طليحة
1
فقتلاه، فلما بلغ مقتله طليحة خرج مع أخيه الآخر سلمة ينظران ويسألان، ولم يمهل سلمة ثابتا حين رآه أن قتله، وثبت عكاشة لطليحة، فاستعان بأخيه سلمة وقتلا عكاشة ثم رجعا أدراجهما.
وأقبل خالد بن الوليد بالناس، فلما رأوا صاحبيهم قتيلين جزعوا وقالوا: سيدان من سادات المسلمين وفارسان من فرسانهم! ورأى خالد ما بأصحابه من الجزع فآثر ألا يواجه بهم عدوهم حتى تطمئن نفوسهم، لذلك انحرف إلى طيء، واستنفر بمعونة عدي كل من استطاع أن يستنفره من رجالها، ورأى المسلمون عددهم يزداد وقوتهم تتضاعف بهذا العدد، فطابت بالحرب نفوسهم، فسار بهم خالد إلى بزاخة ليقضي على طليحة غير وان ولا متردد.
وكانت قيس وبنو أسد متجهزين حول طليحة للقتال، قال قوم من الطائيين الذين انضموا إلى جنود خالد: سألنا خالدا أن نكفيه قيسا فإن بني أسد حلفاؤنا، فقال: والله ما قيس بأوهن الشوكتين، اصمدوا إلى أي القبيلتين أحببتم، فقال عدي: لو ترك هذا الدين أسرتي الأدنى فالأدنى من قومي لجاهدتهم عليه، أفأنا أمتنع عن جهاد بني أسد لحلفهم! لا لعمر الله لا أفعل! فقال له خالد: إن جهاد الفريقين جميعا جهاد، لا تخالف رأي أصحابك، امض إلى أحد الفريقين، وامض بهم إلى القوم الذين هم لقتالهم أنشط، وكذلك قاتلت طيء قيسا، وقاتل سائر المسلمين بني أسد.
وكان عيينة بن حصن هو الذي يقود المعركة في جانب طليحة في حين كان طليحة يقيم في بيت من الشعر ملتفا في كساء له يتنبأ للناس، فلما حمي وطيس الحرب ورأي عيينة قوة خالد والمسلمين كر على طليحة يسأله: هل جاءك جبريل بعد؟ قال: لا. فرجع عيينة فقاتل، حتى إذا ازداد وطيس الحرب ضراما كر راجعا إلى طليحة يقول: لا أبا لك! أجاءك جبريل بعد؟ قال: لا والله، قال عيينة: حتى متى! والله لقد بلغ منا، ثم إنه رجع إلى الوطيس فرأى خيل خالد تكاد تحيط به وبأصحابه، فرجع إلى طليحة فزعا يكرر: هل جاءك جبريل بعد؟ قال: نعم. قال: فماذا قال لك؟ قال طليحة: إنه قال لي: «إن لك رحا كرحاه، وحديثا لا تنساه.» ولم يتمالك عيينة حين سمع الهذر أن صاح: قد علم الله أن سيكون حديث لا تنساه. ثم نادى في قومه: انصرفوا يا بني فزارة فإنه كذاب!
وانصرف الناس يولون الأدبار، ومر قوم بطليحة ينادونه: ماذا تأمرنا؟ وكان طليحة قد أعد فرسه عنده وهيأ بعيرا لامرأته النوار، فلما بصر بالناس يغشونه وينادونه قام فوثب على فرسه ثم حمل امرأته ونجابها، وهو يقول: «من استطاع أن يفعل منكم مثل ما فعلت وينجو بأهله فليفعل.»
كانت هذه خاتمة المقاومة التي حاول هذا المتنبئ أن يثبت بها لأبي يكر، بل كانت هذه خاتمة نبوته؛ فقد لحق بالشام وكذبه من قالوا من قبل بنبوته.
واستقر المقام بطليحة في كلب فنزل بها، وعاد إلى الإسلام حين بلغه أن القبائل التي تابعته قد عادت إلى الدين القيم، وخرج بعد ذلك إلى مكة معتمرا في خلافة أبي بكر، فمر بجنبات المدينة، فذكر بعضهم لأبي بكر مكانه؛ فقال: «ما أصنع به! خلوا عنه فقد هداه الله للإسلام.»
ولما استخلف عمر بن الخطاب أتى طليحة يبايعه؛ فقال له عمر: أنت قاتل عكاشة وثابت! والله لا أحبك أبدا! قال: يا أمير المؤمنين، ما يهمك من رجلين أكرمهما الله بيدي ولم يهني بأيديهما. فرضي عمر بيعته، ثم قال له: يا خدع، ما بقي من كهانتك؟ قال: نفخة أو نفختان، ثم رجع إلى قومه فأقام بينهم، حتى خرج إلى العراق فأبلى بها مع المسلمين أحسن بلاء.
انصرف عيينة بن حصن في قومه من بني فزارة وأعلن على ملأ من الناس أن طليحة كذاب، وفر طليحة على فرسه واصطحب امرأته النوار ونصح للناس أن يفروا، أفكان ذلك آخر النضال بين خالد بن الوليد والقبائل التي وقفت في صف طليحة، وبينه وبين القبائل المرتدة في الشمال الشرقي من شبه الجزيرة؟! قد يتبادر ذلك إلى الذهن، وبخاصة إذا عرفت أن بني أسد قوم طليحة عادوا إلى الإسلام ولم يكن قد أصيب في القتال منهم أحد، لكن الواقع أن خالدا بقي في عسكره بالبزاخة شهرا كاملا، وأنه قاتل من فلول القبائل من بقي على ردته، ومن اجتمع حول أم زمل يمالئها على عصيان أبي بكر وعلى الردة؛ كما قتل من اعتدى على المسلمين بالقتل، وبعث إلى المدينة بمن خرجوا على خليفة الرسول أمثال قرة بن هبيرة، والفجاءة السلمي، وأبو شجرة بن عبد العزى السلمي، فدخلوها أسرى حتى أنفذ أبو بكر فيهم أمره.
يجمل بنا قبل أن نقص نبأ أم زمل وسائر المرتدين فلول جيش طليحة، أن نقف هنيهة وأن نسأل: ما بال هؤلاء القوم لم يرجعوا إلى الإسلام كما رجع بنو أسد قوم طليحة وأعرف الناس به؟! أفلا يقتضيهم العقل بعد ما تبينوا كذبه أن يكونوا مع المؤمنين بنبوة محمد ورسالته؟ لقد أسلفنا جوابا على مثل هذا السؤال، فأكثر هؤلاء العرب إنما أذعنوا لنبوة محمد ولو يؤمنوا بها، وكثير منهم من رأى من عبادة الأصنام هزؤا فعدل عنها إلى عبادة الواحد الأحد، لكنهم رأوا فيما فرضه عليهم محمد من التكاليف بحكم هذه العبادة ما لا تطمئن إليه طبائعهم، فرأوا أن من الحق لهم أن يتحللوا منه، وقد صارحوا أبا بكر بهذا في أمر الزكاة؛ لأن حب الناس المال أقوى في نفوسهم من كل شيء غيره، لكنهم كانوا يودون لو تحللوا من الصلاة ومن سائر التكاليف التي فرضها الإسلام عليهم، وهم إنما اتبعوا طليحة، واتبعوا مسيلمة، واتبعوا غير هذين، ليحطوا عن عواتقهم ما فرضه الإسلام عليهم، فإذا ثبتوا بعد فرار طليحة وأرادوا مواجهة خالد فذلك لأنهم يأملون في نصر يجعل أبا بكر يصالحهم على النزول عن بعض هذه التكاليف، ويحقق لهم ما كانوا يرجونه من مصانعة طليحة.
وثم سبب آخر يتصل بنفسية البدو والأعراب ومن إليهم جعلهم لا ينفضون بفرار طليحة، فقد كانت بينهم وبين المهاجرين والأنصار ثارات قديمة من عهد الرسول تناسوها حين تغلب عليهم فأذعنوا لسلطانه وأظهروا الرضا بأمره، وإنما كان شأنهم في ذلك شأن المغلوب يرضى كارها، فإذا أتيحت له فرصة للثأر اقتنصها ولم يفتها، وهذه فرصة تهيأت تعيد للأذهان يوم الأحزاب وغزوة الخندق، ولقد كانت المدينة موشكة أن تفتح أبوابها للأحزاب لولا الريح الصرصر العاتية التي جعلتهم يولون منها فرارا ويمتلئون رعبا، فليهتبلوا هذه الفرصة التي أتاحتها المقادير لمواجهة خالد وليثبتوا له، لعلهم يكونون أحسن حظا مما كانوا على عهد محمد، وعلهم يستعيدون لقبائل البادية ذلك الاستقلال العزيز عليها بعد أن تقلص ظله أو كاد.
ولو أن القبائل كلها حركتها هذه العواطف البدوية لدق موقف خالد والذين معه، لكنك قد رأيت طيئا تنحاز مع من انحاز إلى طليحة، ثم لا تلبث حين يخاطبها عدي بن حاتم أن تعود إلى الإسلام، وأن تنضم إلى خالد وأن تحارب في صفه، وأن تدخل على طليحة من الفزع ما كان بين الأثر في هزيمته، ولقد حدث مثل ذلك بعد أن فر طليحة وانخذل عيينة في بني فزارة. كانت بنو عامر تقدم للردة رجلا وتؤخر أخرى، تنتظر ما يصير إليه أمر قيس وبني أسد، فلما هزمهم خالد ودارت عليهم دائرة السوء، أقبلت بنو عامر يقولون: ندخل فيما خرجنا منه، وبايعهم خالد على ما بايع عليه أهل البزاخة من أسد وغطفان وطيء قبلهم؛ فكان لعودهم إلى الإسلام أثره فيمن سواهم من القبائل، كما كان لعود طيء إلى الإسلام أثره في طليحة ومن انحازوا إليه.
ثم إن خالدا أخذ الذين قتلوا المسلمين من مختلف القبائل بشدة أورثت القلوب الرعب، فهو لم يقبل من غطفان وهوازن وسليم وطيء حين وادعهم إلا أن يجيئوه بالذين قتلوا وحرقوا ومثلوا وعدوا على المسلمين الذين كانوا بينهم حين ردتهم، فلما جيء بهم صفح عن الأذناب، وأخذ الزعماء منهم، وبينهم قرة بن هبيرة، فأوثقهم؛ ومثل بالذين عدوا على المسلمين، فأحرقهم بالنيران، ورمى بهم من الجبال، ونكسهم في الآبار، ورضخهم بالحجارة، وجعلهم عبرة لمن يعتبر، أما قرة بن هبيرة وعيينة بن حصن فبعث بهما مع طائفة من الأسرى إلى أبي بكر، وكتب إليه يقول: «إن بني عامر أقبلت بعد إعراض، ودخلت في الإسلام بعد تربص، وإني لم أقبل من أحد قاتلني أو سالمني شيئا حتى يجيئوني بمن عدا على المسلمين، وقد قتلت المعتدين كل قتلة، وبعثت إليك بقرة وأصحابه.»
ولم تأخذ أبا بكر في الذين قتلهم خالد شفقة أو رحمة، بل رأى فيهم أعداء الله وأعداء رسوله وأعداء دينه الحق، فكتب إلى خالد يقول: «ليزدك ما أنعم الله به عليك خيرا، واتق الله في أمرك؛ فإن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون، جد في أمر الله ولا تنثنين، ولا تظفرن بأحد قتل المسلمين إلا قتلته ونكلت به جهرة، ومن أصبت ممن حاد الله أو صاده ممن ترى في قتله صلاحا فاقتله.» ذلك ما كتبه أبو بكر رقيق القلب لين الطبع إلا فيما يغضب الله ورسوله، فلما بلغ كتابه خالدا أمعن في سياسة الإرهاب التي بدأها، وطال مقامه على البزاخة شهرا يصعد عنها ويصوب إليها في طلب المعتدين على الإسلام والمسلمين، فمنهم من أحرق، ومنهم من رمي به من رءوس الجبال، ومنهم من رجم بالحجارة.
على أن أبا بكر اتخذ في معاملة الأسرى الذين جاءوا إلى المدينة سياسة ليست كسياسة خالد بأسا وشدة، فقد رأيت ما كان من عيينة بن حصن ومحالفته طليحة وقتاله المسلمين، وقد جاء مع قرة إلى المدينة في الأسرى ويداه مجموعتان بحبل إلى عنقه، وكان غلمان المدينة ينخسونه بالجريد ويقولون له: أي عدو الله، أكفرت بعد إيمانك! فيقول: والله ما كنت آمنت بالله قط، ومع ذلك تجاوز عنه أبو بكر وحقن له دمه، فاتقى بذلك شر بني فزارة معه.
أما قرة بن هبيرة فكان في بني عامر، وقد مر به عمرو بن العاص عائدا من عمان إلى المدينة فنزل عليه، وقومه يقدمون للردة رجلا ويؤخرون أخرى، فلما أراد عمرو الرحلة خلا به قرة فقال: «يا هذا، إن العرب لا تطيب لكم نفسا بالإتاوة، فإن أنتم أعفيتموها من أخذ أموالها فستسمع لكم وتطيع، وإن أبيتم فلا أرى أن تجتمع عليكم.» وأجابه عمرو: «أكفرت يا قرة؟ أتواعدنا بالعرب وتخوفنا بها!» فلما أرسل خالد قرة أسيرا إلى المدينة وجيء به إلى أبي بكر، وقال: «يا خليفة رسول الله، إني قد كنت امرأ مسلما، ولي من ذلك على إسلامي عند عمرو بن العاص شهادة، قد مر بي فأكرمته وقربته ومنعته.» فدعا أبو بكر عمرا وسأله عن قرة وأمره، فقص عليه الخبر، حتى إذا انتهى إلى أمر الصدقة وما قال عنها اعترضه قرة قائلا: حسبك يرحمك الله ! قال عمرو: لا والله، حتى أبلغ له كل ما قلت، فلما أتم عمرو كلامه ابتسم أبو بكر وتجاوز عن قرة وحقن دمه.
لم تكن سياسة الصفح سياسة هوادة أو تردد من أبي بكر، بل كان المقصود منها تسكين الثارات ما كان في تسكينها للإسلام والمسلمين خير، أما فيما خلا ذلك فلم يكن اللين يعرف إلى قلب أبي بكر سبيلا ما اتصل الأمر برسالة محمد. كان علقمة بن علاثة من بني كلب قد أسلم ثم ارتد في زمن الرسول ولحق بالشام، فلما توفي محمد أقبل مسرعا حتى عسكر في بني كلب، وبلغ ذلك أبا بكر، فبعث إليه القعقاع بن عمرو وأمره أن يسير حتى يغير عليه لعله أن يأخذه أو يقتله، وقال له: «واعلم أن شفاء النفس الخوض فاصنع ما عندك.» وخرج القعقاع في رجاله، فلم يثبت له علقمة وفر راكضا، وأسلمت امرأته وبناته ومن أقام من الرجال، وجحدوا أن يكونوا مالئوه، ورجع علقمة إلى أبي بكر تائبا، فقبل منه وحقن دمه؛ لأنه لم يقاتل المسلمين ولم يقتل منهم.
لكنه لم يقبل من الفجاءة إياس بن عبد ياليل ولم يحقن دمه، فقد قدم الفجاءة هذا على أبي بكر فقال له: أعني بسلاح ومرني بمن شئت من أهل الردة، فأعطاه سلاحا وأمره بما شاء أن يأمره به، لكن الفجاءة شنها غارة في سليم وعامر وهوازن على المسلمين والمرتدين على سواء، وقتل من المسلمين من قتل، عند ذلك أرسل أبو بكر طريفة بن حاجز في رجال قاتلوا الفجاءة ومن معه وجاءوا به أسيرا، فأمر أبو بكر فأوقدت له نار في مصلى البقيع على حطب كثير، ثم رمي به فيها فمات حرقا، ولو لم يقتل الفجاءة من المسلمين من قتل لما أصابته هذه الميتة القاسية التي أسف أبو بكر لقسوتها من بعد وتمنى لو لم تكن كذلك.
قبل أن نختم هذا الفصل بحديث أم زمل نورد قصة أبي شجرة بن عبد العزى؛ فهو بحديث عيينة وقرة وعلقمة أشبه، كان أبو شجرة هذا ابن الخنساء الشاعرة صاحبة المراثي الفياضة في أخيها صخر، وكان شاعرا مثلها، وقد لحق بأهل الردة وجعل يقول الشعر في تحريضهم على المسلمين وقتالهم، وكان مما قاله في ذلك قصيدة جاء فيها:
فزويت رمحي من كتيبة خالد
وإني لأرجو بعدها أن أعمرا
فلما رأى تحريضه على خالد لم يثمر ورأى الناس يرجعون إلى الإسلام رجع إليه، وقد قبل منه أبو بكر وعفا عنه فيمن عفا عنهم، فلما كانت خلافة عمر جاءه أبو شجرة وهو يعطي المساكين من الصدقة يقسمها بين الفقراء، فقال: يا أمير المؤمنين أعطني فإني ذو حاجة، قال عمر: من أنت؟ فلما عرفه قال: أي عدو الله! ألست الذي يقول:
فزويت رمحي من كتيبة خالد
وإني لأرجو بعدها أن أعمرا
ثم جعل يعلوه بالدرة في رأسه حتى طار عدوا إلى ناقته فارتحلها عائدا إلى قومه من بني سليم.
تداول الناس أنباء أبي بكر وعفوه عمن رجع إلى الإسلام بعد ردته، فسكنت حدة القبائل التي ناصرت طليحة ثم عادت إلى الإسلام حين هزمه خالد بن الوليد، لكن فلولا من غطفان وطيء وسليم وهوازن وغيرها تجمعت واجتمعت إلى أم زمل سلمى بنت مالك وعاهدتها أن تقف وإياها في وجهه حتى الموت، ولا شك أن قد كان لهذه الفلول ثارات عند المسلمين، لم تسكن منها الهزيمة ولا سكن منها عفو أبي بكر، هي التي حفزتها إلى التجمع والتعاهد على قتال المستيئس، وما بقاؤها بعد فرار طليحة وانكشاف كذبه لولا هذه الثارات وتحركها في نفسها! وكان لأم زمل عند المسلمين ثأر لم يندمل جرحه رغم مر السنين، فكان من الطبيعي أن تجتمع هذه الفلول حولها وأن تتخذ من ثأرها علما ولواء لثاراتهم جميعا.
وأم زمل هذه هي بنت أم قرفة التي قتلت أيام النبي أشنع قتلة، فقد خرج زيد بن حارثة يوم ذاك إلى بني فزارة فلقيهم بوادي القرى فأصابوا رجاله، وأصيب هو بجرح مميت حمل على أثره إلى المدينة، فلما برئ رده رسول الله إلى بني فزارة في جيش فقتلهم وأصاب فيهم وأسر منهم، وكانت أم قرفة فاطمة بنت بدر بين الأسرى، وكانت هي التي تحرض قومها في الموقعة الأولى التي أصيب فيها زيد؛ فلما ظفر بها أمر بقتلها فقتلت قتلا عنيفا، قيل: إن كل ساق من ساقيها شد إلى بعير ثم دفع كل بعير إلى ناحية فتمزقت، وسبيت ابنتها أم زمل، فوقعت لعائشة أم المؤمنين فأعتقتها، فأقامت عندها زمنا ثم رجعت إلى قومها، وقد بقي مقتل أمها ماثلا أمام عينيها يقض مضجعها ألا تجد إلى الثأر له الوسيلة، فلما كانت الردة ارتدت ووجدت من فلول هذه القبائل عونها على أن تأخذ بثأرها لتهدأ ثائرتها وتسكن حفيظتها.
وكانت أمها أم قرفة في عزة ومكانة من قومها، كانت عمة عيينة بن حصن، وكانت زوج مالك بن حذيفة، وكان لها منه أبناء تعتز بهم في بني فزارة، وكان لها جمل تخرج عليه في طليعة قومها إذا خرجوا ليغنموا من قبيلة أخرى، فلما ماتت بقي هذا الجمل لابنتها أم زمل، وكانت ابنتها في مثل عزها، وكان لها من المكانة في قومها ما كان لأمها، فلما اجتمعت حولها فلول القبائل التي قاتلت أبا بكر وخالدا ركبت جملها وسارت بينهم وجعلت تدعوهم لحرب خالد وتشجعهم؛ واجتمع مع هذه الفلول كل شريد وكل مضيق عليه، حتى استغلظ أمرها وعظم شأنها.
فلما بلغ ذلك خالدا وهو فيما هو فيه من تتبع الثائرين وأخذ الزكاة ودعوة الناس وتسكينهم، سار إليها يقاتلها.
والتقى الجمعان وحمي وطيس القتال واشتدت الحرب، وأم زمل على جملها تحرض رجالها وتدفعهم إلى المعركة فيندفعون مستبسلين لا يبالون الموت، حتى لقد أبيدت منهم بيوت بأسرها، ورأى خالد بأس هذه المرأة وشدتها واستماتتها في محاربته فجعل مائة من الإبل لمن ينخس جملها، واندفع فوارس المسلمين نحوها، فإذا من حولها الرجال الأشداء يدافعون عنها ويموتون دونها، ولقد مات حول جملها مائة رجل قبل أن يستطيع فرسان المسلمين الوصول إليه، فلما وصلوا إليه عقروه وقتلوها وقضوا بذلك على فتنتها، فقد فتنت الرجال حقا بقوتها وعزها وشجاعتها وشدة تحريضها لهم، ولم تلبث هذه الفلول حين رأوا جملها يعقر ورأوها تقتل أن فترت عزيمتهم وتشتت جمعهم، ففروا مولين الأدبار لا يعقبون، بذلك خبت نار الفتنة وقضي على الردة في الشمال الشرقي من شبه الجزيرة، وما عسى أن يبقى منها وقد فر رءوسها أو طاحت رءوسهم فلم تبق منهم باقية!
أولم يكن هذا المثل الذي ضربه أبو بكر يكفي العرب كي يرجعوا في سائر الأنحاء من شبه الجزيرة إلى الإسلام؟! لقد رأوا جنوده تسير إليهم من كل صوب، بقصد كل لواء منها إلى حيث أمره خليفة رسول الله، وقد ترامت إليهم أنباء خالد بن الوليد وعرفوا مصير طليحة؛ لكنهم أبوا مع ذلك أن يذعنوا، إنهم رأوا نبي قريش ينشر في العرب لواءه، ويمد عليهم سلطانه، فلم لا يكون لكل قبيلة نبي يرد عنها قريشا إن لم ينشر في مختلف القبائل لواءها؟! ونسيت القبائل ونسي الذين ادعوا النبوة فيها أن محمدا قام في قريش يدعوها إلى الله لا يريد فيها سلطانا ولا يبتغي منها جزاء ولا شكورا، وأنه قام بأمر ربه فقضى عشر سنوات في جهاد أي جهاد، يؤذيه أهله وتناصبه مكة كلها العداوة، وتتعرض حياته وحياة من اتبعوه للخطر، ويأتمر به خصومه ليقتلوه، ويخرجه من دياره مهاجرا إلى المدينة، حتى أذن الله لدينه الحق أن ينتشر بين العرب، وجاءت الوفود من كل صوب تعلن إلى النبي إسلامها، نسي الذين ادعوا النبوة هذا كله، وخيل إليهم أن بلوغ الغاية التي بلغها محمد أمر يسير، كما نسوا أن محمدا إنما بالدعوة إلى الحق، وأنهم يدعون النبوة زورا وبهتانا، لذلك لم يكفهم أن أخذت أهل الجنوب العزة بالإثم، وادكروا ما كان بينهم وبين الحجاز من قديم الخصومة، وما كان لآبائهم فيه من غزوات توجتها أكاليل النصر، أما وقد أصروا على العناد في ردتهم، فلم يكن بد من أن يردوا عنها إلى الإسلام أو يبوءوا بخزيها ويؤدوا حياتهم ثمنا لها.
فلينتقل خالد إذن من البزاخة إلى البطاح، ثم لينتقل بعد البطاح إلى اليمامة، فقد خط القدر في لوحه أن يرد سيفه المرتدين إلى الحق، وما خط في لوح القدر لا محالة نافذ.
الفصل الثامن
سجاح ومالك بن نويرة
تقع منازل بني تميم على مقربة من بني عامر إلى الجنوب؛ وهي تحاذي المدينة من الشرق ممتدة نحو الخليج الفارسي، وتتصل من ناحية الشمال الشرقي بمصب الفرات، وكان لبني تميم بين قبائل العرب في الجاهلية وفي عهد الرسول مقام، لما ظهر فيها من خصال الشجاعة والكرم، ولما نبغ بين رجالها من الأبطال والشعراء، ولا يزال التاريخ يذكر لفروعها بني حنظلة ودارم وبني مالك وبني يربوع مواقف ترويها كتب التراجم كما يرويها كبار المؤرخين.
ولقد أدى اتصال هذه القبائل بمصب الفرات وبالخليج الفارسي إلى تنقل أبنائها بين شبه الجزيرة وأرض العراق، كما أدى إلى اتصالهم بفارس، وكان من أثر ذلك أن دان كثيرون منهم بالنصرانية وإن بقي أكثرهم يعبدون الأصنام، فلما انتشر الإسلام بينهم احتفظوا باستقلالهم، ولم ينزلوا عنه راضية نفوسهم، لذلك كانوا في مقدمة القبائل التي أبت أداء الزكاة حين بعث رسول الله جباته يقتضونها من الناس، ولقد أسرع بنو العنبر من تميم إلى نبالهم وسيوفهم حين جاء العاشر يطلب إليهم أداءها، فلما ذهب إليهم عيينة بن حصن بأمر الرسول فقتل وسبى منهم، ذهب وفد من أشرافهم إلى المدينة ودخلوا المسجد ونادوا النبي من وراء حجراته أن يرد إليهم أسراهم، وذكروه بمواقفهم معه في حنين، وبما لقومهم من مكانة بين العرب، وخرج إليهم حين الصلاة، فذكروا له أنهم جاءوا يفاخرونه، فلما رأوا خطيبه أبلغ من خطيبهم، وشاعره أشعر من شاعرهم، وصوته أعلى من أصواتهم، أسلموا؛ فأعتق النبي أسراهم وردهم إلى قومهم راضية نفوسهم.
وقبض رسول الله وله في تميم عمال، بينهم مالك بن نويرة على رأس بني يربوع، وقد اختلف العمال حين بلغتهم وفاة النبي ما يصنعون: أيؤدون الزكاة لأبي بكر أم يقسمونها بين الناس؟ وكان لما بينهم من تنافس أثر بين في اختلافهم ذاك، بل لقد أدى هذا التنافس إلى أن يقاتل بعضهم بعضا، وأن يقيم فريق منهم على الولاء لسلطان المدينة، وأن يتنكر الآخرون لهذا السلطان.
وكان مالك بن نويرة فيمن ردوا الزكاة لأصحابها ولم يروا لأبي بكر حقا في اقتضائها، بذلك أصبح عدوا للمسلمين معرضا لإغارتهم عليه.
وبينما القوم في اختلافهم فجأتهم سجاح بنت الحارث مقبلة من أرض الجزيرة بالعراق يحيط بها رهطها من تغلب، وتقود معها جندا من ربيعة والنمر وإياد وشيبان، وكانت سجاح تميمية من بني يربوع، وكان أخوالها من تغلب بالعراق، وقد تزوجت فيهم، وأقامت بينهم، وتنصرت فيمن تنصر منهم، وكانت تنقم من محمد ومن اتبعه ما ينقمه منهم اليهود والنصارى، وما ينقمه منهم الفرس والروم، وكانت امرأة ذكية، تدعي الكهانة، وتعرف كيف تقود الرجال، فلما ترامى إليها أن محمدا أدركته الوفاة، جاءت في رهطها وفي القبائل المحيطة بها تريد أن تغزو المدينة وأن تقاتل أبا بكر.
يرى بعض المؤرخين، وقد يكونون على حق فيما يرون، أن سجاح لم تنحدر من شمال العراق إلى شبه جزيرة العرب يتبعها رهطها والقبائل المحيطة بها لكهانتها ومطامعها الذاتية، وإنما انحدرت مدفوعة بتحريض الفرس وعمالهم في العراق كي يزيدوا الثورة في بلاد العرب ضراما، ليستعيدوا ما كان لهم في كثير من أرجائها من سلطان بدأ يأفل منذ أقام محمد بدهان عاملا له على اليمن، بعد أن كان بدهان عامل كسرى عليها.
وقد يرجح رواية هؤلاء المؤرخين أن سجاح كانت الأنثى الوحيدة التي ادعت النبوة، وأن مثيلاتها اتخذن في كل العصور أداة للتجسس والرعاية، وأنها لم تلبث في بلاد العرب إلا ريثما بثت دعوة الانتقاض، ثم عادت إلى العراق فسكنت إلى حياتها به.
وليس عجبا أن يتخذها الفرس أداة لإذكاء الثورة في بلاد العرب وقد كانوا يرون هذه البلاد أهون من أن يجرد لها جيش فارسي يقاتلها، وإن كانت مع ذلك جديرة بأن ترد إلى عزلتها الأولى قبل قيام محمد بها وانتشار الإسلام فيها، ولا شيء أدنى إلى تحقيق هذه الغاية من القضاء على الدين الجديد الذي جعل أبناءها يعتدون بأنفسهم، وإن لم يعتد الفرس بهم.
جاءت سجاح إلى شبه الجزيرة متأثرة بهذه العوامل، وكان طبيعيا أن تجعل وجهتها أول نزولها بلاد العرب إلى قومها بني تميم، وقد فجأتهم وهم مختلفون فيما بينهم: يقول قوم بإيتاء الزكاة واتباع خليفة رسول الله، وينكر آخرون هذا وذاك، ويتردد أقوام فهم في حيرة؛ ثم ينشأ عن هذا الاختلاف قتال بينهم يشتد حينا ويهدأ حينا، ورأت هذه البطون من بني تميم مقدم سجاح وعرفوا عزمها على قتال أبي بكر، فازدادوا بين الإسلام والردة اضطرابا، وشهد من بقي على إسلامه منهم ما هو أدهى وأمر مما هم فيه؛ فها هي ذي في جيشها اللجب بالقياس إلى جموعهم المتنافرة تأخذهم على حين غفلة منهم وتعلن فيهم نبوتها وتدعوهم إلى الإيمان بها، أفيقولون عنها ما قال عيينة بن حصن عن طليحة: «نبية من بني يربوع خير من نبي من قريش، وقد مات محمد وسجاح حية.» وعلى ذلك يتبعونها ويقومون معها في وجه أبي بكر والمسلمين، أم ينصرفون عنها ويدعونها تسير في طريقها تواجه أبا بكر، فإما قضى عليها فانقضت فتنتها، وإما تم لها الغلب فكان لهم، وهم قومها الأدنون، فخار نصرها وفخار نبوتها؟
وقفت سجاح في جندها على حدود بني يربوع، وأرسلت إلى زعيمهم مالك بن نويرة ودعته إلى الموادعة، وأنبأته بعزمها على غزو المدينة، وأجابها مالك إلى الموادعة، لكنه صرفها عن عزمها عن لقاء أبي بكر وحرضها على قتال من اختلف معه من أحياء بني تميم، واقتنعت سجاح برأيه وقالت: «نعم! فشأنك بمن رأيت، فإنما أنا امرأة من بني يربوع، وإن كان ملك فهو ملككم.»
كيف أسرعت سجاح إلى الرجوع عن عزمها وموافقة مالك على رأيه؟ ليس فيما تذكره الروايات التي انتهت إلينا ما يبين عن السر في هذا الانقلاب، لكن الروايات تذكر أن مالكا كان شريفا فارسا شاعرا، وكانت فيه خيلاء كقومه، وكان ذا لمة كبيرة، وكان حلو الحديث حسن المحاضرة، قص أخوه متمم بن نويرة، وكان أسمى من مالك مكانة في الشعر، لكنه كان أعور قبيح الصورة، أن حيا من العرب أسروه فشدوا وثاقه وألقوه بفنائهم، وبلغ مالكا خبره، فأقبل على راحلته حتى انتهى إلى القوم وسلم عليهم وحادثهم وضاحكهم وأنشدهم، فوالله إن زال كذلك حتى ملأهم سرورا؛ وبلغ من ارتياح القوم إليه أن أطلقوا متمما بغير فداء، وأسرت بنو تغلب متمما في الجاهلية، فجاء مالك ليفديه، فلما رآه القوم أعجبهم جماله، وحدثهم فأعجبهم حديثه، فلم يقبلوا منه فداء، وأطلقوا له الأسير فعاد به إلى قومه.
هل اقتنعت سجاح بحديث مالك وجماله، واقتنع بهما أخوالها بنو تغلب وسائر أنصارها؟ إنما نذكر ذلك لعله يفسر ما كان بين سجاح ومسيلمة من بعد، وسواء أصح ذلك أم لم يصح فقد دعت سجاح أمراء بني تميم لموادعتها فلم يوادعها منهم مع مالك إلا وكيع، وأغارت سجاح في جندها وجند مالك ووكيع على السريات فاقتتلوا ومات من الجانبين خلق كثير وأسر بعضهم من بعض، ثم إنهم تصالحوا وترادوا الأسرى، وعاد السلام إلى بني تميم.
وخرجت سجاح في جنود الجزيرة وقد راجعها العزم أن تلقى أبا بكر، أما مالك ووكيع فقد صالحا قومهما بعد أن رأيا سخطهم على اتباعهما هذه المتنبئة، وبلغت سجاح قوية النباج، فلقيها أوس بن خزيمة فهزمها، ثم ترادا الأسرى وصالحها على ألا تجتاز دياره إلى المدينة، هنالك اجتمع رؤساء أهل الجزيرة وقالوا لها: ما تأمريننا، فقد صالح مالك ووكيع قومهما فلا ينصروننا ولا يريدوننا أن نجوز أرضهم، وقد عاهدنا هؤلاء القوم؟ قالت: اليمامة، فقالوا: إن شوكة أهل اليمامة شديدة وقد غلظ أمر مسيلمة، وهنا تجري الرواية بأنها قالت: «عليكم باليمامة، ودفوا دفيف الحمامة، فإنها غزوة صرامة، لا يلحقكم بعدها ندامة.» ولم يبق لهم بعد هذا السجع الذي زعموه وحيا إلا أن يمتثلوا أمرها!
فيم كان انقلابها إلى اليمامة وقد خانها الحظ بين قومها بني تميم، وخانها في مسيرتها إلى أبي بكر؟ أولم يكن حولها من رجالها من يشيرون عليها؟! أم إنهم تم إيمانهم بنبوتها وبهذا السخف الذي تزعم أنه يوحى إليها فلم يترددوا في اتباعها؟ الحق أن قصة سجاح كلها عجب، وما روي عنها إلى فن القصص أقرب، فقد ذكروا أنها لما بلغت اليمامة في رجالها هابها مسيلمة وخاف إن هو شغل بها أن يغلبه جند المسلمين أو تغلبه القبائل التي حوله، فأهدى لها، ثم أرسل إليها يستأمنها على نفسه حتى يجيء إليها، ونزلت في جندها على الماء وأذنت له، فجاء في أربعين من بني حنيفة، ثم خلا إليها يحدثها ويذكر لها أنه كان يرى أن لقريش نصف الأرض فظلموا، فليكن نصف الأرض لها، وسجع لها سجعا أعجبها، فردت عليه بمثل سجعه، ثم إنهما تناظرا وتحادثا وطال بهما الحديث، وأعجبت سجاح بمسيلمة وبحلو حديثه وما شرع لقومه وانتهت إلى الإيمان بتفوقه، فلما عرض عليها أن تجمع نبوته إلى نبوتها وأن يتزوجا كان قلبها قد لان له فلم ترفض طلبه، وانتقلت إلى خيامه وأقامت معه ثلاثة أيام رجعت بعدها إلى قومها، وذكرت لهم أنها وجدته على الحق فتزوجته.
وعرف قومها أنه لم يجعل لها صداقا فقالوا لها: «ارجعي إليه؛ فقبيح بمثلك أن تتزوج بغير صداق.» فلما رجعت إليه أغلق حصنه دونها وبعث يسألها ما طلبها، ثم نزل للناس عن صلاتين: صلاة العشاء وصلاة الفجر، إكراما لها، وانتهى الأمر به وبها على أن يحمل لها النصف من غلات اليمامة، حمل إليها النصف مما اتفقا عليه فاحتملته وانصرفت به إلى الجزيرة، وخلفت وراءها من رجالها من يحمل لها النصف الآخر، لكن هؤلاء الرجال لم يقيموا إلا ريثما أقبلت جيوش المسلمين فهاجمت مسيلمة وقتلته، ولم تزل سجاح في تغلب حتى نقلهم معاوية عام المجاعة إلى بني تميم حيث أقامت مسلمة حسنة الإسلام إلى أن ماتت.
هذه قصة سجاح بنت الحارث، وهي - كما قدمت - عجب كل العجب، وهل عجب كمغامرتها بالسير من الجزيرة للقاء أبي بكر وقتاله، ثم إسراعها إلى العدول عن عزمها حين تحدث مالك بن نويرة إليها، ثم انقلابها إلى اليمامة ولقائها مسيلمة وزواجها منه وعودها من عنده إلى أرضها، وبقائها بعد ذلك مع ذويها كأنها لم تخرج من بينهم ولم تتزوج من غيرهم!
وأمر مسيلمة معها أعجب العجب، ولئن صح أنه تزوجها ليكونن ذلك برهانا على دهائه في السياسة وعلمه بمداخل القلوب، فهو قد أراد أن يتخلص منها ليفرغ لقتال من حوله من القبائل ومن أوفدهم أبو بكر لقتاله من المسلمين، ورآها لينة فاستهوى أنوثتها، فلما لانت له ودانت أعرض عنها وتخلص منها، والحق أن حديث هذه المرأة مع مالك بن نويرة ثم مع هذا الزميل من مدعي النبوة شهد بأنها إن تكن حسنة السجع في كهانتها فقد كانت لينة العريكة في أنوثتها، فأما مسيلمة فكان رجلا قزما لا جمال فيه إلا حسن حديثه؛ وكان قليل الافتنان بالمرأة ومحاسنها، ولذلك كان مما شرعه لقومه أن من ولد له ولد لم يجز له أن يقرب امرأة إلا أن يموت ذلك الولد؛ فإذا مات جاز له أن يبتغي ولدا غيره فيقرب امرأته، أما من كان له ولد ذكر فالنساء عليه حرام!! •••
بينا يجري ذلك في اليمامة بين مسيلمة وسجاح كان خالد بن الوليد يصعد في البزاخة ويصوب، يستعيد إلى الإسلام من تاب وأناب، ويعاقب بأشد العقوبة من قتل مسلما أو عدا عليه، وينتهي بمقاتلة أم زمل حتى يقتلها ويشتت جمعها بعد أن شتت جمع طليحة وحمله على الفرار، وتداول الناس أنباء خالد، فبلغت مالك بن نويرة بالبطاح فردته إلى الاضطراب والحيرة، لقد منع الزكاة وقام مع سجاح في وجه المسلمين من بني تميم، وأصبح بذلك عدوا للمسلمين معرضا لإغارتهم عليه، فماذا عساه يصنع بعد أن باءت جنوده وجنود سجاح معها بالفشل والهزيمة؟ أما صاحبه وكيع فقد رأى قبح ما صنع، فعاد إلى الإسلام وأخرج الزكاة، وأما مالك فبقي متحيرا: أينكر أمسه ويعود مسلما مع أبي بكر كما كان مع محمد يقيم الصلاة ويؤتي الزكاة، أم يصر على مثل موقفه مع سجاح والأمر لله من قبل ومن بعد؟!
وفرغ خالد من أسد وغطفان ومن معهما بعد أن عاد كل من بقي من هذه القبائل إلى الإسلام وأذعن لسلطان المدينة، ثم إنه أزمع السير إلى البطاح يلقى فيها مالك بن نويرة ومن كان معه في مثل تردده، وعرف الأنصار هذا العزم منه فترددوا وقالوا: «ما هذا بعهد الخليفة إلينا؛ إنما عهده إن نحن فرغنا من البزاخة واستبرأنا بلاد القوم أن نقيم حتى يكتب إلينا.» وأجابهم خالد: «إن يكن عهد إليكم هذا فقد عهد إلي أن أمضي، وأنا الأمير وإلي تنتهي الأخبار، ولو أنه لم يأتني ولا أمر ثم رأيت فرصة إن أعلنته بها فاتني ثم أعلمه حتى أنتهزها، وكذلك إذا ابتلينا بأمر لم يعهد لنا فيه لم ندع أن نرى أفضل ما يحضرنا ثم نعمل به: وهذا مالك بن نويرة بحيالنا، وأنا قاصد له بمن معي من المهاجرين والتابعين لهم بإحسان، ولست أكرهكم.» وسار ومن معه، خلا الأنصار، يقصد البطاح.
وبرم الأنصار بالأمر وتشاوروا فيما بينهم فاستقر رأيهم على أن يلحقوا به، ذلك أنهم قالوا: لئن أصاب خالد اليوم خيرا إنه لخير حرمتموه، ولئن أصابته ورجاله مصيبة ليجتنبنكم الناس، وجردوا إلى خالد رسولا استمهله حتى لحقوا به وساروا معه، فلما بلغوا البطاح لم يجدوا بها أحدا؛ فقد فرق مالك بن نويرة قومه في ديارهم ونهاهم عن الاجتماع، وقال لهم: «يا بني يربوع، إنا كنا قد عصينا أمراءنا إذ دعونا إلى هذا الأمر وبطأنا الناس عنهم فلم نفلح ولم ننجح، وإني قد نظرت فرأيت الأمر يتأتى للقوم بغير سياسة، وإذا الأمر لا يسوسه الناس، فإياكم ومناوأة قوم قد صنع لهم.» ونصح لهم بالرجوع إلى الإسلام والتفرق في الديار، ورجع هو إلى منزله.
لم يجد خالد بالبطاح أحدا، فبث الجنود وأمرهم أن يأتوه بكل من لم يجب داعية الإسلام، فإن امتنع فليقتلوه، وكانت وصية أبي بكر أن يؤذن جند المسلمين إذا نزلوا منزلا، فإن أذن القوم كفوا عنهم، وإن لم يؤذنوا قتلوا منهم ونهبوهم، فإن أجابوا بعد ذلك إلى داعية الإسلام سألوهم عن الزكاة، فإن أقروا قبلوا منهم، وإن أبوا قاتلوهم.
جاء الجند بمالك بن نويرة في نفر من بني يربوع إلى خالد، وكان المنطق يقضي بعد الذي رأيت بأنه إن أقر مالك وأصحابه بالإسلام، أن يعاملهم خالد معاملة من تاب وأناب، لكن الذي حدث أن خالدا أمر بمالك بن نويرة فقتل، وأن هذا القتل أثار بالمدينة ثائرة ظلت زمنا قبل أن تهدأ، وأنه كان ذا أثر في تصرف عمر بن الخطاب مع خالد بن الوليد بعد أن ولي الخلاقة، لهذا تفصل الروايات مقتل مالك بن نويرة في شيء من الإسهاب وتختلف فيه.
قيل: إن رؤساء الجند الذين جاءوا بمالك ومن معه اختلفوا فيما بينهم: أأقر مالك ومن معه بالإسلام وأجابوا داعية الأذان، أم أنكروا وتنكروا؟ روى الطبري عن ابن قتادة الأنصاري، وكان من رؤساء هذا الجند، أنه «كان يحدث أنهم لما غشوا القوم راعوهم تحت الليل فأخذ القوم السلاح، فقلنا: إنا المسلمون. قالوا: ونحن المسلمون. فقلنا: ما بال السلاح معكم؟! قالوا لنا: فما بال السلاح معكم؟ فقلنا: فإن كنتم كما تقولون فضعوا السلاح، فوضعوا السلاح ثم صلينا وصلوا.»
إلى هنا تتفق الروايات، ومن هنا يبدأ اختلافها، قال أبو قتادة: إن القوم أقروا بالزكاة وإيتائها، وقال غيره: بل أنكروها وأصروا على منعها، ماذا يصنع خالد إزاء هذا الاختلاف بين شهود العيان، وكيف يقضي فيه؟
تجري رواية بأنه أمر بحبس مالك وأصحابه حتى ينظر في أمرهم، وحبسوا في ليلة باردة جعلت تزداد بتقدم الليل بردا، وأخذت خالدا الشفقة بالقوم فأمر فنادى: دافئوا أسراكم، وكانت هذه العبارة في لغة كنانة معناها القتل، وكان الحراس من بني كنانة، فما لبثوا حين سمعوها أن ظنوا أن خالدا أراد قتلهم فقتلوهم، وسمع خالد الضجة فخرج، وقد فرغوا منهم، فقال: إذا أراد الله أمرا أصابه.
وتجري رواية ثانية بأن خالدا دعا إليه مالكا يناظره ليعرف أي الشهادتين حق: الشهادة بإسلامه، أم الشهادة بإصراره على الردة أو على منع الزكاة، وفيما هما يتناظران راجع مالك خالدا وقال: «ما إخال صاحبكم إلا وقد كان يقول كذا وكذا.» قال خالد: «أوما تعده لك صاحبا؟!» ثم قدمه فضرب عنقه وأعناق أصحابه.
ويقول أبو الفرج في الأغاني تفسيرا لهذا الحوار بين خالد ومالك ما نصه: «قال ابن سلام: من لا يعذر خالدا يقول إن مالكا قال لخالد: أوبهذا أمرك صاحبك - يعني النبي
صلى الله عليه وسلم - إنه أراد بهذه الفروسية، ومن يعذر خالدا يقول: إنه أراد انتفاء أمر النبوة، ويحتج بقول مالك:
وقلت خذوا أموالكم غير خائف
ولا ناظر فيما يجيء من الغد
فإن قام بالأمر المخوف قائم
منعنا وقلنا: الدين دين محمد
أي إنه منع الزكاة وقال لقومه: خذوا أموالكم فالدين دين محمد لا دين أبي بكر.
وقد روى ابن خلكان ما ذكر أنه الحديث الذي دار بين الرجلين، وأورد ما يأتي: «فقال مالك: إني آتي الصلاة دون الزكاة، فقال له خالد: أما علمت أن الصلاة والزكاة معا لا تقبل واحدة دون أخرى؟! فقال مالك: قد كان صاحبك يقول ذلك. قال خالد: أوما تراه لك صاحبا؟! والله لقد هممت أن أضرب عنقك. ثم تجادلا بالكلام طويلا، فقال له خالد: إني قاتلك. قال: أوبذلك أمرك صاحبك؟ قال خالد: والله لأقتلنك.» وأمر به فقتل.
يرجح بعضهم هذه الرواية الثانية على الرواية الأولى، على أن هؤلاء الذين يجرحونها يرونها ناقصة، ويرون أنها إن لم تكمل ناقضت تصرف ابن الوليد في أمر قرة بن هبيرة والفجاءة السلمي وأبو شجرة وأمثالهم ممن قصصنا حديثهم، فهو قد بعث بهؤلاء إلى أبي بكر ليرى فيهم رأيه، ولم يكن مالك بن نويرة أعظم من أيهم إثما ولا أكبر جريرة؛ فما باله يقتله ولا يبعث به إلى الخليفة ومكانه من بني تميم لم يكن دون مكان أي أولئك من قومه!
وتتمة القصة في رأيهم أن خالدا تزوج أم تميم زوجة مالك في يوم مقتله، وقبل أن يجفف التراب دمه، مخالفا بذلك كل تقاليد العرب، وهم يريدون أن يربطوا بين مقتل مالك وزواج خالد من امرأته، وأن يجعلوا هذا الزواج سبب ذلك القتل. ولعلهم في ذلك على حق، ولعلهم مخطئون.
ذكر اليعقوبي في تاريخه: «فأتاه مالك بن نويرة يناظره واتبعته امرأته؛ فلما رآها خالد أعجبته فقال: «والله لا نلت ما في مثابتك حتى أقتلك.» فنظر مالكا فضرب عنقه وتزوج امرأته.» وذكر أبو الفرج في الأغاني: «لما تنبأت سجاح اتبعها مالك ثم أظهر أنه مسلم، فضرب خالد عنقه، فطعن عليه في ذلك جماعة من الصحابة؛ لأنه تزوج امرأة مالك بعده، وقد كان يقال إنه يهواها في الجاهلية، واتهم لذلك أنه قتل مسلما ليتزوج امرأته بعد.» وروى أبو الفرج كذلك قال: «قال محمد بن سلام: وسمعني يوما يونس وأنا أراد التميمية في خالد وأعذره فقال لي: يا أبا عبد الله، أما سمعت بساقي أم تميم؟! فكان يقال إنه لم ير أحسن من ساقيها.»
وقد نسجت الروايات لهذا الحادث من بعد صورا أدنى إلى فنون الأدب منها إلى وقائع التاريخ، فقد قيل: إن ليلى كانت مع زوجها وهو يناظر خالدا، فلما سمعته يقول له: إني قاتلك، ووالله لأقتلنك، ألقت بنفسها على قدمي الفاتح تلتمس منه العفو وقد انسدل شعرها على كتفيها وبلل الدمع منها عينين زانهما الحور فزادهما سحرا، ونظر خالد إلى وجهها البارع، وهي ترنو إليه مستعطفة مسترحمة، نظرة هوى وإعجاب، فصاح مالك: إني مقتول لا محالة! وأجاب خالد: ما لهذا والله، وإنما قضى عليك كفرك، وأمر بضرب عنقه.
لسنا نقف عند ما نسجته فنون الأدب من هذه التفاصيل، لكن الثابت الذي لا ريب فيه أن ليلى أعجبت خالدا، وأنه لذلك أمسكها من بعد ولم يسرحها مع ما جره زواجها عليه من متاعب.
وحسبك لتقدر هذه المتاعب أن تعلم أن أبا قتادة الأنصاري غضب لفعلة خالد إذ قتل مالكا وتزوج امرأته أشد الغضب، فتركه منصرفا إلى المدينة، مقسما ألا يكون أبدا في لواء عليه خالد، روينا ما قيل من أن الجند الذين سجنوا مالك بن نويرة وأصحابه هم الذين قتلوهم حين سمعوا خالدا يقول: دافئوا أسراكم، وأن خالدا غضب لذلك ثم قال: إذا أراد الله أمرا أصابه، ويضيف أصحاب هذه الرواية أن أبا قتادة ظن ما حدث حيلة من حيل خالد، وأنه ذهب إليه يقول: هذا عملك، وأن خالدا زجره فغضب وذهب إلى المدينة .
ويذكر آخرون أن قتادة ذهب إلى المدينة بعد أن تزوج خالد أم تميم، وأن متمم بن نويرة أخا مالك ذهب معه، فلما بلغا المدينة ذهب أبو قتادة ولا يزال الغضب آخذا منه مأخذه، فلقي أبا بكر فقص أمر خالد وقتله مالكا وزواجه من ليلى، وأضاف أنه أقسم ألا يكون أبدا في لواء عليه خالد، لكن أبا بكر كان معجبا بخالد وانتصاراته، فلم يعجبه أبو قتادة، بل أنكر منه أن يقول في سيف الإسلام ما قال.
أترى الأنصاري هاله غضب الخليفة فأسكته؟ كلا! فقد كانت ثورته على خالد عنيفة كل العنف، لذلك ذهب إلى عمر بن الخطاب فقص عليه القصة وصور له خالدا في صورة الرجل الذي يغلب هواه على واجبه، ويستهين بأمر الله إرضاء لنفسه، وأقره عمر على رأيه وشاركه في الطعن على خالد والنيل منه، وذهب عمر إلى أبي بكر وقد أثارته فعلة خالد أيما ثورة، وطلب إليه أن يعزله؛ وقال: «إن في سيف خالد رهقا
1
وحق عليه أن يقيده.» ولم يكن أبو بكر يقيد من عماله، لذلك قال حين ألح عمر عليه غير مرة: «هبه يا عمر تأول فأخطأ، فارفع لسانك عن خالد.» ولم يكتف عمر بهذا الجواب ولم يكف عن المطالبة بتنفيذ رأيه، فلما ضاق أبو بكر ذرعا بإلحاحه قال: «لا يا عمر! ما كنت لأشيم
2
سيفا سله الله على الكافرين.»
لكن عمر كان يرى صنيع خالد نكرا، فلم تطب نفسه ولم يسترح ضميره، كيف إذن يسكت، وكيف يذر خالدا في طمأنينته يشعر كأنه لم يأثم ولم يجن ذنبا! لا بد أن يعيد القول على أبي بكر وأن يذكر له في صراحة أن عدو الله عدا على امرئ مسلم فقتله ونزا على امرأته، فليس من الإنصاف في شيء ألا يؤاخذ بصنيعه، ولم يسع أبا بكر إزاء ثورة عمر إلا أن يستقدم خالدا ليسأله ما صنع، وأقبل خالد من الميدان إلى المدينة، ودخل المسجد في عدة الحرب مرتديا قباء له عليه صدأ الحديد وقد غرز في عمامته أسهما ، وقام إليه عمر إذ رآه يخطو في المسجد فنزع الأسهم من رأسه وحطمها وهو يقول: قتلت امرأ مسلما ثم نزوت على امرأته! والله لأرجمنك بالأحجار. وأمسك خالد فلم يعترض ولم يقل شيئا، ولا يظن إلا أن رأي أبي بكر مثل رأي عمر فيه، ودخل على أبي بكر وقص عليه قصة مالك ومناصرته سجاح وتردده بعد ذلك، وجعل يلتمس المعاذير عن قتله، وعذره أبو بكر، وتجاوز عما كان منه في الحرب؛ لكنه عنفه على التزويج من امرأة لم يجف دم زوجها، وكانت العرب تكره النساء في الحرب، وترى الاتصال بهن أثناءها عارا أي عار.
وخرج خالد من عند الخليفة ناجيا بإمارته على الجند، متأهبا للعود إليهم وقيادتهم إلى اليمامة، ومر بعمر - وكان ما زال في المسجد - فالتفت إليه وقال: هلم إلي يا بن أم سلمة! قال هذه العبارة وفي عينيه نظرة الساخر، وفي صوته نبرة المنتصر، وكأنه يقول: استبق أحجارك فارجم بها غيري، وأيقن عمر أن أبا بكر عذره وغفر له وأظهر الرضا عنه، فأمسك بدوره. انقضى ذلك اليوم بينهما عند مبادلة هذه العبارات.
على أن عمر لم يتزحزح عن رأيه فيما صنع خالد، فلما توفي أبو بكر، وبويع عمر خليفة له، كان أول ما صنع أن أرسل إلى الشام ينعي أبا بكر، وبعث مع البريد الذي حمل النعي رسالة يعزل بها خالدا عن إمارة الجيش، وقد عاتبه خالد على ذلك حين رجع إلى المدينة، فكان جواب عمر: «ما عزلتك لريبة فيك، ولكن افتتن بك الناس فخشيت أن تفتتن بالناس.» وهذه حجة لها قيمتها، لكن إجماع المؤرخين منعقد على أن عمر بقي متأثرا برأيه في موقف خالد من مقتل مالك بن نويرة وزواجه امرأته، وأن هذا الرأي كان له أثره من بعد في عزل خالد.
لم يكن نشاط متمم بن نويرة بأقل من نشاط أبي قتادة منذ قدم معه المدينة، فقد طلب إلى أبي بكر دية مالك فوداه، وتحدث إليه في سبيهم فكتب إليه برد السبي، وأقام متمم بالمدينة زمنا طال إلى ما بعد غزوة اليمامة، ثم كان موضع العطف الشديد من عمر لإصرار عمر على رأيه في خالد، وكان متمم قد قال في أخيه مراثي كثيرة لا تزال تعد من عيون الشعر العربي. ذكروا عن السبب في اتصال المعرفة بين متمم وعمر أن ابن الخطاب كان يصلي الصبح يوما، فلما انفتل من صلاته إذا هو برجل قصير أعور متنكبا قوسا وبيده هراوة، فسأل من هذا، وعرف أنه متمم بن نويرة؛ فاستنشده قوله في أخيه، فأنشد إحدى قصائده حتى بلغ قوله:
وكنا كندماني جذيمة حقبة
من الدهر حتى قيل لن يتصدعا
فلما تفرقنا كأني ومالكا
لطول اجتماع، لم نبت ليلة معا
فقال عمر: «هذا والله التأبين، ولوددت أني أحسن الشعر فأرثي أخي زيدا بمثل ما رثيت به أخاك.» قال متمم: «لو أن أخي مات على ما مات عليه أخوك ما رثيته.» وكان زيد قتل باليمامة شهيدا تحت لواء خالد بن الوليد، قال عمر حين سمع قول متمم: «ما عزاني أحد عن أخي بمثل ما عزاني به متمم.»
بلغ اختلاف الرأي بين أبي بكر وعمر في حادث مالك بن نويرة ما رأيت وكلا الرجلين كان يريد للإسلام والمسلمين الخير لا ريب، أفكان اختلافهما مع ذلك راجعا إلى خلاف في تقدير ما صنع خالد، أم كان اختلافا على السياسة التي يجب أن تتبع في هذا الموقف الدقيق من حياة المسلمين، موقف الردة وقيام الثورة بها في أنحاء شبه الجزيرة؟!
الرأي عندي في هذا الخلاف أنه كان اختلافا في السياسة التي يجب أن تتبع في هذا الموقف، وهو اختلاف يتفق وطبائع الرجلين، أما عمر، وكان مثال العدل الصارم، فكان يرى أن خالدا عدا على امرئ مسلم ونزا على امرأته قبل انقضاء عدتها، فلا يصح بقاؤه في قيادة الجيش حتى لا يعود لمثلها فيفسد أمر المسلمين، ويسيء إلى مكانتهم بين العرب، ولا يصح أن يترك بغير عقاب على ما أثم مع ليلى، ولو صح أنه تأول فأخطأ في أمر مالك، وهذا ما لا يجيزه عمر ، فحسبه ما صنع مع زوجته ليقام عليه الحد، وليس ينهض عذرا له أنه سيف الله، وأنه القائد الذي يسير النصر في ركابه، فلو أن مثل هذا العذر نهض لأبيحت لخالد وأمثاله المحارم، ولكان ذلك أسوأ مثل يضرب للمسلمين في احترام كتاب الله، لذلك لم يفتأ عمر يعيد على أبي بكر ويلح حتى استدعى خالدا وعنفه على فعلته.
أما أبو بكر فكان يرى الموقف أخطر من أن يقام فيه لمثل هذه الأمور وزن، وما قتل رجل أو طائفة من الرجال لخطأ في التأويل أو لغير خطأ، والخطر محيط بالدولة كلها، والثورة ناشبة في بلاد العرب من أقصاها إلى أقصاها، وهذا القائد الذي يتهم بأنه أخطأ من أعظم القوى التي يدفع بها البلاء ويتقى بها الخطر! وما التزوج من امرأة على خلاف تقاليد العرب، بل ما الدخول بها قبل أن يتم طهرها، إذا وقع ذلك من فاتح غزا فحق له بحكم الغزو أن تكون له سبايا يصبحن ملك يمينه!! إن التزمت في تطبيق التشريع لا يجب أن يتناول النوابغ والعظماء من أمثال خالد، وبخاصة إذا كان ذلك يضر بالدولة أو يعرضها للخطر، ولقد كان المسلمون في حاجة إلى سيف خالد، وكانوا في حاجة إليه يوم استدعاه أبو بكر وعنفه أكثر من حاجتهم إليه من قبل، فقد كان مسيلمة باليمامة على مقربة من البطاح في أربعين ألفا من بني حنيفة، وكانت ثورته بالإسلام والمسلمين أعنف ثورة، وكان قد تغلب على عكرمة بن أبي جهل من قواد المسلمين، وكان أكبر الرجاء معلقا بسيف خالد في الانتصار عليه، أفمن أجل مقتل مالك بن نويرة، أم من أجل ليلى الجميلة التي فتنت خالد، يعزل خالد وتتعرض جيوش المسلمين لتغلب مسيلمة عليها، ويتعرض دين الله لما يمكن أن يتعرض له؟! إن خالدا آية الله، وسيفه سيف الله. فلتكن سياسة أبي بكر حين استدعاه إليه أن يكتفي بتعنيفه، وأن يأمره في الوقت نفسه بالسير إلى اليمامة ولقاء مسيلمة.
هذا في رأيي هو التصوير الصحيح لما كان بين أبي بكر وعمر بن الخطاب في هذا الحادث، ولعل أبا بكر إنما أصدر أمره إلى خالد يومئذ بالسير للقاء مسيلمة بعد أن تغلب متنبئ بني حنيفة على عكرمة، ليرى أهل المدينة ومن كان على رأي عمر منهم خاصة، أن خالدا رجل الملمات، وأنه قد قذف به حين أصدر إليه هذا الأمر إلى جحيم، إما ابتلعه وقضى عليه فكان ذلك خير عقاب له على ما صنع بأم تميم وزوجها، وإما صهره النصر فيه وطهره فخرج مظفرا غانما قد سكن من المسلمين روعا لا تعد فعلته بالبطاح شيئا مذكورا إلى جانبه.
وقد صهرت اليمامة خالدا وطهرته وإن تزوج في أعقابها بنتا بكرا عقد عليها كما فعل مع ليلى، ولما تجف دماء المسلمين ولا دماء أتباع مسيلمة، ولقد عنفه أبو بكر على فعلته هذه بأشد مما عنفه على فعلته مع ليلى، لكنه لم يزد على التعنيف ولم يزد خالد على سماعه. وما أرى أبا بكر في تعنيفه إلا أراد أن يسكن من ثائرة الثائرين أمثال أبي قتادة، وإن أعجب فليس عجبي للكتاب والمؤرخين الذين حاولوا أن يسيئوا بهذا الحادث إلى تاريخ خالد بأعظم من عجبي لأمثالهم ممن حاولوا أن يبرئوه أو يلتمسوا له الأعذار، فما مالك، وما ليلى، وما بنت مجاعة إلى جانب المئات والألوف من الرءوس التي طاحت بسيف خالد أو بأمره! وهذه المئات والألوف من الرءوس الطائرة عن أجسادها هي فخر خالد وهي التي جعلته سيف الله، فإن أصاب سيفه رهق في لحظة من اللحظات، فقد أصاب هذا السيف النصر والفخار في سنوات وسنوات.
عاد خالد من المدينة إلى البطاح بعد أن أصدر أبو بكر إليه أمره أن يسير لقتال مسيلمة باليمامة؛ وعاد إليها وقد برئت من الردة وآثارها، فأقام بها على رأس جنده، ينتظر من أبي بكر مددا كان يجهزه لمؤازرته، فلما جاءه المدد سار على رأس الجيش كله، يقصد أبلغ المتنبئين في شبه الجزيرة مكرا، وأشدهم خطرا، سار ممتلئا ثقة بنفسه، وإيمانا بالله، وطمأنينة إلى أنه جل شأنه مؤيده وناصره .
وإن ينصركم الله فلا غالب لكم.
الفصل التاسع
غزوة اليمامة
سار خالد بن الوليد من البطاح على رأس عسكره ومعه المدد الذي أمده أبو بكر به، ومقصدهم جميعا اليمامة، يلقون بها مسيلمة بن حبيب متنبئ بني حنيفة، ولم يكن هذا المدد الذي بعث به الصديق دون جيش خالد أيدا أو قوة، فقد تألف من رجال من المهاجرين والأنصار أصحاب رسول الله الذين شهدوا الحرب فشهدت لهم الحرب، ومن القبائل التي عرفت في القتال بالبأس والبطش، ولقد كان ثابت بن قيس والبراء بن مالك على رأس الأنصار، وأبو حذيفة وزيد بن الخطاب على رأس المهاجرين؛ أما القبائل فكان على كل قبيلة زعيمها. وهل كان لأبي بكر أن يضن على قائد عسكره للقاء مسيلمة بمدد؟! لقد كان يعلم أن أربعين ألفا يقفون إلى جانب هذا المتنبئ في عدة القتال، وأنهم يؤمنون به ويلاقون الموت في سبيله، فإذا هو لم يرمهم بخيرة المسلمين في القيادة، وفي البطولة، وفي خوض المعامع تعرضت سياسته في قتال أهل الردة جميعا للفساد، وأبو بكر أحصف وأعلى رأيا وأبعد نظرا وأقوى إيمانا من أن يعرض الإسلام الناشئ لمثل هذا المصير.
وكان بين هؤلاء الذين أمد بهم أبو بكر خالدا جماعة من القراء حفاظ كتاب الله، كما كان بينهم جماعة ممن شهدوا بدرا، هذا مع أن أبا بكر كان يضن بأهل بدر ويقول: «لا أستعمل أهل بدر، أدعهم حتى يلقوا الله بصالح أعمالهم؛ فإن الله يدفع بهم وبالصالحين أكثر مما ينتصر بهم.» وإنما خرج الصديق على رأيه ذاك فأمد خالدا بالبدريين وبمن شهدوا المواقع في عهد الرسول؛ لأن مسيلمة كان قد استغلظ أمره في اليمامة؛ فكل تضحية في سبيل القضاء عليه دفع عن دين الله، وكل تعاون معه يزيد الثورة في بلاد العرب ضراما، ويزيد موقف المسلم حرجا.
والحق أن ما أدركه المسلمون إلى ما قبل اليمامة من النصر قد كان بالقياس إليها هينا يسيرا، كانت القبائل القريبة من المدينة والتي أرادت محاصرتها غداة بيعة الصديق، لا يدعي أحد فيها النبوة، ولا تطمع في شيء إلا أن تعفى من الزكاة، وقد نجح عدي بن حاتم في صرف القبائل عن طليحة الأسدي، فهان أمره فلم يقو على المقاومة، ولم تكن أم زمل لتقوى عليها بمن اجتمع حولها من فلول تلك القبائل، وكان بنو تميم على خلاف بينهم، وكانت سجاح قد وهنت من عزم مالك بن نويرة، فلم يكن بينه وبين خالد بن الوليد قتال، أما مسيلمة ومن اجتمع حوله باليمامة فكانوا ينكرون أن يكون محمد رسول الله إليهم، وكانوا يرون لأنفسهم ما لقريش من حق، فلهم نبي ورسول، كما لقريش نبي ورسول؛ ولهم في العرب مكانة تضارع مكانة قريش، وبينهم من الجند البواسل أضعاف جند قريش عددا، وهم إلى ذلك كتلة واحدة، لا يفت في عضدهم خلاف ولا يضعضع من عزمهم تنافس، ليس بينهم من التفاوت في العقيدة والجنس ما بين أهل اليمن، لا جرم، وذلك شأنهم، أن يكونوا أولي بأس وقوة يجب أن يحسب الصديق لها الحساب.
ولم تكن هذه العوامل وحدها هي التي لفتت نظر أبي بكر لتقوية غزاة اليمامة ما استطاع تقويتهم، فهو حين عقد ألويته الأحد عشر لحرب أهل الردة لم يكن يقيم لمسيلمة كل هذا الوزن، أو يحسب لبني حنيفة كل هذا الحساب، لذلك وجه إليهم عكرمة بن أبي جهل، ثم وجه في أثره شرحبيل بن حسنة يعاونه، وسار عكرمة إلى اليمامة ولم ير أن ينتظر شرحبيل، بل بادر بلقاء مسيلمة ليكون له فخار النصر عليه، وكان عكرمة بطلا مجربا وفارسا مغوارا، وقد اجتمع في لوائه أبطال صناديد طالما أبلوا في الحرب أحسن البلاء، مع ذلك لم يثبت عكرمة ولا ثبت لواؤه لمسيلمة، بل نكبهم بنو حنيفة فانهزموا، وبلغ من نكر هزيمتهم أن أقام شرحبيل بالطريق حيث أدركه الخبر على حقيقته الفاجعة، وكتب عكرمة لأبي بكر بالذي أصابه وأصاب جنده، فملك أبا بكر الغضب وكتب إليه: «يا بن أم عكرمة! لا أرينك ولا ترني، لا ترجعن فتوهن الناس، امض إلى حذيفة وعرفجة فقاتل أهل عمان ومهرة، ثم تسير أنت وجندك تستبرئون الناس حتى تلقى المهاجر بن أبي أمية باليمن وحضرموت.» ولا أراني في حاجة إلى بيان ما في هذا الكتاب من مظهر الغضب، وحسبك بدؤه بقوله: «يا بن أم عكرمة»، ففي هذه العبارة ما فيها من زراية واستخفاف.
كيف استغلظ أمر مسيلمة حتى بلغ هذا المبلغ؟ لقد كان على تعبير مؤرخي العرب، «رويجلا، أصيفر، أخينس» لا يدعو مظهره إلى تقدير أو احترام، ولقد ذهب مع وفد بني حنيفة إلى النبي عام الوفود، فلما بلغ الوفد المدينة لم يأخذه قومه ليلقى النبي معهم، بل خلفوه على رحالهم، ولما أسلم القوم بذل لهم النبي العطاء، فذكروا له مسيلمة، فأمر له بمثل ما أمر به لكل منهم، وقال يجامله: «أما إنه ليس بشركم مكانا.» وذلك لحفظه رحال أصحابه. أفيكون ذلك هو الذي يدعي النبوة من قومه! لذلك لم يصدقه منهم أول الأمر إلا نفر قليل.
أفمعجزة تلك التي جمعت الألوف وعشرات الألوف حوله فيما دون السنتين؟ كلا! وإنما هي شعبذة المشعبذين، وحيل المحتالين، وانقياد الجماعات لهؤلاء وأولئك، فقد كان من أهل هذه الأرجاء رجل يدعى «نهارا الرجال، أو الرحال، ابن عنفوة»، وكان قد هاجر إلى رسول الله بالمدينة، فقرأ القرآن وفقه الدين، وعرف تعاليم الإسلام؛ وكان ذكيا ذا بصيرة، أرسله رسول الله معلما لأهل اليمامة يفقههم في الدين، ويرد من اتبع منهم مسيلمة، ويشد من عزائم المسلمين ويشغب معهم على المتنبئ الكاذب، لكن «نهارا» كان أعظم فتنة على بني حنيفة من مسيلمة نفسه، فهو لم يلبث، حين رأى السواد يتبعه، أن أقر بنبوته وأن شهد بأن محمدا يقول: إن مسيلمة قد أشرك في الرسالة معه. ما عسى أن يقول أهل اليمامة عن هذا! لقد شهد شاهد من أهل محمد لمسيلمة، وهذا الشاهد رجل فقيه عالم، يتلو عليهم قرآن محمد، ويقص عليهم تعاليمه، ويفقههم في دينه، وهو يشهد لمسيلمة بالنبوة، ما إلى نفي ذلك أو الطعن في صحته بعدئذ من سبيل، لذلك أقبل الناس على مسيلمة أفواجا يؤمنون به رسولا لله إلى بني حنيفة؛ وبذلك أقبلت عليه الدنيا وأصبح في متناول يده كل ما يشاء ويهوى.
ووضع مسيلمة كل ثقته في «نهار الرجال»، وصار ينتهي إلى أمره في كل ما يريد أن يقلد محمدا فيه، وجعل نهار، لقاء ذلك، يعب من نعيم الحياة الدنيا ويستمتع بكل ما لذ له أن يستمتع به منها، وإذا الفقهاء والعلماء أسلموا لمتاع الدنيا أنفسهم، وأخضعوا لمن يملكون هذا المتاع علمهم، فويل للعلم والفقه، وويل للحقيقة أي ويل!!
ولسنا نقف عند ما يروى من محاولة مسيلمة إتيان المعجزات، ولا عند ما أوحي إليه في زعمه، فذلك كله سخف لا يثبت للتاريخ ونقده، وحسبنا ما تقدم بيانا للأسباب التي أدت إلى متابعة الناس مسيلمة وإلى استفحال أمره، حتى لم يستطع عكرمة حين لقيه إلا أن يعود منكوبا مهيض الجناح.
ولا تسل كيف اتبع مسيلمة عقلاء قومه، وأنت تعرف العصبية العربية وتعصب القبائل لاستقلالها وحريتها، ذكروا أن طليحة النمري جاء اليمامة فقال: أين مسيلمة؟ قالوا: مه! رسول الله، قال: لا، حتى أراه، فلما جاء قال له: من يأتيك؟ قال: رحمان، قال: أفي نور أم في ظلمة؟ قال مسيلمة: في ظلمة، فرد طليحة: أشهد أنك كذاب وأن محمدا صادق، لكن كذاب ربيعة أحب إلينا من صادق مضر. وفي رواية ذكرها الطبري أن طليحة قال: كذاب ربيعة أحب إلينا من صادق مضر، واتبع الرجل مع ذلك مسيلمة وقاتل وقتل معه.
أما وذلك شأن مسيلمة وما أصاب عكرمة في قتاله، فلم يكن بين قواد العرب من ينازله غير داهية الحرب وعبقريتها خالد بن الوليد، ولم يكن عجبا أن يعزز أبو بكر خالدا بالمدد، ثم إن الصديق كتب إلى شرحبيل بن حسنة أن يقيم حيث هو حتى يجيء خالد إليه، فإذا فرغوا من مسيلمة لحق شرحبيل بعمرو بن العاص يعينه على قضاعة في شمال شبه الجزيرة ...
وفيما خالد يسير إلى اليمامة التقت جيوش مسيلمة بلواء شرحبيل واضطرته إلى الارتداد، يقول بعض المؤرخين إن شرحبيل صنع ما صنع عكرمة، وأراد أن يفوز بفخار النصر فأصابه ما أصاب سلفه، ولعل الأمر لم يكن كذلك، وإنما تقدمت جند من اليمامة فلاقوا شرحبيل فارتد عنهم حتى يجيئه خالد، وأي ذلك كان فقد بقي شرحبيل حيث تراجع حتى بلغته جيوش المسلمين، فلما عرف خالد ما أصابه لامه أشد اللوم على صنيعه، ولعله كان يؤثر أن يتراجع من غير أن يشتبك مع خصمه حتى لا يقوي الظفر روحهم المعنوية.
وإن جيوش خالد لتتلاحق إلى أرض اليمامة وتبلغ أنباؤها مسيلمة إذ خرج مجاعة بن مرارة في سرية يطلب ثأرا له في بني عامر وبني تميم، وقد خاف أن يفوته إذا شغل بلقاء المسلمين وقتالهم، وأدرك مجاعة ثأره وكر راجعا مع أصحابه، حتى إذا بلغوا ثنية اليمامة كان التعب قد أخذ منهم فناموا، وأدركهم جيش خالد فتنبهوا؛ وعرف خالد أنهم من بني حنيفة، وظن أنهم خفوا لقتاله فأمر بقتلهم، لم يغن عنهم قولهم إنهم خرجوا لثأرهم، فقد سألهم عن رأيهم في الإسلام، فكان جوابهم: نقول منا نبي ومنكم نبي. وقال أحدهم، سارية بن عامر، وهو يعرض على السيف يخاطب خالدا: «أيها الرجل! إن كنت تريد بهذه القرية غدا خيرا أو شرا فاستبق هذا الرجل.» وأشار إلى مجاعة، واستبقى خالد مجاعة لم يقتله، وجعله كالرهينة؛ لأنه كان من أشراف بني حنيفة، وكان له عندهم مقام كريم، ولأن خالدا كان يطمع في معاونته إياه بالرأي. ولقد قيده بالحديد، وجعله في قبته، وجعل زوجه الجديدة ليلى أم تميم على حراسته.
كان مسيلمة قد جمع جنده بعقرباء في طرف اليمامة، وجعل الأموال وراء ظهورهم، وكان هذا الجند أربعين ألفا، وقيل ستين ألفا، وهذه أعداد قلما سمع العرب بمثلها في الجيوش من قبل، وأقبل خالد غداة اليوم الذي ارتهن فيه مجاعة فصف جنده في وجه مسيلمة صف القتال، ووقف الجيشان ينظران أمر الصدام، وكل يقدر أن مصيره معلق بمصير ذلك اليوم، ولم يبالغ أيهما في تقدير هذا الأمر؛ فيوم اليمامة من الأيام الحاسمة في تاريخ الإسلام، وفي تاريخ العرب.
كانت قوة مسيلمة قوة الردة الملحة والإنكار الصريح أن تكون نبوة محمد لغير قريش، وأن تكون للناس كافة، وكانت هذه القوة هي المركز التي تتطلع إليه الأعين من اليمن وعمان ومهرة والبحرين وحضرموت والجنوب كله من شبه الجزيرة منحدرا من مكة والطائف إلى خليج عدن، وتتطلع إليه الأعين كذلك من بلاط فارس، وكانت جيوش مسيلمة تؤمن به وتتفانى في سبيله، ثم تزيدها الخصومة القديمة بين الحجاز وجنوب الجزيرة إيمانا وتفانيا، وكانت جيوش المسلمين زهرة قوتهم والملاذ والحمى لدين الله وكلمته؛ عليها خالد أعظم قائد عرفه التاريخ في عصره، وبينها حفاظ كلام الله قراء القرآن، وقد جاءوا جميعا يملأ الإيمان قلوبهم بأن الجهاد في سبيل الله والدفع عن دينه الحق أول فرض على المؤمن، وأنه فرض عين على كل ذي علم وبينة، لا محيص إذن أن تكون المعركة حامية، وأن تكون مثلا لما لقوة الإيمان من بأس وسلطان.
وتقدم شرحبيل بن مسيلمة يحرض جيش بني حنيفة بعبارات تهتز لها النفس العربية الدقيقة الحس بكل ما يتصل بالعرض والحسب أشد اهتزاز، صاح فيهم: «يا بني حنيفة! اليوم يوم الغيرة، إن هزمتهم تستردف النساء سبيات، وينكحن غير حظيات، فقاتلوا عن أحسابكم، وامنعوا نساءكم.» وأمرهم أن يشدوا، والتقى الجمعان والمسلمون لما تحتدم حميتهم؛ يقول المهاجرون لسالم مولى أبي حذيفة: تخشى علينا من نفسك شيئا؟ فيجيبهم بئس حامل القرآن أنا إذا، بل لقد تنابزوا بشر من هذا الحديث وأسوأ منه أثرا، جعل المهاجرون والأنصار يرمون بالجبن أهل البوادي، ويرميهم أهل البوادي بمثل ما يرمونهم به، يقول أهل القرى: «نحن أعلم بقتال أهل القرى يا معشر أهل البادية منكم.» ويقول أهل البادية: «إن أهل القرى لا يحسنون القتال ولا يدرون ما الحرب.»
لذلك لم يثبتوا لجموع بني حنيفة، مع ما كان بين الفريقين من قتال شديد؛ فانثنى صف المسلمين هزيما، وزال خالد عن فسطاطه، فدخله بنو حنيفة فرأوا فيه مجاعة مقيدا بالحديد، ورأوا على مقربة منه أم تميم، وحمل رجل منهم بالسيف على ليلى يريد أن يقتلها، فصاح به مجاعة : «أنا لها جار، فنعمت الحرة؛ عليكم بالرجال!» وقطع الجند حبال الفسطاط ومزقوه بسيوفهم تاركين مجاعة وليلى ينظران ما الله صانع بالقوم جميعا.
على أن المسلمين لم يتراجعوا حتى قتلوا من بني حنيفة خلقا كثيرا، وكان في الأولين الذين قتلوا نهار الرجال القارئ الفقيه الخائن الخادع، خرج في طليعة بني حنيفة، فلقيه زيد بن الخطاب فقتله، فأزال بقتله من الوجود روح الإثم التي طوعت لمسيلمة أن يبلغ ما بلغ، وأن يقف وجنده يهدد المسلمين ويرسل الروع في نفس كل حريص على دين الله.
لم تزايل خالد بن الوليد رباطة جأشه حين زال عن فسطاطه، ولم يداخله ريب في مصير اليوم، لقد رأى أنما انهزم من جند المسلمين من انهزم لتنابز الناس وتواكلهم، فلو لم يتواكلوا انتصروا، لذلك لم يلبث، حين لاحت له فترة تهادن بين الفريقين أن صاح في الجند صيحة بطش وغضب: «امتازوا أيها الناس لنعلم بلاء كل حي، ولنعلم من أين نؤتى.» ودوت هذه الصيحة تداولها سمع الجيش كله فنبهته إلى حقيقة أمره، واطمأن خالد، حين رأى الناس امتازوا، إلى أنه قطع بأمره كل مظنة للتواكل، وأنه هيأ للنصر طريقه.
أثارت صيحة خالد ما ركب في الفطرة العربية من قوة العصبية، ورأى زعماء المسلمين ما حل بهم، فثارت في قلوبهم الحمية لدين الله، وسما الإيمان بنفوسهم إلى ما فوق مراتب الحياة، وتجلى الاستشهاد أمامهم باسما مضيئا يفتح لهم أبواب الجنة خالدين فيها، وأظلتهم نسمة من روح الله أرتهم الحياة لهوا ولعبا وغرورا باطلا، فانقلبوا من الهزيمة يطلبون النصر أو الشهادة، قال ثابت بن قيس، وكان على رأس الأنصار: «بئسما عودتم أنفسكم يا معشر المسلمين! اللهم إني أبرأ إليك مما يعبد هؤلاء (وأشار إلى أهل اليمامة) وأبرأ إليك مما يصنع هؤلاء (وأشار إلى المسلمين).» ثم اندفع في الوطيس يقاتل ويقتل، وينادي: «هكذا عني حتى أريكم الجلاد.» وأبلى بلاء أذهب عن الأنفس الروع، وظل يجاهد حتى خلصت إليه الجراح من كل جانب فمات وقد رزق الشهادة. وكان البراء بن مالك من الصناديد الذين لا يعرفهم الفرار، فلما رأى ما صنع الناس وثب وقال: «أين يا معشر المسلمين! أنا البراء بن مالك، هلم إلي!» وسمعه المسلمون وكلهم يعرفون بأسه، ففاء إليه منه فئة قاتلت القوم وقتلت منهم حتى أجلتهم عن مواقفهم، وهبت ريح أثارت الرمال في وجوه المسلمين، فذهب قوم يتحدثون إلى زيد بن الخطاب ما يصنعون، فكان جوابه: «لا والله لا أتكلم اليوم حتى نهزمهم، أو ألقى الله فأكلمه بحجتي، غضوا أبصاركم وعضوا على أضراسكم أيها الناس، واضربوا في عدوكم وامضوا قدما.» واندفع في صدر القوم يقاتل ويقتل، وجنده من ورائه، حتى لقي الله يكلمه بحجته، وصاح أبو حذيفة بمن حوله: «يا أهل القرآن، زينوا القرآن بالفعال.» وألقى بنفسه في الغمار يقاتل وقومه حتى ضمه الله إليه، وأخذ سالم مولى أبي حذيفة الراية وقال: «بئس حامل القرآن أنا إن لم أثبت.» وقاتل حتى قتل. بهذه الصيحات الصادرة من قلوب ملأها الإيمان قوة وبأسا، سرت روح الاستشهاد في جند المسلمين جميعا، فهانت أمامهم الحياة واستحبوا الشهادة عليها، فاندفعوا يطلبونها صادقين، فردوا جيوش مسيلمة إلى ما وراء خطوطها الأولى.
وكانت جيوش مسيلمة تقاتل قتال المستيئس هي كذلك، كانت تقاتل عن وطنها وتقاتل عن أحسابها، وتقاتل عن عقيدة مريضة هي عندها دون الوطن، ودون الحسب مقاما: لذلك ثبتت للمسلمين وجعلت ترد منهم من تستطيع رده، وتحارب عن كل شبر من الأرض لا تتزحزح عنه حتى يعود وتحاول استرداده.
لم يرع خالد لاستبسال بني حنيفة، بل أيقن حين سمع صيحات المسلمين، ورأى إقدامهم على الموت مستبشرين، أنه ملك زمام اليوم، وأن النصر صار منه قريبا.
لكنه حرص مع ذلك على أن يرى المسلمون هذا النصر قريبا كما يراه هو، لذلك خرج على رأس رجاله وقال لحماته: «لا أوتين من خلفي.» ثم صاح صيحة المعركة: «يا محمداه!» وهو لم يكن يريد بخروجه وبصيحته أن يشدد العزائم فحسب، بل كان يريد كذلك أن يسلك إلى النصر أسرع طرقه، وأن يستله من مكمنه، فقد رأى بني حنيفة يسقطون حول مسيلمة قتلى لا يبالون الموت، فأيقن أن أقرب الطرق إلى النصر قتل مسيلمة نفسه، لذلك داور برجاله حتى كان حياله، ثم جعل يستدرجه ليخرج إليهم، وأقبل المحيطون بمسيلمة يخرجون إلى لقاء خالد فيلقاهم الموت من سيفه قبل أن يبلغوه، وكثر في هؤلاء القتل، وشعر مسيلمة بالخزي يركبه لشدة جبنه، فساورته أن يخرج كما خرجوا، لكنه أيقن أنه مقتول إن خرج لا محالة؛ فتردد واضطرب، وإنه لفي اضطرابه وتردده إذ شد خالد بن الوليد برجاله عليه وعلى من حوله وركبوهم يعملون فيهم السلاح، هنالك صاح أصحاب مسيلمة به: «أين ما كنت تعدنا؟!» فأجابهم وقد ولى مدبرا: «قاتلوا عن أحسابكم.» وكيف يقاتلون وقد أسرع هو إلى الفرار! أوليس المنطق أن يتبعوه فارا كما اتبعوه نبيا؟!
ورأى محكم بن الطفيل فرار القوم، ورأى المسلمين يتعقبونهم، فصاح بهم: «يا بني حنيفة! الحديقة.» يريد منهم أن يحتموا بها، وكانت هذه الحديقة على مقربة منهم، وكانت لمسيلمة وتدعى حديقة الرحمان، وكانت فسيحة الأرجاء منيعة الجدران كأنها الحصن، وقد فروا إليها وتحصنوا بها من هزيمتهم بعد أن خر الألوف منهم صرعى مجدلين في الميدان بسيوف المسلمين، ووقف المحكم برجاله يحمي ظهورهم أثناء فرارهم، وإنه لكذلك يحاول صد المسلمين ويحرض رجاله على دفعهم، ويقاتل وإياهم أشد قتال حتى يتحصن قومه؛ إذ رماه عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق بسهم وقع في نحره فقتله.
تحصن مسيلمة وقومه بالحديقة، أفيحاصرهم المسلمون وإن طال حصارهم؟! كلا! إن هذا الجيش الثمل بنشوة الظفر يريد النصر كاملا، ويريده سريعا، لذلك أحاط بالحديقة يلتمس فيها فرجة تغنيه عن فتح بابها الوثيق الرتاج فلم يجد، قال البراء بن مالك: «يا معشر المسلمين، ألقوني عليهم في الحديقة.» قال الناس: «لا تفعل يا براء.» وماذا عسى أن يصنع البراء وحده بين هذه الألوف التي تكدست في الحديقة لاجئة من الموت! لكن البراء أصر على قوله وزاد: «والله لتطرحنني عليهم فيها.» ورفعه المسلمون إلى أعلى الجدار، فلما رأى القوم وكثرتهم تردد وتراجع وقال: أنزلوني. لكنه ما لبث أن عاد يقول: احملوني. وتكرر ذلك منه، ثم إنه وقف على الجدار تحدثه نفسه: إنه البراء البطل الذي يتحدث في شبه الجزيرة كلها بفعاله، ألا لئن عاد أدراجه ليقولن الناس: هم ولم يفعل، وليذهبن ذلك بشهرته في البطولة، وليتندرن الناس بإحجامه بعد الإقدام، وإن حدث ذلك فماذا يبقى له، وأي وجه يطالع الناس به؟! لذلك نضا عنه تردده وألقى بنفسه على بني حنيفة أمام باب الحديقة، فقاتلهم وقتل منهم يمنة ويسرة، حتى فتح الباب للمسلمين، ودخلوا منه زمرا تلمع في أيديهم سيوفهم، ويطل الموت من حدق عيونهم؛ فما لبث بنو حنيفة حين رأوهم أن فروا أمامهم يتراكضون في الحديقة التي انقلبت سجنا تراكض الأغنام رأت الذابح يدخل عليها بسكينه.
هذه رواية، ورواية أخرى أن المسلمين تسوروا الحديقة من الجدران وحاولوا اقتحام الباب، ولعل البراء كان بين الذين تسوروا الجدران أقربهم مكانا من الباب، وأنه ألقى بنفسه في الحديقة ففتحه للمسلمين بعد أن قاتل من وجده من القوم دونه: وذلك حين كان اللاجئون إلى الحديقة في شغل عنه بمن شدوا عليهم يرمونهم بالنبل من أعلى.
اقتحم المسلمون الحديقة والتحموا بأعدائهم فيها، وما عسى أن تجدي سيوف بني حنيفة والأشجار من حولهم تعوقهم! مع ذلك استحر القتال وكثر القتل بين الفريقين، وإن زاد قتلى بني حنيفة على قتلى المسلمين أضعافا مضاعفة، وكان وحشي الحبشي قد أسلم بعد أحد، وبعد أن قتل حمزة سيد الشهداء فيها، وكان حاضرا اليمامة، ولقد رأى مسيلمة في الحديقة فهز حربته، حتى إذا رضي عنها دفعها عليه فأصابته، وقد اشترك معه رجل من الأنصار ضرب مسيلمة بسيفه، فكان وحشي يقول: ربك أعلم أينا قتله. وصاح رجل يقول: قتله العبد الأسود.
انهدت عزائم بني حنيفة حين سمعوا الصيحة بموت مسيلمة وأسلموا أنفسهم لا يقاومون، وأمعن المسلمون فيهم قتلا، فلم تعرف بلاد العرب في تلك العصور موقعة كان فيها ما كان في موقعة اليمامة من دماء، لذلك أطلق على حديقة الرحمان اسم حديقة الموت، ولا يزال هذا اسمها في كتب التاريخ جميعا.
ولما انتهت الموقعة أمر خالد فجيء بمجاعة من فسطاطه، فطلب إليه أن يدله على مسيلمة، وجعل القوم يكشفون عن القتلى حتى مروا بمحكم اليمامة، وكان المحكم وسيما، فلما رآه خالد سأل مجاعة: هذا صاحبكم؟ وأجاب مجاعة: لا! هذا والله خير منه وأكرم؛ هذا محكم اليمامة. ودخل خالد ومجاعة حديقة الموت فمروا بجثة ذلك الرويجل الأصيفر الأخينس، فقال مجاعة: هذا صاحبكم قد فرغتم منه. وقال خالد: هذا الذي فعل بكم ما فعل.
الآن وقد انتهت فتنة مسيلمة، واجتث أصلها، وقد قضي على جيشه هذا القضاء المبرم، أفما آن لخالد أن يطمئن ولجنده أن يستريح؟
كلا! ليس هذا من طبع خالد، وليست هذه السياسة سياسته في الحرب إنما سياسته أن يبلغ النصر مداه حتى لا يترك وراءه ما قد تخشى عواقبه، لم يكفه من حرب بني أسد ومن والاهم فرار طليحة، بل بقي حتى استبرأ الأرض، وحتى قضى على أم زمل وفلولها، وهو لم يدع بني تميم حتى قضى في ديارهم على كل نافخ في نار للفتنة أو في رماد، وكذلك فعل ها هنا، قال له عبد الله بن عمرو وعبد الرحمن بن أبي بكر وقد فرغ ممن لجئوا إلى حديقة الموت: «ارتحل بنا وبالناس فانزل على الحصون.» يريدان حصون اليمامة، فكان جواب خالد: دعاني أبث الخيول فألقط من ليس بالحصون، ثم أرى رأيي. وبث الخيول فجاءوا بما وجدوا من مال ونساء وصبيان، فضمه إلى العسكر، ثم نادى بالرحيل لينزل على الحصون فيفتضها على من بها، ويفرغ بذلك من بني حنيفة فلا تقوم لهم من بعد قائمة أبدا.
كان خالد قد وثق بمجاعة بعد الذي كان من جواره أم تميم ومن إخلاصه القول له في مسيلمة ومن معه، وجاء مجاعة هذا إليه وقال: والله ما جاءك إلا سرعان الناس، وإن الحصون لمملوءة رجالا؛ فهل لك إلى الصلح على ما ورائي؟ ونظر خالد إلى جيشه فرأى قوما نهكتهم الحرب وقد أصيب من أشراف الناس فيهم خلق كثير، وهم إلى ذلك حراص على أن يعودوا متوجين بفخار النصر، أما وقد يكون مجاعة صادقا فقد رأى خالد من الخير أن يصالحه، وتصالحا على أن يحتفظ المسلمون بما غنموا إلا نصف السبي، واستطرد مجاعة يقول: الآن آتي قومي فأعرض عليهم ما قد صنعت. وانطلق فقال للنساء: البسن الحديد ثم أشرفن على الحصون. وقد فعلن، ورآهن خالد فأيقن أن مجاعة لم يكذبه، وعاد مجاعة يزعم أنهم أبوا أن يجيزوا ما صنع، وإنما أشرف على رءوس الحصون منهم من أشرف حتى يرجع إليهم فيروا رأيهم، ونزل خالد عن النصف مما كان قد تصالح عليه من السبي، فلما فتحت الحصون لم يجد إلا النساء والصبيان ومشيخة فانية ورجالا ضعفى، عند ذلك نظر إلى مجاعة مغضبا وقال: ويحك! خدعتني! وأجاب مجاعة مطمئنا: هم قومي، ولم أستطع إلا ما صنعت. وأكبر منه خالد صدق وطنيته فأجاز الصلح وسرح صاحبه.
ويروى أن مجاعة ذهب إلى قومه قبل كتابة عهد الصلح، وقبل أن يرى خالد من بالحصون، فعرضه عليهم، فاعترضه سلمة بن عمير الحنفي وقال: «لا والله لا نقبل حتى نبعث إلى أهل القرى العبيد فنقاتل ولا نصالح خالدا؛ فإن الحصون منيعة والطعام كثير والشتاء قد حضر.» وأجابه مجاعة: «إنك امرؤ غر مشئوم، غرك أني خدعت القوم حتى أجابوني إلى الصلح، فهل بقي أحد فيه خير أو به دفع! وإنما بادرتكم قبل أن يصيبكم ما قال شرحبيل بن مسيلمة: قبل أن تستردف النساء سبيات، وينكحن غير حظيات.» وسمع إليه القوم فأجازوا صلحه ولم يحفلوا بقول سلمة بن عمير.
وجاء خالدا رسول من أبي بكر ومعه أمر أن يقتل كل قادر على القتال من بني حنيفة، لكن خالدا كان قد صالحهم؛ وهو رجل متى عهد وفى، وحشر بنو حنيفة للبيعة والبراءة مما كانوا عليه؛ وجيء بهم إلى خالد في عسكره، فبايعوا وأعلنوا براءتهم من الردة ورجوعهم إلى الإسلام، وبعث خالد بوفد منهم إلى أبي بكر بالمدينة، فلما قدموا عليه قال لهم: ما هذا الذي استذل منكم ما استذل؟ قالوا: يا خليفة رسول الله، قد كان الذي بلغك مما أصابنا، وقد كان امرأ لم يبارك الله له ولا لعشيرته فيه.
ولعلك تسأل: كيف رضي خالد عن مجاعة بعد أن خدعه، وخالد من نعرف بأسا وشدة! لكن نصر المسلمين المؤزر جعل خالدا أدنى إلى التسامح؛ وقد بلغ قتلى بني حنيفة مبلغا زاده تسامحا ... قيل: إن الذين قتلوا في حديقة الموت بلغوا سبعة آلاف، وإن مثل هذا العدد قتل منهم في الميدان، وإن سبعة آلاف أخرى قتلوا حيث بث خالد جنوده تطارد الفارين، هذا إلى أن الصلح الذي عقده مجاعة قد ترك للمسلمين كل ما غنموا من ذهب وفضة وسلاح، وجعل لهم ربع السبي، وجعل لهم في كل قرية من قرى بني حنيفة حديقة ومزرعة يختارهما خالد، فإن يكن مجاعة قد أنجى بعد ذلك من بقي من قومه فلم يقتل منهم كل قادر على القتال، فإن قومه جميعا قد رجعوا إلى الإسلام وأقروا بسلطان أبي بكر، أما وقد بلغ خالد ذلك كله فليس له أن يغضب من مجاعة لخدعته أو ينقم منه بسببها.
وكما بلغ قتلى بني حنيفة ذلك العدد لم يكن يدور بخلد أحد من أهل ذلك العصر في بلاد العرب، بلغ عدد القتلى من المسلمين مبلغا جاوز كل ما كان يجري في تقديرهم، قتل فيها من المهاجرين ثلاثمائة وستون، ومن الأنصار ثلاثمائة، وذلك خلا من قتلوا من أهل القبائل، وبلغ مجموع قتلى المسلمون مائتين وألفا.
ولقد عير المهاجرون والأنصار أهل القبائل وفاخروهم بعدد قتلاهم، ولم يكن تفوق المهاجرين والأنصار مقصورا على زيادة العدد في القتلى، بل كان بين هؤلاء تسعة وثلاثون من كبار الصحابة ومن حفاظ القرآن، وأنت تعرف ما لهؤلاء وأولئك من قدر ومقام بين المسلمين، ولكن! رب ضارة نافعة؛ فقد كان مقتل هؤلاء الحفاظ سبب جمع القرآن في خلافة أبي بكر مخافة أن يستحر القتل في سائرهم من بعد، كما استحر فيمن حضر منهم غزوة اليمامة.
ولم يكن يعدل حزن المسلمين بمكة والمدينة على هؤلاء القتلى إلا فرحهم بما آتاهم الله من النصر، عاد عبد الله بن عمر بن الخطاب بعد أن أبلى في اليمامة أحسن البلاء، فلما لقيه أبوه قال له: «ما جاء بك وقد هلك زيد! ألا واريت وجهك عني!» وأجاب عبد الله: «قد حرصت على ذلك أن يكون، ولكن نفسي تأخرت فأكرمه الله بالشهادة.» وفي رواية أنه قال: «سأل الله الشهادة فأعطيها، وجهدت أن تساق إلي فلم أعطها.» وليس حزن عمر لمقتل أخيه زيد إلا مثلا لما عم مكة والمدينة من أسى على الأبطال الذين استشهدوا في قتال مسيلمة.
أفحزن خالد بن الوليد كما حزنوا؟ أفأزعجه منظر القتلى وروعه مسيل الدماء؟! كلا! ولو أن ذلك كان لما جاز له يوما أن يتولى القيادة، وأن يكون فاتح العراق والشام، وموطد الأساس الأول للإمبراطورية الإسلامية، وأين القائد القادر الذي لا يهتز طربا حين يرى الألوف من الأعداء يخرون صرعى أمام جيوشه! لم يرع خالد إذن ولم ينزعج؛ بل إنه لم يلبث حين اطمأن إلى النصر وأتم الصلح وتسلم زمام الأمر أن دعا مجاعة إليه وقال له: «زوجني ابنتك.» وكان مجاعة قد سمع بحديث ليلى أم تميم وباستدعاء أبي بكر خالدا وتعنيفه إياه على ما فعل مما يخالف تقاليد العرب، فقال: «مهلا! إنك قاطع ظهري وظهرك معي عند صاحبك.» ولم يعجب خالدا هذا الكلام فلم يعره أية عناية، بل حدق إلى الرجل وقال: «أيها الرجل زوجني.» ومن ذا يستطيع أن يعصي له إثر نصره في اليمامة أمرا! وزوجه مجاعة ابنته، فدخل بها في بيت أبيها، ثم جعل لها فسطاطا يجاور فسطاط أم تميم.
وبلغ أبا بكر ما صنع خالد، فتولته الدهشة أول ما عرفه، ثم استحالت الدهشة غضبا، فاستحال الغضب ثورة، لقد كان كل دفاعه عنه في حادث أم تميم أنه لم يقتل زوجها ليتزوجها، وأنه إن يكن أخطأ فإنما خطؤه أنه خالف تقاليد العرب وصنع ما يعيبونه من مثل هذا التزوج والدماء تقطر والمآتم قائمة، فكيف به يكرر فعلته في اليمامة وقد قتل بها من المسلمين مائتان وألف، ولم يكن قتل منهم أحد في حادث مالك بن نويرة! لذلك لم يملك أبو بكر وهو الحليم غضبه، بل دفعته ثورته فكتب إليه كتابا «يقطر بالدم» على حد تعبير الطبري، جاء فيه: «لعمري يا بن أم خالد إنك لفارغ! تنكح النساء وبفناء بيتك دم ألف ومائتي رجل من المسلمين لم يجفف بعد!» وتناول خالد الكتاب ونظر فيه فتألم لغضب أبي بكر وهز رأسه وجعل يقول: هذا عمل الأعيسر. يعني عمر بن الخطاب، لكن الأمر لم يجاوز الأسف لغضب أبي بكر من جانب خالد، ولم يجاوز هذه الثورة على خالد وهذا الكتاب إليه من جانب أبي بكر.
ومن تكون بنت مجاعة في أعياد النصر التي يجب أن تقام لخالد؟! إنها لن تزيد على قربان يطرح على قدمي هذا العبقري الفاتح الذي روى أرض اليمامة بالدماء لعلها تطهر من رجسها، بل إنها لن تزيد على جارية من الجواري اللائي يضربن بالدفوف في هذه الأعياد ويتغنين مطربات، أن عاد مهد الإسلام كاملا إلى حمى الإسلام. لكن تبارك اسمك اللهم، إن الإسلام لا يعرف هذه الأعياد، وإنما يعرف أن النصر من عند الله يؤتيه من يشاء، وقد آتاه خالدا، فأعز به دينه الحق، ومحق به الردة والمرتدين.
محا خالد الردة والمرتدين بغزوة اليمامة ومحقهم، بذلك آن لبلاد العرب أن تطمئن وتدين بدين الله، فأما ما بقي من أنباء حروب الردة بمهرة وعمان واليمن مما تلا اليمامة فلم يكن في مثل خطرها، من ثم آن لأبي بكر بعد اليمامة أن تسكن نفسه، وآن لخالد بعدها أن يستريح.
وتحول خالد إلى واد من أودية اليمامة يقال له الوبر، وكان له به منزل جمع فيه بنت مجاعة وأم تميم.
أفطال هناك مقامه وكملت هناك راحته؟ ذلك شأن لم تحدثنا به كتب التاريخ، لكن سياسة أبي بكر وسياسة الإسلام كانت لا تزال في حاجة إلى سيف خالد، وسنلقاه لذلك عما قريب، فإلى الملتقى عبقري الحرب وسيف الله! إلى الملتقى على شواطئ الفرات!
الفصل العاشر
بقية حروب الردة
البحرين، عمان ومهرة ، اليمن، كندة وحضرموت
قضى خالد بن الوليد على المرتدين في بني أسد وبني تميم وفي ربوع اليمامة، وأعاد من بقي حيا من هذه القبائل إلى حمى الدين القيم، ومنازل هذه القبائل تمتد من الشمال الشرقي لبلاد العرب حتى تتاخم خليج فارس في شرقها، وهي تقع لذلك إلى شمال المدينة من الشرق، ثم تنحدر حتى الجنوب الشرقي من مكة، وقد فسح عودها إلى الإسلام رقعة الدولة التي تدين بالولاء لأبي بكر، والتي كانت حين الردة مقصورة على مثلث من الأرض رأسه المدينة وقاعدته بين مكة والطائف.
ولم تكن ثورة القبائل النازلة إلى شمال المدينة بذات خطر تخشى آثاره، فلم يتحدث المؤرخون عن إصرار أهلها على الردة وقتالهم بسببها ما تحدثوا عن بني أسد أو عن اليمامة، ليس يستثنى من ذلك إلا دومة الجندل وعلى رأسها أكيدر الكندي؛ فقد أصرت دومة وقاتلت حتى أخضعها ابن الوليد وأسر أكيدر وفرغ منه؛ وكان إخضاعه إياها أثناء فتحه العراق، أما في الجنوب فقد بقيت الثورة على أبي بكر والردة عن الإسلام مشبوبتين، وبقي القتال ناشبا بسببها بين جيوش المسلمين وأهل هذا الجنوب زمنا غير مديد، وإذا قلت الجنوب قلت النصف من بلاد العرب، والنصف الذي لا يستهان به، وهذا النصف بشاطئ خليج فارس فخليج عدن فالبحر الأحمر إلى شمال اليمن، وتقع فيه ممالك البحرين فعمان فمهرة فحضرموت فكندة فاليمن، وأنت لا تستطيع أن تتخطى هذه الممالك من الشرق إلى الغرب أو من الغرب إلى الشرق إلا أن تخترقها جميعا، فكلها تقع تباعا على شاطئ الخليجين والبحر الأحمر، وكلها فيما خلا اليمن قليلة العرض، فما بين حدودها والشاطئ أميال معدودة، أما سائر الجنوب من شبه الجزيرة مما تحيط به هذه الممالك وتفصله عن الماء فبادية الدهناء، هذه الصحراء المخوفة يوم ذاك، والمخوفة إلى يومنا الحاضر، والتي يطلق عليها اسم الربع الخالي.
أما وذلك موقع هذه البلاد فمن اليسير أن تدرك ما كان بينها وبين فارس من اتصال، وما كان بينها وبين الشمال من بلاد العرب من شقة لا يسهل قطعها، فاجتياز الدهناء لم يكن ممكنا، والمجيء من الحجاز إلى عمان أو كندة أو حضرموت كان يقتضي السير إليها من بلاد البحرين شرقا أو من اليمن غربا، هذا الموقع الجغرافي لتلك البلاد جعل لبلاط كسرى من الصلة بها، بل من السلطان فيها، ما لم يكن له بغيرها من بلاد العرب.
أشرنا في غير موضع إلى أن اليمن ظلت في سلطان فارس إلى أن دخل بدهان في الإسلام وصار عامل النبي (عليه السلام) على اليمن بعد أن كان عامل كسرى عليها، وكان سلطان فارس أكثر وضوحا في البحرين وعمان، وكان من أبناء فارس عدد عظيم استوطن البحرين وعمان وعلت كلمته بين أهليهما، وكانت فارس تمد أبناءها هؤلاء بنفوذها وبقواتها كلما خشيت ثورة العرب الخلص بهم، أو محاولة هؤلاء العرب القضاء على سلطانهم في ربوعهم، ليس عجيبا إذن أن تكون هذه البلاد آخر من دان بالإسلام على عهد رسول الله في عام الوفود، وأن تكون أول من ارتد حين قبض، ثم تكون آخر من يعود إلى الإسلام بعد حروب طاحنة تختم حروب الردة تعيد إلى البلاد العربية وحدتها الدينية وتقيم فيها الوحدة السياسية.
وقد اختلفت الروايات متى كانت حروب الردة في هذه الأنحاء: أكانت في السنة الحادية عشرة للهجرة كما كان ما سبقها من تلك الحروب، أم كانت في السنة الثانية عشرة، ولا غناء في الوقوف عند هذا الخلاف؛ فالثابت أن حروب الردة اتصلت منذ بيعة أبي بكر إلى أن انتهت بلاد العرب كلها بالإذعان، وأن بلاد الجنوب شاركت من بعد في تنفيذ سياسة أبي بكر، قوية الإيمان صادقة العزم في الجهاد، حريصة على الظفر والاستشهاد حرص السابقين الأولين من أصحاب رسول الله.
لا مفر، وموقع البلاد الجغرافي ما رأيت، أن يبدأ المسلمون للقضاء على الردة فيها بالسير من البحرين إلى عمان فمهرة حتى اليمن، أو من اليمن إلى كندة فحضرموت حتى البحرين، وقد آثروا أن يبدءوا بالبحرين؛ لأنها كانت تجاور اليمامة، فكان انتصارهم في موقعة عقرباء ذا أثر فيها، ثم إنها كانت أيسر من اليمن أمرا، فكان البدء بها أدنى إلى فوز يجر وراءه فوزا مثله في جميع البلاد التي تجاورها. •••
مع ذلك لم يكن المجهود الذي بذله المسلمون للقضاء على الردة بالبحرين يسيرا.
والبحرين شقة ضيقة من الأرض تشاطئ مع هجر خليج فارس، وتمتد من القطيف إلى عمان، والصحراء في بعض أنحائها تكاد تتصل بماء الخليج، وهي تتصل باليمامة في جزئها الأعلى، لا يفصل بينهما إلا سلسلة من التلال يهون انخفاضها اجتيازها، وكان بنو بكر وبنو عبد القيس من قبائل ربيعة يقيمون بالبحرين وهجر، وكان يقيم بهما معهم جماعة من التجار جاءوا من الهند وفارس وتوطنوا الثغور من مصب الفرات إلى عدن، وقد تزاوج هؤلاء مع أبناء البلاد فاستولدوا بها طائفة دعيت الأبناء، وكان ملك هذه الأنحاء، المنذر بن ساوى العبدي، نصرانيا دان بالإسلام حين دعاه إليه العلاء بن الحضرمي رسول النبي إلى أهل البحرين في السنة التاسعة من الهجرة، وقد ظل المنذر ملكا على قومه بعد إسلامه، فكان يدعوهم إلى دين الله كما كان يدعوهم إليه الجارود بن المعلى العبدي، وكان الجارود قدم على النبي بالمدينة فأسلم وفقه الدين، وعاد إلى قومه يدعوهم إلى دين الحق ويفقههم فيه.
مات المنذر بن ساوى في الشهر الذي مات فيه النبي، فارتد أهل البحرين جميعا عن الإسلام، كما ارتد غيرهم من سائر أنحاء شبه الجزيرة، وأدت ردتهم إلى فرار العلاء بن الحضرمي من البحرين، كما فر غيره من رسل النبي في البلاد التي ارتدت، لكن الجارود العبدي أصر على إسلامه، وقام في قومه بني عبد القيس يسألهم عن سبب ردتهم، قالوا: لو كان محمد نبيا لما مات، فقال لهم: تعلمون أنه كان لله أنبياء فيما مضى، فما فعلوا؟ قالوا: ماتوا، قال الجارود: إن محمدا
صلى الله عليه وسلم
مات كما ماتوا، وأنا أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله، فشهد قومه كشهادته وعادوا إلى إسلامهم وثبتوا عليه.
لم يثن رجوع بني عبد القيس إلى الإسلام سائر أهل البحرين عن ردتهم، بل اجتمع الذين أصروا على الردة بزعامة الحطم بن ضبيعة أخي بني قيس بن ثعلبة، فردوا الملك في آل المنذر بن النعمان بن المنذر، وكان يسمى الغرور، ثم إنهم حاولوا أن يصرفوا الجارود والذين معه عن إسلامهم، فذهبت محاولتهم سدى، عند ذلك خرج الحطم حتى نزل القطيف وهجر واستغوى من بهما من الأبناء، كما ضم إليه من لم يكن دخل في الإسلام من قبل، وحاصر الجارود ومن معه في ناحية جواثي، مؤيدا من فارس وبلاطها، ولقد ألح عليهم في الحصار حتى اشتد عليهم الجوع وكادوا يهلكون، مع هذا لم يرجع عن إسلامه منهم أحد، وهانت عليهم الحياة في سبيل دينهم الحق.
وفيما هم كذلك كان أبو بكر قد رد العلاء بن الحضرمي إلى البحرين على رأس لواء من الولاية الإحدى عشرة لقتال المرتدين فيها، ولم يذهب العلاء إليها حتى كان خالد بن الوليد قد قضى على مسيلمة وأتباعه، لذلك أسرع من عاد إلى الإسلام من بني حنيفة ينضمون إلى العلاء حين مر باليمامة، لحق به ثمامة بن أثال في المسلمين من قومه، وقيس بن عاصم المنقري كذلك، كما جاء كثير من أهل اليمن ومن سائر القبائل التي شعرت بقوة المسلمين وبأن سلطانهم لا محالة عائد كما كان، ولا عجب! فذلك شأن الناس في كل أمة وعصر، يتبعون القوة؛ لأنهم يحسبون أن الحق يدعمها كما تدعمه، ويرون أنها لا تستطيع أن تقوم وحدها إذا كان أساسها الجور والظلم، ولقد كان قيس بن عاصم قبل أن ينضم مع قومه إلى العلاء، فيمن منعوا الزكاة وردوا الصدقات إلى الناس، فلما مر العلاء باليمامة بعد انتصار خالد، عاد قيس فجمع الصدقات وساقها إليه، ونزع عن الأمر الذي كان هم به وخرج معه إلى قتال أهل البحرين.
وانحدر العلاء بمن معه من الجند، وسلك بهم مفاوز الدهناء إلى غايته، فلما جن الليل أمر الناس بالنزول حتى لا يضلوا في تيه الصحراء، فلما نزلوا نفرت إبلهم وتفرقت في الصحراء بما عليها من الزاد والماء، ولم يجد الجند ما يقتاتون منه أو يطفئون به ظمأهم، هنالك ركبهم من الهم ما ركبهم، وأيقنوا الموت فأوصى بعضهم إلى بعض، وتحدث إليهم العلاء فقال: «ما هذا الذي ظهر فيكم وغلب عليكم؟!» وأجاب الناس: «كيف نلام ونحن إن بلغنا غدا لم تحم شمسه حتى نصير حديثا.» ورد عليهم العلاء ممتلئ القلب إيمانا يقول: «أيها الناس لا تراعوا! ألستم مسلمين؟! ألستم في سبيل الله؟! ألستم أنصار الله؟!» قالوا: «بلى!» قال: «فأبشروا، فوالله لا يخذل الله من كان في مثل حالكم.»
وهنا تجري الرواية بأنهم بعد أن صلوا الفجر نصبوا في الدعاء، حتى إذا بزغت الشمس لمع لهم سراب ثم آخر ثم ثالث، قال رائدهم: إنه الماء، فمشوا حتى نزلوا عليه فشربوا واغتسلوا ونالوا منه ما شاءوا، وتعالى النهار، فإذا إبلهم تعود إليهم من كل صوب وتبرك؛ فقام كل رجل إلى رحله فركبه، ثم إن أبا هريرة وصاحبا له من أهدى العرب بهذه البلاد كرا راجعين إلى المكان الذي كان به الماء فإذا هو لا غدير به ولا أثر للماء فيه، وقال الذي له علم بهذه الأنحاء إنه يعرف هذا المكان وإنه لم ير به ماء ناقعا قبل اليوم، ومن ثم قيل: إنما كان ذلك من آيات الله، وإن الماء إنما كان منا من الله.
ويبدي بعض المستشرقين الشك في هذه الرواية، وسواء أكان لهذا الشك موضع أم لم يكن، فقد ارتحل العلاء وجيشه إبلهم وتابعوا السير حتى بلغوا البحرين، وأرسل العلاء إلى الجارود يشد من عزيمته وعزيمة من معه، ووقف هو من الحطم موقف المتأهب للقتال، لكنه رأى المرتدين في عدد وعدة يجعلان المواجهة والهجوم عسيرين؛ لذلك خندق المسلمون وخندق المرتدون، وجعلوا يتراوحون القتال ثم يرجعون إلى خنادقهم، وأقاموا كذلك شهرا لا يدري أيهم ما يكون المصير، وإنهم لكذلك إذ لاحت للمسلمين ذات ليلة فرصة غنموها، فكانت القاضية على خصومهم قضاء حاسما.
ذلك أنهم سمعوا في عسكر المشركين ضوضاء، شديدة كأنها ضوضاء هزيمة أو قتال، فبعث العلاء من قص له الخبر، وعرف أن القوم أمعنوا تلك الليلة في الشراب، وأنهم سكارى لا يملك أحدهم دفعا عن نفسه، عند ذلك خرج المسلمون من خنادقهم واقتحموا عليهم عسكرهم ووضعوا السيوف فيهم، وجعلوا يقتلون منهم كل من أصابوا، وفر المرتدون هربا، فإذا هم بين مترد في الخندق، ودهش مقتول، ومأسور، وناج لا يعرف لنفسه مستقرا، ومر قيس بن عاصم على الحطم ملقى على الأرض فقتله، وأسر عفيف بن المنذر الغرور، فقال له العلاء: أنت غررت هؤلاء! فأسلم الغرور وهو يقول: إني لست بالغرور، ولكني المغرور! وعفا العلاء عنه.
وفر الذين نجوا من الموت أو الأسر، وركبوا الشراع إلى جزيرة دارين، فتركهم العلاء بها ريثما جاءته الكتب تنبئه بأن من بقي بالبحرين من القبائل قد فاءوا إلى أمر الله، وكان جيشه قد ازداد عدده بمن انضم إليه من أهل البلاد ومن الأبناء الذين بها، عند ذلك أمر الناس بالذهاب إلى دارين حتى لا يبقى لمرتد في الأرض ملجأ.
ودارين جزيرة من جزر الخليج الفارسي، تواجه البحرين، كان بها أديار خمسة لخمس شعب من النصارى، وتجري الرواية بأن العلاء لما أمر المسلمين بالذهاب إليها لم تكن لديهم سفن يركبون البحر عليها، فنهض فيهم فقال: «قد أراكم الله من آياته في البر لتعتبروا بها في البحر؛ فانهضوا إلى عدوكم ثم استعرضوا البحر إليهم فإن الله قد جمعهم.» وأجاب قومه: «نفعل ولا نهاب بعد الدهناء والله هولا ما بقينا!» وارتحلوا، حتى إذا أتوا ساحل البحر اقتحموا على الخيل والبغال والحمير والجمال ودعوا الله، فاجتازوا البوغاز يمشون على مثل رمله ميثاء فوقها ماء يغمر أخفاف الإبل، أفكان ذلك ساعة جزر الخليج الفارسي، أم في الرواية مبالغة وأن الأبناء الذين انضموا إلى المسلمين أعاروهم سفنا عبروا البحر عليها؟ لم تجر الرواية بهذا التصوير الأخير وإن كان في رأي بعض المؤرخين محتملا، وأيا ما يكن الأمر، فقد بلغ المسلمون دارين والتقوا فيها بالفارين فقاتلوهم أشد القتال، حتى أتوا عليهم لم يتركوا منهم مخبرا، وسبوا الذراري وساقوا الأموال التي بلغت كثرتها حدا جعل نفل الفارس ستة آلاف والراجل ألفين.
1
وعاد العلاء بن الحضرمي إلى البحرين، وعاد الناس معه إلا من أحب المقام، وكتب العلاء إلى أبي بكر بنصره، وأقام بالبحرين وقد قضى على الردة فيها، من ثم لم يكن يخشى شيئا إلا غارة قبائل البادية التي ألفت الغزو للسلب، ودسائس الفرس الذين تقلص نفوذهم في جنوب شبه الجزيرة، على أنه كان مطمئنا من هذه الناحية؛ إذ انضم إليه قبل ذهابه إلى دارين من قبائل البحرين ومن الأبناء من كفوه مئونة ما يخشى. وكان عتيبة بن النهاس والمثنى بن حارثة الشيباني على رأس المنضمين إليه، وقد قعدوا بكل طريق للمنهزمين والذين يعيثون في الأرض فسادا، بل لقد تابع المثنى السير على شاطئ الخليج الفارسي يقاوم دسائس الفرس ويقضي على أنصارهم من القبائل ومن الأبناء حتى بلغ مصب الفرات، فكان لبلوغه هذا المصب ولاتصاله بأرض العراق ولدعوته إلى الإسلام هناك أثر لعلنا لا نبالغ إذا قلنا إنه كان المقدمة لفتح العراق. •••
لسنا نسبق الحوادث بالكلام عن هذا الفتح، وما لنا نفعل وعمان تجاور البحرين، وشأن الردة فيها ليس أقل استغلاظا منه في غيرها! فلنتابع جيوش المسلمين إليها حتى تثوب وتنيب هي كذلك.
كانت عمان على عهد النبي تابعة لفارس، وكان جيفر أميرا عليها، وقد بعث النبي عمرو بن العاص يدعوه إلى الإسلام، ولما أبدى جيفر مخافته أن يتمرد قومه على الزكاة يدفعونها إلى المدينة، اتفق عمرو معه على أن تقسم بين فقراء بلاده، وأقام عمرو بين القوم، حتى إذ ارتدوا إثر وفاة النبي فر عائدا إلى المدينة، وفر جيفر إلى الجبال فاعتصم بها.
وكان قائد الثورة بالردة في عمان ذو التاج لقيط بن مالك الأزدي، وقد ادعى من النبوة ما ادعى غيره، وكان أبو بكر قد وجه حذيفة بن محصن الغلفاني من حمير إلى عمان ووجه عرفجة بن هرثمة البارقي من الأزد إلى مهرة، وأمرهما أن يسيرا معا وأن يبدآ بعمان فتكون القيادة فيها لحذيفة، وأن يثنيا بمهرة فتكون القيادة فيها لعرفجة، وأنت تذكر أن عكرمة بن أبي جهل كانت وجهته اليمامة، وأنه لم ينتظر شرحبيل بن حسنة يعاونه، بل أسرع بلقاء مسيلمة ليعود بفخار النصر فرده مسيلمة هزيما، وأنت تذكر كذلك أن أبا بكر أبى على عكرمة أن يعود إلى المدينة، وأمره أن يلحق بعمان يعين حذيفة وعرفجة على أهلها ... وقد أبلغ أبو بكر هذا الأمر إلى هذين القائدين، وعهدا إليهما أن ينتهيا إلى رأي عكرمة، وأسرع عكرمة فأدرك القائدين قبل أن يبلغا عمان، وتشاور وإياهما، فراسلوا جيفرا وأخاه عبادا
2
حيث كان معتصمين، وطلبوا إليهما أن ينضما مع أصحابهما إليهم.
وبلغ لقيطا مجيء فجمع جموعه وعسكر بدبا، وخرج جيفر وعباد ومن معهما إلى صحار وبعثا إلى عكرمة وصاحبيه فقدموا عليهم بها، والتقى الجيشان بدبا في معركة حامية الوطيس كاد الظفر يتوج فيها لقيطا وأصحابه، وإنهم لكذلك، وإن المسلمين ليضطربون ويتمشى الخلل في صفوفهم؛ إذ أقبل عليهم مدد عظيم من بني عبد القيس ومن غيرهم من قبائل البحرين حمى ظهرهم وشد أزرهم وضاعف قوتهم ودفعهم يهاجمون لقيطا ومن معه ويركبونهم ويقتلون منهم عشرة آلاف، ويسبون نساءهم وأبناءهم، ويقتسمون بينهم أموالهم، بذلك تمت كلمة ربك في عمان، واستقر للمسلمين فيها الأمر.
وأقام حذيفة بعمان يوطئ الأمور ويسكن الناس، وسار عرفجة إلى المدينة يسوق خمس الغنائم إلى أبي بكر، أما عكرمة فمضى في جيشه إلى مهرة ليرد الأمر فيها إلى نصابه، وليعيد إليها كلمة الإسلام. •••
ترك عكرمة حذيفة بعمان، أقصى الشرق من جنوب شبه الجزيرة، وسار غربا إلى مهرة حيث ارتد الناس، سار في جيش لجب تضاعف عدده بانضمام رجال القبائل التي عادت إلى الإسلام بعد أن بهرهم نصره، وبلغ مهرة فألفى جمعين مختلفين يدعو كل منهما الآخر أن يذعن لرياسته، وقد اختار عكرمة أضعف الجمعين وأقلهما عددا، فدعاهم الرجوع إلى الإسلام فأسرعوا إلى دعوته، وخرج عكرمة في جيشه وفيمن رجع إلى الحق من أهل مهرة، فلقوا الجمع الآخر واقتتلوا أشد من قتال دبا، وانتصر المسلمون فقتلوا وأسروا وغنموا، وكان فيما غنموا ألفا نجيبة.
وبعث عكرمة الخمس إلى أبي بكر مع رئيس الجمع الذي حالفه، ثم أقام زمنا لتسكين الناس، فلما سكنوا واطمأن الأمن وعاد النظام، خرج في جيشه الذي ازداد كرة أخرى أضعافا مضاعفة بمن انضم إليه من أهل مهرة، وسار يلقى المهاجر بن أبي أمية المخزومي تنفيذا لأمر الخليفة حتى يتعاون معه على رد الأمر إلى الإسلام في اليمن وفي حضرموت. •••
ترى أيسير عكرمة من مهرة إلى حضرموت وكندة؟ ذلك أدنى إلى التصور، فحضرموت تجاور مهرة وتتاخمها، لكن المهاجر بن أبي أمية كان ينحدر من الشمال إلى اليمن؛ فلم يكن لعكرمة بد من أن يسرع ليلقاه بها. هذا إلى ثورة اليمن كان قد طال مداها واستفحل أمرها، فالإسراع بالقضاء عليها يهون القضاء على من بقي بكندة وحضرموت من المرتدين.
وقد تحدثنا فيما سلف عن ثورة الأسود العنسي في اليمن، وعن ادعائه النبوة وخروجه إلى صنعاء، وعن انتشار أمره كالحريق حتى بلغ مكة والطائف، ثم عن قتله غيلة في مؤامرة اشتركت فيها زوجه آزاد التي كانت قبله تحت شهر بن بازان ملك صنعاء، وقد جرت الروايات بأن قتل الأسود انتهى إلى المدينة يوم مات النبي، فأقام أبو بكر فيروز حاكما لليمن، لكن ذيوع النبأ بموت النبي بعد قليل أعاد الثورة فيها أشد مما كانت، وتضافرت عوامل كثيرة زادت هذه الثورة ضراما واستعارا.
أول هذه العوامل تفرق السلطة في هذه الأنحاء تفرقا أضعفها، فمذ مات بازان ووزعت السلطة في اليمن بين ابنه شهر بصنعاء، وجماعة من المسلمين بنجران وهمدان وغيرهما، فكان ذلك مما شجع العنسي على الانتقاض والثورة، وكان الأمر في شمال اليمن إلى مكة والطائف كأمر اليمن في تفرق السلطة، فكان لتهامة مما يحاذي البحر حاكم، وللداخل في مختلف القبائل حكام متفرقون، وكان طبيعيا بعد أن أخفقت ثورة الأسود أن يحاول كل واحد من هؤلاء الحكام العود إلى إمارته واسترداد السلطان فيها، وأن يقاتل في سبيل ذلك ما أطلق القتال، وكان طبيعيا كذلك ألا يهدأ أنصار الأسود العنسي وأن يعملوا جهدهم ليثيروا الأرض، لعل الأمر يعود إليهم كما كان للأسود، أما وقد مات النبي وانتشرت في بلاد العرب كلها فكرة الردة، وصح لكل قبيلة ولكل فخذ من قبيلة أن يطمع في استقلاله القديم، فقد بلغ الاضطراب غايته في اليمن وما حولها من البلاد التي كانت مسرحا لنشاط العنسي وأنصاره.
والذي حدث أن هؤلاء الأنصار لم تهدأ بموت العنسي ثائرتهم، بل جعل فرسانهم يجوبون البلاد فيما بين نجران وصنعاء، لا يأوون إلى أحد، ولا يأوي إليهم أحد، وكان عمرو بن معدي كرب البطل الشاعر صاحب الصمصامة ممن انتهزوا هذه الفرصة، فحاول اقتناص السلطان من طريق الثورة، كما حاول اقتناصه أيام العنسي بالانضمام إليه، وقام قيس بن عبد يغوث من ناحيته، وكان على رأس من ائتمروا بقتل العنسي، فطرد فيروز عن الملك وطرد معه داذويه، بذلك عم الاضطراب، وتعذر رد السكينة والأمن إلى هذه الأرجاء.
كيف السبيل إلى معالجة هذه الحال؟! إن أول ما يجب عمله تأمين الطريق بين المدينة واليمن، وقد قامت قبائل عك وبعض الأشعريين على هذا الطريق الذي بساحل البحر فقطعوه مستعينين بمن انضم إليهم من الأوزاع، وأقرب مدن المسلمين إلى هذا الطريق الطائف، لذلك كتب حاكمها الطاهر بن أبي هالة إلى أبي بكر، وسار إليهم في جند قوي، واصطحب معه مسروقا الكلبي؛ فلما لقيهم أكثر القتل فيهم، حتى قيل: إن الطريق تعطل بجثثهم، وكتب أبو بكر إلى الطاهر قبل أن يأتيه هذا الفتح يشجعه ومن معه على القتال، ويأمرهم أن يقيموا بالأعلاب،
3
حتى يأمن طريق الأخابث، ومن يومئذ سميت جموع عك هذه جموع الأخابث، وظل هذا الطريق يسمى طريق الأخابث زمنا طويلا.
أما العامل الثاني الذي زاد الثورة في اليمن استعارا فالخلاف في الجنس، فقد أقام أبو بكر فيروز على صنعاء مقام شهر حين قتل ذو الخمار، وكان شركاء فيروز في المؤامرة بقتل الأسود داذويه الذي كان وزيرا معه لشهر، وجشنس صاحبهما، وقيس بن عبد يغوث قائد الجند، وكان فيروز وداذويه وجشنس من الفرس، وكان قيس عربيا من حمير اليمن ، لذلك نفس قيس على فيروز أن أسند أبو بكر إليه الأمر من دونه وعزم قتله ...
لكنه رأى حين أمعن النظر أن قتل فيروز قمين أن يجر إلى فتنة يقاومه فيها الأبناء جميعا، والأبناء هم طائفة الفرس التي استقرت باليمن منذ حكمها الأكاسرة، وقد كبرت هذه الطائفة وعلت مكانها أن كان الحكام منها، فإذا لم يستنفر قيس عرب اليمن جميعا للقضاء على الفرس جميعا كان حريا أن يصيبه ما أصاب الأسود من الإخفاق، وأن يفقد حياته كما فقد الأسود حياته.
لذلك كتب إلى ذي الكلاع الحميري وأضرابه من زعماء العرب باليمن يقول: «إن الأبناء نزاع في بلادكم، فضلاء فيكم، وإن تتركوهم لن يزالوا عليكم، وقد أرى من الرأي أن أقتل رءوسهم وأن أخرجهم من بلادنا فتبرءوا.» لكن ذا الكلاع وأصحابه لم يمالئوه ولم ينصروا الأبناء، بل اعتزلوا وأبلغوا قيسا يقولون: «لسنا من هذا في شيء، أنت صاحبهم وهم أصحابك.» ولعلهم كانوا يمالئون قيسا وينصرونه على الأبناء لولا أنهم رأوا أبا بكر والمسلمين يمالئون هؤلاء ويكلون الأمر إليهم، ورأوا الأبناء يحتفظون بإسلامهم وبالولاء لأبي بكر وسلطان المدينة، ما لهم إذن ولخلاف لا يدري أحد ما تكون نتائجه، وبخاصة بعد أن سرت الردة في اليمن فأصبحت معرضة لجيوش المسلمين، وبعد أن تجاوبت أرجاء شبه الجزيرة جميعا بنبأ هذه الجيوش ويسير النصر في ركابها!
لم يثن قيسا عن عزمه قعود ذي الكلاع وأصحابه عن نصرته، بل كاتب العصابات التي كانت مع الأسود سرا، والتي كانت تصعد في البلاد وتصوب محاربة جميع من خالفهم، وطلب إليهم أن ينضموا إليه ليكون أمره وأمرهم واحدا، وليجتمعوا على نفي الأبناء من بلاد اليمن، ولم يكن في ريب من إجابة هذه العصابات طلبته، أولم تكن طلبة الأسود وعلى أساسها انتصر؟! وكتبت العصابات بالاستجابة إليه وأخبروه أنهم إليه سراع، ولما كان ذلك كله قد حدث سرا فقد فجأ صنعاء خبر دنو هذه العصابات منها، فاجتمع أهلها يتشاورون ماذا يصنعون.
وأسرع قيس إلى فيروز، وكأنما فجأة الخبر فأزعجه واستشاره واستشار داذويه ليخدعهما ولئلا يتهماه، ودعاهما في الغد ودعا جشنس معهما إلى طعام الغداء، وأقبل داذويه قبل صاحبيه، فلم يلبث حين دخل على قيس أن عاجله فقتله، أما فيروز فجاء بعد صاحبه فسمع الهمس بأصحابه ففر يركض، ولقيه جشنس في طريقه فركض معه يطلبان النجاة، وركضت خيل قيس تلاحقهما فلم تدركهما، فعادت أدراجها تستنزل غضب قيس عليها، وبلغ الفارسان جبل خولان منزل أخوال فيروز، ولا يكاد يصدقان أنهما صارا من الهلاك بمنجاة.
وثار قيس بصنعاء فدانت واطمأن له الأمر فيها، كما اطمأن الأسود من قبل ولم يدر بخاطره أن أحدا سيقدر عليه فينزل عن عرشه، بلغه أن فيروز يزعم أنه سيستعين أبا بكر ويهاجم قيسا بقوة من بني خولان، فسخر وقال: «وما خولان! وما فيروز! وما قرار أووا إليه!» وانضم إليه عوام القبائل من عرب حمير وإن بقي الرؤساء في عزلتهم، وإذا أنس في نفسه القوة عمد إلى الأبناء ففرقهم ثلاث فرق.
فأما من أقام ولم يظهر الميل إلى فيروز فأقرهم وأقر عيالهم، وأما من فر إلى فيروز فقسم عيالهم فرقتين، وجه إحداهما إلى عدن ليحملوا في البحر، ووجه الأخرى في البر إلى مصب الفرات وأمر بهم أن ينفوا إلى بلادهم وألا يقيم باليمن منهم أحد.
وعرف فيروز ما أصاب بني وطنه، فاستنهض القبائل التي بقيت على إسلامها لينصروه، وإنما فعل ذلك ليصد بعصبية الدين نعرة الوطن، وأجابه بنو عقيل بن ربيعة كما أجابته عك، وساروا يستنقذون عيال الأبناء الذين قرر قيس نفيهم، وخرج فيروز على رأسهم، فرد أبناء فارس، والتقى بقيس دون صنعاء فأجلاه عنها، وعاد أميرا عليها من قبل خليفة المسلمين، وخرج قيس هاربا في جنده، وعاد إلى المكان الذي كانوا به حين مقتل العنسي، فقضى بفراره على الفكرة القومية التي كانت أساس دعوته، وقد عزز أبو بكر مكانة فيروز إذ بعث إليه طاهر بن أبي هالة في جيشه فأقام إلى جواره.
لكن انتصار فيروز ودفعه عن الإمارة لم يوطد السلم ولم يعد الأمن فيما وراء صنعاء من ربوع اليمن ؛ فقد بقي المرتدون بها أشد ما يكونون تحمسا لردتهم، وهنا موضع الكلام عن العامل الثالث من العوامل التي زادت الثورة في هذه الأرجاء استعارا، فلم تنس اليمن يوما ما كان بينها وبين الحجاز من تنافس جعل لها أغلب الأمر الكلمة العليا، ولم تقم بين اليمن والحجاز في عهد الرسول حروب تنكس نتائجها رءوس بني حمير، ولئن دوى في أنحاء اليمن نصر خالد وعكرمة على قبائل العرب وملوكهم، لقد كان في عشائر اليمن من الأبطال والقواد من تفاخر هذين البطلين الحجازيين، ومن تهتز لسماع أسمائهم صناديد العرب فرقا، وحسبك من هؤلاء عمرو بن معدي كرب صاحب الصمصامة، لقد كان فارس بني زيد وحاميهم، إذا ذكر اسمه فزع الأبطال وهابوا لقاءه؛ وكان له من بعد في وقائع الفتح الإسلامي على عهد عمر بن الخطاب مواقف لا يزال التاريخ يذكرها، ولم يغير تقدم سنه يومذاك من شدة بأسه، شهد غزوة القادسية وقد جاوز حد المائة فكان له فيها بلاء أحسن البلاء.
قام عمرو بالثورة مع من تابعه وانضم إليه قيس بن عبد يغوث، وتضافر الرجلان يعيثان في أنحاء البلاد فسادا، ويجدان من أهلها عونا ومددا، لم يند منها غير نجران التي تثبت بمن فيها من النصارى على عهدها لمحمد، ثم أكدت نياتها بتجديد هذا العهد مع أبي بكر.
أفيذر المسلمون اليمن وذلك شأنها يعيث بها هذان الثائران ومن سار سيرتهم، حتى يأكل بعضها بعضا وتأكل الثورة أبناءها؟ كلا! بل سار عكرمة بن أبي جهل من مهرة إلى اليمن حتى ورد أبين في جيشه اللجب زاده المنضمون من مهرة عددا وعدة، وسار المهاجر بن أبي أمية منحدرا من المدينة إلى الجنوب مارا بمكة والطائف، وفي اللواء الذي عقده أبو بكر له، والذي تأخر عن السير بضعة أشهر لمرضه، وقد اتبعه من مكة والطائف ونجران رجال لهم في الحرب دربة وشهرة، فلما سمع أهل اليمن بمقدم هذين القائدين، عكرمة والمهاجر، وبأن المهاجر قتل قوما حاولوا مقاومته، أيقنوا أن ثورتهم مقضي عليها لا محالة، وأنهم إن قاتلوا قتلوا وأسروا ولم تغن عنهم المقاومة شيئا، ولقد بلغ بهم الأمر أن اختلف قيس وعمرو بن معدي كرب وتهاجيا وأضمر كل لصاحبه الغدر، وذلك بعد أن كانا متحالفين على لقاء المهاجر وقتاله، وأراد عمرو أن ينجو بنفسه، فهاجم قيسا ذات ليلة وأخذه إلى المهاجر أسيرا، عند ذلك قبض المهاجر عليهما جميعا وبعث بهما إلى أبي بكر ليرى فيهما رأيه.
وهم أبو بكر بقتل قيس قصاصا لداذويه وقال له: «يا قيس، أعدوت على عباد الله تقتلهم وتتخذ المرتدين والمشركين وليجة من دون المؤمنين؟!» وأنكر قيس قتل داذويه، ولم تكن عليه بينة، أن تم هذا القتل في سر من الناس، لذلك تجافى أبو بكر عن دمه ولم يقتله، ونظر الصديق إلى عمرو بن معدي كرب وقال له: «أما تخزى أنك كل يوم مهزوم أو مأسور؟! لو نصرت هذا الدين لرفعك الله!»
قال عمرو: «لا جرم، لأفعلن ولن أعود.» وأخلى أبو بكر سبيلهما وردهما إلى عشائرهما.
وسار المهاجر من نجران حتى نزل صنعاء، وأمر جنده أن يتعقبوا العصابات المتمردة التي أثارت الفساد في الأرض من عهد الأسود، وأن يقتلوا من ثقفوه منهم لا يقبلون منه توبة ولا إنابة، وإنما قبل توبة من أناب من غير المتمردة، أما عكرمة فقد بقي في جنوب اليمن بعد أن استبرأ النخع وحمير، وبذلك عادت اليمن كلها آمنة مطمئنة، ورجع أهلها إلى دين الله الحق؛ وبذلك لم يبق من المرتدين في شبه الجزيرة كلها إلا أهل حضرموت وكندة.
وقبل أن نسير مع عكرمة والمهاجر للقاء المرتدين فيهما ندفع شبهة قد ترد إلى بعض النفوس حين يذكرون ما حدث باليمن، فكيف نصر أبو بكر الفرس على العرب فيها؟ وكيف ناصر فيروز ومن معه على قيس ومن اتبعه؟ ودفع هذه الشبهة يسير؛ فأنت تعلم أن الإسلام لا يرى فرقا بين عربي وعجمي إلا بالتقوى، وأن أكرم الناس عند الله أتقاهم، على أن ذلك لم يكن وحده الذي دعا أبا بكر لنصرة فيروز، بل دعاه لنصرته كذلك أن الفرس أول من أسلم باليمن، والسابقة في الإسلام لها قدرها، ثم إن العرب من أهل تلك البلاد هم الذين قاموا بالثورة على الدين الجديد، قام بها الأسود العنسي مدعيا النبوة في عهد الرسول، وقام بها أنصار الأسود من بعده، وفي جملتهم عمرو بن معدي كرب ثم قيس بن عبد يغوث.
وبازان وشهر وفيروز والفرس من حولهم هم الذين قاموا بالدعوة للإسلام في هذه الربوع، وهم الذين استمسكوا به وقاوموا خصومه، وهم الذين أقاموا على الولاء لسلطان المدينة والخليفة رسول الله حين ارتدت العرب كلها وتضرمت الأرض في شبه الجزيرة نارا، فلا عجب إذن أن يؤيد أبو بكر فيروز بسلطانه، وأن يمده بجنده وقواده، وأن يقيمه أميرا على صنعاء، كما أقامه النبي شهرا أميرا عليها، وكما أقام أباه بازان أميرا على اليمن كلها من قبله. •••
والآن فلنخط الخطوة الأخيرة في حروب الردة، ولننتقل مع المهاجر وعكرمة إلى كندة وإلى حضرموت.
ونذكر تمهيدا لذلك أن رسول الله قبض وعماله على هذه البلاد زياد بن لبيد على حضرموت، وعكاشة بن محصن على السكاسك والسكون، والمهاجر بن أبي أمية على كندة، وقد رأيت أن المهاجر كان مريضا بالمدينة فلم يخرج إلى عمله بكندة ولا خرج في لوائه إلى المرتدين باليمن إلا بعد أشهر من وفاة الرسول.
لذلك أناب عنه زياد بن لبيد في عمله منذ استعمله الرسول على كندة إلى أن خرج في جيشه إلى اليمن.
وقصة تولية المهاجر أمر كندة طريفة، فقد كان أخا أم سلمة زوج رسول الله أم المؤمنين، وقد تخلف مع ذلك عن الخروج مع النبي
صلى الله عليه وسلم
إلى غزوة تبوك، وغضب رسول الله لتخلفه وأقام زمنا عاتبا عليه، وحز في نفس أم سلمة أنها لم تفلح في استرضاء زوجها عنه، وإنها يوما لتغسل للنبي رأسه وتحدثه ويتلطف بها إذ قالت له: كيف ينفعني شيء وأنت عاتب على أخي! ورأت منه رقة فدعت أخاها، فلم يزل برسول الله ينشر عذره حتى رضي عنه وأمره على كندة وقام زياد في الإمارة مقامه حتى ذهب إليه في خلافة أبي بكر.
وكانت كندة لمجاورتها اليمن قد استجابت لدعوة الأسود العنسي أول ما قام بها، لذلك أمر رسول الله أن توزع بعض صدقات كندة في حضرموت، وبعض صدقات حضرموت في كندة، واشتد زياد في اقتضاء هذه الصدقات شدة أثارت الخواطر، ولقد استطاع أن يتغلب على المتذمرين في كندة بمن ناصره من رجال السكون الذين حافظوا على إسلامهم وعلى ولائهم فلم يخرج عليه منهم أحد، فلما مات النبي وفشت الردة في العرب، أراد زياد قمعها قبل أن يستفحل في إمارته أمرها، وشجعه على ما أراد أن التقت حوله القبائل التي بقيت على إسلامها ودفعوه لمقاتلة المتمردين عليه، وهاجم زياد بني عمرو بن معاوية في غفلة منهم فقتل رجالهم وسبى نساءهم، وسار بهن وبالأموال في طريق يفضي إلى عسكر الأشعث بن قيس زعيم كندة، وكان بين أولئك النسوة ذوات مكانة في قومهن لم يعرفن قبل ذلك اليوم إلا العزة والكرامة، فلما مررن بالأشعث نادين منتحبات: «يا أشعث، يا أشعث! خالاتك، خالاتك!» هنالك ثار في عروق الأشعث دمه، وأقسم لينقذهن أو يموت دونهن.
وكان الأشعث زعيما قويا محبوبا من قومه عظيم المكانة فيهم، ولعلك تذكر أنه ذهب عام الوفود إلى المدينة، فلقي رسول الله بها على رأس ثمانين رجلا من كندة قد لبسوا كلهم الحرير، وأنه أسلم وخطب إلى أبي بكر أخته أم فروة، فعقد أبو بكر الزواج ثم تأجل تنفيذه حتى يطمئن أهل العروس إلى فراقها، لا عجب وهذه مكانته أن يغضب قومه لغضبه، وأن يخرجوا مقاتلين معه، وقد خرجوا وقاتلوا زيادا واستردوا السبي وردوا إليهن عزتهن وكرامتهن.
من يومئذ أثارها الأشعث في كندة وحضرموت ضروسا شعواء، حتى خاف زياد مغبتها، فكتب إلى المهاجر بن أبي أمية يستنصره، وكان المهاجر قد انحدر من اليمن، كما انحدر منها عكرمة، للقضاء على ما بقي من الردة في شبه الجزيرة، وسار المهاجر من صنعاء، وسار عكرمة من اليمن وعدن، والتقيا بمأرب، وقطعا معا مفازة صيهد، وعرف المهاجر ما أصاب زيادا، فاستخلف عكرمة على الجيش، وتعجل في كتيبة سريعة، حتى إذا التقى بجيش زياد هاجم الأشعث فهزمه وقتل رجاله، وفر الأشعث والناجون معه فالتجئوا إلى حصن النجير.
كانت النجير مدينة منيعة ليس من اليسير أخذها عنوة، وكان لها ثلاثة سبل تتصل عن طريقها بما وراء الحصن، فجاء زياد فنزل على أحدها، ونزل المهاجر على الثاني، وظل الثالث مفتوحا لأهل الحصن يجيء إليهم منه المدد، على أن عكرمة قدم في جيشه فنزل على ذلك الطريق فقطع عنهم الميرة ورد الرجال.
ولم يكتف بهذا، بل بعث فرقا من الفرسان تفرقت في كندة إلى الساحل، وجعلت تمعن في الناس قتلا، ورأى المتحصنون بالنجير ما لقي قومهم، فقال بعضهم لبعض: «الموت خير مما أنتم فيه، جزوا نواصيكم حتى كأنكم قوم قد وهبتم لله أنفسكم فأنعم عليكم فبؤتم بنعمته، لعله أن ينصركم على هؤلاء الظلمة.» وجز القوم نواصيهم وتواثقوا ألا يفر بعضهم عن بعض، وخرجوا حين تنفس الصبح فاقتتلوا في الطرق الثلاثة المؤدية إلى الحصن مستميتين. ما تجدي الاستماتة وجيوش المهاجر وعكرمة لا تغلب عددا وبأسا؟! وأيقن أهل النجير حين رأوا المدد لا ينقطع عن المسلمين أن القضاء نازل بهم لا محالة، فتولاهم اليأس فخشعت نفوسهم وخافوا الموت، وخاف الرؤساء على أنفسهم فهانت عليهم نخوتهم، فخرج الأشعث إلى عكرمة ليستأمن له المهاجر على نفسه وعلى تسعة معه على أن يفتح للمسلمين الحصن ويخلي بينهم وبين من فيه، وأجابه المهاجر إلى ما طلب على أن يكتب كتابا تكون فيه أسماء التسعة الذين يطلب أمانهم، وكتب الأشعث أسماء أخيه وبني عمه وأهليهم، ونسي أن يكتب اسمه معهم، ثم جاء بالكتاب فختمه وتسلمه المهاجر، وسرب الأشعث التسعة من الحصن وفتح أبوابه للمسلمين، فاقتحموه فلم يدعوا فيه مقاتلا إلا ضربوا عنقه، وسبى المسلمون النساء ممن في النجير، فكانت عدتهن ألف امرأة، ووضع المهاجر الحرس على الأسرى وعلى الأموال حتى يحصيهم ويبعث بالخمس إلى المدينة.
يا عجبا للحياة وتصاريفها! فهذا الأشعث الذي ارتكب هذه الخيانة النكراء، والذي أسلم قومه للقتل وأسلم ألف امرأة للسبي، هو هو الأشعث الذي لم يطق أن يسمع نداء خالاته نساء بني عمرو بن معاوية: «يا أشعث، يا أشعث، خالاتك، خالاتك!» فخف للثأر لهن وأنقذهن من أسر زياد، والأشعث الذي ذهب إلى النبي فيما عرفت من كرامة فأكرمه المسلمون، هو هو الأشعث الذي تدلى إلى هذا الحضض فلعنه المسلمون ولعنه سبايا قومه وسمينه: «عرف النار» وهي كلمة معناها في لغة اليمن: الغادر. لكنه التعلق بالحياة والخوف من الموت إذا ركبا نفسا أذلاها فهانت فسقطت فيما هو شر من الموت.
ودعا المهاجر النفر الذين ذكرهم الأشعث في كتابه فأطلق سراحهم، ولما لم يكن اسم الأشعث في الكتاب الذي ختمه أمر به فشد وثاقه وهم بقتله وقال له: «الحمد لله خطأك فاك يا أشعث! قد كنت أشتهي أن يخزيك الله.» على أن عكرمة بن أبي جهل تدخل في الأمر وقال: «أخره وأبلغه أبا بكر فهو أعلم بالحكم في هذا، وإن كان رجلا نسي اسمه أن يكتبه هو ولي المخاطبة أفذاك يبطل ذاك!»
وأخره المهاجر لا عن رضا، وبعث به إلى أبي بكر مع السبي، فجعلوا يلعنونه ويلعنه المسلمون طول الطريق.
وتحدث أبو بكر إلى الأشعث فأنبه على ما صنع، وسأله: «ما تراني صانعا بك؟» وأجاب الأشعث: «إنه لا علم لي برأيك وأنت أعلم به.» قال أبو بكر: «فإني أرى قتلك.» قال الأشعث: «فإني أنا الذي راوضت القوم فما يحل دمي.» وخشي الأشعث حين طال الحوار بينه وبين أبي بكر أن يقتل فقال: «أوتحتسب في خيرا فتطلق أساري وتقيلن عثرتي وتقبل إسلامي وتفعل بي مثل ما فعلته بأمثالي وترد علي زوجتي؟» وزوجته التي يتحدث عنها هي أم فروة أخت الصديق، وتردد أبو بكر هنيهة في الإجابة، فأردف الأشعث: «افعل تجدني خير أهل بلادي لدين الله.» وبعد أن فكر أبو بكر في الأمر غفر له وقبل منه ورد عليه أهله وقال: «انطلق فليبلغني عنك خير.» وأقام الأشعث مع أم فروة بالمدينة لم يبرحها إلا في عهد عمر لفتح العراق والشام ، ثم كان له في حروب ذلك الفتح من البلاء ما أعاد إليه اعتباره في أعين الناس.
وأقام المهاجر وعكرمة بحضرموت وكندة حتى اطمأنت واستقر الأمن، فكان ذلك آخر حروب الردة، وكان القضاء على الثورة في بلاد العرب، ثم كان التوطيد لوحدتها السياسية، وحدة استمرت بعد ذلك زمنا ثم شابتها الشوائب، ولم يكن عمل المهاجر في القضاء على أسباب التمرد في هذه الأرجاء بأقل شدة منه في اليمن؛ فقد قطع دابر المتمردين، وأنزل أشد العقاب بالثائرين، ويكفيك مثلا يدل على أمثاله أن مغنيتين تغنت إحداهما بشتم رسول الله، وتغنت الأخرى بهجاء المسلمين، فقطع المهاجر يديهما ونزع ثناياهما، وقد كتب إليه أبو بكر يكشف له عن خطئه فيما صنع، ويذكر أنه كان الأولى به أن يقتل الأولى؛ لأن حد الأنبياء ليس يشبه الحدود، وأن يصفح عن الثانية إن كانت ذمية، «فلعمري لما صفحت عنه من الشرك أعظم، فاقبل الدعة، وإياك والمثلة في الناس فإنها مأثم ومنفرة إلا في قصاص.» وقس على ما صنع المهاجر بالمغنيتين ما صنع بالمتمردين والمرتدين.
وبعث أبو بكر إلى المهاجر يخيره بين إمارة حضرموت وإمارة اليمن، فاختار اليمن وذهب إلى صنعاء فأقام بها مع فيروز، وبقي زياد بن لبيد على حضرموت.
أما عكرمة فقد أعد للعود إلى المدينة، لكنه لم يرجع إليها كما خرج منها، بل عاد وقد تزوج ابنة النعمان بن الجون، لم يصده عن ذلك ما كان من تعنيف أبي بكر لخالد بن الوليد حين تزوج أم تميم وحين تزوج ابنة مجاعة فخالف بذلك تقاليد العرب، على أن زواج عكرمة بهذه الفتاة قد أثار مشكلة من نوع آخر أدت إلى تذمر الجند وإلى عرض الأمر على أبي بكر ليفصل فيه برأيه.
فقد تزوج عكرمة بابنة النعمان هذه وهو بعدن ثم حملها معه إلى مأرب، واختلف الجند في أمرها. يقول بعضهم: دعها فإنها ليست بأهل أن يرغب فيها، ويقول آخرون: لا تدعها. ورويت القصة للمهاجر فكتب إلى أبي بكر يسأله فيها، ورأى أبو بكر أن لا حرج على عكرمة فيما صنع؛ فقد كان النعمان بن الجون جاء إلى رسول الله وطمع في أن يزوجه ابنته هذه فزينها له ثم جاء بها، وزاد في زينتها أنها لم تشك وجعا قط؛ ورغب رسول الله عنها وعاد بها أبوها إلى عدن، لذلك ظن جماعة من الجند أن عكرمة يجمل به أن يرغب عنها كما رغب عنها رسول الله، ليكون له فيه
صلى الله عليه وسلم
أسوة حسنة، أما أبو بكر فلم يرض هذا الرأي، ولم ير في زواج عكرمة منها بأسا، واستقر عكرمة مع زوجه هذه بالمدينة، كما اجتمع بها الجند الذين فصلوا عنها أول حروب الردة.
وأجال أبو بكر نظره في شبه الجزيرة كلها حوله، وتذكر يوم بيعته، ففاضت بالدمع عينه شكرا لأنعم ربه أن آتاه النصر وعزز بعزمه وحزمه دين الحق، وأين المدينة يوم ذاك، المدينة الظافرة المنتصرة صاحبة السلطان على ربوع العرب كلها، من تلك المدينة التي انتفض عليها العرب وثاروا بها وحاولوا محاصرتها إثر وفاة الرسول؟! وما كان لأبي بكر مع ذلك أن يفخر أو يستكبر وهو يذكر قول الله لرسوله:
وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى (الأنفال: 17).
ما عسى أن يكون الغد؟ وكيف تزداد وحدة الدين قوة ويزداد دين الله علوا وانتشارا؟ إلى هذه الناحية اتجهت سياسة أبي بكر، وفي هذا كان يفكر منذ اطمأن إلى النصر، وقد طال تفكيره فيه حين كان قواده وجنوده لا يزالون في الجنوب يقضون على البقية الباقية من الردة وآثارها، وإذا أراد الله أن يتم أمره فقد كانت الإمبراطورية الإسلامية ثمرة هذا التفكر وهذا الاتجاه.
الفصل الحادي عشر
التمهيد للفتح وللإمبراطورية
ألف الناس من أقدم الحقب في التاريخ أن يروا الحد الشمالي لبلاد العرب ممتدا من أعلى الخليج الفارسي في شماليهما، وليس هذا الحد ممتدا في خط مستقيم، بل هو يتبع سلسلة الجبال التي تفصل بين صحراء النفود
1
وبادية الشام، وقد كانت دومة الجندل بالجوف أعلى المدائن التي تتاخم هذا الخط، وذلك فيما خلا العصور التي كانت الشام والعراق منضمتين فيها إلى الدولة العربية.
وأهل الشام الأصليون من الفينيقيين، وأهل العراق الأولون من الآشوريين، ولقد كانت الصحراء التي تترامى بينهما، وهي بادية الشام تحول في العصور الأولى دون التقائهما وامتزاجهما، فاجتياز الصحاري ليس أمرا محببا إلى أهل الحضر، وفيم يجتازونها ويتعرضون لأخطارها وليس فيها من أسباب الحياة ما يجذب النفس إليها! وإن كثيرين ليفرون حتى اليوم من اجتياز هذه البادية بالسيارة، ويؤثرون النقلة بين الشام والعراق على متن الهواء.
على أن هذه الصحراء التي لم يهو إليها الفينيقيون من أهل الشام ولا الآشوريون من أهل العراق في العصور القديمة، قد استهوت العرب أهل البادية ممن يرون الصحراء الطليقة سحرا ووحيا وحرية وجمالا، ويرون الحضر قيدا بل سجنا وإن لبست فيه الشفوف، والمؤرخون يذكرون هجرة العرب إلى الشمال لانهيار سد مأرب، ونزوح قبائل الأزد التي جرفها السيل إلى الحجاز وإلى الشام؛ أو لاتخاذ الروم البحر طريقا للتجارة بدلا من البادية، وهم يذكرون أن هذه الهجرة حدثت في القرن الثاني المسيحي، ومع التسليم بهذه الرواية، فلا ريب في أن قبائل من العرب استقرت ببادية الشام قرونا طويلة من قبل، متخلفة عن القوافل التي كانت تنزل العراق أو الشام للغزو أو للتجارة.
وقد أقام العرب الذين نزحوا إلى الشام وإلى العراق على حدود الحضر في كل من الدولتين، ولم يكن مقامهم على هذه الحدود مما اضطرتهم إليه سياسة الدولة التي نزلوا بها، وإنما جذبتهم البادية إليها فلم يستطيعوا مقاومة سحرها، واستهواهم الحضر ليكونوا على مقربة منه كي ينالوا رزقهم دون مشقة أو عناء، وذلك شأن أهل البادية في كل عصر، وأنت إذا التمست منازلهم اليوم بمصر أو بالشام أو بالعراق أو بأي بلد يتصل فيه الزرع برمال الصحراء، رأيتها على شفا الصحراء بين الحضر والبادية، ورأيت أهلها يولون شطر البادية وجوههم ويمنعون فيها بقوافلهم حينا بعد حين وكأن الوراثة البدوية المتغلغلة في نفوسهم والجارية مع الدماء في عروقهم، تأبى عليهم أن يستقروا وأن يسكنوا إلى ما يسكن أهل الحضر إليه من نظم الجماعة، وطبيعتهم هذه تفرض عليهم ألوانا من الشظف ما كان أغناهم عنها لولا ما يجدونه في فسحة البادية من حرية مطلقة، ومن اتصال بالوجود غير المحدود، ينهض عندهم عوضا عن كل شظف، ويهون عليهم كل مشقة.
ولم تلبث بادية الشام حين انتشرت فيها قبائل العرب الذين هاجروا إليها أن صارت كأنها قطعة من شبه الجزيرة، وكان الغسانيون أقوى هذه القبائل عنصرا، وأكثرهم على الحياة صبرا وجلدا، لذلك أقاموا مملكة بني غسان على حدود الشام، كما أقام اللخميون ملك الحيرة على شواطئ الفرات، ولقد كان دأب هؤلاء العرب يومئذ كدأب بني وطنهم دائما، يشاركون الأمة التي يقيمون على حدودها في مصيرها ويشاطرونها آمالها، من ثم سلموا في الشام بحكم الروم، وفي العراق بحكم الفرس، وإنما كان ذلك منهم تسليما بالأمر الواقع أكثر مما كان إذعانا لغلب المنتصر؛ لذلك كانت الأوضاع السياسية تتغير في أمرهم تبعا لقوتهم وضعفهم، وكان لهم أكثر الأمر استقلال ذاتي حرصوا عليه ودافعوا عنه.
ومن العجب في أمر البدوي أنه، على تعلقه بالبادية وحبه إياها وانجذابه إليها كلما بعد عنها، شديد الإعجاب بالحضر وما يحيط به من زروع نضرة، وما يبدو على أهله من نعمة ورفاه عيش، ولقد كان حديث الشام وجناتها وأعنابها وحورها العين مما لا يفتأ أهل مكة والمدينة وسائر بلاد الحجاز يتذاكرونه بعد رحلة الصيف، يقص نبأه من اشترك في الرحلة، ويرويه الرواة عنهم بعد ذلك، فإذا شفاه السامعين تنفرج، وحدق عيونهم يتسع، وريقهم يتحلب، شوقا لهذه الخضرة النضرة، والمياه الجارية، والأيدي الناعمة، والخدود الملساء، أن يكون لهم مثلها في بلادهم، وكأنما غاب عنهم أن بارئ النسم قسم الرزق بين الناس بالعدل، فجعل لأهل البادية الحرية الشاملة وإباء الضيم، يقابلهما شظف لا يصد عنهما ولا يقلل من الرغبة فيها والحرص عليهما؛ وجعل لأهل الحضر الرفاهية والنعمة والنظام والأمن، يقابل ذلك قيود للحرية في كل مظاهرها، ثم لا ينزع الناس إلى تحطم هذه القيود حرصا على النعمة وعلى الأمن.
كان ذلك شأن القبائل التي هاجرت إلى العراق وإلى الشام على تفاوت بينها في التعلق بالبادية، ومع أن أكثرها نعم بالحضر وترفه، لقد ظل حرصها جميعا على حياتها العربية شديدا، كما ظلت العلاقات بينها وبين شبه الجزيرة متصلة على القرون، وليس من غرضي أن أفصل ذلك في هذا الكتاب، فنطاق البحث لا يتسع له ولا يقتضيه، وإنما أثبت منه هنا ما يجلو لنا في بعض السر في تمهيد هاتين الإمارتين العربيتين، إمارة اللخميين وإمارة الغسانيين، للفتح العربي وللإمبراطورية الإسلامية في عهد أبي بكر.
أشرنا إلى أن هجرة العرب من الجنوب إلى الشمال ترجع إلى ما قبل انهيار سد مأرب، وقبل تحويل الروم طريق التجارة من البر إلى البحر، والواقع أن هذه الهجرة أقدم بكثير من هذين الحادثين، على ما كان لهما من جليل الخطر في حياة بلاد العرب، فالنسابون يذكرون أن التنقل بين القبائل كان كثير الوقوع من قبل الإسلام، وهو لا شك كان كثير الوقوع منذ أقدم العصور، فقد كان العرب يتعاملون مع البلاد التي تجاورهم؛ إذ كانوا ينقلون تجارة الشرق الأقصى إلى بلاد الشام ومصر والروم، وكانوا ينقلون تجارة الشام ومصر والروم إلى الشرق الأقصى، وكانت هذه التجارة تسير مخترقة شبه جزيرة العرب في أحد طريقين: طريق حضرموت إلى البحرين على الخليج الفارسي ثم إلى الشام، وطريق حضرموت إلى اليمن فالحجاز إلى الشام، وكانت مكة تتوسط هذا الطريق الثاني، وكان أهل الجنوب من الحضارمة واليمنيين وأهل عمان والبحرين هم السابقين الأولين للقيام بهذه التجارة، ذلك بأنهم كانوا أكثر من أهل الشمال حضارة؛ لخصب أرضهم، ولاتصالهم بالفرس اتصال جوار مباشر، لذلك كانت أكثر القبائل التي هاجرت إلى العراق وإلى الشام واستقرت بهما من قبائل الجنوب، فالغساسنة الذين أسسوا مملكتهم شرقي الشام كانوا من الأزد إحدى قبائل عمان التي تنسب إلى شعب كهلان اليمني، كذلك تنسب قبائل قضاعة وتنوخ وكلب التي استقرت على حدود الشام إلى شعب حمير اليمني، وطبيعي أن تستقر قبائل الجنوب بالعراق؛ فإن العراق يجاور حضرموت وما اتصل بها من قبائل بني حنيفة وتغلب ومن إليهم.
هاجرت بطون من هذه القبائل منذ العصور الأولى إلى بادية الشام، واستقرت بها مستقلة عن سلطان أولي السلطان في حضر العراق وفي حضر الشام، فلما انهار سد مأرب ثم انقسمت التجارة بين طريق البادية وطريق البحر، هاجرت بطون أخرى وقبائل أخرى إلى الحجاز، ثم هاجرت بعض هذه البطون منه إلى الشام، التماسا لرزق وحضارة أكثر وأرفه من حضارة البادية.
وكان السلطان في العراق وفي الشام متداولا بين الإمبراطوريتين الفارسية والرومية، فكانت فارس تنتزع الشام من الروم أحيانا وتضمه إلى العراق التابع لها، وكان الروم ينتزعون العراق من فارس أحيانا ويضمونه إلى الشام التابع لهم، وكان العرب الذين نزحوا إلى بادية الشام ينضمون في كثير من الأحيان إلى جيش الفرس أو جيش الروم، متأثرين بما في طبيعتهم من ميل إلى الغزو والسلب، وأدى ذلك إلى أن فكرت الدولتان في اتخاذ هؤلاء الذين نزلوا البادية الممتدة بينهما سدا يحول دون اعتداء إحداهما على الأخرى، لتبقى الشام خالصة للروم، والعراق خالص لفارس.
على أن هذه القبائل العربية انحازت بحكم منازلها في البادية إلى أقرب حضر لها؛ فانحاز المقيمون على حدود الشام إلى الروم، وانحاز المقيمون على حدود العراق إلى فارس، مع احتفاظهم باستقلالهم الذاتي، ومعيشتهم البدوية، وحياتهم العربية الخالصة.
لم يحل احتفاظهم بهذه الخصائص دون تأثرهم بحياة الحضر القريب منهم، وسياسة الدولة التي يخضع هذا الحضر لها، بل لقد تغلغل في هذا الحضر من أنس منهم في نفسه الكفاية لامتثال حياة الحضر والاضطلاع بأعبائها، وبلغ من ذلك أن امتد سلطانه وعظم في المملكة نفوذه، وإن المؤرخين ليذكرون أن الإمبراطور الروماني فيليب كان عربيا من بني السميذع أول من عرف التاريخ من العرب الذين هاجروا إلى الشام، وأنه كان قبل ارتقائه عرش الإمبراطورية رئيس عصابة في تعبير الغربيين، ورئيس قبائل تغير وتغزو في تعبير العرب، وأعلى ذلك من مكانة العرب المقيمين بالشام، وإن لم يصرفهم عن البادية ولم يدمجهم في حضارة الروم.
أما العرب الذين أقاموا على حدود العراق، فلزموا البادية ولم يجازفوا بالدخول إلى حوض الفرات كي لا يخضعوا لسلطان الفرس فيه، وظل ذلك دأبهم حتى كانت الفرس مسرحا لثورات وحروب داخلية اتصلت بين ملوكها وزعماء الطوائف فيها، وقد تغلب زعماء الطوائف واستقلوا بأمر الفرس، كل منهم في ناحيته، وأتاح ذلك للعرب أن دخلوا حوض الفرات وأنشئوا على شاطئه مدينة الأنبار، ثم أنشئوا الحيرة.
ولعل قبائل من هؤلاء العرب كانوا من الأسرى الذين جاء بهم الفرس حين غزواتهم الأولى لجنوب شبه الجزيرة، فقد ذهب بعض المؤرخين إلى أن الملك بختنصر الثاني غزا شبه الجزيرة وعاد منها بالأسرى، وأنزلهم على شاطئ الفرات، فأقاموا الأنبار؛ ثم إنه نقلهم من الأنبار جنوبا فأنشئوا مدينة الحيرة.
2
وأيا كانت الرواية الصحيحة فالثابت أن العرب بدأ سلطانهم يستقر في العراق من ذلك الحين، وأنهم استقلوا بالأمر غرب الفرات بين الأنبار والحيرة حين تولى أمرهم جذيمة الأبرش أو الوضاح بين سنة 215 وسنة 268 ميلادية، وقد جمع جذيمة كلمتهم وامتد سلطانه فيهم من الحيرة إلى الأنبار إلى عين التمر؛ وبذلك اشتمل غرب الفرات كله إلى بادية الشام، بل لقد امتد سلطانه على العرب المقيمين بهذه البادية حين غزا مضر المقيمين بها، وضم إليه منهم عدي بن ربيعة وشرفه وأكرمه.
وعدي هذا هو الذي تزوج الرقاش أخت جذيمة، فتناولت كتب الأدب نبأهما بآثار روائية شائقة، وهو الذي أولدها عمرو بن عدي صاحب قصة الزباء التي انتحرت قائلة: «بيدي لا بيد عمرو.»
بينما كان جذيمة الوضاح على ملك العرب بالعراق، كان أذينة بن السميذع على رأس العرب بالشام، وكان سابور عاهل فارس، وفيليب إمبراطور الروم، وقد ثار أهل الشام بسلطان فيليب لقسوة حكمه، وانتهز سابور الفرصة فسار إلى الشام وهزم جند الروم، عند ذلك نقض أذينة عهد ولائه للروم وانضم للفرس، وطمع في أن يكون له في ظل سابور من المكانة بالشام ما لجذيمة بالعراق، على أن ڨالريان تولى إمبراطورية الروم مكان فيليب، وسار بنفسه إلى الشام وهزم سابور ورده إلى فارس، عند ذلك عاد أذينة مواليا للروم، غير أن الدوائر ما لبثت أن دارت على ڨالريان، وأراد أذينة أن ينضم إلى سابور كرة أخرى، فرفض سابور ولاءه بعد الذي رآه منه، ولم يجد أذينة بدا في محافظته على سلطانه وعلى حياته من أن ينهض بنفسه على رأس عرب الشام لمحاربة فارس، وبسم له الحظ فغلبها وطارد جيوشها إلى المدائن، بذلك سمت مكانته عند الروم، وصار صاحب القدح المعلى في محاربة الفرس، حتى لقد تغلب عليهم من بعد ذلك كرة أخرى.
وحكم بعد أذينة أبناؤه، ومنهم الزباء، وقد استهوت إليها جذيمة ودعته ليتزوجها ثم قتلته، فكان جزاؤها أن ذهب إليها عمرو بن عدي ومعه قصير بن عمرو فانتحرت حتى لا يقتلها، وبوفاتها انقضى عهد بني السميذع بالشام.
وخلف الغسانيون من أبناء جفنة بني السميذع على ملك الشام، بعد فترة قصيرة حاول جماعة من بني نصر القائمين بأمر العراق أن يتولوا أثناءها أمر الشام، فلم يستقر لهم فيه أمر.
نقف هنيهة ها هنا، في منتصف القرن الثالث الميلادي، لنرى كيف صار الأمر في شرق الشام وغرب العراق إلى العرب، فهؤلاء الذين نزلوا البادية أول ما نزلوها قبائل مهاجرة أو أسرى جاء بهم ملوك فارس من شبه الجزيرة، قد صاروا إلى حيث يعتد بهم الروم وتعتد بهم فارس، وتحرص كلتا الدولتين على ولائهم لها ومناصرتهم إياها، وتعترف كلتاهما لهم بالاستقلال الذاتي، تقديرا لشجاعتهم وإقدامهم في الحروب، والحق أنهم لم يكونوا في صلتهم بهاتين الإمبراطوريتين العظيمتين دون اليمن أو حضرموت أو غيرهما من بلاد شبه الجزيرة التابعة لنفوذ فارس، بل لعلهم كانوا أكثر منها استقلالا، وأنت لذلك تستطيع أن تقول: إن بلاد العرب امتدت من خليج فارس وخليج عدن جنوبا إلى الموصل وأرمينية شمالا، وإن تأثر عرب العراق وعرب الشام بحضارة الفرس وحضارة الروم أكثر مما تأثر بهما سائر بقاع شبه الجزيرة.
ألسنا في حل، وذلك هو الشأن، من أن نقول: إن هؤلاء العرب في العراق والشام كانوا الطلائع الأولى في التمهيد للفتح العربي وللإمبراطورية الإسلامية؟ لم يدر ذلك بخلد أحد منهم بطبيعة الحال ، فلم يكن أحد منهم يتصور بعث محمد ورسالته، وما أدى إليه البعث وأدت إليه الرسالة من وحدة بلاد العرب ومن سمو النفس العربية إلى حيث سمت، لكن مقامهم بين الفرات وأودية الشام، واحتفاظهم بخصائص حياتهم العربية، واتصالهم بأهليهم وبمن يحيطون بهم في شبه الجزيرة، كل ذلك كان مقدمة لما تلاه بعد أربعة قرون من زحف عرب الجزيرة إليهم محاربين لتحل الإمبراطورية الإسلامية محل الإمبراطوريتين الفارسية والرومية.
تولى عمرو بن عدي ملك العراق بعد جذيمة الأبرش من قبل سابور، فانتقم لجذيمة من الزباء، كما قدمنا، وقد جعل عمرو الحيرة عاصمته؛ ومن يومئذ صارت عاصمة اللخميين إلى أن انحل الملك عنهم.
وكان تبعية عمرو بن عدي ومن جاء بعده من ملوك الحيرة لبلاط فارس محدودة، فكان صاحب الحيرة مطلق السلطان على غرب الفرات إلى بادية الشام، وكان ولاؤه لعاهل الفرس مقيدا بدفع العرب من شبه الجزيرة أو عرب الشام التابعين لإمبراطور الروم على أرض فارس، وبحماية التجارة التي تسير من فارس إلى الشام أو إلى بلاد العرب.
على أن هذا الولاء لم يحل دون اقتحام العرب أرض فارس، وبخاصة ما جاور منها الخليج الفارسي، وقد صدهم الفرس غير مرة، ثم اضطر سابور ذو الأكتاف إلى حفر خندق سابور على حدود بلاده ليصد عنها العدوان.
وتوالى الملوك من بني نصر على عرش الحيرة، حتى تولاه النعمان الأكبر في أواخر القرن الرابع وأوائل القرن الخامس المسيحي، وقد تولاه من قبل يزدجرد، والنعمان الأكبر هو الذي بنى قصري الخورنق والسدير، وهو صاحب قصة سنمار.
ويروى أن النصرانية بدأت تنتشر بالعراق في عهده، وأنه لان لها وعطف عليها، فأنشئت فيها برضاه أديار وبيع، بل إن بعضهم ليذهب إلى أنه تدين بالنصرانية ثم تقشف ونزل على ملكه لابنه المنذر الأكبر،
3
وذلك حين رأى يزدجرد يضطهد النصرانية ويحارب الذين يدينون بها.
وكان يزدجرد قد بعث بابنه بهرام جور إلى الحيرة لينشأ فيها، وحذق بهرام العربية واليونانية وأحاط بشئون العرب والروم خبرا، فلما مات يزدجرد أثر الفرس أن يولوا عليهم كسرى بن أردشير بن سابور ذي الأكتاف؛ لأنه نشأ بينهم حين كان بهرام غريبا عنهم، وسار بهرام يسترد عرشه وأعانه المنذر، فلما اعتلى العرش نصح له المنذر أن يعفو عن خصومه؛ بذلك كسب بهرام قلب الخاصة، ثم كسب قلب الشعب بأعطياته وبتخفيفه من أعباء الضرائب.
وبالغ بهرام جور فيما بدأه من محاربة النصرانية؛ فكان ذلك سببا في نشوب الحرب بين فارس والروم، وأعان المنذر بهرام في هذه الحروب التي انتهت إلى صلح بين الفريقين طال أمده.
كان ملوك العرب من بني غسان بالشام يناصرون الروم في محاربتهم الفرس، كما كان اللخميون يقاتلون الروم حلفاء لجيش فارس، ولعل الحروب اشتدت في هذه الفترة الأخيرة بين الإمبراطوريتين بعد أن زاد العامل الديني أوارها، فمنذ تولى قسطنطين إمبراطورية الروم في أوائل القرن الرابع الميلادي بدأت المسيحية تزدهر، وبدأ أباطرة الروم يعلون من شأنها في كل مكان، وبدأ المبشرون بها ينتشرون في مختلف البلاد، وانتقالهم من الشام إلى العراق وإلى بلاد فارس هو الذي هاج يزدجرد لمناهضة هذا الدين الجديد، وهو الذي جعل بهرام يغلو في محاربته، حتى ينتهي الأمر إلى ذلك الصلح الذي أشرنا إليه.
ماذا كان موقف العرب في العراق وفي الشام من دين الفرس، ومن دين الروم؟ أتأثرت قبائل العراق بالمجوسية فأقبلت عليها، وتأثرت قبائل الشام بالمسيحية فأقبلت عليها؟ أم أعرض هؤلاء وأولئك عن المجوسية والمسيحية جميعا، واحتفظوا بوثنيتهم العربية، وبأصنامهم يعبدونها لتقربهم إلى الله زلفى؟
للجواب على هذا السؤال قيمة كبرى في البحث الذي نتناوله الآن، فهو يكشف عن اتجاه العقلية العربية وعن ميول العرب الروحية، ويجلو لنا كيف مهدت هذه العقلية وهذه الميول للفتح العربي في ظل الإسلام.
ذكرنا أن العرب تأثروا في العراق وفي الشام بحضارة الفرس وحضارة الروم، فمن عرب العراق من أجادوا الفارسية، وفقهوا تيارات التفكير الفارسي في الفن والأدب والدين، وتبينوا مثنوية ماني وتعاليم زردشت وزندقة مزدك، ولم يكن ذلك عجيبا وقد أتاح لهم رغد العيش وترفه أن يتثقفوا، وأن تبلغ بهم ثقافتهم علم هذا كله وعلم ما اتصل بهم من تفكير اليونان وفلسفتهم، ولذلك علم أهل الحيرة قريشا الزندقة في الجاهلية والكتابة في صدر الإسلام.
4
وكان ذلك شأن عرب الشام في اتصالهم بثقافة الروم وأدبهم ودينهم، بل لعلهم كانوا أرقى عقلية من عرب الحيرة؛ لأنهم أقرب اتصالا بالثقافة اليونانية والمدنية الرومانية.
لم يأخذ عرب العراق بمجوسية الفرس مع اتصالهم بهم وإعجابهم بحضارتهم ولم يأخذ عرب الشام بوثنية الروم أو اليونان ولم يعبدوا آلهتهم، فلما استقرت المسيحية في الإمبراطورية الرومية هوت إليها النفس العربية في الشام والعراق جميعا، فلماذا؟
يذكر بعض المؤرخين أن أول ملك تنصر من بني غسان إنما تنصر لأن إمبراطور الروم لم يكن يرضى عن ولاية غير نصراني في أنحاء الإمبراطورية، وإذا فسر هذا تنصر أمراء العرب فإنه لا يفسر تنصر القبائل، فإن قيل: إن قبائل الشام تنصرت مجاراة لملوكها، فالناس على دين ملوكهم، فقد تنصر من قبائل العراق كثيرون يدينون بالولاء لملك الحيرة، وكان يحارب النصرانية حليفا لفارس، لا بد إذن من دافع آخر أدى بهذه القبائل العربية في العراق لتدين بالنصرانية وأن يكون هذا الدافع متصلا بالعقلية العربية وميولها الروحية.
والعقلية العربية بفطرتها بدوية مستقيمة، تريد الحقيقة في بساطة، وتقصد إليها في غير التواء ولا تعقيد، فزندقة مزدك ومثنوية ماني قد تستهوي من يعجبهم الحوار ويغريهم الجدل، وكذلك الأمر في فلسفة اليونان، ولا تميل العقلية العربية إلى هذا التعقيد الجدلي، لهذا هوت إلى النصرانية وأخذت بها واطمأنت إليها، ولم يدن بالمجوسية من العرب إلا قليل.
والنصرانية دين سماوي أصحابه أهل كتاب أقر الإسلام صفاءه الأول؛ فلا عجب أن يكون أخذ العرب بها في العراق وفي الشام من طلائع التمهيد للفتح العربي وللإمبراطورية الإسلامية.
على أن سبق العرب للنصرانية في العراق والشام لم يغير من خصائصهم، ولم يصرفهم عن استقلالهم وعن تعلقهم بحياتهم العربية، تولت الأميرة ماوية بنت الأرقم بن الحارث الثاني أمر العرب بالشام في أواخر القرن الرابع المسيحي، فطمع الروم في ملكها، فحاربتهم حتى اضطرتهم لمصالحتها، ثم أمدتهم بفوارس لمحاربة القوط الطامعين فيهم، وقد دافع هؤلاء الفرسان العرب عن القسطنطينية دفاعا مجيدا.
ولم يكن حرص الغساسنة على استقلالهم الذاتي إزاء الروم، وحرص اللخميين على استقلالهم الذاتي إزاء فارس، ليجمع بين هؤلاء العرب وأولئك؛ ولم يجمع بينهم اشتراكهم في الميل للمسيحية؛ بل كانت الحروب تتصل بين اللخميين والغسانيين اتصالها بين فارس والروم، أليست القبيلة أساس العمران العربي! فكما كان عرب شبه الجزيرة قبائل يقاتل بعضهم بعضا، كان عرب بادية الشام قبائل يقاتل بعضهم بعضا.
في الثلث الأول من القرن السادس المسيحي بلغ اللخميون ذروة المجد في العراق، وبلغ الغساسنة ذروته في الشام، وكان ذلك في عهد المنذر الثالث اللخمي والحارث بين جيله الغساني، تولى المنذر الثالث ابن ماء السماء ملك الحيرة بين سنة 513 وسنة 562 ميلادية في عهد قباذ ثم كسرى أنوشروان وتولى الحارث بن جبلة زوج مارية ذات القرطين ملك الغساسنة بين سنة 529 وسنة 572 ميلادية، في عهد جستنيان ثم في عهد جستين الثاني، وكان هذا الحارث يدعى الحارث الأعرج، كما كان يدعى الحارث الوهاب.
في هذا العهد ظلت الحروب متصلة بين الفرس يحالفهم المنذر، والروم يحالفهم الحارث، وكان المنذر في هذه الحروب شديد البأس قوي الشكيمة، بلغ من ذلك أن فرض الصلح الذي تم بين الفرس والروم جعلا سنويا يدفعه الروم للمنذر.
استمر هذا الصلح زمنا قوي فيه الروم واشتد ساعدهم وخشيهم كسرى، فدفع حليفه المنذر فحارب الحارث وتغلب عليه، ثم عادت الحرب فشبت بين الروم والفرس كرة أخرى إلى سنة 562م، وكان المنذر في هذه الأثناء لا يهدأ عن الحرب، يحارب خصومه، ويحارب خصوم فارس، ويوغل في ممتلكات الروم حتى يبلغ حدود مصر.
لم تخفض قوة المنذر من قدر الحارث عند الروم؛ فقد ظل في نظرهم القوة التي يواجهون بها عرب العراق، ولذلك ولاه الإمبراطور جستنيان سنة 529م ملكا على جميع قبائل العرب في سوريا، وجعل له لقب فيلارك وبطريق
وهو اللقب الذي يلي لقب الحاكم الروماني في الشام.
فكر الحارث في التخلص من المنذر، أما وهو لا يستطيع ذلك في ميادين القتال، فليجعل الغدر سلاحه، فبينما كانت الحرب ناشبة بينهما يوما أوفد مائة من رجاله عطرتهم ابنته حليمة ليلقوا ملك الحيرة ويبلغوه أن ملك الغسانيين يذعن له، وانتهز أحدهم فرصة غال فيها المنذر وقتله، عند ذلك اضطرب جند العراق، فهاجم الحارث وشتت شملهم؛ وذلك يوم حليمة.
5
بلغ مجد العرب المقيمين ببادية الشام وما جاورها من أرض العراق وأرض الشام غاية ذروته في هذا العهد، وقد أبرز الأدب الجاهلي هذا المجد في كل جلاله.
فالمنذر هو صاحب يوم النعيم ويوم البؤس، وهو الذي قتل عبيدا الأبرص في يوم بؤسه، وهو صاحب قصة شريك بن عمرو؛ وكان كثيرون من شعراء شبه الجزيرة يؤمونه، وقد عاصر الحارث الوهاب النابغة الذبياني وعلقمة الفحل.
تولى عمرو بن هند ملك العراق بعد أبيه المنذر الثالث؛ وفي السنة التاسعة من حكمه ولد رسول الله، ومن بعد عمرو توالى بنو المنذر على ملك الحيرة حتى تولاه أبو قابوس النعمان بن المنذر الرابع صاحب الشاعر الأعشى ميمون بن قيس بين سنة 583 وسنة 605م، وقد امتد ملك النعمان في بلاد فارس حتى بلغ دجلة حيث بنى النعمانية على مقربة من المدائن عاصمة كسرى، وكان النعمان على قبح صورته مترفا ولوعا بمتع الحياة ولينها، تزوج امرأة أبيه المتجردة ذات الجمال البارع، فأحبت المنخل اليشكري فقتله النعمان، وأنشأ النعمان الحدائق الغناء وجلب إليها أبهج الزهر، فشقائق النعمان تنسب إليه.
لم يرض كسرى أبرويز عما بلغ النعمان من سلطان وما يرفل فيه من نعمة فحبسه وقتله، ثم قضى على سلطان اللخميين جميعا، ولقد أقام مقامه على ملك الحيرة إياس بن قبيصة، وأقام معه مرزبانا فارسيا يدعى بهرجان وفي عهد إياس بعث النبي، وفي عهده كان يوم ذي قار، ثم كان إياس آخر ملوك الحيرة من العرب، فقد قام داذويه الفارسي من بعده مرزبانا على العراق من قبل كسرى، ويوم ذي قار من أيام العرب المأثورة، ذكروا أن النعمان بن المنذر أودع أمواله وحريمه هانئ بن قبيصة حين عرف غضب كسرى عليه، فلما قتل النعمان طالب كسرى هانئا بودائعه فأبى هانئ. ثم إن بني بكر بن وائل غضبوا لقتل النعمان فأغاروا على سواد العراق فنهبوا منه، وأراد كسرى معاقبتهم، فالتقت جيوشه بهم في ذي قار، ففاز العرب على الفرس فوزا عظيما، يروى عن النبي
صلى الله عليه وسلم
أنه قال في يوم ذي قار: «هذا أول يوم انتصفت فيه العرب من العجم ونصرت عليهم بي.»
6
ذلك أن النبي (عليه السلام) بعث عام ذي قار.
ذلك كان مصير اللخميين بالعراق، أما الغسانيون بالشام فظلوا يتولى الأمر منهم أمير بعد أمير، حتى كان جبلة بن الأيهم حاكم عرب الشام عندما فتحه عمر بن الخطاب، تولى منهم عمرو الأصغر في سنة 587م، فلجأ إليه النابغة الذبياني هربا من النعمان بن المنذر صاحب الحيرة؛ وتولى بعده أبو كرب النعمان السادس ابن الحارث الأصغر، ففاز من النابغة بخير مدائحه، ثم توالى عدد من الأمراء تدل كثرتهم على اقتسامهم ملك الغساسنة بالشام، حتى انتهى أمرهم إلى الأيهم الثاني ثم إلى ابنه جبلة بن الأيهم.
ولعل تقسيم السلطان في الشام بين عدة أمراء من العرب كان بعض سياسة الروم في عهود كثيرة، حتى لا يناوئ العرب الإمبراطورية بوحدتهم، يرجع ذلك إلى أن الغسانيين لم تك لهم عاصمة بالشام كما كانت الحيرة عاصمة اللخميين بالعراق؛ بل كانت الجابية عاصمة، وكانت تدمر عاصمة، وكانت جولان عاصمة، وكانت جلق على مقربة من دمشق عاصمة، وهذا يتفق مع السياسة المركزية التي جرت عليها إمبراطورية الروم، كما تتفق سعة السلطان لصاحب الحيرة مع سياسة اللامركزية التي جرت عليها الإمبراطورية الفارسية.
ذكرنا فيما سلف أن عرب العراق وعرب الشام استمسكوا باستقلالهم الذاتي وبحياتهم العربية، لذلك ظلت لغة أهل شبه الجزيرة لغتهم؛ فلم تمحها الفارسية في العراق؛ ولم تمحها اليونانية أو اللاتينية في الشام، وكان من أثر هذا أن ظلت صلات ملوك الحيرة وصلات بني غسان بشبه الجزيرة وثيقة، وظل الذين يشيدون بذكر هؤلاء الملوك وينالون جوائزهم هم شعراء شبه الجزيرة، وكتب الأدب ودواوين الشعراء تروي للنابغة الذبياني ولأعشى قيس ولعلقمة الفحل ولغيرهم كثيرا مما قيل في هؤلاء الملوك وكرمهم وما بلغوا من حضارة وترف، وحسان بن ثابت شاعر النبي كان وثيق الصلة بجبلة بن الأيهم قبل إسلامه.
كان احتفاظ هؤلاء العرب الذين هاجروا من شبه الجزيرة إلى بادية الشام بخصائصهم وبحياتهم ولغتهم العربية، من الطلائع التي مهدت للفتح العربي والإمبراطورية الإسلامية، وسنرى من بعد كيف انضم هؤلاء العرب في كثير من الأحيان لجيوش المسلمين، وكيف حاربوا في صفوفهم من كانوا حلفاءهم من الروم والفرس.
هل تأثرت علاقات فارس والروم بالقضاء على ملك الحيرة؟ كلا! ظلت الحروب متصلة بينهما بعد ذلك، كما كانت متصلة بينهما سبعة قرون متوالية من قبل، كانت إمبراطورية الروم لذلك العهد مسرح قلق واضطراب شجع الفرس على غزو الشام، وكان فوكاس إمبراطور الروم يومئذ في شغل بثورة هرقل عليه، لذلك أوغل الفرس في بلاد الشام، فاستولوا على إنطاكية وانحدروا منها إلى ناحية بيت المقدس يحاصرون المدن ثم يأخذونها عنوة، وتولى هرقل حين كان الفرس في مسيرتهم إلى القدس فلم يستطع ردهم أو منعهم من تخريب آثار المسيحية واليهودية بالمدينة المقدسة، ثم إن اليهود انضموا إلى المجوس وأعانوهم على النصارى، فلما استقر الأمر لكسرى بالشام، فتح مصر وحل بسلطانه محل الروم فيها، وفي هذه الانتصارات المتوالية للفرس على الروم نزل قوله تعالى:
الم * غلبت الروم * في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون * في بضع سنين لله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون * بنصر الله ... (الروم: 1 : 5).
وصدق الله العظيم ففي بضع سنين عاد هرقل فحارب الفرس وأخرجهم من مصر ومن الشام، وطاردهم إلى المدائن، واسترد منهم الصليب الأعظم ثم رده إلى بيت المقدس في حفل حافل، لذا تضعضع سلطان الفرس وإن استنفد ذلك من قوة الروم ما كان بالغ الأثر في التمهيد للفتح العربي والإمبراطورية الإسلامية.
لم يغب علم ما نزل بالروم ثم بالفرس عن أهل مكة والمدينة، ولم يغب عنهم كذلك أمر بني عمومتهم من العرب ببادية الشام وما جاورها من العراق وبلاد الشام، وقد هون ذلك من أمر الإمبراطوريتين العظيمتين في نظرهم، وزاد في تهوين أمرهما قيام النبي العربي وانضواء بلاد العرب كلها تحت لواء الإسلام، لكن ما هان من أمر الإمبراطوريتين لم يبلغ بالعرب حد التحرش بهما أو التفكير في غزوهما، وإن بلغ بهم حد اليقين باستقلال شبه الجزيرة عنها والذود عن هذا الاستقلال في وجهيهما، لذلك ألقت اليمن وألقت بلاد الجنوب كلها بنير فارس، ثم اتجه جل غرض الرسول (عليه السلام) إلى تأمين التخوم العربية في الشمال من جنود قيصر، ولم يدر بخواطر المسلمين أن يغيروا على الشام، أو أن يتخذوا من دعوة النبي هرقل إلى الإسلام سببا للإيغال فيه، ترى أيقيم أبو بكر على هذه السياسة لا يتعداها، وله في رسول الله أسوة حسنة، أم يغامر بحرب قيصر، والنصر بيد الله يؤتيه من يشاء؟
كان هذا الخاطر يدور بنفس أبي بكر حينما كان النصر يحالف أعلامه في حروب الردة، فمذ قضى خالد بن الوليد على مسيلمة باليمامة، ومنذ نشر المهاجر بن أبي أمية وعكرمة بن أبي جهل لواء الإسلام في أرجاء اليمن وما جاورها، أيقنت شبه الجزيرة كلها أن الأمر فيها صائر بإذن الله إلى خليفة رسول الله، لكن أبا بكر كان أحصف من أن يستنيم لهذا النصر فينسى به ما تنطوي عليه صدور العرب من حفيظة قد تضطرم فتضرم الثورة كرة أخرى، وليس من الخير أن تتجه أنظار العرب إلى ما وراء الحدود من شبه الجزيرة فتنسى بذلك حفائظها وتنسى أحقادها! وبادية الشام تنتشر فيها القبائل من العرب، فجدير بها أن تسمع الدعوة إلى الدين الجديد كما سمعها العرب في شبه الجزيرة، ولعل هذه القبائل إذ تتصل بأصولها، وتسمع الحديث عن أجدادها، تعود بها الذكرى إلى الماضي، فتسرع لتشارك بني عمومتها فيما هداهم الله إليه من الحق، وتشهد معهم أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله.
كان هذا الخاطر يدور بنفس أبي بكر وهو في داره المتواضعة بالمدينة، وكان يدور بنفسه وهو في مجلسه بالمسجد، ثم كان يدور بنفسه وهو يجوب الأنحاء الفقيرة آناء الليل في سر من الناس، يعين المحتاج، ويأسو كلوم الجريح، ويسكن أنات البائس والمسكين، ولم يستأثر هذا الخاطر بتفكير أبي بكر؛ لأنه يحب السلطان لنفسه أو يطمع في التوسع فيه، بل؛ لأنه كان يريد أن يطمئن المسلمون إلى دينهم وحرية الدعوة إليه، وإنما تتم للمسلمين الطمأنينة ما قام الحكم فيهم على أساس من العدل المجرد من الهوى، والحكم على هذا الأساس يقتضي الحاكم أن يسمو به فوق كل اعتبار شخصي، وأن يكون العدل والرحمة مجتمعين، وقد كانت نظرية أبي بكر في تولي أمور الدولة قائمة على إنكار الذات والتجرد لله تجردا مطلقا، جعله يشعر بضعف الضعيف وحاجة المحتاج، ويسمو بعدله على كل هوى، وينسى في سبيل ذلك نفسه وأبناءه وأهله، ثم هو مع ذلك يتتبع أمور الدولة جليلها ودقيقها بكل ما آتاه الله من يقظة وحذر.
وكان حكم أبي بكر في العام الأول من خلافته يكاد ينحصر في القضاء على الردة والقائمين بها، وهل كان للمسلمين المقيمين بالمدينة ما يختلفون فيه وأهلوهم جميعا قد ذهبوا مجندين يقمعون الثورة ويقضون على أسباب الفتنة، وهم أثناء ذلك يتتبعون أخبارهم ويقيمون الصلوات لنصرهم؟! ولى أبو بكر عمر بن الخطاب القضاء في المدينة، فأقام عاما كاملا لم يختلف إليه متقاضيان، وكان أبو عبيدة بن الجراج قائما بأمر المال، يتلقاه من الزكاة، وينظر في توزيعه على حاجات المسلمين، وكان عثمان بن عفان يكتب الأخبار للخليفة، ويكتب زيد بن ثابت ما عداها، وقد كفاه عماله على البلاد والقبائل مئونة إدارتها بما كان لهم من أمانة وحسن بصر بالأمور، ثم كانوا على اتصال دائم به في توجيه سياستهم، وقد رأيت الشيء الكثير من ذلك فيما كان بينه وبينهم من مكاتبات أثناء حروب الردة، وإذ كان أبو بكر في شغل بهذه الحروب طيلة العام الأول من خلافته، فقد أقام مقامه عتاب بن أسيد عامله على مكة في الحج بالناس ذلك العام.
لم يشغل أبا بكر عن حروب الردة شاغل إلا ما اتصل بها مما قصصنا نبأه حين الحديث عنها، أما وقد هان أمر المرتدين ولم يبق لأحد من أهل الحواضر والبوادي أن يأبه لهم أو يخشى خطرهم، أفلا يجمل بأبي بكر أن يغامر بحرب قيصر؟ إنه إن يفعل يصرف أذهان العرب في شبه الجزيرة كلها عن ثاراتهم، ويجعل لهم من الفخار ما ينسيهم ضغنهم على يثرب وأهلها، ويمهد الطريق لانتشار كلمة الله في الإمبراطورية الرومية المترامية الأطراف.
لكن غزو الروم مغامرة إن لم يحالف النصر فيها أعلام المسلمين تعرضت شبه الجزيرة لشر من الثورة التي أخمدتها حروب الردة: تعرضت للروم وحكمهم، وتعرضت بذلك لكارثة تجتث حكم المدينة، وقد تفتن المسلمين عن دينهم، ومنازلة الروم ليست هينة، إنما انتصر أبو بكر على المرتدين في شبه الجزيرة؛ لأن الإسلام قضى على الوثنية فيها، ولأن البواعث التي أدت بطليحة ومسيلمة والعنسي إلى الثورة وجدت من قبائل هؤلاء المتنبئين من رأى في ردتهم نقضا لعهد عقدوه مع رسول الله، حين ذهبت وفودهم إليه بالمدينة تعلن الإسلام وتنضوي تحت لوائه، أما الروم فكانوا نصارى أهل كتاب كالمسلمين، ثم كانوا إلى ذلك أصحاب الكلمة العليا في توجيه سياسة العالم لذلك العصر.
صحيح أنه قامت بينهم وبين فارس حروب استطالت على السنين، كتب النصر في بداءتها للفرس، ثم انتهى الغلب فيها للروم، وقد استنفدت هذه الحروب من قوى الدولتين الكبيرتين ما يحتاج إلى الجهد الضخم والسنين الكثيرة لتعويضه، لكن للفوز في الحروب بريقا يكلل هام المنتصر بأكاليل تبهر أنظار الناس، وتصدهم عن محاربة من كان النصر حليفه، ولم تكن الأمة العربية قد جربت حظها في مثل هذه الحروب من بعد لتقدم على مغامرة لها من الخطر ما يصد عنها، بل ما يخيف منها.
ولم يرد التفكير في محاربة الفرس بخاطر أبي بكر، فالحجاز لا يتصل بفارس، والبلاد العربية التي تتاخم الفرس هي البلاد التي فشت فيها الردة، ويتعذر لذلك أن يعتمد أبو بكر عليها أو يأمن أهلها في غزو دولة لا يزال لها مع ظفر الروم بها، جيوش جرارة وموارد كثيرة، أفلا يجمل بالخليفة أن يوجه همه إلى توطيد الأمن في مختلف الأرجاء من شبه الجزيرة، لتنضم كلها في وحدة تزيدها قوة وتزيد سياستها اتساقا!
وإن أبا بكر ليفكر في هذا وفي مثله إذ ترامت إليه الأنباء بأن المثنى بن حارثة الشيباني قد سار بقواته شمالا في البحرين، حتى وضع يده على القطيف وهجر، وحتى بلغ مصب دجلة والفرات، وأنه قضى في مسيرته هذه على الفرس وعمالهم ممن عاونوا المرتدين بالبحرين، وسأل أبو بكر عن هذا المثنى من هو، وإلى أي قبيلة ينتسب، وعلم أنه من البحرين من بني بكر بن وائل، وأنه انضم إلى العلاء بن الحضرمي في مقاتلة المرتدين على رأس من بقي على الإسلام من أهل هذه النواحي، وأنه تابع مسيره مساحلا الخليج الفارسي إلى الشمال، حتى نزل في قبائل العرب الذين يقيمون بدلتا النهرين فتحدث إليهم وتعاهد معهم، وعلم أكثر من ذلك أنه رجل جليل المكانة يعتمد عليه، قال عنه قيس بن عاصم المنقري: «هذا رجل غير خامل الذكر، ولا مجهول النسب، ولا ذليل العماد، هذا المثنى بن حارثة الشيباني.»
جعل أبو بكر يفكر فيما سمعه من ذلك وفيما يمكن أن ينشأ عنه، وأدى ذلك به إلى معاودة التفكير في دفع المسلمين إلى خارج شبه الجزيرة كيما ينصرفوا عن ثاراتهم الأولى وثورتهم بسلطان المدينة، ألا يستطيع هذا المثنى أن يتوغل في العراق وأن يفتح للمسلمين أبوابه ما دامت أبواب الشام مستعصية! فقبائل العرب في العراق من بني لخم وتغلب وإياد والنمر وشيبان تهوي نفوسهم إلى منابتهم في شبه الجزيرة، ومن العراق انحدرت سجاح تعلن نبوتها في بني تميم، وتعتمد على أبناء هذه القبائل العربية التي نزحت إلى شواطئ الفرات، لعل البدء بتوجيه سياسة المسلمين إلى هذه الناحية يكون أجدى من كل توجيه آخر! ولعل هذا المثنى الشيباني يكون خير طليعة لتنفيذ هذه السياسة!
وشجع أبا بكر على العود إلى هذا التفكير ما يعلمه من أمر فارس صاحبة السلطان في العراق، فقد انتصر هرقل على الفرس قبيل وفاة النبي وحطم جيوشهم في نينوى ودستجرد، وسار حتى صار على أبواب المدائن عاصمة ملكهم، وقد بلغ من ضعف سلطانهم أن تخلصت اليمن من نيرهم وأن انضم بازان إلى رسول الله، هم لم يحركوا لاستردادها ساكنا، ومن بعد ذلك تقلص سلطانهم من البحرين ومن جميع الإمارات الواقعة على الخليج الفارسي وعلى خليج عدن، ولم يفكر أحد من ملوكهم في استرداد شيء من هذا السلطان قل أو كثر، وكيف يفكرون والاضطراب ضارب بجرانه في بلاطهم، يسعى كل أمير ليقتل الجالس على العرش فيأخذ مكانه؛ حتى لقد ادعى هذا العرش في أربع سنين تسعة من الأمراء كانوا يقتتلون عليه فيقتل بعضهم بعضا، جهرة حينا وغيلة حينا، لا عجب إذن أن يصح ما تحدث الناس به إلى أبي بكر عن المثنى وفعاله، ثم لا عجب أن ينشط تفكير أبي بكر في العراق وفتحه.
وبينما يتأمل الخليفة الأمر ويطيل التفكير فيه؛ إذ أقبل المثنى إلى المدينة، وتلقاه أبو بكر وسمع منه وعرف من أنبائه ما زاده اطمئنانا إلى البدء بفتح العراق العربي أدنى إلى النجاح، ولن يلقى من المقاومة ما يلقاه التقدم في الشام وليس العراق على شواطئ النهرين دجلة والفرات وفي الجزيرة الواقعة بينهما بأقل من الشام جمالا ونضرة، وإذا لم يكن أهل الحجاز قد تحدثوا عنه ما تحدثوا عن الشام لقرب الشام منهم، ولأن الطريق إليه طريقهم في رحلة الصيف، فغدا يتحدثون عن العراق وتتجه إليه أنظارهم ما اتجهت إلى الشام، فليعزم الصديق إذن أمره، وليتوكل على الله.
وكيف له أن يتردد وقد ذكره المثنى بأن قبائل العرب التي استقرت بدلتا النهرين الغنية بألوان الزرع والفاكهة وبالطير والحيوان، مالت إلى الحضر والإقامة وعمل أبناؤها فلاحين في الأرض، وأن دهاقين الفرس يستولون على غلتها، ولا ينال أولئك العرب منها إلا القليل الذي يجود الدهاقين عليهم به، أي مرعى أخصب من هذا المرعى لبث الدعوة العربية، ولتأمين شبه الجزيرة من دسائس الفرس ومن عدوانهم، فهؤلاء العرب وإن استقروا بأرض العراق يستجيبون لا ريب لكل دعوة عربية، ومعاملة الدهاقين لهم تعدهم للثورة بهم، أما وقد أحسنوا السماع لحديث المثنى فالفرصة من ذهب، يجب ألا تضيع، بل يجب أن تتخذ خطوة لما بعدها.
ولئن حالف النجاح المسلمين في هذه الخطوة لتكونن البشير بخطوات واسعة: فليست دلتا النهرين على خصبها وحسن ثمرها أخصب العراق أو أجمله أو أحسنه ثمرا؛ بل إن دجلة والفرات ليجريان متوازيين قرابة ثلاثمائة ميل قبل أن يتصلا، ولا يقف أمر المناطق التي يتوازيان فيها عند الخصب الممرع الذي يجعل منها جنة دونها جنات الشام التي بهرت أنظار أهل الحجاز وسحرت قلوبهم، بل إن بها من ذكريات التاريخ ما يثير الإعجاب في نفس من يسمع بها من أهل شبه الجزيرة، بل من أهل الأرض جميعا، وحسبك أن مدينة «أور» التي تكشفت في عصرنا الحديث عن آثار يقرنها بعض الناس إلى آثار الفراعنة، تقع في هذه المنطقة، فإذا أنت سرت شمالا لقيك بعد قليل من توازي النهرين آثار بابل القديمة، ولقيك على شواطئ الفرات برج بابل قائما يحدث عن عظمة الآشوريين ويروي تاريخ مجدهم، ونحن نتحدث إلى اليوم عن هذا البرج فيثير حديثه في نفوسنا العجب، ما بالك به من أربعمائة وألف سنة مضت، وبما كان يثيره في النفوس حين كان العرب يسمعون حديثه!
فإذا أنت تابعت السير على الفرات قابلتك المدائن عاصمة الفرس ومهد الترف والنعمة لذلك العهد في العالم كله، فقد بلغ الفرس يومئذ من الترف ما تبلغه الأمم حين تنحدر إلى ناحية التدهور والانحلال.
لعل الأسماء التي ذكرنا قد أثارت في نفسك صورة من العظمة التاريخية لهذه البقعة التي تقع شمالي دلتا النهرين، وأثارت كذلك فيها ذكر ما كان حول هذه المدن من حدائق وكروم وزروع تمتد إلى الأفق زاهية الخضرة، يبعث أريج زهرها أروح العطر إلى الهواء الذي تتنفسه.
أما وذلك بعض ما في هذه البقاع من خصب جعل الناس يطلقون عليها اسم «جنة الأرض» لكثرة غلالها ووفرة خيراتها وبعض ما فيها من جمال يعدل ما في الشام أو يزيد عليه، فقد رأى أبو بكر صدق ما يذكره المثنى الشيباني، ورأى أن من الواجب على المسلمين أن يقوموا بتأمين العرب من أهلها، فإذا استجاب هؤلاء العرب من بعد للدعوة الإسلامية ولم يصرفهم الفرس عنها فذاك، وإلا قاتل المسلمون الفرس ليكون الميدان لحرية الرأي فسيحا، وكلمة الحق منتصرة لا محالة بالحجة والموعظة الحسنة.
واستشار أبو بكر أصحابه وعرض عليهم ما جاء به المثنى من الأنباء، وقوله له: «أمرني على من قبلي من قومي أقاتل من يليني من أهل فارس وأكفيك ناحيتي.»
وتداول القوم المشورة بينهم، فرأوا أن الأمر في حاجة إلى رأي خالد بن الوليد يكشف لهم عما يجب إذا قاوم أهل فارس المسلمين، وكان خالد باليمامة مقيما مع زوجتيه أم تميم وبنت مجاعة، يستجم بعد غزوة عقرباء، ويطمئن إلى العيش بينهما، وقد استدعاه أبو بكر على عجل فحضر، ولم يتردد خالد حين عرف ما جاء المثنى فيه عن الإشارة إلى ما قد يترتب من النتائج على مقاومة الفرس لجيش بن حارثة، فقد يدعوهم انتصارهم إلى التفكير في استرداد نفوذهم في البحرين وما جاورها، فأما إن أعد الخليفة للحرب عدتها، وجعل ما قام به المثنى من قبل طليعة فتح يلقي إلى المسلمون بفلذ أكبادهم فلا ريب عنده في أن العراق سيفتح أبوابه، وفي أن العرب المقيمين به عاملين في الزراعة سيكونون من عوامل النصر لبني جنسهم.
وأتم أولو الرأي المداولة فيما بينهم، وأقروا أبا بكر على تأمير المثنى، عند ذلك أمره أن يتابع ما بدأ بين العرب من عهد ودعوة إلى الحق، فكان أمره هذا الخطوة الأولى في فتح العراق، فأما الخطوة الحاسمة فكانت توجيه خالد بن الوليد على القيادة العامة لجيوش الفتح، وفعال خالد في العراق وانتصاراته على الفرس موضع حديثنا في الفصل التالي. •••
هذه الرواية في التمهيد لفتح العراق هي الراجحة في رأينا، على أن طائفة من المؤرخين يذهبون إلى أن المثنى لم يذهب إلى المدينة ولم يقابل أبا بكر، وأنه أمعن في السير بجيشه في دلتا الفرات، فلقيه هرمز، فكانت بينهما وقعات نمى خبرها إلى أبي بكر فلما سأل عن المثنى وعرف من هو وماذا كانت فعاله في البحرين أثناء حروب الردة، أصدر أمره إلى خالد بن الوليد كي يخف إليه، ويعينه على هرمز، وينصره والعرب الذين آزروه ليريحهم من هذا الطاغية الفارسي، وهذه الرواية مرجوحة عندنا وإن كنا لا نقطع بعدم صحتها، فقد انتصر المثنى على الفرس ولم يكن في حاجة إلى مدد، وشجع انتصاره أبا بكر على التفكير في غزو العراق، فأمر خالدا أن يذهب إلى دلتا الفرات يعزز المثنى، ثم يسير حتى يفتح الحيرة عاصمة العرب اللخميين، وأمر عياض بن غنم أن يسير إلى دومة الجندل يخضع أهلها الذين تمردوا وارتدوا ثم يسير من هناك إلى الحيرة، وأي القائدين سبق صاحبه فله القيادة العليا وله الأمر في تلك البلاد.
وإنما ذكرنا أن الرواية الثانية مرجوحة، ولم نقل إنها غير صحيحة، لما في الروايات التي انتهت إلينا عن ذلك العهد من الاضطراب، ولقد بلغ من اضطرابها حين الحديث عن فتح العراق ومقدماته أن تردد الطبري وابن الأثير وغيرهما فلم يرجحوا رواية على أخرى.
ويرى بعض المتأخرين من المؤرخين أن خالدا حين ذهب إلى دلتا الفرات لم تكن أمامه خطة مرسومة ولا غاية معينة، وإنما ذهب مددا للمثنى ينقذه وينقذ جيشه، فلما انتصر على الفرس وتقدم إلى الشمال وبعث إلى الخليفة بالأخماس وبأنبائه كان هو الذي صور الفتح كيف يكون، وهو الذي اتجه إلى الحيرة فما شمالها، ولقد يضعف من هذه الرواية أن أوامر أبي بكر إلى قواده كانت صريحة دائما في ألا ينتقل أحدهم من غزاة إلى ما بعدها إلا بإذنه، ذلك ما رأيناه في حروب الردة، وذلك ما كان من بعد في فتح العراق والشام فليس من الممكن مع هذا أن يكون فتح العراق فلته، أو أن يسير خالد بن الوليد مستقلا عن أوامر أبي بكر.
والآن فلنسر مع المثنى إلى دلتا النهرين، وعما قريب يلحقنا خالد هناك ليضرب الفرس في العراق، ولينتقل منه إلى الشام فيمهد للقضاء على دولة الروم في آسيا القضاء الأخير.
الفصل الثاني عشر
فتح العراق
أجاب أبو بكر طلب المثنى بن حارثة الشيباني، فأمره على من معه من قومه ليقاتل أهل فارس، فلما بلغته أنباء نصره بدلتا النهرين رأى أن يمده ليتابع غزواته لذلك أمر خالد بن الوليد أن يجمع بقية جنده وأن يسير إليه، وأن تكون القيادة العليا لخالد بطبيعة الحال، ولقد أمر عياض بن غنم أن يسير إلى دومة الجندل يخضع أهلها المتمردين ثم يسير منها شرقا إلى الحيرة، فإن بلغها قبل خالد فالأمر فيها له، وخالد فيها من قواده، وإن سبقه خالد إليها فالأمر والقيادة لخالد وعياض من قواده.
وكان العرب في العراق يعملون فلاحين في أرضه، ثم ينالهم القليل من خيره أما وافر الخير فيذهب إلى الدهاقين الفرس الذين كانوا يسومون العرب الخسف والظلم، وقد أصدر أبو بكر أوامره إلى قواده بالعراق ألا ينالوا هؤلاء العرب الفلاحين بسوء؛ لا يقتلون منهم أحدا، ولا يأخذون منهم أسرى، ولا يسيئون إليهم في أمر يتصل بهم؛ فهم عرب مثلهم، وهم يشعرون بالظلم تحت نير فارس، فيجب أن يشعروا بزوال هذا الظلم حين مقدم العرب، ويجب أن يعمهم العدل على أيدي بني عمومتهم، ذلك واجب على المسلمين يأمرهم الله به، وهو بعد السياسة الحكيمة التي تكفل للمسلمين النصر، وألا يؤتوا بعد نصرهم من خلفهم.
وكان جنود خالد قد قل عددهم، إذ قتل منهم باليمامة ما سبق أن ذكرنا، وعاد منهم مسرحا إلى قومه من رغب في الرجوع إليهم، وما كان لخالد أن يستعدي هؤلاء وقد أمره أبو بكر أن يأذن لمن شاء بالرجوع، وألا يستفتح بمتكاره، وألا يكون معه في الغزو أحد ممن ارتد حتى يرى الخليفة رأيه فيه، وطلب خالد إلى أبي بكر المدد فأمده بالقعقاع بن عمرو التميمي، وعجب قوم وقالوا: أتمد رجلا قد ارفض عنه جنوده برجل؟! وأجابهم أبو بكر: لا يهزم جيش فيهم مثل هذا! وكذلك كان جوابه حين أمد عياضا بعبد بن عوف
1
الحميري، على أنه كتب إلى خالد حين بعث إليه القعقاع يقول: «استنفر من قاتل أهل الردة ومن ثبت على الإسلام بعد رسول الله
صلى الله عليه وسلم .»
2
ولم يلبث خالد حين عاد ينظم جيشه أن حشد ثمانية آلاف من ربيعة ومضر إلى ألفين كانا معه، ثم سار إلى العراق على رأس عشرة آلاف، قدم بهم على ثماني آلاف كانوا مع أمراء الجند المسلمين الذين سبقوه إليه، والمثنى في مقدمتهم.
وكان أمر أبي بكر إلى خالد إذا دخل العراق أن يبدأ بالأبلة على الخليج الفارسي، وكانت الأبلة الثغر الذي تسير التجارة منه إلى الهند والسند وترد إليه منهما للعراق، وقد اختلف الرواة: أفتح المسلمون الأبلة في هذه الحرب ثم عادوا فاستردوها من الفرس أيام عمر بن الخطاب، أم إنهم لم يفتحوها إلا في عهد عمر؟ أما إجماع الرواة فعلى أن أول غزاة بالعراق كانت غزاة الحفير.
3
والحفير تقع قريبا من خليج فارس على حدود الصحراء وعلى مقربة من ثغر كاظمة، وكان هرمز أمير هذه المنطقة كلها من قبل فارس، وممن تم شرفهم بين أمرائها، وكان أهل فارس يجعلون قلانسهم على قدر أحسابهم في عشائرهم؛ فمن تم شرفه فقيمة قلنسوته مئة ألف، وتلك كانت قيمة هرمز وكان هرمز من أسوأ أمراء الثغور معاملة للعرب؛ حتى لقد بلغ من حقدهم عليه أن جعلوه مضرب المثل في الخبث؛ فكانوا يقولون: «أخبث من هرمز»، و«أكفر من هرمز»، وترجع كراهيته للعرب إلى أن أبناء عمومتهم في شبه الجزيرة كانوا لا يفتئون يشنون الغارات للنهب والسطو على البلاد الواقعة في إماراته، فكان يحاربهم في البر. أما الهنود، وكانت تجيء سفنهم إلى تلك الثغور فتقوم فيها بأعمال تشبه القرصنة، فكان يحاربهم في البحر؛ وكان بهذه الحرب في البر والبحر يعد نفسه حامي البلاد التي تعد مفاتح فارس.
سار خالد من اليمامة إلى العراق على رأس عشرة آلاف من الجند، فلما بلغ حدوده ألفى المثنى ومن معه ينتظرونه، هنالك قسم الجند كله ثلاث فرق ، وجه كل واحدة منها في طريق على أن يلتقوا جميعا بالحفير، فأما الفرقة الأولى وعلى رأسها المثنى بن حارثة الشيباني فسارت قبل خالد بيومين، وأما الفرقة الثانية وعلى رأسها عدي بن حاتم الطائي فسارت قبله بيوم، وسار خالد في المؤخرة، وكان خالد قد بعث قبل ذلك إلى هرمز كتابا يقول فيه: «أما بعد، فأسلم تسلم، أو اعتقد لنفسك وقومك الذمة وأقرر بالجزية، وإلا فلا تلومن إلا نفسك، فقد جئتك بقوم يحبون الموت كما تحبون الحياة.»
تناول هرمز هذا الكتاب وترامت إليه أنباء المسلمين ومسيرة جندهم، فكتب إلى أردشير الملك بالخبر، وجمع جموعه وسار إلى الكواظم يلقى خالدا بها، فلما علم أن خالدا أمر أصحابه بالسير إلى الحفير أسرع بجنده إليها ونزل على الماء فيها.
وقدم خالد عليهم وأمر بالنداء في الجند لينزلوا ويحطوا أثقالهم، وتحدث إليه قوم من رجاله أنهم على غير ماء، فقال لهم: «ألا انزلوا وحطوا أثقالكم ثم جالدوهم على الماء، فلعمري ليصبرن الماء لأصبر الفريقين وأكرم الجندين!»
ووقف هرمز في جيشه، وعلى ميمنته وعلى ميسرته أميران من بيت الملك في فارس، هما قباذ، وأنوشجان؛ ونادى هرمز: أين خالد؟ يريد أن يخرج ابن الوليد إليه يبارزه، فلقد كان يعرف من بطولة خالد وفعاله في بلاد العرب ما آمن معه بأنه إن يقتل خالدا يضمن لفارس نصف النصر إن لم يضمن لها النصر كله.
ولكن كيف سولت له نفسه أن يقتله وخالد البطل الذي لا يغلب؟! الأمر يسير؛ فالخيانة تمهد له درك غرضه، لهذا عهد إلى جماعة من فرسانه إذا رأوا خالدا خرج إليه أن ينقضوا عليه ويقتلوه.
وسمع خالد نداء هرمز فنزل عن جواده ومشى إليه فالتقيا فاختلفا ضربتين، وشد فرسان فارس يريدون قتل خالد واستخلاص هرمز من يده، لكن القعقاع بن عمرو لم يمهلهم أن حمل عليهم حين كان خالد قد قبض على ناصية هرمز يستل روحه من بين جنبيه، وشد المسلمون فانهزم أهل فارس أمامهم، فطاردوهم وركبوا أكتافهم إلى الليل، وبلغ المسلمون الجسر الأعظم من الفرات حيث تقع البصرة اليوم في حين فر قباذ وأنوشجان فيمن بقي من جيش الفرس لا يلوون على شيء.
تم النصر للمسلمين، فأمر خالد معقل بن مقرن المزني بالسير إلى الأبلة ليجمع مالها وسبيل ففعل،
4
وأمر المثنى بن حارثة أن يلاحق المنهزمين من جيش الفرس فطار في أثرهم وكأنما يريد ألا يفوتهم قبل أن يبلغ المدائن.
ومر المثنى أثناء مطاردته جيش الفرس بحصن تقيم فيه أميرة فارسية يطلق مؤرخو العرب عليه اسم حصن المرأة، وقد ترك أخاه المعنى بن حارثة على حصار هذا الحصن، وسار وهو فحاصر زوجها في حصنه، ففض الحصن على من فيه وقتلهم، واستفاء أموالهم، ثم استمر يطارد بقية الجيش، وعلمت المرأة بما أصاب زوجها فصالحت المعنى وأسلمت وتزوجته.
أطلق على هذه الغزاة الأولى الخالدة بالعراق اسم «ذات السلاسل» وعلة هذه التسمية، فيما يقولون، أن الفرس اقترنوا في السلاسل حتى لا يفروا، ويروى أن خالدا جمع ما خلف القوم وراءهم من هذه السلاسل فكانت وقر بعير ألف رطل ويرتاب بعضهم في هذه الرواية فيسمي هذه غزاة كاظمة، نسبة إلى أقرب قرية من المكان الذي وقعت فيه.
كان لهذه الغزوة الأولى أثر عظيم ألهب حمية المسلمين، فقد رأوا الفرس لا يثبتون أمامهم أكثر ما كان يثبت العرب في حروب الردة، ولقد قتل هرمز من يد خالد، فكان مقتله مرضاة للعرب جميعا أي مرضاة، هذا إلى جسامة ما غنموه فيها مما لم يكن لهم بمثله عهد؛ فقد بلغ نفل الفارس ألف درهم خلا السلاح.
وزاد نصر المسلمين في هذه المعركة جلال تنفيذ خالد للسياسة التي رسمها أبو بكر مع العرب الفلاحين بالعراق أدق تنفيذ فقد سبى أبناء المقاتلة الذين كانوا يقومون بأمور الأعاجم، أما الفلاحون فتركهم لم يحركهم، وأقر من لم ينهض منهم وجعل له الذمة.
وبعث خالد خمس الغنائم إلى أبي بكر بالمدينة، وبعث معها قلنسوة هرمز وفيلا أخذه المسلمون في الموقعة، ولم يكن أهل المدينة قد رأوا فيلا في حياتهم، بل لم تر بلاد العرب كلها فيلا قبل ذلك إلا فيل أبرهة حين حاول هدم الكعبة، فلما طاف قائد الفيل به في المدينة عجب أهلها لمنظر الحيوان الضخم وتولى بعضهم الريب في أمره، بل لقد جعلت ضعيفات النساء يقلن: أمن خلق الله هذا؟! وخيل إلى بعضهم أنه من صناعة فارس! ورأى أبو بكر أنه لا نفع فيه فرده إلى العراق مع قائده.
ألهبت هذه الغزاة حمية المسلمين، حتى لقد استمر المثنى الشيباني يطارد الفرس المنهزمين وكأنما يريد ألا يفوتهم قبل أن يبلغ المدائن، وفيما يتعقبهم جاءته الأنباء بأن جيشا عظيما من الفرس أقبل من المدائن لملاقاة خالد وجنوده، ذلك أن الملك أردشير ما لبث حين جاءته رسالة هرمز أن دعا إليه قارن بن قريانس أحد الأمراء الذين تم شرفهم، وجعلهم على رأس قوة سارت مددا لجيش الثغور، ولقي قارون في طريقه إلى الجنوب قباذ وأنوشجان على رأس الفلال المنهزمين، فاستوقفهم وتحدث إليهم وبعث السكينة إلى نفوسهم وضمهم إلى جيشه وعسكر بهم في المذار على ضفاف قناة تصل دجلة بالفرات، وأيقن المثنى أن انفراد جيشه بلقاء هذه القوة العظيمة قد يجر عليه الهزيمة، فاختار مكانا قريبا من المذار أنزل جنده فيه، وكتب إلى ابن الوليد بتفصيل ما عنده، وخشي خالد أول ما بلغه النبأ أن يلقى قارن بن حارثة فيهزمه فيفت ذلك في أعضاد المسلمين، فطار بجيشه وبلغ المذار، وقارن يعد للقاء المثنى عدته، وجنود المثنى لا يعلمون ما الله صانع بهم.
كان للمثنى ولجنوده العذر أن تثور مخاوفهم، فقد بعثت هزيمة هرمز الحقد والحفيظة إلى نفوس الفرس، فأقبلوا وكلهم حب الانتقام، وحسبوا أنهم بالغون منه غايتهم بهزيمة المثنى وجنوده وهم بعيدون عن مركز القيادة، فلما بلغ خالد المذار أخاف الفرس وإن لم يخفف وصوله غلواء قارن ولم يضعف من عزمه، ورأى قباذ وأنوشجان فرصة الثأر لهزيمة الحفير سانحة، وأرادا أن يغسلا بفعالهما ما تجللاه ثم من ثياب الخزي والعار فاستنهضاهم الجند الذين كانوا معهما ودفعاهم إلى الميدان يغلي في عروقهم حرص على الثأر لا تهدأ ناره، وخيل إليهما وإلى قارن أنهم إن هاجموا خالدا قبل أن يتخذ للموقف عدته لم يفتهم الظفر بالمسلمين وأن يردوهم على أعقابهم إلى شبه الجزيرة منكسة رءوسهم، صريعا في أذهانهم كل أمل في قتال كسرى أو منازلة رجاله.
ورأى خالد تأهب جيوش الفرس فبقي على تعبئته التي جاء بها من الجسر الأعظم وشد بقواته عليهم، ورأى المثنى في مقدم خالد عليهم معجزة أمدهم الله بها لينصرهم، فانقلبوا من الخوف إلى اليقين بالنصر أسودا كاسرة لا تهاب الموت بل تلقاه باسمة، وهنا حقت كلمة خالد لهرمز: «إني جئتكم برجال يحبون الموت كما تحبون الحياة.» والتحم الجمعان، فإذا قارن وقباذ وأنوشجان يذبحون بأعين رجالهم، وإذا سيوف المسلمين تطيخ برءوس الفرس من كل جانب، وإذا الجيش الذي خيل إليه أن النصر بين يديه يفر أمام خالد وجنده إلى السفن يتخذونها مطاياهم للنجاة، وإذا المسلمون يغنمون مما تركوا ما شاء الله أن يغنموا، وحال الماء بين المسلمين وتعقبهم، فأقام خالد بالمذار وسلم الأسلاب لمن سلبها بالغة ما بلغت، وقسم الفيء ونفل من الأخماس من أحسنوا البلاء.
أقام خالد بالمذار، فسبى أبناء المقاتلة ومن أعانهم، وأقر الفلاحين ومن أجاب إلى الخراج من جميع الناس، وكان أبو الحسن البصري بين الأسرى في هذه الموقعة، وحرص خالد بعد أن اطمأن له الأمر على تأمين مواصلاته إلى الخليج الفارسي، فأمر القواد على الجند الذين استبقاهم بالحفير وعلى الجسر الأعظم، وولى العمال على الجباية، وأقام مكانه يتنطس أخبار عدوه.
وما كان ليحسب أنه، وهو لا يزال على مقربة من خليج فارس، قد قضى على قوات كسرى بالعراق؛ فهو بعد من الحيرة على آماد غير قليلة؛ والحيرة تكاد تنتصف الطريق بين الخليج والمدائن، وإلى شمال المدائن من أرض الفرس ما يعج بالجند عجيجا، ولا يأمن المسلمون أن يستعين الفرس قبائل العرب بالعراق عليهم، وهذه القبائل منتشرة على تخوم العراق إلى البادية، منتشرة في جزيرة العراق بين النهرين، وأكثرها على النصرانية لم تزعجها فارس المجوسية عنها، فإذا جاء هؤلاء المسلمون فدعوها إلى الإسلام أو الجزية رأت أن الخير لها في أن تبقى كما هي متمتعة بحريتها، لا جرم إن رأت ذلك أن تنضم إلى الفرس وأن تعينهم، هذه كلها احتمالات دارت بخلد القائد العبقري، فقدرها، وحسب لها حسابها.
ولم يخطئ خالد فيما قدر؛ فإن الفرس ما لبثوا، حين رأوا ما أصابهم بالحفير والمذار، أن اتجه تفكيرهم إلى الاستعانة على العرب بالعرب، فإنه لا يفل الحديد إلا الحديد، وكان كسرى يطمئن إلى ولاء قبائل عربية كثيرة بينها جماعات عظيمة من بني بكر بن وائل، لذلك دعاهم وجعل عليهم قائدا منهم ووجههم إلى الولجة ولكي لا يكون لهم كل فخار النصر أقام قائدا من أقدار قواده، هو بهمن جاذويه، على جيش من الفرس ووجهه في أثرهم، ولقد ازداد جيش القبائل العربية بمن انضم إليهم بين الحيرة والولجة من العرب والدهاقين الذين عسكروا إلى جانبهم، وبلغهم بهمن على رأس الجنود الفارسية وأعد معهم لقتال المسلمين عدته.
بلغت هذه الأنباء خالد بن الوليد وهو بالمذار، فأمر من خلف من قواده وجنوده على الحفير وكاظمة وسائر ما اطمأن له من أرض العراق أن يكونوا على حذر، وألا يغتروا بما فتح الله عليهم من النصر، وخرج في جنده إلى الولجة يقاتل جنود كسرى، وكان الفريقان في الغاية من قوة البأس والعزم، حتى لقد تردد النصر بينهما زمنا أي الفريقين يصاحب، وكان خالد في عبقرية قيادته قد أمر اثنين من أمراء جنده أن ينفصلوا أثناء السير عنه وأن يكمنوا وراء العدو فيأخذوه أثناء القتال على غرة، لكن هذا الكمين تأخر فلم يظهر على حين كانت صفوف المقاتلين من المسلمين ومن عدوهم تترجح متقدمة طورا متراجعة طورا آخر ... وظن الفريقان أن الصبر قد نفد وأن المعركة لن تنتهي إلى غاية. وإنهم لكذلك إذ خرج كمين من المسلمين في ناحيتين من وراء جيش كسرى في حين كان خالد يشتد في الضغط عليهم من أمامهم، هنالك انهزمت صفوف الأعاجم فولوا وقد أخذهم خالد من بين أيديهم والكمين من خلفهم، فلم ير رجل منهم مقتل صاحبه، ولى الأعاجم وولى العرب الموالون لهم وسيوف المسلمين آخذه برقابهم، وجنود المسلمين يأسرون منهم من لم يترد قتيلا؛ وسبى خالد ذراري المقاتلة ومن أعانهم.
بلغت المغانم يومئذ مبلغا جعل خالدا يقوم في الجيش مشيرا إلى ثراء الأرض التي يقاتلون فيها ويقول: «ألا ترون إلى الطعام كرفع التراب!
5
وبالله لو لم يلزمنا الجهاد في الله والدعاء إلى الله (عز وجل) ولم يكن إلا المعاش لكان الرأي أن نقارع على هذا الريف حتى نكون أولى به، ونولي الجوع والإقلال من تولاه ممن اثاقل عما أنتم عليه.» أفيضن مسلم بعد هذا الكلام بروحه؟! إنه ها هنا يجاهد في سبيل الله، وينفل المغانم، وتصبح السبايا ملك يمينه، أليس هذا نعيم الدنيا والآخرة؟! من ذا يزهد فيه؟! ومن ذا لا يسارع إلى لقاء الله عليه؟!
كان هذا شأن العرب؛ فماذا كان شأن فارس حامية الحضارة في عالم يومئذ، ومهد الترف والنعمة والعلم والفن؟ إن تعجب لأمر بعد الولجة فلأن الذين غلى الدم في عروقهم للهزيمة التي نزلت بهم لم يكونوا الفرس، بل كانوا بني بكر بن وائل من العرب، هؤلاء شق عليهم أن يغلبهم بنو عمومتهم من شبه الجزيرة، فغضبوا وغضب لهم نصارى قومهم، فكاتبوا الأعاجم وكاتبهم الأعاجم، فاجتمعوا جميعا بأليس على صلب الفرات في منتصف الطريق بين الحيرة والأبلة، وكتب كسرى أردشير إلى بهمن جاذويه أن سر حتى تقدم أليس بجيشك إلى من اجتمع بها من فارس ونصارى العرب، ورأى بهمن أن يسير إلى أردشير ليحدث به عهدا وليتلقى أوامره، فقدم جابان أحد القواد وأمره أن يحث السير إلى أليس وقال له: «كفكف نفسك وجندك عن قتال القوم حتى ألحق بك إلا أن يعجلوك.» وألفى بهمن أردشير مريضا فأقام إلى جانبه، وترك الأمر إلى جابان ولم يبعث له عن مقامه بنبأ ولم يحدث له منه ذكرا، وبلغ جابان أليس، فوقف إلى جانب عبد الأسود العجلي أمير الجند على بني بكر بن وائل ومن نفر من نصارى العرب، وجعل يدبر وإياه أمر القتال.
لم يقف خالد بن الوليد على نبأ من مسيرة جابان وجنود فارس، وإنما بلغه ما كان من تجمع العرب النصارى بأليس، فخرج في جيشه ومن انضم إليه من عرب العراق وكر راجعا إلى الحفير يؤمن مؤخرته، واطمأن إلى ما أراد، ثم انقلب مسرعا يلقى العدو حيث عسكر، ولم ينظر القوم حين بلغ أليس، بل دعاهم إلى القتال، وأسرع العرب إلى لقائه، فلم يمهلهم أن قتل قائدهم مالك بن قيس، ولما رأى جابان صفوفهم تضطرب تقدم بجنود فارس يعززهم، وهو وجنوده أشد ما يكونون بالفوز ثقة، أليس بهمن قد وعدهم أنه آت إليهم! فليصبروا للمسلمين وليصابروا حتى يجيئهم المدد، وليستميتوا في الدفاع عن مواقفهم، ورأى خالد صبرهم وقوة تجلدهم لبأسه، وإن لم يعرف باعثهم على هذا وذاك، وترجحت الموقعة حينا حار له خالد فتوجه إلى ربه يستنصره ويقول: «اللهم إن لك علي إن منحتنا أكتافهم ألا أستبقي منهم أحدا قدرنا عليه حتى أجري نهرهم بدمائهم.» وأنت تعرف معنى هذه الكلمة صادرة من أعماق سيف الله ومن صميم قلبه، هذا القلب الذي لا يعرف الخوف ولا يهاب الموت ولا يفزع لمرأى الدماء، وطال بالفرس وأنصارهم الصبر وبهمن لا يقبل، ولم يذر خالد أثناء ذلك لونا من ألوان المداورة التي تفيض بها عبقريته في القيادة إلا ضيق به الخناق على أعدائه، فلما عيل صبرهم وتداعت قوتهم ولم يبق لهم من الهزيمة مفر، تحطمت صفوفهم وانقبلوا على أعقابهم يسارعون إلى الهرب ولا مأرب لهم إلا النجاة، ورأى خالد فرارهم فمر مناديه فنادى في رجاله: «الأسر! الأسر! لا تقتلوا إلا من امتنع.» ولحق فوارس المسلمين بالفرس وأنصارهم من العرب، وجاءوا بهم أفواجا أسارى يساقون سوق النعم.
وكان الفرس قد أعدوا قبل المعركة طعام غدائهم فأعجلهم خالد عنه، فلما انهزموا وقف خالد على الطعام وقال لرجاله: «قد نفلتكموه فهو لكم.» وجلس المسلمون إلى الموائد يتناولون عشاء شهيا رأى الكثيرون منهم فيه عجبا، رأوا الرقاق ولم يكونوا يعرفونه، فجعلوا يقولون: ما هذه الرقاع البيض! وجعل من عرفها يجيبهم مازحا: هل سمعتم برقيق العيش؟! فهذا هو، ولذلك سمي الرقاق، أما العرب فكانت تسميه القرى.
ودعا خالد بالأسرى يستعرضهم لتبر يمينه أن يجري نهرهم بدمائهم، ووكل بهم رجالا يضربون أعناقهم في النهر بعد أن صد الماء عنه، وأقام الموكلون يضربون يوما وليلة والنهر لا يجري دما، وقال قوم من أصحاب خالد يخاطبونه: «لو أنك قتلت أهل الأرض لم تجر دماؤهم، إن الدماء لا تزيد على ترقرق، فأرسل عليها الماء تبر يمينك.» وأمر خالد فأعيد الماء إلى النهر فجرى دما عبطا ومن يومئذ سمي هذا النهر «نهر الدم»، روى الطبري أنه كانت على النهر أرحاء طحنت في ثلاثة أيام قوت ثمانية عشر ألفا من الجند والماء من تحتها يتدفق أحمر قانيا.
لم يكف خالدا أن يجري النهر دما، بل قصد إلى بلد قريب من أليس يسمى أمغيشيا أو منيشيا كان مصرا كالحيرة، وكان يقع عند ملتقى الفرات بنهير باديقلي، وكان أهله قد اشتركوا في الحرب بضاحية أليس فأمر جنده فهدموه وجعلوا عاليه سافله، وأصابوا كل ما كان فيه وعدوه مغنما فكان نصيب الفارس منه ألفا وخمسمائة سوى ما منحه خالد من أحسنوا البلاء في أليس.
وبعث خالد بالأنباء وبخمس الفيء والسبي إلى أبي بكر مع رجل يدعى جندلا من بني عجل، فلما قص عليه ما حدث وأخبره بفتح أليس وبعدد الفيء وبعدة السبي وبأهل البلاء من الناس وبفعال ابن الوليد، لم يملك أبو بكر نفسه أن صاح: «عقمت النساء أن يلدن مثل خالد!» وأمر لجندل بجارية من أليس ولدت من بعد له، وأمر فأذيعت أنباء النصر في المدينة وفي غير المدينة من بلاد العرب، واطمأن إلى نصر الله وجنوده في العراق، وإلى أن سيف الله لا غالب له.
6
يقف بعض المؤرخين عندما قصصنا من حوادث أليس وأمغيشيا يبدون الأسف أن تقع من قائد عبقري كخالد فعال ذلك مبلغها من الوحشية، ويودون لو أن ما روي عنها غير صحيح، وإن رجحوا صحته لتضافر رواة المسلمين على ذكره ولست أقف عند ترجيح ما روي أو عدم ترجيحه، لكني لا أملك نفسي دون الابتسام حين أرى هذه الفعال تنعت بأنها وحشية، ولست أبتسم إنكارا لهذا النعت أو استنكارا له، وإنما أبتسم لأنني أرى أن كل حرب وحشية، والحرب مع ذلك مسوغة في نظر الأمم المتحضرة، فإذا كان الالتجاء إلى الحرب مع وحشيتها تسوغه قضية نعتقدها عادلة، فتصوير ما يترتب على الحرب الوحشية في أصلها وصميمها بأنه وحشي يدعو إلى الابتسام وإلى أكثر من الابتسام.
والحق أن الحضارة الإنسانية لما تصل إلى المدينة السامية التي تنزهها عن الوحشية وتسمو بها عليها، فهذه الوحشية لا تزال تعد من مقومات الحضارة، ولا يزال الاستعداد للحرب يعد جوهريا في حياة الأمم، بل جوهريا لحفظ كيانها حتى تكسب المناعة من أسباب الانحلال، فما يلجأ إليه قائد من القواد في أثناء الحرب، مما يزيد في وحشيتها بعض الزيادة أو ينقص منها بعض النقص، ليس أمرا ذا بال في حياة هذه الإنسانية، وقد اعتاد الناس في مختلف العصور أن يعدوا النصر عذرا عن كل ما سبقه، وقد حالف النصر خالدا في كل مواقعه، فليكن له من انتصاره العذر، إن لم يكن من التماس العذر بد.
وحسبك لتطمئن إلى هذا العذر أن تعلم أن انتصار خالد وفعاله قد حطمت الروح المعنوية في قلوب الفرس ومن والاهم من العرب، فانكمشوا ولم يفكر أحد منهم في الثأر بعد أليس، كما أرادوا من قبل أن يثأروا للمذار وللحفير، بل لقد بلغت هزائم الفرس من نفس كسرى أردشير فلم يطق أن يقاوم المرض الذي أصابه واستبقى بهمن إلى جواره فمات غما وكمدا، وكيف للفرس أو لأوليائهم من العرب أن يفكروا في الثأر وقد رأوا قائدهم وكأنه إله الحرب استحال رجلا! أليس خيرا لهم، وذلك ما تراه أعينهم، أن يلقوا سلاحهم وأن يسلموا لحكم القدر؟!
وذلك ما فعلوا، تشاغل الفرس بموت مليكهم، وتشتت العرب في البادية وفي جزيرة بين النهرين، وانقطع كل نبأ عن التهيؤ للحرب أو لإجلاء المسلمين عن البلاد، لكن خالدا كان أحصف من أن يلهيه سكوتهم أو يبطره الظفر فلا يرى ما يطوي الغد في ضميره، وقبائل العرب هي التي حرضت الفرس على القتال في أليس، وهذه القبائل إن سكنت يوما فلتغدر في غده، فإن لم يقض خالد على كل أمل لهم في الثورة أو في الغدر، وإن لم يؤمن كل طريق يؤدي إلى شبه الجزيرة، فلا يلومن إن أصابه المكروه إلا نفسه، والحساب لكل صغيرة وكبيرة لم يفته في يوم من الأيام، لهذا حسب للموقف حسابه وأحكم تدبيره، وأيسر هذا الحساب أن يحتل الحيرة عاصمة العرب، وأن يضع يده على منازلهم غرب الفرات إلى حدود شبه الجزيرة.
وكان حاكم الحيرة مرزبانا فارسيا يدعى آزاذيه، وكانت عاصمة العراق العربي قد تقلص سلطانها في ذلك العهد بعد أن كان قبل خمس وعشرين سنة منه قوي الجانب مسموع الكلمة، ذلك أن اللخميين الذين أنشأوا الملك في الحيرة منذ القرن الثاني للمسيح وقاموا به قرونا متوالية، اختلفوا مع الطائيين اختلافا أنشب الحرب بينهم، وانتهز كسرى فرصة خلافهم فنصر الطائيين على النعمان بن المنذر ثم قبض عليه فحبسه وقتله، وأقام إياس بن قبيصة الطائي حاكما للحيرة وما يقع في سلطانها، وبعد سنوات من ولايته هزم بنو بكر بن وائل جيشا من الفرس يؤيده أنصار إياس بذي قار هزيمة أطاحت إياسا عن عرشه وطوعت لكسرى أن يقيم مرزبانا من لدنه حاكما للحيرة، بذلك زال نفوذها وانحل سلطانها، لكن مكانتها في نفوس العرب جعلتهم مع ذلك يرمقونها بعضهم وينالونها برعايتهم، ولهذا خشي خالد حين رأى حقدهم عليه أن يتضافر بنو بكر بن وائل مع الطائيين وسائر العرب المقيمين بالحيرة وفيما حولها لمقاومته أو قطع الطريق عليه، فعزم مهاجمتها والاستيلاء عليها واتخاذها مقر قيادته ومصدر نشاطه.
ولم يكن أهل الحيرة في شك من مقدمه عليهم وحصاره إياهم بعد أن استفاضت بينهم أخبار أليس وأمغيشيا وانتصاره عندهما وفعاله فيهما، وقدر حاكم الحيرة أنه سيركب إليه النهر متخذا من سفن أمغيشيا مطيئته، لذلك نهض آزاذيه في عسكره إلى خارج الحيرة، وأمر ابنه فسد قناطر الفرات ليحول دون مسيل الماء فيما وراءها، وليعوق بذلك سير السفن إليه.
ولم يخطئ آزاذيه في تقديره؛ فقد استقل خالد وجيشه سفن أمغيشيا ودفعوها شمالا إلى ناحية الحيرة، وإنهم لكذلك إذ جنحت السفن وارتطمت بقاع النهر وريع المسلمون لجنوحها وارتطامها، وأخذ الغضب من خالد مأخذه وسأل عن علة ما حدث، فأجابه الملاحون بأن أهل فارس سدوا القناطر وحولوا الماء فلم يبق منه بالنهر ما يحمل سفنهم، فخرج في كتيبة من فرسانه فلقي ابن آزاذيه على فم العقيق، ففاجأه ورجاله وهم في مأمنهم، وأعاد الماء يجري في النهر وأقام مع فرسانه يحرسه، وعادت السفن إلى المسير وحملت إليه جيشه فسار به إلى الخورنق أنزله ليعد لفتح الحيرة عدته.
ووضع خالد يده على قصري الخورنق والنجف، وكانا مصيف أمراء الحيرة، في حين عسكر جيشه أمام أسوار المدينة، أما آزاذيه ففر هاربا من غير قتال، متأثرا بما أصاب ابنه، وبموت أردشير، ولم يثن فراره أهل الحيرة عن التحصن بقلاع المدينة الأربعة وبأسوارها، وعن اتخاذ العدة للدفاع عنها ما وجدوا إلى الدفاع سبيلا.
لكن عدتهم لم تكن لتجديهم فتيلا، فقد أثار الخورنق وأثارت الحيرة خيال الجند المسلمين وبعثت إلى نفوسهم ذكرى النعمان الأكبر ابن المنذر، وذكرى سنمار وما أصابه لبناء هذا القصر المنيف وما قيل من الشعر فيه، فزادهم ذلك قوة على قوتهم وعزما على عزمهم، والقائد النابغة، ابن الوليد، سيف الله وسيف دينه الحق، ما غناء عدة وإن عظمت أمام عبقريته وبأس لقائه؟! لقد أبى أهل الحيرة أن يسلموا وألحوا في إبائهم، فعهد خالد إلى أمرائه أن يبدءوهم بالدعوة إلى التسليم، فإن أجابوا إليه قبلوا منهم، وإن أصروا على الإباء أجلوهم يوما ثم قاتلوهم وقتلوهم، ودعا أمراء المسلمين زعماء الحيرة إلى إحدى ثلاث: الإسلام، أو الجزية، أو المنابذة، واختار الزعماء المنابذة، ففض الجند عليهم قصورهم وأكثروا القتل فيهم، وكان بأديار الحيرة عدد عظيم من القسيسين والرهبان مالوا حين رأوا المذبحة تصيبهم وتصيب غيرهم أن نادوا: «يا أهل القصور ما يقتلنا غيركم!» ورأى أهل القصور المقاومة عبثا فنادوا: «يا معشر العرب! قد قبلنا واحدة من ثلاث، فكفوا عنا حتى تبلغونا خالدا.»
وخلا خالد بأهل كل قصر دون الآخر، وقال لهم: «ويحكم! أأنتم عرب، فما تنقمون من العرب؟ أو عجم فما تنقمون من الإنصاف والعدل؟» وكان جوابهم: «بل عرب عاربة وأخرى متعربة.» قال خالد: «لو كنتم كما تقولون لم تحادونا وتكرهوا أمرنا؟» وأجابوا: «ليدلك على ما نقول أنه ليس لنا لسان إلا العربية.» قال خالد: «فاختاروا واحدة من ثلاث: أن تدخلوا في ديننا فلكم ما لنا وعليكم ما علينا، إن نهضتم وهاجرتم وإن أقمتم في دياركم، أو الجزية، أو المنابذة والمناجزة، فقد والله أتيتكم بقوم هم على الموت أحرص منكم على الحياة.» وأجابوا: «بل نعطيك الجزية.»
وعجب خالد منهم لإلحاحهم في نصرانيتهم، وقال لهم: «تبا لكم! ويحكم؛ إن الكفر فلاة مضلة، فأحمق العرب من سلكها فلقيه دليلان أحدهما عربي فتركه واستدل الأعجمي.» ولم يغير هذا الكلام من إصرار القوم على دينهم ولعلهم إنما فعلوا متأثرة نفوسهم باعتبار الكرامة الإنسانية التي تحول بين المرء والرجوع عن عقيدة يؤمن بها؛ لأنه غلب على أمره وأكره على تبديل دينه؛ متأثرة كذلك بأن المسلمين لا يزالون في أول عهدهم بالعراق، وليس يدري أحد أيطمئن لهم الأمر فيه أم تجليهم الحوادث عنه.
وصالح خالد القوم على الجزية تسعين ومئة ألف درهم، وكتب بينه وبين نقبائهم عدي وعمرو بن عبد السميح وإياس بن قبيصة وحيري بن أكال كتابا عاهدهم فيه برضا أهل الحيرة وأمرهم على هذه الجزية، تقبل في كل سنة على أن يمنعهم، فإن لم يمنعهم فلا جزية عليهم، أما إن غدروا بفعل أو قول فذمته منهم بريئة.
وأهدى القوم إلى خالد هدايا بعث بها وبنبأ الفتح والمعاهدة إلى أبي بكر، فأجاز المعاهدة وقبل الهدايا، لكنه احتسبها من الجزية وكتب بذلك إلى خالد.
7
ويروي المؤرخون عند ذكرهم نبأ الصلح قصة طريفة وإن ران الريب على حوادثها، ذلك أن خالدا أبى أن يكتب مع القوم عهدا إلا أن تسلم كرامة بنت عبد المسيح أخت عمرو إلى شويل.
8
وهو إنما أصر على ذلك لما قيل من أن شويلا هذا سمع رسول الله
صلى الله عليه وسلم
يذكر فتح الحيرة فسأله كرامة، فقال له: «هي لك، إذا فتحت عنوة.» وكانت كرامة بارعة الجمال في صباها، وكان شويل قد رآها في شبابه فجن بها وأقام يهرف بها دهره، أما وقد طالب بها فما كان لخالد إلا أن ينفذ وعد رسول الله.
وشق هذا الأمر على أهلها وأعظموا الخطر؛ فقالت لهم: «هونوا عليكم وأسلموني فإني سأفتدى، وما تخافون على امرأة بلغت ثمانين سنة! إنما هذا رجل أحمق رآني في شبيبتي فظن أن الشباب يدوم!» ودفعت إلى شويل، فقالت له: «ما أربك إلى عجوز كما ترى؟ فادني.» قال: «لا، إلا على حكمي.» قالت: «فلك حكمك مرسلا.» قال: «لست لأم شويل إن نقصتك من ألف درهم.» وتظاهرت كرامة باستكثار المبلغ لتخدعه، ثم أتته به ورجعت إلى أهلها وسمع أصحاب شويل بما صنع فسخروا منه لقلة الفداء وعنفه بعضهم؛ فكان اعتذاره: «ما كنت أرى أن عددا يزيد على ألف.» وشكا أمره إلى خالد، وقال: «كانت نيتي غاية العدد.» قال خالد «أردت أمرا وأراد الله غيره، نأخذ بما يظهر وندعك ونيتك كاذبا كنت أو صادقا.»
ولما تم لخالد فتح الحيرة صلى صلاة الفتح ثماني ركعات لا يسلم فيها، فلما أتمهن انفتل إلى أصحابه يقول: «لقد قاتلت يوم مؤتة فتقطع في يدي تسعة أسياف، وما لقيت قوما كمن لقيتهم من أهل فارس، وما لقيت من أهل فارس قوما كأهل أليس.»
وأقام خالد بالحيرة وجعلها مركز قيادته، فكانت أول عاصمة إسلامية خارج بلاد العرب، على أنه ترك أمر إدارتها للزعماء من أبنائها، لذلك اطمأنوا إلى حكمه، ونشروا حولهم جوا من السكينة إليه، ورأى أهل البلاد القريبة من الحيرة عدلا شاملا، ورأوا بلاط فارس مشتغلا عنهم، ففكروا في مصالحة خالد والانضواء للوائه، أليس قد ترك الفلاحين يعملون في الأرض لم يتعرض لهم، بل رفع عنهم ما كان نازلا بهم من ظلم دهاقين الفرس، وحفظ عليهم كل حقوقهم ؟ وكان أول من صالحه صلوبا بن نسطونا صاحب قس الناطف على بانقيا وبسما، وكتب معه عهدا على الجزية والمنعة لقاء عشرة آلاف دينار في كل سنة، القوي على قدر قوته، والمقل على قدر إقلاله، وختم هذا العهد بالعبارة الآتية وجه فيها الحديث إلى صلوبا: «وإنك قد نقبت على قومك وإن قومك قد رضوا بك، وقد قبلت ومن معي من المسلمين.»
وأسرع غير صلوبا من الدهاقين إلى مصالحة خالد على ما بين الفلاليج إلى هرمز جرد على ألفي ألف، بذلك بلغ سلطان خالد إلى شاطئ دجلة، وجعل عماله يقتضون الجزية في هذه البلاد جميعا ما بين الخليج الفارسي جنوبا إلى الحيرة شمالا، ومن حدود بلاد العرب غربا إلى دجلة شرقا.
وأقام خالد فيالق من جيشه في أماكن حصينة ليمنعوا من أجارهم من عدوان غيرهم عليهم، وليكون مقامهم في مختلف المواطن مظهر السلطان الإسلامي بين أهل البلاد، ولقد كان لتوزيع هذه القوات في مواطن حصينة أثره الحاسم في القضاء على كل تفكير في الفتنة، وفي توطيد الأمر للمسلمين لا ينازعهم فيه منازع.
وإنما خشي خالد ثورة الفتنة من ناحية القبائل العربية، أما الفرس فكفاهم أن بقيت المدائن بعيدة عن غزو المسلمين، ثم كفاهم ما كانوا فيه من اضطراب حال بينهم وبين التفكير فيما عداه، فقد قتل شيري بن كسرى وخلفاؤه كالوارث للعرش من أبناء كسرى وبهرام جور، فلم يجد الفرس من يملكونه عليهم وتجتمع الكلمة حوله، وتعاقبت على العرش أميرات زدنه ضعفا على ضعف، لهذا قنع الأعاجم بأن تظل عاصمتهم آمنة بما أقاموا حولها من قوات اتخذت نهر شير الذي يصل بين دجلة والفرات معقلا لها، في حين قد ظل ملكهم فيما هو فيه من فساد واضطراب.
وما كانت هذه القوات الفارسية لتصد خالدا عن مهاجمتهم لولا أوامر أبي بكر إليه ألا يبرح الحيرة أو يوغل في الفتح حتى يدركه عياض بن غنم ليحمي ظهره، وقد بقي عياض بدومة لم يستطع التغلب على أهلها من يوم خرج إليهم، لذلك أقام خالد سنة كاملة بعاصمته الجديدة، ويكاد بعده عن ميادين القتال يقتله، ولطالما قال لأصحابه: «لولا ما عهد إلي الخليفة لم أتنقذ عياضا، وما كان دون فتح فارس شيء إنها لسنة كأنها سنة نساء!» ثم إنه غلبه السأم، فدعا إليه من أهل الحيرة رجالا دفع إليهم كتابين، أحدهم إلى ملوك فارس، والآخر إلى مرازبتها، في أولهما: «الحمد لله الذي حل نظامكم، ووهن كيدكم، وفرق كلمتكم، ولو لم يفعل ذلك بكم كان شرا لكم، فادخلوا في أمرنا ندعكم وأرضكم، ونجوزكم إلى غيركم، وإلا كان ذلك وأنتم كارهون، على أيدي قوم يحبون الموت كما تحبون الحياة.» وجاء في الثاني: «أسلموا تسلموا، وإلا فاعتقدوا مني الذمة وأدوا الجزية، وإلا فقد جئتكم بقوم يحبون الموت كما تحبون شرب الخمر.»
ماذا عساه يفعل بعد هذين الكتابين وأوامر أبي بكر إليه صريحة «ورأي الخليفة - في تعبير خالد - يعدل نجدة الأمة»؟! لقد حرم أبو بكر عليه المدائن قبل أن يدركه عياض، أولا يجد فيما سوى المدائن رياضة لنشاطه الحربي تتفق وأوامر الخليفة؟! نعم! فهؤلاء هم الفرس قد أقاموا كتائب في الأنبار وعين التمر على مقربة من الحيرة، وقد تسول لهذه الكتائب أنفسها أن تهدد المسلمين في مستقرهم الجديد، فليتحرك خالد إليهم وليقض عليهم، وليجعل لنفسه من ذلك رياضة عن سنة النساء التي قضاها قاعدا لا يقاتل ولا يقتل، وترك القعقاع على الحيرة، وجعل على مقدمته الأقرع بن حابس وسار على شاطئ الفرات يبدأ بالأنبار.
ونزل خالد فحاصر المدينة، وأمر جنده فرشقوا رجالها بالنبل، لكنها ظلت متحصنة بأسوارها وبالخندق العميق الذي حفر حولها، وخالد قائد لا صبر له دون النصر، لذلك طاف بالخندق، حتى إذا كان عند أضيق مكان منه أمر بالإبل الضعاف فنحرت وألقيت في أعماقه فطمته، واقتحم الجند من فوقها إلى الأسوار فحطموا أبوابها؛ وكانوا على أهبة الدخول إلى المدينة يمعنون فيها قتلا وسبيا؛ لكن قائدها الفارسي شيرزاد أرسل إلى خالد أنه قبل مطالبه في الصلح على أن يلحقه بمأمنه في كتيبة من خيل ليس معهم من المتاع والأموال شيء، وقبل خالد وسرح شيرزاد، ودخل الأنبار واستقر بها وصالح من حولها، واستتب له الأمر وتم له بعض ما أراد من رياضة عبقريته على القيادة.
اطمأن الأمر لخالد في الأنبار وما حولها، فاستخلف عليها الزبرقان بن بدر، وقام في جنوده يقصد عين التمر على شفا الصحراء بين العراق وبادية الشام فبلغها في ثلاثة أيام، وكان مهران بن بهرام جوبين حاكم عين التمر من قبل فارس وكان حوله فيها جمع عظيم من العجم، وإلى جانب هؤلاء الأعاجم أقام عشير عظيم من قبائل البادية، بني تغلب والتمر وإياد يرأسهم عقة بن أبي عقة والهذيل ومن كانوا معهم على قيادة الجنود التي نفرت مع سجاح لتغزو المسلمين بالمدينة، ورأى أهل عين التمر مقدم خالد عليهم، فقال عقة لمهران: «إن العرب أعلم بقتال العرب، فدعنا وخالد!» وابتسم مهران وقال: «صدقت! لعمري لأنتم أعلم بقتال العرب وإنكم لمثلنا في قتال العجم؛ دونكموهم! وإن احتجتم إلينا أعناكم.» ولم يفطن بعض الفرس لخدعة مهران وخالوا كلامه عجزا فلاموه عليه، فأجابهم: «دعوني، فإني لم أرد إلا ما هو خير لكم وشر لهم، إنه قد جاءكم من قتل ملوككم وفل حدكم، فاتقيته بهم، فإن كانت لهم على خالد فهي لكم، وإن كانت الأخرى لم يبلغوا منهم حتى يهنوا فنقاتلهم ونحن أقوى وهم مضعفون.»
ونزل عقة لخالد على الطريق وحمل بجنده على جيش المسلمين، فأسرع خالد إليه فاحتضنه فأخذه أسيرا، فولى البدو منهزمين من غير قتال، وتعقبهم المسلمون فأكثروا الأسر فيهم في حين نجا الهذيل ومن معه من أمرائهم، ولم يلبث مهران حين رأى من الحصن ما حدث أن فر في جنده وترك الحصن تحميه الكتائب التي امتنعت فيه، وتحميه فلول البدو التي عادت هزيمة إليه، ورأى من بالحصن أن لا طاقة لهم بخالد، فسألوه الأمان فأبى إلا أن ينزلوا على حكمه، وأجابوه إلى ما طلب وفتحوا له أبواب الحصن، فاعتقلهم وأمر بعقة فضرب عنقه، ثم ضرب أعناق المقاتلة بالحصن وسبى نساءهم وغنم أموالهم .
ويفسر الرواة شدة خالد في هذا الموقف بأن أعداءه قتلوا عميرا الصحابي كما قتلوا أحد الأنصار غدرا؛ ويرى بعضهم أن هذه القسوة أورثت عرب العراق حقدا على خالد كان ذا أثر في الانتقاض الذي حدث بعد ذهابه لفتح الشام.
وكان بالحصن بيعة يتعلم الإنجيل فيها أربعون غلاما عليهم باب مغلق، وقد كسر خالد الباب عليهم وسألهم: ما أنتم؟ قالوا: رهن، فقسمهم فيمن أحسنوا البلاء، وأكبر الظن أن ما كانوا يتعلمونه في هذه البيعة كان عظيم الجدوى؛ فقد نشأ منهم سيرين أبو محمد بن سيرين فقيه البصرة، ونصير أبو البطل الفاتح موسى بن نصير فاتح الأندلس.
ولما أتم خالد فتح الأنبار وعين التمر بعث إلى أبي بكر بالأخماس والأنباء مع الوليد بن عقبة، وقص الوليد على الخليفة ما حدث، ولعله قص عليه سأم خالد سنة مقامه بالحيرة وقوله للمسلمين: «لولا ما عهد إلي الخليفة لم أتنقذ عياضا، وما كان دون فتح فارس شيء! إنها لسنة كأنها سنة نساء!» وكان أبو بكر من جانبه قد بدأ يسأم موقف عياض ويرى فيه ما يضعف الروح المعنوية للمسلمين، ولولا فعال خالد بالعراق لأزرى هذا الموقف بهم، ولأغرى خصومهم بالانتقاض عليهم ومحاولة النيل منهم، فلما سمع قصص الوليد عن خالد وسأمه أمر الوليد أن يتوجه مددا لعياض بدومة الجندل، وألفى الوليد عياضا يحاصر القوم ويحاصرونه وقد أخذوا عليه الطريق، ولم يجد بعد مداولة الرأي معه وسيلة تنقذه من هذا الموقف، هنالك قال له: «الرأي في بعض الحالات خير من جند كثيف، ابعث إلى خالد فاستعده.»
وما كان لعياض أن يتردد في قبول المشورة وقد بقي سنة كاملة لا يقوى على خصومه ولا يبلغ منهم، وبعث إلى خالد رسولا أدركه غداة فراغه من عين التمر، فلما فض خالد كتاب عياض ورأى ما فيه تهلل وأخذ منه الطرب ورد الرسول لساعته يحمل كتابا منه إلى عياض يقول فيه:
إياك أريد:
لبث قليلا تأتك الحلائب
يحملن آسادا عليها القاشب
9
كتائب تتبعها كتائب
وخفة خالد لنجدة عياض وهذه الشطرات من الرجز تقطع في الدلالة على ما قدمنا من أن سأمه سنة النساء وبعده عن ميادين القتال كادا يقتلانه، كما تدل على أن الأنبار وعين التمر لم تشفيا غلته، ولم تكفيا رياضة لعبقريته الجبارة.
وخلف خالد عويم بن الكاهل الأسلمي على عين التمر وخرج في جنده يسرع السير إلى دومة جهده، وكان بين دومة الجندل وعين التمر ثلاثمائة ميل قطعها خالد في أقل من عشرة أيام، اجتاز خلالها بادية الشام وصحراء النفود، منحدرا من الشمال إلى الجنوب، مستعرضا خطر الصحراء ورمالها السافية بعزم لا يعرف الخطر، فلما كان قريبا من دومة وتسامعت القبائل بمقدمه بهتت ثم اختلف زعماؤها بينهم ما يصنعون.
وكانت القبائل المعسكرة بدومة في ذلك الحين أضعاف عددها يوم جاءها عياض قبل عام، ذلك أن بني كلب وبهراء وغسان نفروا من العراق ونفر معهم غيرهم منحدرين إلى دومة يريدون أن يثأروا من عياض لهزائمهم أمام خالد، وكان مجيئهم مما زاد موقف عياض حرجا، وكان أكيدر بن عبد الملك الكندي صاحب دومة هو الذي انتقض على سلطان المدينة، وهو الذي دفع أبا بكر ليبعث إليه عياضا يرده بالسيف عن انتقاضه، ولم يكن أحد من أهل هذه القبائل أعرف بخالد من أكيدر؛ فهو لم ينس عام تبوك ورجوع رسول الله منها إلى المدينة، وانقلاب خالد بن الوليد بأمر الرسول إلى دومة في خمسمائة فارس، وانقضاضه عليه وأخذه إياه أسيرا، وتهديده إياه بالقتل إن لم تفتح دومة أبوابها، وهو لم ينس كيف فتحت دومة الأبواب فداء لأميرها، وكيف ساق خالد منها ألفي بعير وثمانمائة شاه وأربعمائة وسق من بر وأربعمائة درع، ولم ينس أخذه إياه إلى المدينة حيث أسلم وحالف رسول الله، لم ينس أكيدر هذا كله، لذلك لم يلبث حين عرف مقدم صاحبه أن توجه بالقول إلى الجودي بن ربيعة أمير القبائل التي انحدرت تنصر دومة وتثأر من عياض ينصحه أن يصلح خالد، قال: «أنا أعلم الناس بخالد! لا أحد أيمن طائرا منه ولا أحد في حرب، ولا يرى وجه خالد قوم أبدا كثروا أو قلوا إلا انهزموا عنه، فأطيعوني وصالحوا القوم.»
أبت القبائل رأي أكيدر فقال لهم: «لن أمالئكم على حرب خالد، فشأنكم.» وخرج لطيته يلقاه، وتختلف الرواية فيما أصابه حين أدخل على خالد: يقول بعضهم أمر به خالد فضرب عنقه، ويقول آخرون: بل أسر وأرسل إلى المدينة ثم سرحه عمر في خلافته، فذهب إلى العراق وأقام على مقربة من عين التمر بمكان أسماه دومة.
ومضى خالد فجعل دومة بين عسكره وعسكر عياض بن غنم، وكان الجودي بن ربيعة قد بقي على أهل دومة، في حين ترأس كل قبيلة من القبائل التي أمدت دومة زعيمها، وقد ضاق حصن دومة بهذا العدد، فأقام سائر القوم حوله يحيطون به، واستفتح الفريقان القتال، فلم يلبث الجودي أمام خالد إلا قليلا ثم أخذه خالد أخذا؛ وأخذ الأقرع بن حابس زميله على أهل دومة، وهزم عياض من يليه من جند القبائل، عند ذلك أسرع القوم جميعا إلى الفرار يريدون دخول الحصن والاحتماء به، فلما امتلأ أغلق من فيه أبوابه دون أصحابهم وتركوهم عرضة للمسلمين يقتلونهم ويأسرون منهم من يشاءون.
وأقبل خالد فقتل الذين ظلوا خارج الحصن حتى سد بهم بابه، ودعا بالجودي فضرب عنقه، ودعا بالأسرى فضرب أعناقهم، إلا أسرى كلب فإنه أطلقهم على كره منه أن أجارهم الأقرع وعاصم، قال هذان لخالد: «قد أمناهم.» فأطلقهم وهو يقول: «ما لي ولكم! أتحفظون أمر الجاهلية وتضيعون أمر الإسلام!»
وطوف خالد بالحصن، حتى إذا كان عند بابه أمر به فاقتلع، واقتحم المسلمون على من فيه فقتلوا المقاتلة وسبوا النساء وباعوهن خير المشترين، واشترى خالد أجمل فتاة فيهن ابنة ربيعة وأقام معها بدومة، ورد الأقرع بن حابس إلى الأنبار.
ما عناية المسلمين بدومة الجندل كل هذه العناية؟ وما حرصهم على الاستيلاء عليها كل هذا الحرص؟! لقد رأيتهم على عهد الرسول تتجه أنظارهم إليها، ثم يحالفونها ويضمونها إليهم، وها هم أولاء في عهد أبي بكر يقضون سنة أمام حصونها، ثم لا ينفكون عنها حتى تدين لهم وتعود إلى سلطانهم، ولعلك عرفت الجواب من خلال هذا القصص؛ فدومة كانت تقع على رأس الطريق الذي يؤدي إلى الحيرة وإلى العراق، وعلى أبواب وادي سرحان الذي يؤدي إلى الشام، فطبيعي أن تنال من عناية رسول الله ما نالت حين كان أكبر همه إلى تأمين الحدود ما بين الشام وشبه الجزيرة وطبيعي أن تنال مثل هذه العناية من أبي بكر وجنوده تقاتل بالعراق، تقف على تخوم الشام، وتلك هي العلة في أن عياضا لم يبرحها على طول ما أقام أمامها، وفي أن خالدا خف إليها أول ما استشير في الوسيلة للتغلب عليها، ولو أن دومة لم تذعن للمسلمين ولم تخضع لسلطانهم لبقي أمرهم في العراق تحت رحمة المقادير، ولما استطاعوا فتح الشام.
ولنقف الآن هنيهة مع خالد بدومة نسأله: ما سر هذه الموهبة التي جعلت النصر طوع يده، بل جسمت النصر في شخصه وجعلته مثاله، فلو أنه عاش بين اليونان الأقدمين لأسموا إله النصر خالدا؟! أتراه يجيبنا؟ ما أظن! وهو لا يضن بالجواب استكبارا، بل لأنه لا يعرف هذا السر أكثر مما نعرف، فهذا السر يتصل بالروح، والروح من أمر ربي، وخالد مثلنا لم يؤت من العلم إلا قليلا، ومتى عرف صاحب موهبة مكانها من نفسه ومصدر نبعها من روحه! إنما هي فيض من فضل الله يتجلى به على من يشاء من عباده، فإذا هذا خالد بن الوليد، وذلك عمر بن الخطاب، وغيرهما ابن سينا، وابن رشد، ورفايل، وبتهوفن، وشكسبير، والمعري، وشوقي، وهذا الفيض الإلهي الذي يتصل بروح عبد من خلق الله هو الذي يسمو به وبالأمة التي ينشأ فيها إلى حيث يريد الله، فإذا التقت تيارات الفيض في زمن واحد وفي أمة واحدة ما التقت في أبي بكر وعمر بن الخطاب وخالد بن الوليد ومن عاصرهم وعمل معهم، سمت في فترة وجيرة من الزمن إلى حيث سمت الأمة الإسلامية في سنوات معدودة، فانتقلت في أقل من جيل من بداوة شبه الجزيرة إلى هذه الإمبراطورية المترامية الأطراف المتغلغلة بسلطانها الروحي في أعماق النفوس، والتي حملت عبء الحضارة عن العالم كله عشرة قرون اتباعا حتى احتملته أوربا ولا تزال تنهض بعبئه إلى اليوم.
والناس يشعرون بسلطان هذه المواهب فتعنو لها وجوههم، فإذا ارتحل عنهم صاحبها خلا لهم الجو فرفعوا رءوسهم وحاولوا الظفر بحريتهم، وكذلك صنع أهل الحيرة وغيرهم من أهل العراق في غيبة خالد بدومة، ظن الأعاجم ومن ناصرهم من العرب أن الحظ موات والفرصة سانحة، وخيل إلى بني تغلب أن الثأر لمقتل عقة قد حان، ولم يكن في طاقة القعقاع إلا أن يحمي ما كسب المسلمون فلا يدع ما وراء حدودهم يتقدم إلى غزوهم، وبلغت خالدا هذه الأنباء فلم يطق البقاء بدومة بل خرج وعلى مقدمته الأقرع بن حابس ومعه عياض بن غنم، وما لبث حين بلغ الحيرة أن جعل عليها عياضا، ووجه القعقاع إلى الحصيد حيث تواعد الثائرون من العرب والفرس، أما هو فأقسم ليبغتن في دارها.
ولقد كفى أن علم أهل العراق بمقدمه فأسقط في أيديهم وتنكر وجه الحظ لهم، وخاب ما ظنوا أن هؤلاء الغزاة من شبه الجزيرة سيرحلون عنهم كما رحل من قبل أمثالهم، وبدا ذلك كله واضحا في وجوههم حين خرج القعقاع إلى استقبال خالد بظاهر الحيرة، فقد وقف في طرقاتها رجال من أهلها يرون جيش المسلمين يمر بهم فيقولون لأصحابهم إذا رأوهم: مروا بنا فهذا فرح الشر.
وسار القعقاع إلى حصيد وقد أمده خالد من روحه بقوة على قوته، فلم يلبث له العجم بل قتل قائدهم، وفر جيشهم، وغنم المسلمون ما شاء الله أن يغنموا، وخيل إلى الفارين أنهم يستطيعون التحصن ببلدة الخنافس مع من بها من العجم، لكن قائدها فر أول ما سمع بمقدم جيش المسلمين، فلم يلق هذا الجيش من يحاربه، وانتهى خبر ذلك كله إلى خالد، فكتب إلى قواده فواعدهم ليلة وساعة يجتمعون فيها ببلدة المصيح منازل هذيل الثائرة بهم، واجتمعوا ليلة موعدهم وأغاروا على هذه القبائل وهم نائمون، فملأوا الفضاء بقتلاهم، حتى كأنهم غنم مصرعة.
وقتل بالمضيح رجلان من المسلمين معهما من أبي بكر كتاب بإسلامهما فلما بلغ مقتلهما أبا بكر وداهما، ولكن عمر أخذها على خالد وأضافها إلى قتل مالك بن نويرة، وكما دافع الصديق عن ابن الوليد في الأولى دافع عنه في هذه بقوله عن الرجلين: «كذلك يلقى من ساكن أهل الحرب».
وآن لخالد بعد المضيح أن تبر يمينه ليبغتن تغلب في دارها، لذلك تقدم إلى قائديه القعقاع وأبي ليلى أن يرتحلا أمامه، وواعدهما الغارة على التغلبيين في ليلة عينها، واجتمع القواد الثلاثة من ثلاثة أوجه فجردوا السيوف، فلم يفلت من جيش بني تغلب مخبر، وأخذ خالد السبي والمغانم، فبعث بالخمس إلى أبي بكر مع النعمان بن عوف الشيباني، وقد اشترى علي بن أبي طالب من السبي صابحة بنت ربيعة بن بجير التغلبي فولدت له عمر ورقية.
ذاعت أنباء خالد وشنه الغارة على القبائل ليلا في منازلها، وأخذه النساء والبنات سبيات منها، وقسمته المغانم والسبي بين عسكره، وعجز القبائل جميعا عن مقاومته، ففت ذلك في أعضاد رجال البادية بالعراق، فألقوا سلاحهم وطلبوا الأمان، وجعل خالد يسير شمالا على شاطئ الفرات وفيما حوله، فلا يلقى إلا الإذعان له والإيمان بعبقريته، فلما بلغ الفراض، وهي تخوم العراق والشام، نزلها بجيشه وأفطر بها رمضان في تلك السفرة التي اتصلت له فيها الغزوات والأيام ونظمت نظما.
ولننزل مع خالد الفراض نستجم قليلا، فالفراض هذا أدنى إلى شمال العراق وشمال الشام، فلو أن عياض بن غنم ساعفه الحظ فأخضع دومة أول ما ذهب إليها لما كان هذا الشمال الذي بلغه خالد هو الذي عناه أبو بكر حين أمر عياضا أن ينزل العراق من شمال، إنما كان مقصد الصديق إلى شمال الحيرة، أما أن تبلغ جنوده تخوم الشام من أعلاه فتلك معجزة لم يفكر الخليفة فيها، وهي معجزة لم يؤتها إلا الذي عقمت النساء أن يلدن مثله، وأية معجزة كمواجهة الروم من تخوم فارس! وأية جرأة كمقام خالد بالفراض شهرا كاملا وليس بينه وبين جيوش الروم المعسكرة بالشام غير مجرى الفرات! أولا يخشى أن تضيق هذه الجيوش صبرا بمرآه فتنازله فيتضاعف بذلك عدوه؟ وأي عدو! فارس من الشرق، والروم من الغرب، وقبائل البدو الحاقدة المحنقة من كل جانب، أليس خيرا له وقد قضى على ثورة العراق أن ينسحب إلى الحيرة وأن يقيم بها فيوطد ملك المسلمين فيها!!
كلا! لئن فعل ليكونن السياسي الذي يريد أن يجعل الزمن من جنده، والصبر من أعوانه، وخالد ضيق صدرا بالزمن وأكثر ازدراء للصبر وأشد مقتا للسياسة المحاولة المطالة من أن يمر شيء من ذلك بخاطره، وما الفرس وما الروم وما رجال البادية وما جموعهم وإن زخرت أمام نظرته القوية الصارمة التي تلقي الرعب في القلوب فتهز الميادين وتبطش بالدول أسرع البطش! إنه مقيم ها هنا بالفراض، وللروم رأيهم إن شاءوا مصاولته.
ولما تكن الروم قد ذاقت بأس خالد، لذلك غاظهم أن يقيم جيش المسلمين في وجوههم وأن يطيل المقام، وثارت في عروقهم حمية أذكاها الفرس والعرب الذين ذاقوا من نكال خالد أهوالا، فقد كان للفرس كتائب قريبة من الفراض، وأهل البادية من تغلب والتمر وإياد منتشرون في كان مكان؛ هؤلاء وأولئك انضموا للروم وحرضوهم وأمدوهم، فساروا حتى إذا لم يبق إلا الماء بينهم وبين خالد بعثوا إليه يقولون: إما أن تعبروا إلينا، وإما أن نعبر إليكم، قال خالد: بل اعبروا إلينا وفيما يعبرون صف صفوفه ودبر خطته، وقالت الروم لحلفائهم: امتازوا حتى نعرف اليوم ما يكون من حسن أو قبيح من أينا يجيء، والتقى الجمعان وقد أمر خالد رجاله أن يلحوا عليهم ولا يرفهوا عنهم؛ فكان صاحب الخيل يحشر منهم الزمر برماح أصحابه، فإذا جمعوهم قتلوهم، على أن قوات الروم وحلفائهم تؤذن بالمعركة أن تطول؛ لذا أبدع خالد ألوانا من المداورة في القيادة لم يعهدها أعداؤه من قبل فلم يثبتوا لها، وانكشف الروم وحلفاؤهم مدبرين والمسلمون من ورائهم يمعنون فيهم قتلا، وبلغ من ذلك أن قتل بالفراض في المعركة وفي الطلب مائة ألف في رواية جميع المؤرخين.
أقام خالد على الفراض بعد الموقعة عشرة أيام، ثم أذن في الناس بالرجوع إلى الحيرة، وكان أذانه ذاك لخمس بقين من ذي القعدة من السنة الثانية عشرة للهجرة.
ترى أيعود خالد مع الجيش يستقر بالعاصمة الجديدة؟!
إن عليه لله دينا يجب قبل كل شيء أداؤه، وهو قد شعر بعد الفراض بجلال هذا الدين وبأنه لم يعد في وسعه إرجاؤه، لقد فتح الله عليه اليمامة، ثم فتح عليه العراق، وأدال له من دولة كسرى، وبشره في الفراض بإدالة الروم ودولتهم، فلله الحمد على ذلك كله ألف حمد، جل ثناؤه، وتباركت أسماؤه! ترى أويكفي الحمد ويجزئ الثناء عما أنعم الله به عليه؟ أوليس فرضا لله عليه أن يحج بيته، يزيده تبارك وتعالى حمدا وشكرا، ويستغفره عما فرط منه، إنه هو الغفور الرحيم!!
وتجسم الشعور بهذا الواجب في نفس خالد بعد موقعة الفراض، وجعل يزداد في العشرة الأيام التي قضاها بها، ثم صار قوة قاهرة لا فكاك له منها ولا سلطان له عليها، بل صار أمامها أضعف من جيش الروم ومن جيش الفرس أمامه، لم يغب عنه ما يهيئ بعده عن العراق من فرص للفرس يحركون أثناءها أسباب الفتنة ويشجعون بها عوامل الانتفاض والثورة، ذلك أمر يجب لا ريب اتقاؤه لكنه لن يرده بحال عن عزمه، ولن يصرف عن أن يؤدي لله دينه، ولا سبيل إلى اتقاء هذا الأمر إلى أن يحج خالد وأن يعود إلى العراق، ثم لا يعلم بذلك أحد إلا أصفياؤه الذين يخرجون معه، لكن! أليس واجبا عليه أن يبلغ الخليفة وأن يتلقى أوامره! فإن أبى عليه الخروج كان له عند الله عذره، وهبه أجازه ثم حدث ما يخشى وانتفض العراق فأي خير للإسلام في أن يعود بعد حجه يجاهد كما جاهد بعد دومة! وإن لم يجزه الخليفة لم يسترح ضميره لنكوله، ليس له إذن إلا أن يمضي في عزمه وأن يتم حجه في سر من أبي بكر ومن الناس جميعا وإنه لواثق أن الصديق سيلتمس له عن صنيعه عذرا، وأن الله سيكتب له بحجه أجرا.
أمر خالد الجيش إذن أن يعود إلى الحيرة متمهلا وأظهر أنه في الساقة ، وخرج في نفر من أصحابه ينهب الأرض إلى مكة، متخذا أكثر الطرق استقامة وإن كان أشدها وعورة، ومتى صده الوعر عن شيء؟ ولم يحتج في سلوك هذا الطريق إلى دليل يهديه، وما حاجته إلى دليل وهو من أبناء مكة يعرف ما يعرفون من طرق بلاد العرب لتجارتهم، وهو قائد جاب أرجاء البادية جميعا وعرف أوديتها وكثبانها، سهولها ونجودها! وبلغ مكة وأتم فرائض الحج وأدى لله دينه؛ ثم عاد أدراجه لم يعلم بمقدمه إلى مكة أحد من الألوف الذين قدموا إليها، ولم يعلم به أبو بكر، وفي رواية أنه كان بمكة على الحج في ذلك العام.
عاد أدراجه ينهب الأرض إلى الحيرة في ذلك الطريق الوعر، كما نهبها من قبل إلى مكة، ودخل الحيرة حين دخول ساقة الجيش من الفراض إليها، بذلك لم يفطن إلى رحلته لأداء الفريضة أحد من فرس العراق ولا من عربه، ولم يترتب على غيبته هذه الفترة عن العراق أثر.
وأقام خالد بالحيرة مطمئنا، وكأنما خيل إليه أنه أدى كل ما عليه لله ولدين الحق من واجب، وأنه يستطيع بذلك أن يجم، ثم لعله من بعد أن يذهب إلى المدائن يفتض على كسرى عاصمته لكن للأقدار أحكاما يعجز الناس عليها وإن أوتوا من قوة الحكم وسرعته ما أوتي سيف الله، ولقد شاءت الأقدار أن يتابع خالد ما فتح الله به عليه في الفراض، وأن يغزوا الروم في صميم ملكها، كما غزا فارس في صميم ملكها.
10
قيل: إن عمر هو الذي كان على الحج حين ذهب خالد إلى مكة، وإن أبا بكر لم يرأس الحج في خلافته، والمؤرخون يرجحون أن أبا بكر هو الذي كان على حج ذلك العام وأيما الروايتين صحت فإن أبا بكر لم يعرف بحج قائده الأكبر إلا بعد أن رجع الناس جميعا من الفريضة وبعد أن استقر خالد بالحيرة، أفغضب الخليفة لخروج خالد من غير إذنه؟ وهل ترك هذا الغضب موجدة في نفس الصديق عليه؟ ذلك ما سنراه بعد حين.
الفصل الثالث عشر
بين العراق والشام
تحدث الناس في مختلف الأقطار بفعال خالد بن الوليد في العراق العربي، وبانتصار المسلمين على الفرس في جميع المواقع التي التحموا فيها، وكان لهذه الأنباء من الصدى في الشام وفي باديته ما نبه عاهل الإمبراطورية الرومية الشرقية في مستقره بيزنطية وما أثار تفكيره، فالغساسنة الذين يقيمون تحت كنفه بالشام عرب كاللخميين وبني تغلب وإياد والنمر وغيرهم ممن يقيمون على حدود العراق ويتغلغلون بين النهرين فيه، وقبائل بني بكر وبني عذرة وبني عدوان وبني بحرة تقع منازلهم على تخوم الغساسنة وبادية الشام، أليس طبيعيا أن يفكر المسلمون في غزو الشام العربي كما فكروا في غزو العراق العربي؟! هذا أمر يجب الاحتياط له والحذر منه ويجب لذلك تحصين التخوم بين الشام وبلاد العرب وجعلها من المنعة بحيث تصد المسلمين عن التفكير في العدوان على أية ناحية من الإمبراطورية الرومية.
إلى هذا الاتجاه انصرفت سياسة الروم، فانقلبت من الطمأنينة إلى الحذر لقد كان هم المسلمين في عهد الرسول أن يحصنوا تخوم العرب في الشمال مخافة عدوان الروم عليهم بتحريض اليهود والنصارى الذين أجلاهم الدين الجديد عن شبه الجزيرة، أما اليوم فالروم هم الذين يعنون بتحصين تخومهم في الجنوب مخافة عدوان المسلمين عليهم بقوة إيمانهم وبما كفل لهم هذا الإيمان من نصر وفتح ولم يكن هذا الخاطر الذي أثار هواجس هرقل بعيد عن تفكير أبي بكر، بل كان يتردد في نفسه مذ بدأت طلائع النصر تساير أعلام المسلمين في حروب قبل الفراغ من هذه الحروب، خشية انتفاض العرب عليه وثورتهم به كرة أخرى، فلما هون المثنى بن حارثة الشيباني أمر العراق، ولما انطلق خالد بن الوليد يكتسح أمامه الفرس وأهل البادية ويضع يده على الحيرة ويجعلها عاصمته، ازداد أبو بكر تفكيرا في أمر الشام، إن به من قبائل العرب مثل ما بالعراق، وقد انضمت بعض قبائل العراق إلى جيوش المسلمين وحاربت في صفوفهم جيوش كسرى مع بقائها على نصرانيتها، لا جرم أن تفعل قبائل الشام فعلها ، فالروم حكام على الشام، وبينهم وبين قبائل البادية المقيمة به من اختلاف الجنس واللغة ما بين الفرس والعرب على شواطئ دجلة والفرات، فإذا تقدم العرب في الشام وتغلبوا على جنود الروم تنضم عرب الشام إلى أبناء عمومتهم من أهل شبه الجزيرة، ومن شأن هذا الانضمام أن يزيد المسلمين طمأنينة إلى النصر على عدوهم، وأن ينتهي بهم إلى الاستقرار في هذه البلاد الممرعة الخصب مع بني عمومتهم، فإن أسلم هؤلاء يوما كان لهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم.
وزال كل تردد في نفس أبي بكر حين سلمت دومة الجندل وفتحت أبوابها للمسلمين، لكن انشغال قوات المسلمين بالعراق وبقتال المرتدين في الجنوب من شبه الجزيرة جعله يؤثر أن يقف من الروم موقف المدافع، فلا يبدؤهم بقتال إلا أن يبدءوه به، ولقد كانت أوامره إلى قواده على تخوم الشام صريحة في هذا المعنى كل الصراحة، ولم تكن الروم من جانبها لتجازف باجتياز تلك التخوم وهم يرون المسلمين ينتصرون في كل مكان، بذلك ظل الفريقان على حذر بعضهم من بعض، وأكبر هم هؤلاء وأولئك ألا يشتبكوا في قتال.
وزاد الروم إيثارا لهذا الموقف أن القوات التي أوفدها أبو بكر عقب بيعته إلى شمال شبه الجزيرة لقتال من ارتد ولحماية التخوم بقيت سليمة لم يصبها أذى فقد عادت القبائل هناك إلى سلطان المدينة دون أن يستحر قتال، اللهم إلا دومة الجندل، إذ أصرت على انتفاضها فقاومت عياضا وظلت متحصنة منه حتى فض ابن الوليد حصونها، وكانت قوات الروم من أهل فلسطين ومن عرب البادية المقيمين على حدود الحضر؛ فلم يكن يدفعها إلى مقاتلة العرب وازع نفساني يحبب إليها الموت انتصارا لحق تعلى كلمته، أو لمثل أعلى تحرص على تحقيقه.
كان قائد المسلمين على هذه التخوم خالد بن سعيد بن العاص قيل: إن أبا بكر لما عقد الألوية لقتال أهل الردة عقد لخالد فيمن عقد، فنهاه عمر بن الخطاب عن تأميره، وقال له: «إنه لمخذول، وإنه لضعيف التروئة؛ وما زال يحرضه على عزله حتى جعله أبو بكر ردءا بتيماء على تخوم الشام ، ولم يجعله على من يقاتلون المرتدين.
ونزل خالد تيماء وقد أمره أبو بكر ألا يبرحها، وأن يدعو القبائل التي حولها إلى الانضمام إليه إلا من ارتد منهم، وألا يقاتل إلا من قاتله حتى يأتيه أمره ونفذ خالد أمر الخليفة، فاجتمعت إليه جموع كثيرة جعلت عسكره عظيما وترامت إلى الروم أنباء هذه الجموع على تخومهم، فلم يبق لدى هرقل ريب في وجوب دفعهم؛ ولهذا الأمر اتخذ عدته وترامت إلى خالد بن سعيد من ذلك أنباء سارع فبعث بها إلى المدينة مشفوعة برأيه أن يأذن الخليفة له في منازلة الروم ومن انضم إليهم من قبائل العرب بالشام، مخافة أن يأخذوه ومن معه على غرة.
فكر أبو بكر في رسالة خالد بن سعيد وطال تفكيره، إن الأنباء الواردة من جنوب شبه الجزيرة حسنة كلها، لقد قضى عكرمة بن أبي جهل والمهاجر بن أبي أمية على المرتدين هناك، وعما قريب يرجع عكرمة بجيوشه ويظل المهاجر أميرا على اليمن ومتى عادت جنود المسلمين كان إرسال المدد إلى الشام يسيرا، لكن أوتكفي هذه الجنود لقتال الروم ولغزو الشام وعند الروم من العدد والعدة ما لا يجهله أبو بكر، وما تغلب هرقل به من قبل على فارس؟ أوليس من الخير أن يستعين بمن بقي على إسلامه من أهل الجنوب ليبعثهم إلى الشام! فإذا ذهبوا فلن يقاوم الروم أكثر مما قاوم الفرس في العراق العربي.
وأصبح يوما دعا إليه عمر وعثمان وعليا وطلحة والزبير وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وأبا عبيدة بين الجراح ومعاذ بن جبل وأبي بن كعب وزيد بن ثابت وجلة المهاجرين والأنصار من أهل بدر وغيرهم، فدخلوا عليه، فتحدث إليهم وذكر لهم أن رسول الله كان عول أن يصرف همته إلى الشام فقبضه الله إليه، واختار له ما لديه «والعرب بنو أم وأب وقد أردت أن استنفرهم إلى الروم بالشام، فمن هلك منهم هلك شهيدا، وما عند الله خير للأبرار، ومن عاش منهم عاش مدافعا عن الدين، مستوجبا على الله (عز وجل ) ثواب المجاهدين» ثم طلب إليهم رأيهم؛ فقال عمر: «والله ما استبقنا إلى شيء من الخير قط إلا سبقتنا إليه، قد والله أردت لقاءك بهذا الرأي الذي ذكرت، فما قضى الله أن يكون ذلك حتى ذكرته الآن، فقد أصاب الله بك سبل الرشاد سرب إليهم الخيل في إثر الخيل، وابعث الرجال تتبعها الرجال والجنود تتبعها الجنود؛ فإن الله عز وجل ناصر دينه ومقر الإسلام وأهله ومنجز ما وعد رسوله».
على أن عبد الرحمن بن عوف كان أدنى إلى الحذر وأشد اتقاء للمغامرة.
قام فقال: «يا خليفة رسول الله، إنها الروم وبنو الأصفر! حد حديد، وركن شديد! والله ما أرى أن تقحم الخيل عليهم إقحاما، ولكن تبعث الخيل فتغير في أداني أرضهم، ثم تبعثها فتغير فترجع إليك ثم تبعثها فتغير ثم ترجع إليك، فإذا فعلوا ذلك مرارا أضر بعدوهم وغنموا من أدنى أرضهم فقووا بذلك على قتالهم ثم تبعث إلى أقاصي أهل اليمن وإلى أقاصي ربيعة ومضر فتجمعهم إليك جميعا فإن شئت بعد ذلك غزوتهم بنفسك، وإن شئت بعثت على غزوهم غيرك».
جلس ابن عوف بعد هذا الكلام فسكت الناس وسادت هنيهة صمت اتجه بعدها أبو بكر إلى الحاضرين يسألهم: «ماذا ترون رحمكم الله؟» وتكلم عثمان بن عفان فقال: «أرى أنك ناصح لأهل هذا الدين، شفيق عليهم فإن رأيت رأيا فيه لهم رشد وصلاح وخير فاعزم على إمضائه، فإنك غير ضنين ولا متهم عليهم»، وأقر الحاضرون جميعا رأي عثمان وقالوا: «ما رأيت من رأي فأمضه، فإنا سامعون لك مطيعون، لا نخالف أمرك ولا نتهم رأيك، ولا نتخلف عن دعوتك وإجابتك» فقام أبو بكر يدعو القوم للتجهز إلى غزو الروم بالشام، ويقول: «فإني مؤمر عليكم أمراء وعاقد لهم عليكم، فأطيعوا ربكم ولا تخالفوا أمراءكم، ولتحسن نيتكم وسيرتكم؛ فإن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون».
ترى أتحمس الناس لهذه الدعوة؟ أأجاب الخليفة منهم أحد يطلب الجهاد؟! لقد أخذتهم هيبة الروم فسكتوا، عند ذلك صاح فيهم عمر: «ما لكم يا معشر المسلمين لا تجيبون خليفة رسول الله إذ دعاكم لما يحييكم؟» ونبهت القوم هذه الصيحة فرضوا الجهاد وإن آثروا أن يستعين الخليفة على عدوه بأهل اليمن وأهل شبه الجزيرة جميعا.
1
لا عجب وذلك موقف المسلمين أن يطول تفكير الصديق فيه، وأن يشغل به عن كل ما سواه كان جرير بن عبد الله ممن خرج مع خالد بن سعيد إلى الشام، فاستأذن خالدا إلى أبي بكر ليكلمه في قومه وليتخلصهم وليجمعهم له، وكانوا أوزاعا في العرب وأذن له خالد، فقدم على أبي بكر فذكر له عدة من النبي وأتاه على العدة بشهود وسأله إنجازها، فلما سمع أبو بكر حديثه غضب وقال له: «ترى شغلنا، وما نحن فيه بغوث المسلمين ممن بإزائهم من الأسدين فارس والروم، ثم أنت تكلفني التشاغل بما لا يغني عما هو أرضى لله ورسوله؛ دعني وسر نحو خالد بن الوليد حتى أنظر ما يحكم الله في هذين الوجهين» وسار جرير حتى قدم على خالد بالحيرة.
ولا عجب كذلك إذا انصرف تفكير الصديق إلى هذه الحرب التي نشبت منذ بويع؛ فقد جعلت تزداد على الأيام دقة وخطرا، وتقتضي العناية بها والسهر عليها فهذه الجيوش المنتشرة بالعراق، والقائمة على تخوم الشام، أفي حاجة هي إلى المدد؟ وأيها أشد إلى المدد حاجة؟ وهؤلاء المقيمون بالمدينة ومكة والطائف ممن ذهب أهلوهم إلى صفوف القتال، أيعوزهم شيء؟! وقبائل العرب من الشمال إلى الجنوب ما شأنها؟ وما عواطفها إزاء المدينة وإزاء الخليفة؟ والأنباء الواردة من ميادين القتال بالنصر تارة، وبالعجز طورا كشأن عياض بن غنم بدومة، بأي شيء تقابل، وعلى أي نحو تذاع في الناس؟! كان أبو بكر في شغل بهذا كله وبما يتصل به ولئن كان أهل الرأي حوله موضع ثقته واطمئنانه، لقد كان هو المرجع الأخير وصاحب الرأي النافذ في هذه الأمور جميعا تلك أيام حرب إذا لم يوحد فيها التوجيه خيف الاضطراب وسوء الأثر والخليفة هو المسئول الأول أمام الذين بايعوه عن كل ما يقع، فعليه التبعة العظمى أمام الله وأمام ضميره وأمام الناس.
وكان شعور أبي بكر بجسامة هذه التبعة عظيما، وذلك ما دعاه للمقام بالمدينة منذ اشتدت حروب الردة، كي يفرغ لشئون الدولة لا يشغله شيء عنها، أما وقد تضاعفت هذه الشئون وامتدت الحرب إلى فارس وأوشكت أن تمتد إلى الروم، فقد نسي الرجل ما عداها ليتم له التفرغ لها وإن فاته كل ما يرفه عنه؛ بذلك يكفل للمسلمين النجاح، ولدين الله النصر، سائرا دائما في الطريق الذي رسمه رسول الله، لا يتنكبه ولا يحيد عنه.
كانت سياسة أبي بكر خير كفيل بالنصر والنجاح فقد كان في حكمه مثال العدل والرحمة مجتمعين، كما كان العزم الذي لا تفل منه قوة، ولا يعرف الوهن إلى ناحية من نواحيه مأتى لم يلبث حين عادت بلاد العرب إلى دين الله أن ترك لكل منها من الاستقلال ما ترك لها رسول الله من قبل، فلم يطلب إليها إلا الزكاة التي كانت تؤديها أيام النبي وكانت الزكاة ينفق جانب عظيم منها في شئون هذه البلاد وعلى فقرائها بإشراف عماله الذين ولاهم أمورها، والذين كانوا على مثاله عدلا ونصفة بذلك اطمأنت العرب جميعا إلى عيشهم، وزال كل خوف من انتفاضهم.
ولم يكن أبو بكر يستبقي لنفسه من الزكاة أو من أخماس الفيء إلا ما فرضه المسلمون له، ثم ينفق أكثرها في تجهيز الجيوش للجهاد، ويوزع ما بقي على الفقراء وأبناء السبيل وكل من له حق في بيت مال المسلمين وكان بيت المال في دار أبي بكر بالسنح، فلما انتقل إلى المدينة نقله إلى داره بها ورأى بعضهم ما يجيء من مغانم فارس، فقال له: ألا تجعل على بيت المال من يحرسه!! قال: لا! ذلك أنه كان ينفق كل ما فيه فلا يبقى به ما يحتاج إلى حارس ولم يقف أمر ذلك عند الزكاة وأخماس الفيء فقد فتح أثناء خلافته منجما للذهب في بني سليم على مقربة من المدينة، هو عرق الذهب الذي يستغل في عصرنا الحاضر، فكان أبو بكر يسوي في قسمه بين السابقين الأولين والمتأخرين في الإسلام، وبين الحر والعبد والذكر والأنثى وقيل له: «ألا تقدم أهل السبق على قدر منازلهم؟»؛ فقال: «إنما أسلموا لله ووجب أجرهم عليه، يوفيهم ذلك في الآخرة؛ وإنما هذه الدنيا بلاغ».
أدى هذا العدل بين الناس جميعا إلى اطمئنانهم جميعا وأدى حزم أبي بكر وحمله تبعة الأمر كاملة إلى مهابتهم إياه وإكبارهم له كان عمر بن الخطاب أقرب المشيرين إلى قلبه وأرجحهم رأيا عنده، وكان عثمان وعلي وطلحة والزبير وغيرهم موضع تقديره واحترامه، لا يقطع في أمر برأي مشورتهم لكنه لم يكن مع ذلك يلقي على أحد منهم تبعة، ولم يكن يتوارى وراء مشورتهم ليدفع عن نفسه لوما، ولقد رأيته كيف خالف الجماعة في بعث أسامة، وكيف أبدى من الحزم وقوة العزم في محاربة المرتدين ما جعل مشيريه كلهم يقرون من بعد بسداد رأيه وبعد نظره؛ ثم رأيته كيف خالف ابن الخطاب في خالد بن الوليد حين مقتل مالك بن نويرة وكيف كان يستخير الله في كل شيء، فإذا خار له في أمر لم يرجع عنه ولم يتراجع لأي اعتبار دونه.
ولم يغير تزايد تبعاته من شظف عيشه، بل زاده انصرافا عن كل ما يرفه به عن نفسه كان حين مقامه بالسنح لا يأبى على نفسه ألوانا من الرفه تعينه على الحياة والجهد فيها؛ فكان يغدو إلى المدينة وربما ركب فرسه وعليه إزار ورداء ممشق فيصلي بالناس؛ وكان يستريح بالسنح أحيانا فيصلي عمر بهم وكان يقيم بداره صدر النهار يوم الجمعة يصبغ رأسه ولحيته، ثم يذهب إلى المدينة يخطب الناس ويؤمهم للصلاة أما مذ أقام بالمدينة لتزايد أعباء الدولة فقد تم تفرغه لشئون المسلمين وإن فاته ما يرفه عنه وأقام مع تزايد هذه الأعباء لا يتخذ لنفسه خادما في داره ولا في أعمال الدولة ثم كان يجلس في المسجد حيث كان يجلس رسول الله، يسمع للناس ويحدثهم، ويستشيرهم ويشير عليهم، ويقضي فيما يعرض عليه من شتى الشئون.
وكان على إيثاره الشظف شديد البر بالفقراء والضعفاء كان يشتري الأكسية ويفرقها على الأرامل في الشتاء ، وكان يرعى الفقراء والمساكين بنفسه في سر من الناس كان عمر بن الخطاب يتعهد امرأة عمياء بالمدينة ويقوم بأمرها، فكان إذا جاءها ألفاها قد قضيت حاجاتها وترصد عمر يوما، فإذا أبو بكر هو الذي يكفيها مئوتها، لم تصرفه عن ذلك الخلافة وجسامة تبعاتها وقال عمر حين رآه: «أنت هو لعمري!» ولا حاجة إلى القول بأن مثال أبي بكر كان أسوة عماله في سائر بلاد شبه الجزيرة، وأن طمأنينة العرب إلى عدل الخليفة وإنصافه، وإلى بره ورحمته، وإلى حكمته وحسن سياسته، كانت من العوامل ذات الخطر في نجاح سياسته.
وكان أبو بكر مطمئنا من جانبه إلى النجاح كل الاطمئنان لقد وعد الله ورسوله لينصرن دينه، ووعد الله حق وقد نصر الله المسلمين في حروب الردة، وها هي ذي جيوشهم بالعراق يسايرها النصر حيث سارت، ويفيء النصر عليها من المغانم ما جعل قبائل العرب أشد على الحرب إقبالا وقد رأيت ما استفاء المسلمون بالعراق ولم يكن يرسل للخليفة من هذا الفيء إلا خمسه، أما أربعة الأخماس فكانت توزع بين الجند في ميادين القتال وكان لأهل الجند في مختلف القبائل من حظ رجالهم نصيب يغري من تخلف على أن يخف إلى الميدان ليكون له ولأهله مثله هذا إلى ما غرسه الإسلام في النفوس من حب الاستشهاد لذلك كان أبو بكر مطمئنا إلى إقبال القبائل على الحرب إذا دعيت إليها، لا تضن عليها بتضحية، بل تخف إليها سراعا يجذبها حب الاستشهاد، وتغريها مغانم النصر.
وكان أبو بكر يعلم ما للحرص على الاستشهاد في نفس الأكثرين من أثر لا يقاس إليه إغراء الفيء وهل نسيت صيحات الأبطال الذين اندفعوا إلى الوطيس في معركة اليمامة، لا يشك أحدهم في أنه ملاق ربه، وهو بهذا اللقاء سعيد كل السعادة! وحب الاستشهاد هو الذي أملى على خالد بن الوليد ما كتبه إلى هرمز وإلى غيره من الفرس يقول لهم: «لقد جئنكم بقوم يحبون الموت كما تحبون الحياة» وهم يقبلون على الاستشهاد؛ لأنه طريق الجنة؛ إذ يغفر الله للمجاهد في سبيله كل ذنوبه وقد كان أحدهم يرى صاحبه يتخطفه الموت من صفوف القتال فيرى في استشهاده آية الرضا من الله عنه، ويتمنى لنفسه مثل هذا الحظ من رضا ربه قوم ذلك حرصهم على الموت طبيعي أن توهب لهم الحياة في أسمى مكان من العز والسؤدد، وأن يطمئن خليفة رسول الله إلى نصرهم، وأن يبعثهم إلى الشام يفتحونه كما فتح إخوانهم العراق.
على أن إغراء الفيء لم يكن بالأمر الذي يستهان به فهو في فطرة البدوي منذ خلقه، ولن يزال في فطرته أبد الدهر، وقد رأيت خالد بن الوليد حين وقف بعد غزاة أليس بالعراق يقول لجنده: «إنه إذا لم يكن في العراق إلا هذا الثراء الضخم وهذا الفيء الذي يعد في بلاد العرب حلما لكفى مغريا بالحرب» ولقد كانت القبائل التي ارتدت تعض أصابعها ندما على ما فعلت مما حرمها الاشتراك في حروب العراق والذين أقاموا على إسلامهم في أنحاء شبه الجزيرة كثيرون ولن يتردد هؤلاء في إجابة الدعوة إلى الجهاد متى وجهها الخليفة إليهم، ولن يكونوا إذا غزوا الشام إلا أبطالا فاتحين.
لذلك كله لم يتغير عزم أبي بكر على غزو الشام حين دعا القوم إلى التجهز إليه فسكتوا متأثرين بقول عبد الرحمن بن عوف: «إنها الروم وبنو الأصفر، حد حديد وركن شديد!» بل بدأ يستنفر الناس، وكتب إلى أهل اليمن يقول لهم: «أما بعد، فإن الله كتب على المؤمنين الجهاد وأمرهم أن ينفروا خفاقا وثقالا؛ قال: «وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله» فالجهاد فريضة مفروضة، وثوابه عند الله عظيم وقد استنفرنا من قبلنا من المسلمين إلى جهاد الروم بالشام، فسارعوا إلى ذلك وعسكروا وخرجوا وحسنت في ذلك نيتهم وعظمت في الخير حسبتهم، فسارعوا عباد الله إلى فريضة ربكم».
لقيت هذه الدعوة أذنا سميعة فما كاد رسول الخليفة يتلوها حتى خف ذو الكلاع الحميري إلى فرسه وسلاحه ونهض في قومه ومن عسكر معه من جموع اليمن وسار يطلب المدينة كذلك خف قيس بن هبيرة المرادي في مذحج وجندب بن عمرو الدوسي في الأزد، وحابس بن سعد الطائي في طيء، بينما كان رسول أبي بكر إلى اليمن قد بلغها وأقام يتحدث إلى أهلها، وبينما كان أهل اليمن في استعدادهم ومسيرتهم، كان أبو بكر يستنفر إليه من حوله من المهاجرين والأنصار وأهل مكة وغيرهم يجمعهم ليوفدهم إلى الشام.
وقد اختلفت الروايات: متى بدأ أبو بكر يسير هذه الجيوش، وأي جيش كان أولها، ومن هم الأمراء الذين اجتمعوا إليه، ومن من الأمراء أقام حيث هو ثم توجه إلى الشام طوعا لأمر الخليفة، واضطراب الروايات في أمر الشام يزيد على اضطرابها في فتح العراق وفي حروب الردة.
2
والكثير من هذه الروايات يذهب إلى أن أول جيش سار إلى الشام إنما سار بعد أن عاد أبو بكر من حجه في آخر السنة الثانية عشرة وأول السنة الثالثة عشرة من الهجرة وتذهب روايات أخرى إلى أن أبا بكر سير خالد بين سعيد بن العاص إلى حدود الشام حين سير خالد بن الوليد ذهب إلى العراق في أول السنة الثانية عشرة، والراجح عندي أن خالد بن الوليد ذهب إلى العراق فتولى القيادة العامة فيه على المثنى ومن معه قبل أن يفرغ المسلمون من حروب الردة في اليمن وكندة وحضرموت، وأن خالد بن سعيد، إن كان قد ذهب في هذا الوقت أو ذهب قبله، فإنما ذهب لحماية التخوم لا للغزو، والراجح عندي كذلك أن أبا بكر لم يفكر في غزو الشام إلا بعد أن تم النصر للمسلمين في حروب الردة باليمن وما حولها، وبعد أن دخل ابن الوليد الحيرة واطمأن بها، وبعد أن فتحت دومة أبوابها فصار طريق وادي سرحان إلى الشام آمنا بفتحها.
يؤيد هذا الرأي ما سبق أن ذكرناه من استنفار أبي بكر قبائل اليمن، وما كان ليستنفرها قبل القضاء على الردة فيها، ثم إن عكرمة بن أبي جهل وذا الكلاع الحميري لم يقيما باليمن إلا بعد أن اطمأن الأمر في ربوعها، بل ذهبا مع المهاجر بن أبي أمية للقضاء على الردة بكندة وحضرموت ، فلما اطمأن أمر الجنوب كله وآن لعكرمة أن يعود إلى المدينة سرح الجند الذين جاهدوا معه، ثم تولى قيادة جيش آخر تألف بديلا من جيشه، ومن اليسير عليك أن تقدر ما يستغرقه العود من اليمن إلى المدينة، ثم السفر من المدينة إلى الشام، وأنت تعلم أن الطريق بين مكة والمدينة تقطع على ظهور الإبل في أكثر من عشرة أيام، وأن العير كانت تطرد في ذلك الزمن إلى الشام شهرا مقبلة وشهرا مدبرة.
ولقد اختلفت الروايات كذلك؛ أي أمراء الجند ذهب إلى الشام أول ما فكر أبو بكر في غزو الروم؟ قيل: إن خالد بن سعيد بن العاص الأموي كان هذا الأمير وقد ذكرنا فيما سلف أن خالدا إنما ذهب أول حروب الردة ردءا بتيماء على تخوم الشام وتجري رواية غير هاتين بأن خالدا كان باليمن من قبل رسول الله، وأنه قدم إلى المدينة بعد شهر من وفاة النبي، فلما رأي علي بن أبي طالب وعثمان بن عفان قال لهما: «يا بني عبد مناف لقد طبتم نفسا عن أمر يليه غيركم!» فلما وجه أبو بكر الجنود إلى الشام جعل خالد بن سعيد عليها؛ فقال له عمر: «أتؤمره وقد صنع ما صنع وقال ما قال!» ولم يزل به حتى عزل خالدا وأمر يزيد بن أبي سفيان، وفي رواية أن عمر قال لأبي بكر في شأن خالد: «إنه رجل فخور يحمل أمره على المغالبة والتعصب» وقيل: إن خالدا لم يذهب أميرا وإنما ذهب في جيش أبي عبيدة بن الجراح ونحن نرجح، رغم هذا الاضطراب في الروايات، أن خالدا ذهب ردءا بتيماء، وأنه أقام بها، وأنه لم يكن بالمدينة حين استنفر أبو بكر الناس لقتال الروم، وأن أبا بكر إنما استنفر الناس تلبية لنداء خالد حيث بعث إليه يستمده ويذكر له من أنباء الروم وتحركهم ما حرك الخليفة لغزو الشام.
ولقد كان للروم كل العذر في أن يتحركوا وأن تزداد حركتهم نشاطا فالأنباء كانت تصل إليهم تترى بانتصار المسلمين في العراق وبانقضاء الثورة التي كانت قائمة في بلاد العرب وهم لم ينسوا مجازفة محمد وأصحابه بالغارة عليهم والانتقاص من أطرافهم وموادعة القبائل المقيمة على تخومهم وها هم أولاء أتباعه يقيمون اليوم على تلك التخوم، وقد تحدثهم أنفسهم باجتيازها لذلك دعا الروم الغسانيين وغيرهم من القبائل المقيمة ببادية الشام ليقفوا سدا منيعا في وجه المسلمين واجتمع من هذه القبائل عدد عظيم لا يقل عمن اجتمع حول خالد بن سعيد ووقف الجمعان، هذا في أرض العرب وذاك في أرض الشام، وكل يتربص بصاحبه الدوائر، وفيما هم كذلك كانت أنباء خالد بن الوليد تدوي في جو الفرس والروم والعرب كله فالأنبار تفتح أبوابها، وعين التمر يقتل مقاتلتها وتسبى نساؤها، وجنود المسلمين يغنمون ما شاء الله أن يغنموا أفيبقى إخوانهم في الدين بمنزلتهم من تيماء لا يقتحمون الشام كما اقتحم ابن الوليد وجيوشه العراق!!
وكتب خالد بن سعيد إلى الخليفة كرة أخرى كتب إليه باجتماع الروم ومن نفر إليهم من بهراء وكلب وتنوخ ولخم وجذام وغسان، واستأذنه في منازلتهم وكان أبو بكر يعد إذ ذاك جيوشه لغزو الروم؛ لذلك كتب إلى خالد بن سعيد يقول: «أقدم ولا تحجم واستنصر الله!»
وكانت هذه الكلمات أول فتح الشام.
الفصل الرابع عشر
فتح الشام
قام خالد بن سعيد بتيماء في جيشه وفيمن نفر معه من قبائل البادية على تخوم الشام وأقام جيش الروم مضاعف العدد بمن انضم إليه من القبائل على الناحية الأخرى من هذه التخوم، ولقد أثار تقابل الجيشين على هذا النحو حمية المسلمين وحركهم لقتال خصومهم، فلما قرأ خالد في كتاب أبي بكر: «أقدم ولا تحجم واستنصر الله» أسرع بكل قواته فتخطى الحدود لمنازلة القوم، ولم يلبث الروم وأنصارهم حين رأوه دنا منهم أن تفرقوا وتركوا منازلهم، فدخل معسكرهم وغنم ما فيه، وكتب إلى أبي بكر بالنبأ؛ فأجابه: «تقدم ولا تقتحم حتى لا تؤتى من خلفك.» وتقدم خالد حتى بلغ القسطل في طريق البحر الميت، فهزم جيشا من الروم على الشاطئ الشرقي لذلك البحر ثم تابع مسيرته هنالك ثارت حمية الروم وثارت حمية أهل الشام معهم، فتجمعوا في قوات تزيد على ما اجتمع قبالة تيماء أضعافا مضاعفة.
ورأى خالد بن سعيد تجمعهم، فكتب إلى أبي بكر يستمده ليتابع مسيرته المظفرة، وكانت جيوش المسلمين قد بدأت السير من المدينة إلى الشام لغزو الروم، وأبو بكر متفائل بمسيرتها، مملوء أملا بنصر الله إياها؛ فالروم ليسوا خيرا من الفرس حالا، وهم مذ غلبوا الفرس قد استغرقوا في سباتهم، وجعلوا كل اعتمادهم في حماية تخومهم على أبناء البادية. ولأبناء البادية في مواقف كثيرة آيات بأس وشجاعة ميزتهم، لكن روابط الجنس واللغة لم تكن قائمة بينهم وبين الروم كقيامها بينهم وبين بني عمومتهم العرب المسلمين، ولم تكن نصرانية عرب الشام كنصرانية هرقل؛ إذ كانوا من الأرثوذكس، وكان قيصر من الكاثوليك ولعلهم رأوا في ضن هرقل بالروم على القتال دليلا على خوفه أن يهزم أبناء وطنه أو يقتلوا، لذلك تراخوا في القتال، وتركوا خالد بن سعيد يتقدم دون أن يثبتوا له.
أي جيوش المسلمين كان أسرع إلى إمداد خالد بن سعيد؟ اختلف الرواة في هذا الأمر كما اختلفوا في بدء خالد بغزو الشام كما قدمنا؛ أما والطبري يجعل لخالد هذا السبق ويوافقه ابن الأثير وابن خلدون ومن إليهما على هذا الرأي، فإننا نساير الطبري وأصحابه الآن في روايتهم، لنعود إلى رواية الواقدي والأزدي والبلاذري من بعد.
كان عكرمة بن أبي جهل قافلا من كندة وحضرموت عن طريق اليمن ومكة، فلما بلغ المدينة أمره أبو بكر أن يسير مددا لخالد بن سعيد، وكان عكرمة قد سرح الجند الذين قاتلوا معه في جنوب شبه الجزيرة، فاستبدل الخليفة بهم غيرهم، وأمرهم أن يسيروا تحت لواء عكرمة إلى الشام ولذلك سمي هذا الجيش جيش البدال، وسار ذو الكلاع على رأس الجند الذين صحبوه من اليمن مسرعا مع عكرمة إلى الشام، حتى يطمئن خالد بن سعيد ويتابع مسيرته.
وكان عمرو بن العاص مقيما بقضاعة مذ قضى على الردة فيها، فبعث إليه أبو بكر يخيره أن يبقى حيث هو أو أن يسير إلى الشام، وكتب له: «وقد أردت أبا عبد الله أن أفرغك لما هو خير لك في حياتك ومعادك، إلا أن يكون الذي أنت فيه أحب إليك.» وكان جواب عمرو: «إني سهم من سهام الإسلام، وأنت بعد الله الرامي بها والجامع لها، فانظر أشدها وأخشاها وأفضلها فارم بها شيئا إن جاءك من ناحية من النواحي.» وكتب الصديق إلى الوليد بن عقبة بمثل ما كتب إلى ابن العاص، فكان جوابه إيثار الجهاد، عند ذلك أمر الخليفة عمرا على فلسطين، وكتب إلى الوليد فأمره بالأردن.
سارت هذه الجيوش متجهة إلى الشام، ولا يشك أبو بكر في أن الله قد فتحه عليه وكان الوليد بن عقبة أول من أدرك خالد بن سعيد، وقص عليه أنباء المدد وحماسة أبي بكر لفتح الشام، وغبطة أهل المدينة بانتصار إخوانهم على بني الأصفر، وفاضت نفس خالد بالمسرة، فأمر جيشه أن يتهيأ للسير حين يكون له من فخار النصر ما يجعله في قتال الروم ندا لابن الوليد في قتال الفرس وتقدم بالمسلمين ومعه الوليد بن عقبة يقابل جيشا للروم على رأسه قائدهم الأكبر باهان، ونفسه تحدثه بأن ينقض على هذا القائد كما انقض ابن الوليد على هرمز، وأن يورده حتفا كحتفه، وكيف لا يفعل وقد أدركه عكرمة وذو الكلاع فصار في قوة لا تثبت أمامها قوة!
ولم يكن جيش الروم قريبا منه، مع ذلك تراجع باهان به متجها نحو دمشق وسار خالد في أثره يريد مرج الصفر بين واقوصة ودمشق، ليتخذ هناك معسكره ومكان قيادته العامة، ولم يكن تراجع باهان إلا خدعة لاستدراج خصمه حتى يعري ظهره فيتمكن من حصره ويجيئه من خلفه، وذلك ما حذر أبو بكر خالدا منه لكن نشوة الظفر وحب الفخار أنسياه الحذر ودفعاه يغذ السير، حتى إذا كان على مقربة من مرج الصفر إلى الشرق من بحيرة طبرية ارتد باهان بجنوده وأحاط به وقطع عليه خط رجعته، وصادف باهان سعيد بن خالد بن سعيد في فرقة من العسكر منعزلة عن المسلمين فقتلهم وقتل سعيدا في مقدمتهم، وبلغ خالدا مقتل ابنه، ورأى نفسه قد أحيط به، فخرج هاربا في كتيبة من أصحابه على ظهور الخيل والإبل، تاركا وراءه جيش المسلمين يقوده عكرمة متقهقرا.
ولم يقف خالد بن سعيد من فراره دون ذي المروة على مقربة من المدينة، وعرف أبو بكر فراره هزيما يريد مدينة الرسول، فأبى ذلك عليه وبعث له بكتاب لقيه بذي المروة جاء فيه: «أقم مكانك؛ فلعمري إنك مقدام محجام نجاء من الغمرات، لا تخوضها إلى حق ولا تصبر عليه.» وأقام خالد بذي المروة في فلول الفارين معه حسيرا حزينا لمقتل ابنه وللهزيمة التي حلت به، أما أبو بكر فكان يقول: «كان عمر وعلي أعلم بخالد مني، ولو أطعتهما فيه اتقيته.»
أأضعف فرار خالد بن سعيد من عزم أبي بكر فتح الشام ومن حماسته لهذا العزم؟ كلا! فقد جاءته الأنباء بأن عكرمة بن أبي جهل داور بجيوش المسلمين، وداور معه ذو الكلاع، فتراجع بهم إلى حدود الشام، وهناك تحصن ينتظر المدد فليمده، وليكن هذا المدد من القوة بما يزيل كل أثر لهزيمة ابن سعيد، وما يرد إلى المسلمين الإيمان بالنصر، وما ينزل في قلوب الروم الخوف والهلع.
كان شرحبيل بن حسنة مع خالد بن الوليد بالعراق، وقد جاء في هذه الآونة إلى المدينة بأنباء النصر وبالسبي والأخماس، فأمره أبو بكر أن يذهب إلى الشام مكان الوليد بن عقبة الذي باء مع خالد بن سعيد بما باء به، وجمع شرحبيل قوة من جيش ابن سعيد وابن عقبة وسار بها إلى عكرمة، ودعا أبو بكر يزيد بن أبي سفيان فأمره على جند عظيم جلهم من أهل مكة، ثم أردفه بأخيه معاوية، وجعله على بقية الجيش الذي استدرجه خالد بن سعيد للغزو معه، وندب الخليفة جيشا عظيما جعل عليه أبا عبيدة بن الجراح وأمره على حمص، وكانت هذه الجيوش تعسكر بالجرف، فإذا آن لأحدهما أن يسير خرج إليه الخليفة وودعه على النحو الذي ودع به جيش أسامة غداة بيعته ، وانطلقت هذه الجيوش جميعا في طريقها إلى الشام مجاهدة في سبيل الله.
وأنت تذكر أن أبا بكر أوصى أسامة حين ودعه وصية تسجل له في تاريخ الحروب بحروف من نور، كذلك فعل مع هذه الجيوش، قال وهو يودعهم: «ألا إن لكل أمر جوامع، فمن بلغها فهي حسبه ومن عمل كفاه الله عليكم، بالجد والقصد فإن القصد أبلغ، إلا أنه لا دين لأحد لا إيمان له، ولا أجر لمن لا حسبة له، ولا عمل لمن لا نية له ألا وإن في كتاب الله من الثواب على الجهاد في سبيل الله لما ينبغي للمسلم أن يحب أن يخص به هذه التجارة التي دل الله عليها ونجى بها من الخزي، وألحق بها الكرامة في الدنيا والآخرة.»
وكان مما قاله ليزيد بن أبي سفيان: «إذا قدمت على جندك فأحسن صحبتهم وابدأهم بالخير وعدهم إياه، وإذا وعظتهم فأوجز؛ فإن كثير الكلام ينسي بعضه بعضا ... وإذا قدم عليك رسل عدوك فأكرمهم، وأقلل لبثهم حتى يخرجوا من عسكرك وهم جاهلون به ... وامنع من قبلك من محادثتهم، وكن أنت المتولي لكلامهم ... واسمر بالليل في أصحابك تأتك الأخبار وتنكشف عندك الأستار ... واصدق اللقاء، ولا تجبن فيجبن الناس.»
واطمأن أبو بكر حين ودع هذه الجيوش جميعا ورأى نصر الله منه قريبا، وكيف لا يطمئن وفي هذه الجيوش زهرة المسلمين مهاجريهم والأنصار، وفيها ما يزيد على ألف من أصحاب رسول الله الذين سمعوا له وجاهدوا معه، وفيها أهل بدر الذين قال فيهم رسول الله يناجي ربه: «اللهم إن تهلك هذه العصابة اليوم لا تعبد.» والذين أمدهم الله بالملائكة ونزل فيهم قوله تعالى:
كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين
أين من هؤلاء جيش خالد بن الوليد الذي غزا العراق ومزق الفرس! لقد تألف هذا الجيش من بقية قليلة من جيش اليمامة، ثم كان أكثره ممن استنفرهم خالد من أهل البحرين وعمان وممن قاتل أهل الردة وثبت على الإسلام في هذه النواحي، أفيقاس أولئك إلى الذين شهدوا بدرا وأحدا وحنينا، والذين أمدهم رسول الله في حياته بنفحة منه؟! وهل يقاسون إلى الأبطال أمجاد مكة والمدينة والطائف ممن عركوا الحرب وعركتهم الحرب؟! فإن يكن خالد قد غلب الفرس بعرب الجنوب، فما أحرى عكرمة وأبا عبيدة وابن العاص ويزيد أن يقضوا بجيوش مكة والمدينة على الروم القضاء الحاسم! وأبو بكر لم يبالغ حين بعث هذه الجيوش كلها إلى الشام بعد أن انتصر عسكره بالعراق، فلو أن أمر المسلمين هناك وقف عند هزيمة خالد بن سعيد لذهب نصرهم بالعراق بددا، ولاقتحم الروم عليهم شبه الجزيرة، ولوقف الإسلام من الأسدين فارس والروم موقفا لا يرضاه الحق جل شأنه، وما كان ذلك ليحدث وأبو بكر في خلافة رسول الله، وما كان ليحدث ولو لم يبق في القرى غيره، على حد تعبيره رضي الله عنه عند اختلاف أصحابه معه عشية حروب الردة.
وظل أمراء الجند في مسيرتهم حتى نزلوا الشام، أما عمرو بن العاص فلم يتحرك جيشه من العربة حيث كان منذ أوفده أبو بكر، وأما أبو عبيدة فتخطى البلقاء إلى الجابية بعد أن أخضع من قاومه من عرب مآب وصالحهم، ولقد نزل شرحبيل الأردن، ونزل يزيد بن أبي سفيان البلقاء؛ وفي رواية أنه لقي قوة من الروم والبدو في دائن فتغلب عليها. ولقد اختلفت الروايات: ألقي جنود المسلمين حربا في جنوب فلسطين، أم تقدموا فيها فلم يجدوا من يواجههم؟ والراجح أنهم تقدموا حتى صاروا على مقربة من جيش عكرمة، وأن الروم لم يواجهوهم بقواتهم، بل تركوا أمرهم لرجال البادية، وأن ما حدث من وقائع بين العرب والروم في جنوب فلسطين قد حدث من بعد في عهد عمر بن الخطاب.
على أن اضطراب الروايات ينتهي حين تتصل جيوش المسلمين بجيش عكرمة؛ إذ يعسكر أبو عبيدة على طريق دمشق ويعسكر شرحبيل في مرتفع بأعلى الغور فوق طبرية ونهر الأردن، ويظل يزيد بالبلقاء مهددا بصرى، ويبقى عمرو بالعربة مهددا حبرون، وفي هذه المواقع وقفت الجيوش يتداول أمراؤها الرأي ما يصنعون.
ذلك أن الروم لم يكترثوا أول الأمر لهم، بل خيل إليهم أن هؤلاء العرب لن يتقدموا إلى أكثر مما تقدم محمد من قبل في غزوة تبوك، وأنهم عائدون أدراجهم لا محالة، فلما هزم خالد بن سعيد وفر من الميدان ازدادوا طمأنينة إلى ما توهموا، وظنوا أن ما يترامى إليهم من أنباء المسلمين وتجهيزهم مددا لعكرمة على حدود الشام لن يزعجهم، ولن يكون مصيره إلا كمصير خالد بن سعيد، فلما رأوهم تقدموا إلى المواقع التي ذكرنا أفاقوا من سباتهم ورأوا الأمر أجل خطرا من أن يستهينوا به، وأدركوا أنهم إن لم يواجهوه بكل قوتهم أصابهم ما أصاب فارس، وفتح هؤلاء الغزاة المسلمون الشام كما فتحوا العراق؛ لذلك سير هرقل إليهم قوات عظيمة، وقفت كل واحدة منها إزاء كل جيش من جيوش المسلمين، حتى يشتغل بعضهم عن بعض فيسهل التغلب عليهم وطردهم من البلاد.
وتجري الرواية في أمر الجيوش من الجانبين بأن عدد المسلمين كان ثلاثين ألفا أو نحوها، وأن جيوش الروم بلغت عدتها أربعين ومئتي ألف؛ قيل: إن جيش عكرمة كان ستة ألاف، وإن الجيوش الثلاثة الأخرى بإمارة أبي عبيدة ويزيد وعمرو بن العاص كانت تترجح بين سبعة آلاف وثمانية آلاف لكل منها، أما جيوش الروم فكان أكبرها عددا بإمارة تذارق (تيودوريك) أخي هرقل لأبيه وأمه، وكانت عدته تسعين ألفا، وقد عسكر بإزاء عمرو بن العاص، ووقف جيش عدته ستون ألفا بإمارة الفيقار بن نسطوس بإزاء أبي عبيدة، أما شرحبيل بن حسنة فاستقبل الدراقص على قوة من الروم عدتها أربعون ألفا، واستقبل چرچة بن تدرا جيش يزيد بن أبي سفيان.
رأى المسلمون هذه الجيوش فهابوها وتداولوا في موقفهم منها؛ فهم لم يكونوا يتوقعون مقاومة منظمة هذا التنظيم، ثم إنهم علموا أن هرقل تحصن بحمص، وأنه يتتبع أنباء الغزاة بعناية بالغة، وأنه منذ علم بقدوم الجموع العربية إلى أراضي الإمبراطورية قد جعل كل همه إلى الاحتفاظ بالسلطان الذي كفله النصر على فارس له، أما وقد كان أخوه تذارق قائد الجيوش التي غلبت الأعاجم وعادت تتقدمها أعلام النصر ، فليكن قائد الحملة على العرب ليطهر أرض المعاد منهم، وليلقي عليهم درسا لا ينسونه أبد الدهر.
هاب المسلمون جيوش الروم حين رأوها يخطئها العد، ففزعوا بالكتب وبالرسل إلى عمرو بن العاص يلتمسون عنده الرأي، ورأى عمرو أنهم لا يستطيعون لقاء الروم متفرقين، فكاتبهم يقول: «إن الرأي الاجتماع؛ وذلك أن مثلنا إذا اجتمع لم يغلب من قلة، فأما إن تفرقنا لم تقم كل فرقة لمن استقبلها لكثرة عدونا.» وجاءهم كتاب من أبي بكر بمثل رأي عمرو، وفيه: «اجتمعوا عسكرا واحدا، وألقوا زحف المشركين بزحفكم، فأنتم أعوان الله، والله ناصر من نصره، وخاذل من كفره ولن يؤتى مثلكم من قلة، وإنما يؤتى العشرة الآلاف والزيادة عليها بذنوبها فاحترسوا من الذنوب، والله ناصركم.» واتعد المسلمون اليرموك على طريق دمشق، واجتمعت قواتهم كلها على شاطئه الأيسر فلما رأى الروم ذلك جمعوا قواتهم على الشاطئ الأيمن للنهر وتولى تذارق قيادتها.
ونهر اليرموك ينبع من جبال حوران وينحدر سريع التيار بين آكام مختلفة الارتفاع إلى غور الأردن وإلى البحر الميت، وعلى ثلاثين أو أربعين ميلا من ملتقى اليرموك بنهر الأردن تقع واقوصة في منبطح فسيح من الأرض تحيط به من ثلاث نواح جبال بالغة الارتفاع، وقد اختار الروم هذا المنبطح معسكرا لهم حين رأوه يتسع لجموعهم العظيمة، فلما قدموا إليه واستقروا به تخطى المسلمون النهر إلى شفته اليمنى واختاروا منبطحا آخر على الطريق المفتوح لجيش الروم، فلم يبق للروم طريق إلا عليهم، ورأى عمرو بن العاص هذا الموقف، ورأى الروم حصرت بين الجبال، فقال: «أيها الناس أبشروا! حصرت والله الروم، وقلما جاء محصور بخير!»
عن أي شيء أسفر الموقف الجديد؟ أفهاجم المسلمون الروم في بطيحهم فحصروهم فيه فقضوا عليهم؟ أفخرج الروم فلاقوا المسلمين فأتاح لهم تفوقهم في العدد الظفر بهم؟ لا هذا ولا ذاك؛ بل أقام المسلمون على طريق الروم ومخرجهم لا يقدرون منهم على شيء، ولا يقدر الروم منهم على شيء إذا خرج الروم على الطريق ردهم المسلمون إلى بطيحهم، وإذا غامر المسلمون بالهجوم لم يلبثوا ان يتراجعوا مخافة أن يحصرهم الروم بينهم وأن يقضوا عليهم، وأقام هؤلاء وأولئك على هذه الحال شهرين كاملين أيقن المسلمون خلالهما أن لا بد لهم من مدد يعينهم فكتبوا إلى أبي بكر يصفون له الحال ويستمدونه، حتى لا يظلوا الشهور، فيسأم الجند ويضعف إيمانهم بالنصر وتذهب ريحهم.
وكان أبو بكر أشد من أمراء الجند بالشام ضجرا؛ فلم يدر قط بخلده أن يقف أبو عبيدة وزملاؤه هذا الموقف، ولم يحسب أن البدريين الذين غلبوا على قلتهم أهل مكة من المشركين يطيقون هذا المقام بإزاء الروم لا يقتلون ولا يقتلون، طال تفكير الخليفة في هذا الأمر، وجعل يشاور ابن الخطاب وعلي بن أبي طالب وسائر أولي الرأي المقيمين بالمدينة، وبينما هو يفكر انكشفت له الحقيقة جلية واضحة، إن المسلمين لم ينتصروا يوما بكثرة عددهم، وإنما انتصروا دائما بمهارة القيادة، وبقوة الإيمان، والإيمان لا ينقص جيوش الشام وفيها السابقون الأولون من أصحاب رسول الله مهاجريهم والأنصار، وفيها أهل بدر الذين فتحوا مكة ومن انتصروا على أهل الردة. لا بد أن تكون العلة إذن في القيادة، فهذا الموقف يحتاج إلى القائد الجسور الذي لا يعرف الهوادة ولا الإحجام، ولا يهاب الموت وأبو عبيدة على مقدرته رجل رقيق القلب، وابن العاص على دهائه في السياسة هياب غير مقدام، وعكرمة مداور مقدام إلا أنه تعوزه دقة التقدير، وسائر القواد لم يخوضوا بعد المعارك الكبرى؛ ثم إن هؤلاء الأمراء جميعا لا يقرون لواحد منهم بالتفوق على سائرهم تفوقا يكفل بسلطانه وحدة القيادة. تكشفت هذه الحقيقة لأبي بكر جلية واضحة، فقال لأصحابه: «والله لأنسين الروم وساوس الشيطان بخالد بن الوليد.»
لم يعترض أحد رأي الخليفة هذا؛ فقد بلغ الموقف في الشام من الحرج أن ترددوا جميعا في احتمال تبعته، ولعل منهم من رأى في تعريض خالد لهذا الموقف الدقيق ما ينهنه من كبريائه بعد نصره المتصل في حروب الردة، وبلوغه قمة النصر في العراق، وكتب أبو بكر إلى خالد بالحيرة يقول: «سر حتى تأتي جموع المسلمين باليرموك ؛ فإنهم قد شجوا وأشجوا،
1
وإياك أن تعود لمثل ما فعلت، فإنه لم يشج الجموع من الناس
2
بعون الله شجاك، ولم ينزع الشجا من الناس
3
نزعك، فليهنئك أبا سليمان النية والحظوة، فأتمم يتمم الله لك، ولا يدخلنك عجب فتخسر وتخذل، وإياك أن تدل بعمل؛ فإن الله (عز وجل) له المن وهو ولي الجزاء.»
أي أثر ترك هذا الخطاب في نفس خالد! إنه كان يرجو أن يظل بالعراق حتى يفتح المدائن عاصمة الفرس ويتربع فيها على عرش كسرى وخلفائه، ولم يخالجه في بلوغ هذا الغرض ريب؛ فقد سبر غور الفرس وعرف قوتهم وفتح المدائن فخار لا فخار بعده، فما اليمامة وما الحيرة وما هرمز وقواد فارس جميعا بالقياس إلى العاصمة التي يتطلع إليها قيصر الروم ويتطلع إليها العالم من كل نواحيه، وبالقياس إلى كسرى وإيوانه وأبهة ملكه؟ لا مرية إذن في أن يكون خالد قد برم بكتاب أبي بكر وضاق به صدره، ولعله رأى فيه كيد عمر بن الخطاب له. روى الطبري أنه قال بعد تلاوته: «هذا عمل الأعيسر ابن أم سخلة - يعني عمر بن الخطاب - حسدني أن يكون فتح العراق على يدي.» بل لعله ظن أن عمر طمع في أن يجيء إلى العراق مكانه، وإن يكن هذا الظن قد دار بخاطره فلعله لم يكن مخطئا ولا آثما فيه؛ فقد روي عن أبي بكر أنه قال وهو في مرضه الأخير: «وددت أني كنت إذ وجهت خالد بن الوليد إلى الشام كنت وجهت عمر بن الخطاب إلى العراق، فكنت قد بسطت يدي كلتيهما في سبيل الله.»
ولقد توقع أبو بكر أن تدور مثل هذه الخواطر بنفس خالد فيكون لها أثر في تصرفه، ولذلك قال له: «إياك أن تعود لمثل ما فعلت.» يشير إلى حجه بغير استئذان، وينبهه إلى أن واجبه الأول أن ينفذ أمر الخليفة إليه، وألا يقوم بعمل لا يرضاه، وأكبر الظن أن ما توقعه الخليفة من برم خالد بترك العراق هو الذي جعله يفرغ كتابه في هذه الصيغة وفيها ما فيها من تمليق خالد وكبريائه، وفيها ما فيها من تخويفه الخسارة والخذلان إن دخله العجب أو دل بعمل؛ «فإن الله (عز وجل) له المن وهو ولي الجزاء».
بل لقد أراد أبو بكر أن يزيل من نفس خالد كل مظنة، فأمره أن يستخلف المثنى بن حارثة على العراق في نصف الناس وأن يأخذ معه النصف، ثم أضاف في ختام كتابه: «فإذا فتح الله عليكم فارددهم إلى العراق وأنت معهم، ثم أنت على عملك.»
4
لا خوف إذن من أن يجيء إلى العراق عمر أو غير عمر؛ فالمثنى هو الذي سيخلفه، فإذا فتح الله الشام على خالد عاد إلى العراق.
ولم يك خالد في ريب من أن الله سيفتحه عليه ولئن بلغه من أنباء المسلمين هناك ما بلغه، لقد كان مطمئنا إلى أنه سيف الله وأنه لن يغلب، فليمتثل أمر أبي بكر وليذهب للقاء الروم و
إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفا من الذين كفروا ، ذلك قوله تعالى في المؤمنين، وليس كإيمان خالد إيمان، وليس كسيف الله سيف مؤمن.
ويوم يهزم خالد الروم فذلك يوم الفصل الأكبر، ويومئذ لا يقول ابن الخطاب ولا غير ابن الخطاب مثل الذي قالوا في أعقاب مقتل مالك بن نويرة، وفي أعقاب غزوة اليمامة، ويومئذ لا يكون لطامع في العراق مطمع، بل يرجع هو إلى الحيرة فيتأهب لفتح المدائن وفض إيوان كسرى على من فيه، ثم يسير غازيا أرض العجم ما شاء الله أن يسير.
على أن خالدا قدر ما سيواجهه بأرض الروم، فأحضر أصحاب رسول الله الذين كانوا معه بالعراق واستأثر بهم لنفسه، وترك للمثنى مثل عددهم ممن لم يكن له مع الرسول صحبة، ونظر بعد ذلك فيمن بقي، فاختار من كان قدم على النبي وافدا أو غير وافد وترك للمثنى مثل عددهم من أهل القناعة، ثم قسم سائر الجند قسمين، فلما رأى المثنى صنيعه غضب وقال: «والله لا أقيم إلا على إنفاذ أمر أبي بكر كله في استصحاب نصف الصحابة أو بعض النصف وكيف تعريني منهم ! ووالله ما أرجو النصر إلا بهم!» فلما رأى خالد ذلك منه تلكأ عليه بعض الشيء، ثم عذره وأرضاه وأعاضه من الصحابة أبطالا مجربين.
مع هذا خشي خالد أن يصيب المسلمين بالعراق شر بعد مغادرته إياهم، فرد الضعفاء والنساء منهم إلى المدينة، حتى لا يشغل المثنى بهم إذا أراد الفرس مناجزته، ولما اطمأن إلى مسيرتهم تجهز فيمن معه من الجند للسفر إلى الشام وخرج المثنى في كتيبة من الجند فشيعه إلى تخوم الصحراء.
أي طريق يسلك لينسي الروم وساوس الشيطان؟ إن بينه وبين الشام صحراء جرداء لا تطرقها قافلة ويضل في مفاوزها الدليل الخريت! أيتخطى البادية من الشمال بين عين التمر وما حاذاها من بلاد الشام؟ ذلك أقصر الطرق خلال البادية لكن قبائل العرب النازلة منه على تخوم الشام موالية كلها للروم ولقيصر، ثم جند مقيمون قد يلقونه فيقطعون عليه طريقه. أفينحدر إلى بلاد العرب ثم يأخذ الطريق التي سلكها عكرمة وأبو عبيدة وسائر الأمراء قبله؟ إنه إن يفعل فلن يبلغ جيوش المسلمين إلا بعد أمد طويل. ماذا يصنع إذن حتى يتقي مقاومة العدو ويقهر طول الأمد؟! إلى هذا انصرف تفكير القائد العبقري. وتفكير العباقرة لا يوجهه المنطق وإنما يهديه الإلهام؛ فليس لنا معشر هذا الناس إلا أن نسير وراء القائد الملهم لا نراجع منطقه ولا نسأله عما يفعل. وما لنا نسأله أو نراجعه! ألم يسر بنا من ظفر إلى ظفر! لقد سحر ألبابنا وملك أفئدتنا من قبل حين وقفنا معه مواقف أرتنا الموت رأي العين، ثم خرجنا وإياه من المعمعة متوجين بأكاليل النصر، فلنلق إليه قيادنا مطمئنين؛ فهو سيف الله، والله ناصره لا محاله.
والواقع أن مسيرة خالد من العراق إلى الشام أدنى إلى القصص الروائي منها إلى الحقيقة الواقعة، ذلك أيسر ما يقال عن أشهر الروايات فيها وأكثرها قصدا، ولذلك يمر بعض المؤرخين بها لا يقفون عندها، ويكتفي بعضهم بالإشارة إليها، ويقدمها ابن خلدون لقارئه بكلمة «ويقال» ولم يفصلها أحد ما فصلها ابن قتيبة في بعض كتبه، ونقاد ابن قتيبة يذكرون عنه أنه مؤرخ أديب شديد الولع بالقصص، على أن الوقائع الأساسية في هذه الرواية مذكورة في تاريخ الطبري وفي ابن الأثير وفي أكثر الكتب، وقد يكون فيها ما يحير اللب ويذهل الذهن، لكن أعمال خالد، عبقري الحرب وأكبر قائد عرفه العالم في عصره، لا تخضع كلها للمقاييس المطردة في أمر غيره من القواد، فإذا أضفنا إلى ذلك ما ذكرنا غير مرة من اضطراب الروايات عن عهد أبي بكر، قام هذا وذاك عذرا للمؤرخين جميعا، سواء منهم من يثبت هذه الرواية المشهورة ومن يتخطاها أو يبدي الريبة فيها.
وتذهب هذه الرواية إلى أن خالدا لم ير اجتياز الصحراء من عين التمر إلى شمال الشام، مع قصر هذا الطريق، مخافة القبائل الموالية للروم والجيوش الجاثمة في هذا الجانب من إمبراطورية قيصر، لذلك انحدر بجيشه إلى دومة الجندل في الطريق الذي سلكه حين ذهب من الحيرة مددا لعياض بن غنم،
5
ومن دومة، سلك خالد طريق وادي سرحان حتى إذا بلغ قراقر أغار على أهلها من بني كلب، ولو أنه تابع مسيرته في طريق الوادي لبلغ بصرى في أيام، ولاتصل بجيش أبي عبيدة وسائر جيوش المسلمين على اليرموك، لكنه قدر أنه ربما لقي من جيوش الروم قبل بصرى من يصده عن غايته أو يطيل مكثه دونها، لذلك قال لأصحابه: «كيف لي بطريق أخرج فيه وراء جموع الروم؛ فإني إن استقبلتها حبستني عن غياث المسلمين.» وأجابوه كلهم: «لا نعرف إلا طريقا لا يحمل الجيوش وإنما يأخذه الفذ الراكب فإياك أن تغرر بالمسلمين.» لكن خالدا كان قد عزم سلوك هذا الطريق، فقام إلى أصحابه فقال لهم: «لا يختلفن هديكم، ولا يضعفن يقينكم، واعلموا أن المعونة تأتي على قدر النية، والأجر على قدر الحسبة، وأن المسلم لا ينبغي له أن يكترث لشيء يقع فيه مع معونة الله له.» وتحمس أصحابه حين سمعوا قوله هذا، فكان ردهم عليه: «أنت رجل قد جمع الله لك الخير، فشأنك.»
والتمس خالد دليلا يسلك به هذه الطريق، فجيء برافع بن عميرة الطائي، فقال له: «انطلق بالناس.» قال رافع: «إنك لن تطيق ذلك بالخيل والأنفال، والله إن الراكب المفرد يخشى فيها على نفسه، إنها لخمس ليال لا يصاب فيها ماء.» وحدق إليه خالد وقال: «لا بد والله من ذلك، فمر بأمرك.» وكان رافع قد سمع حديث خالد لأصحابه ورأى إقرارهم إياه، وأيقن أن لا مفر من نفاذ أمره، فقال: «استكثروا إذن من الماء، من استطاع منكم أن يصر أذن ناقته على ماء فليفعل، فإنها المهالك إلا ما دفع الله.» وطلب إلى خالد أن يجيئوه بما استطاعوا من إبل سمان، فلما جاءوه بها عمد إليها فظمأها، حتى إذا أجهدها عطشا أوردها الماء عللا بعد نهل،
6
فلما امتلأت صر آذانها وشد شافرها لئلا تجتر، وانطلق خالد بن الوليد بالجيش يتقدمه رافع، وقضوا خمسة أيام يسيرون في وحشة الصحراء ووحدتها وكل اعتمادهم بعد الله على دليلهم؛ ينزلون في كل يوم فيأكل الرجال ويشربون مما معهم من الماء، ثم يشقون بطون عدد من هذه الإبل التي اتخذوها صهاريج، ويخرجون الماء منها ويسقونه الخيل، فلما كان اليوم الخامس نادى خالد دليله: «ويحك يا رافع! ما عندك؟» قال رافع: «خير ... أدركتم الري إن شاء الله، وأنتم على الماء.» وكان رافع أرمد فأدار رأسه يمنة ويسرة ثم قال: «أيها الناس، انظروا علمين كأنهما ثديان.» فلما آتوهما وقف عليهما وقال: «انظروا، هل ترون شجيرة من عوسج كقعدة الرجل؟» قالوا: ما نراها قال: «إنا لله وإنا إليه راجعون، هلكتم إذن والله وهلكت لا أبا لكم! اضربوا يمنة ويسرة.» فنظروا فوجدوا الشجرة قد قطعت وبقيت منها بقية، فلما رآها المسلمون كبروا وكبر رافع، ثم قال: «احفروا في أصلها.» فحفروا فنبع الماء من عين، فشرب الناس حتى رووا، فلما اطمأنوا إلى السلامة قال رافع: «والله ما وردت هذا الماء قط إلا مرة واحدة مع أبي وأنا غلام.»
أدرك خالد وجيشه الري حين بلغوا هذا المكان، وأدركوا عنده مفاتح الشام ودخل خالد سوى قبيل الصبح فأغار على أهلها من بهراء، وفزع الناس حين رأوا المسلمين ولم يطيقوا مقاومتهم، فأذعنوا طوعا أو كرها وسلم أهل تدمر بعد مقاومة يسيرة، ولم ير خالد أن يهاجم دمشق وهو إنما جاء مددا لجيوش المسلمين المقيمة على اليرموك، فسلك غير بعيد طريق حوارين، حتى إذا أتى قصم صالح أهلها قضاعة، ومنها انحدر إلى أذرعات، وأغار على غسان بمرج راهط، ثم سار حتى نزل على قناة بصرى وعليها أبو عبيدة بن الجراح وشرحبيل بن حسنة ويزيد بن أبي سفيان، وتقدمهم خالد فاقتحموا بصرى وفتحها الله عليهم، ثم ساروا جميعا إلى فلسطين مددا لعمرو بن العاص بالعربات عند الغور، وعسكر خالد بجنوده إلى جوار زملائه، وبذلك اكتمل جمع المسلمين على اليرموك.
هذه هي الرواية المشهورة عن سير خالد من العراق إلى الشام، وأنت ترى أنها أقرب إلى القصص الروائي وإن تضافرت روايات المؤرخين عليها، واجتياز المفازة بدلالة رافع بن عميرة أعجب ما فيها، على أن هذا العجب لم يمنع من تصديقها، أن كان لخالد ما هو أعجب منها؛ فانحداره من عين التمر لغياث غياض بن غنم أمام دومة بعض هذا العجب، وحجة خالد في سر من الناس عجب أيضا، وحروب خالد باليمامة وفتحه العراق عجب كل العجب، وهو إنما كان يختار أقرب الطرق إلى الظفر وأدناها إلى بلوغ النصر، وهذه المفازة التي اجتازها قد بعدت به عن مخاطر أراد اتقاءها، وأدنته من لقاء جيش المسلمين، فلا عجب أن تصدق الرواية عنها، ولا عجب أن يتخذ خالد هذا الطريق طريقه، وإن حير ذلك ألبابنا وأذهل أذهاننا.
أراد بعض المؤلفين الذين أقروا هذه الرواية أن ينفوا عنها كل ما يبعد بها عن مقتضى العقل. اختلف في عدد الجيش الذي سار به خالد من العراق، فقيل: كان تسعة آلاف وقيل: ستة آلاف، وذهب بعضهم إلى أنه ثمانمائة، أو ستمائة، أو خمسمائة، وأصحاب الرواية الأولى يذكرون أن خالدا سار بنصف الجيش الذي كان بالعراق تنفيذا لأمر أبي بكر، وكان هذا الجيش ثمانية عشر ألفا أو نحوها، أما الذين يذكرون أن هذا الجيش كان دون الألف فيؤيدون رأيهم بأن القصد من مسيرة خالد إلى الشام إنما كان لعبقريته في القيادة؛ أما الجيوش التي كانت تواجه الروم فلم تكن قليلة العدد، وكان المدد يجيء لها من المدينة متصلا؛ فمسيرة خالد في عدد قليل مقصودة حتى لا تحول ضخامة العدد بينه وبين السرعة في نجدة من رآهم الخليفة في حاجة إلى نجدته.
ويتوسط بعضهم فيذهب إلى أن خالدا فصل من العراق في النصف من جيشه، فلما بلغ قراقر وعزم اجتياز المفازة سار خلالها في بضع مئات، وتابع سائر الجيش مسيرته بوادي سرحان حتى اتصل بجيوش المسلمين عند بصرى، وليس هذا الرأي بالمستحيل وإن اعترض عليه بأن مخافة خالد أن تستقبله جموع الروم فتحبسه عن غياث المسلمين تطعن على خالد أنه عرض القسم الأكبر من جيشه لأمر لم يرد أن يتعرض له هو ومن اختارهم للسير معه.
وأيا كان الرأي في مسيرة خالد وفي الجيش الذي صحبه من العراق فإنه أدرك المسلمين باليرموك وقام معهم لقتال الروم، ولقد صادف مجيئه أن عزز هرقل جيشه بباهان القائد القادر الذي هزم خالد بن سعيد، واغتبط الروم بباهان اغتباط المسلمين بخالد بن الوليد، وأقام الجيشان يتحين كل منهما فرصة النزال يريدها مواتية ليتم له بها النصر على عدوه.
والحق أنه كان موقفا بالغا غاية الدقة، ولم تكن كل دقته في فرق ما بين الجيشين في العدد؛ إذ كان المسلمون لا يزيدون على أربعين ألفا، في حين كان الروم أربعين ومائتي ألف؛ بل كانت دقته كذلك في تفوق عدة الروم على عدة المسلمين، لم يكن هذا التفوق مما نعهده بين الجيوش في عصرنا الحاضر، فلم يكن الروم بأعلم من العرب بأساليب الحرب؛ لكنه كان تفوقا يضاف إلى العدد فيزيده بأسا وإن لم يظهر له أثر طيلة الشهرين اللذين انقضيا منذ جمع المسلمون وجمع الروم قواتهم على اليرموك، وعلة ذلك أن المسلمين كانوا يتفوقون على الروم بقوتهم المعنوية، كانت جموع الروم خليطا من البدو المقيمين بالشام ومن جيوش هرقل التي غزت الفرس من قبل، ولم تكن بين هؤلاء وأولئك رابطة تجمعهم، ولم يكن لهم مثل أعلى يجاهدون في سبيله، أما المسلمون فكانوا جميعا من العرب، وكانوا جميعا يؤمنون بأنهم في غزوهم الروم يجاهدون في سبيل الله حق جهاده، فمن استشهد منهم فله الجنة فيها نعيم مقيم ومغفرة من الله ورضوان، ومن لم يؤت الشهادة كتب له جهاده عند الله، ثم كان له من مغانم الحرب ما يزيده حبا فيها وإقبالا عليها.
ترى لأي القوتين في هذا الموقف يكون الغلب: قوة العدد أم قوة الإيمان؟ قوة المادة أم قوة الروح؟!
وتعاقبت الأيام وانقضى أسبوع وأسبوعان وثلاثة أسابيع والجيشان في موقفهما لا تحين لأيهما فرصة النزال. كيف أطاق خالد بن الوليد هذا الموقف وما صبر قط لمثله من قبل؟ أفراعته كثرة جيوش الروم فهابها كما هابها زملاؤه؟ أم كان يدرس الموقف ويفكر في أسباب النصر؟! أم إن عوامل أخرى كان لها في نفسه من الأثر ما قعد به كل هذا الزمن عن القيام بهجوم؟ كل ما تذكره الروايات أن جيش المسلمين لم يكن موحد القيادة، وأن خالدا جاء من العراق مددا لزملائه ولم يجئ أميرا عليهم، بل لقد كان الأذان للصلاة ينادى به في كل معسكر على حدة، وكان كل أمير من أمراء الجند ينظم خطته بما يكفل عدم تراجعه، لذلك لم يستطع خالد أن يقوم بهجوم وحده، وليس في إمرته على أكثر تقدير غير تسعة الآلاف الذين جاءوا معه مع العراق، وقد أدى هذا التفرق في القيادة إلى هجمات من جانب الروم ردها المسلمون ثم قعد بهم تفرق القيادة عن القيام بمثلها.
ماذا يستطيع خالد أن يفعل في مثل هذا الموقف؟ إن أبا بكر لم يوله إمارة الجيش حين كتب إليه بالسير من العراق إلى الشام، فلو أنه طلب أن يتولاها لأوغر صدر زملائه ولأقام بالمدينة قيامة خصومة، وعلى رأسهم عمر بن الخطاب، لكن البقاء في هذا الموقف على ضفة اليرموك يزري به ويذهب عزم المسلمين، والروم ينشطون كل يوم وينظمون صفوفهم، وتدل أنباؤهم على أنهم يتجهزون لموقعة حاسمة، وقد عرف أمراء الجند من زملاء خالد هذه الأنباء، أفلا يستطيع أن يقنعهم برأيه في وحدة القيادة؟! لكنه لا يثق بأحد منهم ما يثق بنفسه، وهو إن دعا إلى أبي عبيدة أو إلى عمرو مثلا أغضب سائر الأمراء، فماذا عساه يصنع؟!
تواترت الأنباء بتجهيز الروم وحماستهم لقتال المسلمين بعد أن جاءهم باهان بعدد كبير من القسيسين أقاموا شهرا يحرضونهم وينعون لهم النصرانية إذا لم يقض على هؤلاء العرب البغاة القضاء الأخير، بل لقد ترامى إلى أمراء الجند على المسلمين أن الروم سينازلوهم في غدهم، وأن باهان صفهم للقتال صفا لم يسمع أحد من قبل بمثله، عند ذلك ريعوا واجتمعوا يتشاورون ما يصنعون.
وبدءوا الحديث عن كل أمير منهم ووجهته للقاء العدو، أما تعبئة الجيش فلم يتناولها البحث إذا كان كل أمير صاحب الرأي في صف جنوده، فلما آن لابن الوليد أن يتكلم حمد الله وأثنى عليه وقال: «إن هذا يوم من أيام الله لا ينبغي فيه الفخر ولا البغي، أخلصوا جهادكم وأريدوا الله بعملكم، فهذا يوم له ما بعده، ولا تقاتلوا قوما على نظام وتعبئة وأنتم على تساند وانتشار، فإن ذلك لا يحل ولا ينبغي، وإن من وراءكم لو يعلم علمكم حال بينكم وبين هذا، فاعملوا فيما لم تؤمروا به بالذي ترون أنه الرأي من واليكم ومحبته.» أمسك الأمراء عن القول هنيهة بعد الذي سمعوا من خالد. إنه على حق؛ وآية ذلك بقاؤهم شهرين قبل مجيئه وشهرا بعده وهم لا يقدرون من أمر الروم على شيء وقد تجهز الروم فعبئوا، ترى لو أنهم ظفروا بالمسلمين وردوهم، فلمن تكون الإمارات التي وعد أبو بكر بها هؤلاء الأمراء؟ لمن تكون حمص إذا لم يدركها أبو عبيدة؟ ولمن تكون البلقاء إذا لم يقم بها يزيد؟ ولمن تكون الأردن إذا جلا عنها شرحبيل، والعربة إذا أخلاها ابن العاص؟ وإذا ظفر الروم بالمسلمين فكيف يرجع هؤلاء الأمراء إلى المدينة وقد فصلوا عنها مددا لعكرمة بعد أن أصاب خالد بن سعيد من خزي الهزيمة ما أصابه؟!
مر ذلك كله بخاطر الأمراء حين سمعوا خالدا، فقالوا له بعد هنيهة: «هات! فما الرأي؟» قال: «إن أبا بكر لم يبعثنا إلا وهو يرى أنا سنتياسر، ولو علم بالذي كان ويكون لقد صحبكم، إن الذي أنتم فيه أشد على المسلمين مما قد غشيهم، وأنفع للمشركين من أمدادهم، ولقد علمت أن الدنيا فرقت بينكم، فالله الله! فقد أفرد كل رجل منكم ببلد لا ينتقصه منه إن دان لغيره من الأمراء، ولا يزيده عليه إن دانوا له، إن تأمير بعضكم لا ينقصكم عند الله ولا عند خليفة رسول الله. هلموا! فإن هؤلاء قد تهيئوا، وإن هذا يوم له ما بعده؛ إن رددناهم إلى خندقهم اليوم لم نزل نردهم، وإن هزمونا لم نفلح بعدها. هلموا فلنتعاور الإمارة، فليكن بعضنا اليوم، والآخر غدا، والآخر بعد غد، حتى تتأمروا كلكم، ودعوني أتأمر اليوم.»
ولم يتردد القوم في إجابة خالد إلى ما طلب بعد أن سمعوا كلامه؛ وما لهم لا يؤمرونه اليوم الأول وهذه المعركة لا ريب تطول، وإن هي إلا واحدة من المعارك التي تطاولت ثلاثة أشهر، والتي توشك أن تمتد حتى يتداول كل واحد منهم إمارة الجيش مرات! وهون عليهم ما بلغهم من تجهز الروم أن يدعوا خالدا يتلقى الصدمة الأولى؛ لأنه قد عرض نفسه لها، وما كان لأحدهم أن ينكر مقدرته عليها وهو غازي اليمامة وفاتح العراق.
وكان خالد أثناء هذا الشهر الذي أقامه بالشام قد عرف من أسرار قيادة الروم ما طوع لعبقريته أن ترسم الخطة لملاقاتهم والظفر بهم، لذلك عبأ الجيش فرقا، أو كراديس على تعبير المؤرخين، كل كردوس منها ألف رجل، وجعل على كراديس القلب أبا عبيدة، وعلى كراديس الميمنة عمرو بن العاص ومعه شرحبيل بن حسنة، وعلى كراديس الميسرة يزيد بن أبي سفيان، وجعل على كل كردوس رجلا من القادة الشجعان أمثال القعقاع وعكرمة وصفوان بن أمية ومن إليهم، وهذه تعبئة لم تعبئها العرب من قبل؛ وإنما سوغها خالد بقوله لأصحابه: «إن عدوكم قد كثر وطغى، وليس أكثر في رأى العين من الكراديس.»
وعهد خالد إلى أبي سفيان في مهمة القاص، فكان ينتقل بين الكراديس فيقول: «الله، الله! إنكم ذادة العرب وأنصار الإسلام، وإنهم ذادة الروم وأنصار الشرك، اللهم إن هذا اليوم من أيامك! أنزل نصرك على عبادك!»
وسمع خالد رجلا يقول: «ما أكثر الروم وأقل المسلمين!» فغضب حين سمعها وصاح: «بل ما أقل الروم وأكثر المسلمين! إنما تكثر الجنود بالنصر وتقل بالخذلان لا بعدد الرجال، والله لوددت أن الأشقر بريء من توجيه وأنهم أضعفوا في العدد.» والأشقر فرسه، وكان حفي في مسيره بالمفازة.
وانتشرت عبارات خالد هذه في العسكر وجعل الجند يتناقلونها من كردوس إلى كردوس، فتلهب النفوس حمية وتوقظ في القلوب الشوق إلى الاستشهاد، بل لقد تكررت على كل الألسنة كلمته: «إنما تكثر الجنود بالنصر وتقل بالخذلان.» وذكروا جميعا غزواته، وذكروا قبلها غزوات الرسول، وكيف لا يذكرونها وبينهم ألف رجل من أصحاب رسول الله، منهم مائة من أهل بدر! وخالد بن الوليد هذا، أليس هو الذي دوخ الفرس وحطم جيوشهم، وكانوا بالنسبة لجيشه بالعراق كجيوش الروم بالنسبة لهم عددا! النصر إذن آت لا محالة وإن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم.
وسرت إلى قلوب المسلمين قوة لم يكن لهم بمثلها عهد منذ نزلوا الشام، فقد أيقنوا أن خالدا أراد لهذا اليوم أن يكون يوم الفصل، وهم يعلمون أن خالدا إذا أراد لم ترده قوة عن عزمه، ثم إنهم رأوا الروم تهيئوا من جانبهم إلى موقعة حاسمة فليس إلى اتقائها سبيل، صدق إذن والله خالد: هذا يوم من أيام الله، يستحب فيه الاستشهاد، وتفتح فيه أبواب الجنة، وتوهب فيه الحياة لمن حرص على الموت، لذلك تقدم القادة صفوفهم، هذا يرتجز، وذاك يرتجل، والثالث يتمثل، وكلهم ينتظر الأمر بالهجوم بصبر نافد وعزم ثابت على النصر أو الموت.
اتصلت بالروم أنباء عن تجهز المسلمين كما اتصل بالمسلمين نبأ تجهزهم، أن كان بعض البدو من تلك الأصقاع ينقلون الأنباء متجسسين بين العسكرين، وقد عرف خالد من هؤلاء البدو أسرار قيادة الروم، كما عرف فزع بعض أمرائهم حين علموا بمقدمه من العراق، وكان چرچة أكثر هؤلاء الأمراء فزعا، ولعل چرچة هذا كان عربيا أو روميا أقام بالشام السنين الطوال، فعرف العربية وسمع بأبناء المسلمين، ولقد مال قلبه إلى خالد حين نقل له المتجسسون أنباء نصره، وعرف خالد ذلك عنه فلما صدرت أوامر باهان إلى جيوش الروم بالزحف على المسلمين كان چرچة بجيشه في الطليعة، فتلقاه خالد وفسح له ولعسكره طريقا، وظن فيلق من الروم أن چرچة في حاجة إلى المدد فانقضوا على المسلمين فأزاحوهم عن مواقفهم وحملوهم على التراجع.
كان عكرمة بن أبي جهل على كردوسه أمام فسطاط خالد بن الوليد، وقد رأى تسليم چرچة وجنوده فاستراح له، فلما رأى هجمة فيلق الروم وتراجع المسلمين أمامهم ثار في عروقه دمه وصاح في وجه الروم: «قاتلت رسول الله في كل موطن وأفر منكم اليوم!» ثم انقلب إلى أصحابه ينادي: «من يبايع على الموت؟!» وبايعه ضرار بن الأزور والحارث بن هشام في أربعمائة من وجوه المسلمين وفرسانهم بينهم عمرو بن عكرمة ولده، واندفع هؤلاء أربع المائة الذين بايعوا على الموت على فيلق الروم هجمة رجل واحد، مستميتين في سبيل ربهم، وقد تجلى لهم وجهه الأكرم، وقد أضاء لهم بنوره سبيل الاستشهاد والجنة، وزلزلت الهجمة الروم وزادهم زلزالا أن انضم چرچة وجنوده للمسلمين في مهاجمتهم، مما ثبت في نفوسهم اليقين بغدر بني وطنهم وانضمامهم لأعدائهم.
ورأى خالد فيلق الروم يرتد فأمر الجيش كله بالتقدم، فإذا الروم يلقونه بهجوم ليس دون هجومه عنفا، هنالك أيقن المسلمون أن لا مفر لهم من الفناء إلا بالنصر، فازدادوا بالله إيمانا، وزاد الإيمان هجومهم قوة، اندفع ابن الوليد في مقدمتهم يهوي بسيفه على عدوه فيخطف أرواحهم خطفا، وبلغت الحماسة بالمسلمين حتى شارك النساء الرجال، فكانت لجويرية ابنة أبي سفيان مواقف تعيد إلى الذاكرة موقف أمها هند في غزوة أحد.
وقاتل الروم مستميتين، واندفعوا يقتلون من المسلمين كل من وقع في يدهم، ولذا ترجحت المعركة واستمر ترجحها طيلة النهار، ووقف عكرمة والذين بايعوه على الموت لا يتراجع أحد منهم قيد أنملة بعد أن وهب كل منهم لله نفسه، وبذلك حملوا وطيس المعركة من بداءتها إلى منتهاها، فلما كانت الشمس في المغيب بدأت قوات الروم تهن، وبدا الإعياء على وجوه فرسانهم، ورأى خالد أنهم يلتمسون إلى الهرب الوسيلة، أما والهاوية من ورائهم والمسلمون من أمامهم، فليس لهم إلى مهرب من سبيل.
وقدر خالد أن فرارهم يزيد أصحابهم ضعفا، فأمر رجاله ففسحوا طريقا يؤدي بهم إلى الوادي، ولم يلبث هؤلاء الفرسان حين رأوا وسيلة النجاة تهيأت لهم أن فروا هاربين وتفرقوا في البلاد، عند ذلك انقض خالد بفرسانه ومشاته على مشاة الروم فاقتحموا عليه خندقهم فتراجعوا؛ وكانت وراءهم هاوية الواقوصة فتردوا فيها وكأنهم جدار دك من أساسه، وشدد المسلمون الضغط عليهم فجعلوا يتراجعون فيتردى في الهاوية منهم فريق بعد فريق، وظلوا كذلك يتلاحقون، حتى قيل: إنه قتل منهم يومئذ مائة ألف، وقيل: مائة وعشرون ألفا.
وقتل يومئذ تذارق أخو هرقل، كما قتل عدد كبير من أمراء الجيش على الروم، وكان الفيقار وطائفة معه من أشراف الروم قد نجوا من الموت، فلما رأوا ما حل بأصحابهم تجللوا برانسهم ونكسوا رءوسهم وجلسوا حيث كانوا فقتلوا، وكان الموت منجاتهم من العار، أما باهان ففر ونجا ليقف أمام المسلمين من بعد في مواقع لا يكون حظه فيها خيرا من حظه في اليرموك.
تمت هزيمة الروم، فدخل المسلمون عسكرهم، واستقر خالد في رواق تذارق، وغنم المسلمون كل ما في عسكر الروم، فكان نفل الفارس منه ألفا وخمسة دراهم، ومن الرواق الذي أقام به شقيق قيصر خلال ثلاثة الأشهر التي انقضت مذ وقف المسلمون والروم وجها لوجه، مد خالد بصره إلى الميدان الذي فر منه الروم فأصبح خلاء ليس لهم فيه نبأة ولا هسيس، ثم رفعه إلى السماء شكرا لله على نعمائه.
ولم يكن عدد القتلى من المسلمين في وقعة اليرموك قليلا؛ إذ بلغ ثلاثة الآلاف، من بينهم عدد من كبار الصحابة والفرسان ذوي المكانة والبلاء، وكان عكرمة بن أبي جهل وابنه عمرو قد أصابتهما الجراح من كل جانب أثناء المعركة، فلما أصبح القوم جيء بهما إلى خالد برواق تذارق، فوضع رأس عكرمة على فخذه ورأس عمرو بن عكرمة على ساقه وجعل يمسح عن وجهيهما ويقطر في حلقيهما الماء حتى استشهدا، وأصيبت عين أبي سفيان بسهم أخرجه منها أبو جثمة.
قضت موقعة اليرموك على كل أمل للروم في استبقاء الشام، فلم يكد هرقل يسمع بهزيمة جيشه حتى جلا عن معسكره بحمص وجعلها بينه وبين المسلمين، وأقام عليها أميرا كما أقام من قبل على دمشق أميرا، أما المسلمون فما لبثوا حين فرغوا من أمر اليرموك أن ساروا إلى أرض الأردن فطهروها من رافضة الروم، ثم لاحقوهم إلى دمشق وحاصروهم بها.
وحصار دمشق وتغلب المسلمين عليها وما تلا ذلك إلى أن تم فتح الشام قد حدث في خلافة عمر، على رواية الطبري ومن إليه.
لم نقف من قصصنا أنباء اليرموك عند نبأ تواترت روايته واختلف مع ذلك فيه، ذلك النبأ أن محمية بن زنيم قدم بريدا من المدينة بعدما بدأت الموقعة، فأخذه الفرسان وسألوه ما وراءه، فأخبرهم بأن الأمداد في طريقها إليهم؛ فجاءوا به إلى خالد فأسر إليه أن أبا بكر قبض، ودفع إليه كتابا أخذه خالد فجعله في كنانته مخافة أن ينتشر الخبر في الجند، وكان هذا الكتاب يحوي استخلاف عمر بن الخطاب وأمرا بعزل خالد عن إمارة الجيش وبتأمير أبي عبيدة بن الجراح، فلما أتم خالد واجبه وظفر بالروم تنحى عن القيادة وتولاها أبو عبيدة مكانه.
هذا نبأ تختلف الروايات فيه مع تواتره، وليس يقع الخلاف على عزل خالد، فهذا أمر مسلم به؛ إنما يقع على تصويره في هذه الصورة التي روينا، فالأكثرون يؤيدونها وبعضهم يذكر أن الأمر بعزل خالد لم يسلم إليه، وإنما أخذه أبو عبيدة فأخفاه حتى تمت المعركة؛ ولم يطالع به خالدا حتى حاصروا دمشق، ويذهب غير هؤلاء إلى أن أبا عبيدة أمسك عن ذكره حتى فتحت دمشق، فلما تم فتحها أظهر إمارته وعزل خالد.
وعزل ابن الخطاب خالدا عن إمارة الجند بالشام على النحو الذي رواه الطبري ومن إليه يثير الدهشة؛ فلم يكن خالد أميرا على جيش بالشام غير جيشه الذي جاء معه من العراق، ولم يكن أبو عبيدة في هذه الرواية أميرا إلا على جيشه، شأنه في ذلك شأن عمرو بن العاص ويزيد بن أبي سفيان وشرحبيل بن حسنة، وإنما قام خالد على إمارة الجيش عامة يوم اليرموك بالاتفاق بينه وبين سائر القواد، ولو أن النصر لم يتم له في اليوم الأول لكانت القيادة لغيره في اليوم الثاني، ولغيرهما في اليوم الذي يليه، والدهشة لعزل ابن الخطاب خالدا تدعونا أن نتلمس في غير رواية الطبري وأصحابه ما يزيلها.
وسترى أن الأزدي والواقدي والبلاذري يخالفون الطبري كذلك في الترتيب التاريخي لوقائع الفتح في الشام، ويختلفون على هذا الترتيب فيما بينهم، فقد قيل: إن أجنادين ودمشق وغيرهما كانت قبل اليرموك، وقيل: إن اليرموك كانت آخر الوقائع، وسنقص هذه الروايات في إيجاز لا يجني عليها ويصور ما تنطوي عليه وما تتفق أو تختلف مع الطبري فيه.
وهذه الروايات تذهب إلى أن الله عزم لأبي بكر فتح الشام بعد أن تمت حروب الردة ولم يكن على تخومه من المسلمين أحد، ثم إنه أصبح يوما ودعا أهل الرأي بالمدينة وأفضى إليهم بما استقر عليه رأيه، فلما اطمأنوا إليه على ما ذكرنا في الفصل السابق، بعث إلى أهل اليمن وإلى غيرهم من المسلمين يستنفرهم لغزو الروم بالشام، وفي انتظار مجيئهم جعل يعد جيوشه من أهل المدينة ومكة والطائف وما جاورها، وقد عين من هؤلاء أربعة ألوية جعل عليها يزيد بن أبي سفيان وأبا عبيدة بين الجراح ومعاذ بن جبل وشرحبيل بن حسنة، وفي رواية أنه عين لكل أمير من هؤلاء منطقة في فلسطين أو الشام، ثم تكون القيادة العامة على الجيوش لمن يقع القتال في منطقته، وفي رواية أخرى أنه جعل أبا عبيدة أميرا على هذه الجيوش جميعا، وجعل يزيد بن أبي سفيان خلفه في الإمارة ،
7
وتم تجهيز هذه الجيوش للسير حين أقبل ذو الكلاع الحميري وسائر أمراء اليمن على قبائلهم من مذحج وطيء وأسد وغيرهم، هنالك ودع أبو بكر يزيد بن أبي سفيان وجيشه إلى الشام وأردفه بزمعة بن الأسود وأوصاه بما سبق أن ذكرناه.
وضاقت المدينة بالقادمين من أرجاء شبه الجزيرة، فخرج أبو بكر إلى ثنية الوداع فوجه الجيوش منها إلى الشام، وقد انضم خالد بن سعيد بن العاص إلى جيش أبي عبيدة بن الجراح مفضلا إياه على ابن عمه يزيد بن أبي سفيان؛ لأنه أسبق في الإسلام، ولأنه أمين الأمة على لسان رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، وخرجت جيوش اليمن ومعها نساؤها وأبناؤها تسير مع المهاجرين والأنصار فيمتلئ بهم فضاء الصحراء، وجاء إلى المدينة بعد مسيرهم جند من اليمن ومن سائر العرب بعثهم الخليفة في إثر من تقدموهم لينضموا إلى أي الأمراء شاءوا.
وكان هرقل بفلسطين حين بلغته أنباء المسلمين ومسيرتهم لغزو بلاده، عند ذلك جمع رءوس المدن وحرضهم على قتال هؤلاء «الحفاة العراة الجياع» الذين خرجوا إلى بلادهم، وقال لهم: «وأنا شاخص عنكم وممدكم بالخيول والرجال، وقد أمرت عليكم أمراء فاسمعوا لهم وأطيعوا.» ثم إنه خرج من فلسطين إلى دمشق فإلى إنطاكية، وجعل يحرض الناس ويقول لهم مثل ما قال لأهل فلسطين، وأقام بإنطاكية يتخذ لمواجهة المسلمين عدته.
وبلغ أبو عبيدة أرض الشام مارا بوادي القرى وبالحجر، فلما دخل مآب قاومه جند من الروم لم يلبث أن شتتهم، ولما بلغ أبو عبيدة الجابية جاءته أنباء هرقل تصف تجهز الروم للقاء المسلمين بجيش لم يسمع بمثله عددا وعدة، عند ذلك كتب إلى أبي بكر يستشيره ويستمده، وكتب يزيد بن أبي سفيان كذلك يذكر أن انسحاب هرقل إلى إنطاكية آية خوفه وانزعاجه، ورضي أبو بكر عن كتاب يزيد وأجابه يشجعه، أما جوابه إلى أبي عبيدة فلم يخل من بعض اللوم، وفي الكتابين ذكر أبو بكر أنه ممد المسلمين بأضعاف ما يمد هرقل به أمراء جنده.
وكتب الخليفة إلى أهل مكة يشاورهم، فغضب عمر ورأى في استشارتهم تسوية لهم بالسابقين الأولين من المسلمين، وعتب أهل مكة على ابن الخطاب، وكان مما قاله عكرمة بن أبي جهل: «أما إنكم إن كنتم تجدون قبل اليوم في عداوتنا عقالا فلستم اليوم بأشد علي من ترك هذا الدين وعادى المسلمين منا.»
كانت العرب في هذه الأثناء تنسل من كل صوب وحدب إلى المدينة تريد أن يكون لها في غزو الشام نصيب، وجمعهم أبو بكر، وجعل عمرو بن العاص عليهم وعلى من جاء من أهل مكة، وسأل عمرو: «ألست أنا الوالي على الناس؟» وأجابه الخليفة: «أنت الوالي على من معك من ها هنا، فإن جمعتكم حرب فأميركم أبو عبيدة بن الجراح.» ولما آن لعمرو أن يسير توجه إلى عمر بن الخطاب فسأله أن يكلم أبا بكر ليجعله أميرا على المسلمين بالشام، قال عمر: «لا أكذبك، ما كنت لأكلمه في ذلك أبدا وأبو عبيدة أفضل منزلة عندنا منك.» وألح ابن العاص يقول: «إنه لا ينقص أبا عبيدة شيئا من فضله أن ألي عليه.» ولم يغير هذا الكلام من رأي ابن الخطاب، بل أجابه: «ويحك يا عمرو! إنك لتحب الإمارة، والله ما تطلب بهذه الرياسة إلا شرف الدنيا، فاتق الله يا عمرو ولا تطلب بشيء من سعيك إلا وجه الله، فاخرج إلى هذا الجيش؛ فإنك إن لم تكن أميرا هذه المرة فما أسرع ما تكون إن شاء الله أميرا ليس فوقك أحد.» ورضي عمرو وسار بجيشه إلى الشام بعد أن ودعه أبو بكر ونصح إليه.
وكتب أبو بكر إلى أبي عبيدة يستحثه على الغزو، لكن تقدم المسلمين بالشام كان بطيئا لم يغير من بطئه وصول الأمداد ثم وصول عمرو بن العاص إليهم، بل لقد ظل أبو عبيدة يكتب إلى الخليفة يذكر له: «إن الروم وأهل البلد ومن كان على دينهم من العرب قد اجتمعوا على حرب المسلمين.» ويطلب إليه رأيه، عند ذلك ضاق أبو بكر ذرعا، فرأى أن ينسي الروم وساوس الشيطان بخالد بن الوليد ، فكتب إليه بالعراق يقول: «إذا جاءك كتابي هذا فدع العراق وخلف فيه أهله الذين قدمت عليهم وهم فيه، وامض متخففا في أهل القوة من أصحابك الذين قدموا العراق معك من اليمامة وصحبوك من الطريق وقدموا عليك من الحجاز حتى تأتي الشام فتلقى أبا عبيدة بن الجراح ومن معه من المسلمين، فإذا التقيتم فأنت أمير الجماعة والسلام عليك.»
غضب خالد حين بلغه الخبر، فقال قبل أن يقرأ كتاب الخليفة: «هذا عمل عمر، نفس علي أن يفتح الله العراق على يدي.» فلما قرأ كتاب الخليفة ورآه قد ولاه على أبي عبيدة وعلى الشام كله اطمأن وقال: «أما إذ ولاني فإن في الشام خلفا من العراق.»
يذهب المؤرخون الذين يروون الحوادث على هذا النحو إلى أن خالدا كان بالحيرة ولم يكن قد فتح الأنبار ولا عين التمر حين جاءه كتاب أبي بكر، فلما تجهز للخروج إلى الشام سار إليهما ففتحهما وانحدر منهما إلى قراقر، ومن هناك اجتاز المفازة ودليله رافع بن عميرة الطائي حتى بلغ سوى من أرض الشام.
وفي هذه الأثناء كان أبو بكر قد كتب إلى أبي عبيدة يقول له: «أما بعد فإني قد وليت خالد بن الوليد قتال الروم في الشام فلا تخالفه، واسمع له وأطع أمره: فإني وليته عليك وأنا أعلم أنك خير منه، ولكن ظننت أن له فطنة في الحرب ليست لك، أراد الله بنا وبك سبيل الرشاد.» وكتب خالد إلى أبي عبيدة يقول له: «أما بعد، فإني أسأل الله لنا ولك الأمن يوم الخوف، والعصمة في دار الدنيا، فقد أتاني كتاب خليفة رسول الله يأمرني بالمسير إلى الشام وبالمقام على جندها والتولي لأمرها، والله ما طلبت ذلك ولا أردته ولا كتبت إليه فيه، وأنت - رحمك الله - على حالك التي كنت بها لا يعصى أمرك، ولا يخالف رأيك، ولا يقطع أمر دونك؛ فإنك سيد من سادات المسلمين، لا ينكر فضلك، ولا يستغنى عن رأيك، تمم الله ما بنا وبك من نعمة الإحسان، ورحمنا وإياك من عذاب النار والسلام عليك ورحمة الله.»
وسار خالد من سوى إلى اللوى ثم إلى قصم حيث صالح بني مشجعة، ومن هناك انحدر إلى الغوير وذات الصنمين حتى بلغ غوطة دمشق بعد أن بث الفزع والرعب حيث سار، وبعد أن دانت له تدمر وصالحه
8
أهلها.
ومن الغوطة سار خالد إلى ثنية العقاب يريد دمشق، وإنما سميت هذه الثنية «ثنية العقاب» بعد غارة خالد؛ لأنه نشر بها العقاب راية رسول الله، وعلى ميل من الباب الشرقي لدمشق نزل ديرا عرف بعده باسم دير خالد، ويروى أن أبا عبيدة أدركه هناك، وأن أول حصار لدمشق بدأ يومئذ.
والراجح في الروايات جميعا أن خالدا لم يقم أمام دمشق، بل تخطاها إلى قناة بصرى حيث اجتمعت قوات المسلمين، وأيما الروايتين صحت فقد نمى إلى المسلمين أن هرقل جمع جيشا عظيما بأجنادين ليهاجمهم، فساروا لقتاله من بصرى، أو إنهم فكوا حصار دمشق وساروا لقتاله منها
9
والتقى الروم والمسلمون بأجنادين قبل أربعة وعشرين يوما من وفاة الصديق.
وبأجنادين اجتمع المسلمون جميعا إجابة لكتاب وجهه خالد إلى أمراء الجند: يزيد بن أبي سفيان، وشرحبيل بن حسنة، وعمرو بن العاص، وعبأ خالد هذه الجنود فجعل أبا عبيدة على المشاة، ومعاذ بن جبل على الميمنة، وسعيد بن عامر بن حزيم الجمحي على الميسرة، وسعيد بن زيد بن عمرو على الفرسان، وطفق هو يحرض الناس متنقلا بين الصفوف لا يستقر في مكان.
وبادر الروم المسلمين بالقتال، وكان خالد قد أمر رجاله أن يؤخروه إلى صلاة الظهر، ورأى سعيد بن زيد كثرة القتلى من المسلمين فنادى يستعجل المعركة، هنالك تقدم خالد الفرسان وأمرهم أن يحملوا معه، ثم حمل الناس بأجمعهم، فانهزم الروم وأنصارهم وقتلهم المسلمون كيف شاءوا وأصابوا عسكرهم وما فيه.
وارتد خالد بالمسلمين فحاصروا دمشق، فنزل هو دير خالد مما يلي الباب الشرقي، ونزل أبو عبيدة على باب الجابية، ونزل عمرو بن العاص على باب توماء، ونزل شرحبيل على باب الفراديس، ونزل يزيد على الباب الصغير الذي يعرف بكيسان، وأحاط المسلمون بالمدينة وضيقوا عليها الحصار، ولا يخامرهم الريب في أنها ستفتح لهم أبوابها وتسلمهم مفاتحها.
وكتب أهل دمشق إلى هرقل يستنصرونه ويذكرون له تضييق المسلمين عليهم وشدتهم في محاصرتهم، فأرسل هرقل إليهم جيشا لقيه خالد والمسلمون بمرج الصفر فهزموه فارتد مدبرا، وعادوا إلى حصار دمشق.
ودافع أهل دمشق عن مدينتهم ما استطاعوا، تحصنوا بأسوارهم، ورموا المسلمين بالنبل من أعلاها، وبالغوا في تحصين أبوابها؛ لكن ذلك كله لم يصد المسلمين عن الشدة في الحصار، وعاد أمراء دمشق فكتبوا إلى هرقل يذكرون أنه إن لم ينجدهم فلا سبيل لهم إلا مصالحة عدوه وعدوهم، وكتب هرقل إليهم يحرضهم ويشجعهم ويذكر لهم أنه مرسل المدد وراء رسوله إليهم، لكن المدد طال غيابه عنهم، فلم يكن لهم بد من التسليم.
وصالح أهل دمشق المسلمين. تجري بعض الروايات بأن أبا عبيدة صالح أهل دمشق القريبين من باب الجابية، فلما دخل المدينة بعد توقيع الصلح كان خالد قد فتح الباب الشرقي عنوة، والتقى الأميران، هذا يقول إنه صالح أهل المدينة، وهذا يقول إنه فتحها بقوة الجند، ثم أجيز الصلح، وتجري بعض الروايات بأن خالدا هو الذي صالح أهل دمشق القريبين من الباب الشرقي، وأن أبا عبيدة دخل من باب الجابية عنوة، والمتفق عليه أن الأمر انتهى بالصلح بين الفريقين.
والروايات تجري كذلك بأن أبا بكر قبض وتولى عمر بن الخطاب أمر المسلمين وجيوشهم لا تزال على حصار دمشق، وأن ابن الخطاب بعث إلى أبي عبيدة بوفاة أبي بكر وبولايته وبعزل خالد بن الوليد، فلم يفض أبو عبيدة إلى خالد بعزله حتى فتحت دمشق أبوابها، وقيل: بل أفضى إليه بأمر العزل فلم يغير ذلك من نشاط خالد، وأن خالدا صالح أهل دمشق حين دخل أبو عبيدة من باب الجابية عنوة، فلما قيل لأبي عبيدة: والله ما خالد بأمير فكيف يجوز صلحه، قال: إنه يجيز على المسلمين أدناهم، وأجاز صلحه.
هذه رواية الأزدي والبلاذري والواقدي عن فتح الشام، أوجزنا تفاصيلها ولم نطل الوقوف عند اختلاف الروايات فيها، وهي تختلف كما رأيت عن رواية الطبري في الترتيب التاريخي للوقائع، وتختلف كذلك معه في أمر خالد بن الوليد وإمارته على الجند وعزله عن هذه الإمارة.
على أن أمرين أساسيين لا يقع عليهما خلاف؛ أولهما أن أبا بكر هو الذي قرر غزو الشام كما قرر غزو العراق، وهو الذي جيش الجيوش وسير الأمداد إليهما، وأن ما تم للمسلمين من نصر على الروم وعلى الفرس في عهده كان أساس الإمبراطورية الإسلامية. والثاني أن سيف الله خالد بن الوليد كان القائد المظفر في فتح الشام، كما كان القائد المظفر في فتح العراق، وأن عزل عمر إياه عن إمارة الجند لم يغض من مكانته ولا من عبقريته في الحرب، هذه العبقرية التي عرفها رسول الله فيه فسماه سيف الله، وأقرها له أبو بكر فقال: «ما كنت لأشيم سيفا سله الله على الكافرين.»
أما اختلاف المؤرخين في ترتيب الوقائع فليس يسيرا تحقيقه، لقد رأيت من رواية الطبري ومن إليه أن خالد بن سعيد ما لبث حين أمره أبو بكر بالتقدم في الشام أن اجتاز حدوده فانسحب الروم وأنصارهم من العرب أمامه دون قتال، وأن باهان قائد الروم جعل يتراجع بجيوشه نحو دمشق فيتبعه خالد حتى كانا على مقربة من مرج الصفر؛ هنالك ارتد باهان فأحاط به وقطع عليه خط رجعته وقتل فرقة من عسكره فيها ابنه سعيد بن خالد بن سعيد، عند ذلك فر خالد في كتيبة من أصحابه حتى بلغ ذا المروة على مقربة من المدينة، أما سائر قوات المسلمين فتقهقر بها عكرمة بن أبي جهل إلى حدود الشام، وهناك أقام حتى أمده أبو بكر بالأمراء والجيوش الذين تقدموا معه إلى اليرموك دون أن يلقوا الروم، وعسكر الروم على ضفة اليرموك الأخرى، ولم يقع بين القوتين قتال طيلة شهرين سئم الخليفة جمود الموقف أثناءهما فأمد المسلمين بخالد بن الوليد، وأقام خالد مع القوم حتى هزم جيوش هرقل هزيمة نكراء، ويوم تم لخالد هذا النصر قدم محمية بن زنيم بريدا من المدينة يحمل النبأ بأن أبا بكر قبض وأن عمر استخلف، وأنه عزل خالدا عن إمارة الجيش.
هذه رواية الطبري ومن إليه أما البلاذري ومن شاكله فيذكرون أن اليرموك حدثت في عهد عمر، وهي في رأي بعضهم آخر الوقائع في فتح الشام، كما يذكرون أن أبا بكر جعل أبا عبيدة أميرا على المسلمين لفتح الشام، وأنه أمده بجيوش كان خالد بن سعيد في بعضها وقد فتح أبو عبيدة الجابية ثم أبطأ في تقدمه وألح على الخليفة بالكتب يستمده ويذكر له من بأس الروم وقوتهم ما جعل أبا بكر يوفد خالد بن الوليد من العراق أميرا على جيوش المسلمين بالشام، ويعزل أبا عبيدة عن هذه الإمارة، وسار ابن الوليد حتى انضم إلى قوات المسلمين على قناة بصرى، ومن هناك التقى المسلمون بقوات الروم العظيمة التي اجتمعت بأجنادين فغلبوها، ثم إنهم حاصروا دمشق وطال حصارهم إياها قبل أن تفتح أبوابها، ويوم فتحت هذه الأبواب جاء بريد بوفاة أبي بكر واستخلاف عمر وعزل خالد.
أكانت اليرموك في عهد أبي بكر كرواية الطبري ومن إليه، أم في عهد عمر كرواية البلاذري ومن شاكله؟! ربما أيد رأي الطبري أن واقوصة الواقعة على اليرموك والتي حدثت المعركة عندها، قريبة من بادية الشام، ومن تخوم العرب، ومن طريق وادي سرحان، وأنها كانت لذلك أدنى الأرض إلى جيوش المسلمين حين التقائها بعد أن جاءت من المدينة تغزو هرقل وإمبراطوريته، وربما أيد رواية البلاذري ومن شاكله ما ذكره الطبري نفسه من أن الروم تراجعوا منذ بدأت الحرب نحو دمشق، مطمئنين إلى حصونها وإلى قوة المدن الحصينة المحيطة بها، وأنهم أرادوا بتراجعهم أن يستدرجوا العرب إلى المواقع القوية ليوقعوا بهم ويردوهم منهزمين إلى بلادهم فلا تحدثهم أنفسهم بالعود إلى غزو الشام كرة أخرى.
من العسير، والأمر ما ترى، أن نقطع كيف كان ترتيب الوقائع في فتح الشام أما عزل ابن الخطاب خالدا عن إمارة الجيش فالأمر فيه يسير فالطبري والبلاذري والمؤرخون جميعا متفقون على أن أبا بكر بعث خالدا من العراق إلى الشام لينسي الروم وساوس الشيطان، وذلك بعد أن سئم جمود قوات المسلمين هناك، وإنما يقع الخلاف على مكان خالد من زملائه الأمراء: أذهب أميرا عليهم جميعا، أم ذهب أميرا على القوة التي فصل بها من العراق دون سواها فإذا انحسم هذا الخلاف تيسر لنا أن نفهم أمر ابن الخطاب بعزل خالد.
يذهب الطبري ومن إليه إلى أن ابن الوليد ذهب إلى الشام أميرا على القوة التي فصل بها من العراق، وأنه لم يتول الإمارة العامة إلا يوم اليرموك، وذلك حين اتفق مع زملائه أن يتعاوروا الإمارة بينهم، وأن يتأمر هو اليوم الأول، أما البلاذري ومن شاكله فيذكرون أن أبا بكر بعثه أميرا على قوات المسلمين كلها بالشام، ويثبتون نص الكتابين اللذين بعث بهما الخليفة إلى خالد وإلى أبي عبيدة متضمنين أمره هذا، ولسنا نتردد في الأخذ برواية البلاذري؛ فليس طبيعيا أن تقف جيوش دولة بعضها إلى جانب بعض ولا تسند القيادة العامة على القوات كلها إلى أحد أمراء هذه الجيوش، والطبري نفسه يثبت أن أبا بكر بعث إلى أمراء الجند بالشام أن يجتمعوا عسكرا واحدا وأن يلقوا زحف المشركين بزحفهم، وهذا أمر لا سبيل إلى نفاذه إذا تفرقت القيادة، وقد أصدر الخليفة هذا الأمر قبل أن يبعث ابن الوليد إلى الشام فلا بد أن إمارة الجيش العامة كانت لأبي عبيدة أو ليزيد بن أبي سفيان أو لغيرهما من سائر الأمراء، والراجح أنها كانت لأبي عبيدة وإن ذكر بعضهم أنه استعفى أبا بكر منها، أما وذلك ما لا نتردد في القطع به فلا شبهة في أن أبا بكر أوفد خالدا من العراق إلى الشام أميرا على جيوش المسلمين كلها على نحو ما رواه البلاذري ومن شاكله.
ولولا أن خالدا كان الأمير على جيوش المسلمين لما عزله عمر بن الخطاب عن هذه الإمارة أول ما استخلف، فالثابت في كتاب الطبري وغيره من المؤرخين أن خالدا ظل بعد عزله هذا أميرا على القوات التي كان يباشر قيادتها، وأنه ظل كذلك حتى عزله عمر عن إمارة قنسرين وعن عمله في الجيش، وذلك في السنة السابعة عشرة من الهجرة ، وهي السنة الخامسة من خلافه عمر؛ فالعزل الأول كان إذن عن القيادة العامة، أما العزل الذي حدث بعد ذلك بما يزيد على أربع سنوات فكان عن عمله كله.
هذا ما نقطع به، وما لا شبهة عندنا فيه، وهو وحده الذي يفسر تصرف عمر أول ما استخلف، فلو أن خالدا كان أميرا على القوات التي فصل بها من العراق دون سواها لما احتاج عزله إلى أمر من الخليفة، ولاسترد أبو عبيدة إمارته على جيوش المسلمين بعد يوم اليرموك في رواية الطبري، أو بعد دمشق في رواية البلاذري.
وهذا اليوم الذي عزل ابن الخطاب فيه خالدا عن إمارة الجيش العامة إثر معركة من أكبر المعارك في فتح الشام هو في حياة خالد من أمجد أيامه، وليس يقف مجده في ذلك اليوم عند انتصاره على عدوه، فقد كان هذا النصر واحدا من عشرات، إنما أكبر مجده يومذاك أنه انتصر على نفسه، فلم يضعف عزل الخليفة إياه من حماسته لله ولدين الله، ولم ينهنه من قوة بأسه وعظيم شعوره بواجبه؛ فقد رضي إمارة أبي عبيدة وسلم بها طائعا، وسار على رأس لوائه يخوض المعارك واحدة بعد أخرى فإذا هو هو، وإذا النصر يسير في ركابه، وإذا المسلمون والروم يتحدثون بفعاله، وكأنه القائد الأول، وكأنه النصر تجسم رجلا، وكيف لا يكونه وهو سيف الله فلا غالب له!
لا جناح علينا ونحن نختتم الآن حديث خالد في عهد أبي بكر أن نقص رواية أثبتها الطبري وأثبتها ابن الأثير، وإنما نقصها على علاتها لا نحمل تبعتها ولا نطلب إلى القارئ تصديقها فقد ذكرا أن چرچة القائد الرومي خرج صبح يوم اليرموك حتى كان بين الجيشين ونادى: ليخرج إلي خالد، فخرج خالد حتى اختلفت أعناق دابتيهما وقد أمن كل منهما صاحبه، عند ذلك قال چرچة: يا خالد اصدقني ولا تكذبني، فإن الحر لا يكذب، ولا تخادعني فإن الكريم لا يخادع، هل أنزل الله على نبيكم سيفا من السماء فأعطاكه فلا تسله على قوم إلا هزمتهم؟ وأجابه خالد بالنفي ، فقال: فيم سميت سيف الله؟ وأجابه خالد فحدثه عن بعث الله رسوله، وأن الله هداه للإيمان به والذود عن دينه، ولذلك قال رسول الله له: «أنت سيف من سيوف الله سله الله على المشركين.» ودعا له بالنصر، فسمي «سيف الله» بذلك، ثم دار بين الرجلين حوار حول رسالة محمد انتهى بإسلام چرچة وصلاته ركعتين وإلى قتاله في صف خالد ومقتله مع المسلمين الذين قتلوا في الموقعة.
قصصت هذه الرواية على علاتها؛ لأنها تصور ما لخالد وعبقريته في النفوس من أثر جعل الطبري وابن الأثير وغيرهما من المؤرخين لا يرون بأسا في تصديق كل ما يتصل بهذا القائد النابغة البطل صاحب المعجزات في الحرب، وهو في الحق جدير أن يبلغ إعجابنا به غاية ما نعجب ببطل من أبطال العالم في تاريخ العالم كله، وإن لم يسوغ لنا الإعجاب أن نقبل إلا ما يثبت أمام النقد وما يقره المنطق السليم.
والآن، وداعا خالد! وداعا فاتح العراق وسورية، وموطد القواعد من الإمبراطورية الإسلامية! وداعا سيف الله البتار! ولعل الأقدار تجمعنا يوما في عهد الفاروق عمر!
الفصل الخامس عشر
المثنى في العراق
ودع المثنى خالد بن الوليد حين سفره من العراق إلى الشام حتى تخوم البادية فلما رجع إلى الحيرة بدأ ينظم الدفاع عن البلاد التي فتحها المسلمون بما بقي له من قوات بعد الذين ارتحلوا مع خالد، ولم يكن المثنى في ريب من أن الفرس سيتحرشون به متى علموا بسفر خالد، وأنهم سيحاولون طرده وطرد المسلمين من الحيرة ومن أرض العراق جميعا.
والحق أنه كان في موقف بالغ غاية الدقة؛ فقد بطش خالد بالبدو المقيمين بجزيرة العراق بطشا جعلهم جميعا خصوما للمسلمين، يتربصون بهم الدوائر ويحرصون على مناصرة أعدائهم، وقد تنبه الفرس إلى أن دولتهم مؤذنة بالزوال إذا ظل لهؤلاء العرب الغزاة في العراق سلطان، وشعور خالد بن الوليد بدقة الموقف هو الذي دفعه فبعث بالنساء والصبيان والضعفاء من الرجال إلى المدينة قبل سفره إلى الشام. طبيعي أن يفكر المثنى في هذا كله ، وأن يطول تفكيره فيه فهو الذي دفع أبا بكر إلى غزو العراق، وهو الذي تقدم خالدا والمسلمين جميعا إلى مفاتحه بالسير إلى دلتا النهرين، فليس من الهين على نفسه أن يهزم في بلد كان الطليعة في غزوه، وأشد من ذلك عليه أن تبلغ به الهزيمة حتى يجلو عن هذا البلد بعد فتحه.
وزاد الموقف دقة أن هدأ الاضطراب الذي ساد بلاط فارس سنوات متتالية؛ فقد اتفق أهل فارس فملكوا عليهم شهريران
1
بن أردشير بن سابور، فلما اطمأن له الأمر كان إجلاء المسلمين عن العراق أول ما استقر عليه عزمه، وما له ينتظر والفرصة سانحة وخالد بن الوليد غائب بالنصف من جيش هؤلاء الغزاة! لذلك وجه هرمز جاذويه في عشرة آلاف لمحاربة المثنى، وجعل هرمز في مقدمة جيشه فيلا من فيلة الحرب يخوف به المسلمين ويشتت صفوفهم.
وبلغت المثنى أنباء هذا التجهز، ثم بلغته أنباء تحرك هرمز وجيشه. أتراه ينتظر حتى يجيء إليه بالحيرة متخطيا حدود البلاد التي فتحها المسلمون؟! كلا! بل خرج هو كذلك بجنوده، وجعل أخويه المعنى ومسعودا على ميمنته وميسرته، وسار حتى بلغ أطلال بابل. وإنه لفي مسيرته إذ جاءته رسالة من شهريران يقول فيها: «إني قد بعثت إليك جندا من أهل فارس، وإنما هم رعاة الدجاج والخنازير، ولست أقاتلك إلا بهم.» وتناول المثنى الرسالة وتلاها، فلم يلبث أن رد عليها مع الرسول الذي جاء بها برسالة يقول فيها: «من المثنى إلى شهريران: إنما أنت أحد رجلين، إما باغ، فذلك شر لك وخير لنا؛ وإما كاذب، فأعظم الكذابين عقوبة وفضيحة عند الله وفي الناس الملوك، وأما الذي يدلنا عليه الرأي فإنكم إنما اضطررتم إليهم، فالحمد لله الذي رد كيدكم إلى رعاة الدجاج والخنازير.»
بهت أهل فارس حينما عرفوا رسالة المثنى وعرفوا مسيرته، فلم يكن أحد منهم يتوقع أن تكون في المسلمين هذه القوة بعد انصراف خالد عنهم؛ بل لقد آخذ بعضهم ملكهم أن يخاطب قائد جيش باللهجة التي أفرغ فيها رسالته، وقالوا له: «جرأت علينا عدونا بالذي كتبت به إليهم؛ فإذا كاتبت أحدا فاستشر.»
عسكر المثنى بجيشه على مرتفع من أطلال بابل على خمسين ميلا من المدائن، وأقام بين شبكة من جداول تتصل بدجلة ينتظر هرمز جاذويه وهجومه عليه، وأقبل هرمز بجيشه يتقدمه الفيل وكله الاطمئنان إلى أنه مشتت شمل المسلمين لا محالة، وسار الفيل يضرب بخرطومه يمنة ويسرة، ويفرق صفوف المثنى ويوقع الرعب فيهم.
وأيقن المثنى أن انتصاره رهن بالقضاء على الفيل، فخرج في جماعة من رجاله، فهاجموه فأصابوا منه مقتلا فهوى جسمه إلى الأرض صريعا، هنالك التأمت صفوف المسلمين وقويت روحهم، فهاجموا الفرس فهزموهم شر هزيمة، واحتل فريق من رجال المثنى معاقل الفرس، وتعقب سائرهم المنهزمين حتى انتهوا بهم إلى أبواب المدائن.
ونزلت أنباء الهزيمة بشهريران نزول الصاعقة، فحم فمات، وأراد الفرس أن يملكوا عليهم ابنة كسرى ليفرغوا إلى تنظيم شئونهم كرة أخرى، ولم ينفذ لها أمر فخلعت، وخلفها على العرش سابور بن شهريران، واستوزر سابور الفرخزاد، وأراد أن يزوجه آزرميدخت ابنة كسرى، فغضبت ألا يكون زوجها من بيت الملك، وقالت لسابور: «يا بن عم، أتزوجني عبدي؟!» لكن سابور لم يسمع لقولها وأغلظ لها في الخطاب، فاستعانت بسياوخش الرازي أحد فتاك الأعاجم، فلما كانت ليلة العرس ودخل الفرخزاد مخدع آزرميدخت ثار به الفاتك فقتله ومن معه، ثم سار بابنة كسرى وأعوانها إلى سابور فحاصروه ودخلوا عليه فقتلوه، وجلست آزرميدخت على العرش مكانه.
ترامت هذه الأنباء إلى المثنى فاطمأن. وما خوفه من بلاط عاد إليه الاضطراب والغدر واختلاف الجالسين على العرش؟! لكنه إن أمن يومه فالحذر يقتضيه الحساب لغده. وسار بجيشه يطارد الفرس حتى بلغ أبواب المدائن، فهو يطمع في أن يفتحها، ولا بد له ليفتحها من مدد يقوي جيشه، وما كان أبو بكر ليمده وجيوش المسلمين كلها بالشام؛ لذلك كتب المثنى يخبر الصديق بانتصاره على الفرس ويستأذنه في الاستعانة بمن ظهرت توبتهم من أهل الردة. وإذ كان يعلم أن أبا بكر لا يطيب نفسا بهذا الرأي فقد أيده بأن التائبين من أهل الردة يطمعون في مغانم الغزو، وأنه لا يرى أحدا أنشط إلى معاونته في محاربة فارس منهم. وفي انتظار المدد أقام يدبر خطته ويحكم تدبيره، لكن انتظاره طال وأبطأ عليه رد الخليفة، هنالك انسحب في الجيش إلى أدنى أرض العراق من حدود البادية، واستخلف بشير بن الخصاصية على من بالعراق من المسلمين، وذهب بنفسه إلى المدينة يدافع عن رأيه، وألفى أبا بكر اشتد به المرض حتى أشفى على الموت، مع ذلك استقبله الخليفة وسمع إليه واقتنع برأيه وقال: علي بعمر، وكان قد استخلفه؛ فلما جاء قال له: «اسمع يا عمر ما أقول لك، ثم اعمل به، إني لأرجو أن أموت من يومي هذا، فإن أنا مت فلا تمسين حتى تندب الناس مع المثنى، وإن تأخرت إلى الليل فلا تصبحن حتى تندب الناس مع المثنى، ولا يشغلنكم مصيبة وإن عظمت عن أمر دينكم ووصية ربكم، وقد رأيتني متوفى رسول الله
صلى الله عليه وسلم
وما صنعت، ولم يصب الخلق بمثله، وبالله لو أني أني عن أمر الله وأمر رسوله لخذلنا، ولعاقبنا فاضطرمت المدينة نارا، وإن فتح الله على أمراء الشام فاردد أصحاب خالد إلى العراق، فإنهم أهله وولاة أمره وحده، وهم أهل الضراوة بهم والجرأة عليهم.»
ووعد عمر أن ينفذ أمر أبي بكر، وكان يقول من بعد: «قد علم أبو بكر أنه يسوءني أن أؤمر خالدا، فلهذا أمرني أن أرد أصحاب خالد وترك ذكره معهم.»
وعاد المثنى إلى العراق أول ما استخلف عمر، ورفع عمر الحظر عمن عادوا إلى الإسلام من المرتدين لينهضوا إلى حرب فارس، وما لهم لا يفعلون وقد فتح الله على المسلمين؟! ثم ما لهم لا يسارعون إلى الخيرات يتطهرون بجهادهم من حوبة ردتهم، فإن استشهدوا فلهم الجنة، وإن أقاموا بعد النصر فلهم من الفيء ما يجعل الحياة جنة أمامهم؟!
ولقد استفتح عمر عهده بمتابعة حروب فارس؛ فكان لهؤلاء الذين عادوا إلى الإسلام من حسن البلاء ما أرجو أن أقص نبأه في خلافة الفاروق.
الفصل السادس عشر
جمع القرآن
يقتضينا الحديث عن جمع القرآن أن نعود بالذاكرة إلى غزوة اليمامة، فعلى أثرها بدأت فكرة هذا الجمع، ثم نفذت، واستغرق التنفيذ ما بقي بعد اليمامة من خلافة الصديق، وفي رواية أنه استغرق زمنا من عهد عمر، وإنما أرجأنا الحديث في هذا الموضوع لئلا نقطع حديث الحرب والفتح، وليكون حديثنا عن جمع القرآن متصلا حتى وفاة أبي بكر.
كانت غزوة اليمامة أعظم الغزوات في حروب الردة، كما كانت أجلها خطرا وأبعدها أثرا، قضى مقتل مسيلمة بن حبيب قضاء حاسما على المتنبئين في بلاد العرب، وآذن عود بني حنيفة إلى الإسلام بالقضاء على الردة بالبحرين، والقضاء على ردة البحرين هو الذي طوع للمثنى بن حارثة الشيباني أن يسير إلى مصب دجلة والفرات، وأن يكون الطليعة الميمونة لفتح العراق ولإقامة بناء الإمبراطورية الإسلامية. غزاة ذلك شأنها لم يخطئ خالد بن الوليد حين دفع إليها جيوش المسلمين يقتلون ويقتلون ويقضون على مسيلمة وأصحابه عند احتمائهم بحديقة الموت، ولم يبالغ المهاجرون والأنصار حين اندفعوا إلى وطيسها مستميتين يبتغون الشهادة. استشهد من المسلمين يومئذ مئتان وألف، بينهم تسعة وثلاثون من كبار الصحابة ومن حفاظ القرآن.
وقد جزع أهل المدينة لمن استشهد من المسلمين باليمامة، واشتد حزنهم، وإن اختلفت البواعث لهذا الحزن والجزع؛ فأواصر القربى وروابط الود والصداقة وتقدير ما كان لكبار الصحابة وحفاظ القرآن الذين استشهدوا من مكانة سامية عند الرسول (عليه السلام)، كل هذه دوافع تحز في النفوس. لقي عمر بن الخطاب ابنه عبد الله بعد أن أبلى في اليمامة أحسن البلاء، وكان عمر شديد الجزع لمقتل أخيه زيد بها، فكان أول ما واجه به ابنه ما أسلفنا ذكره من قوله: «ما جاء بك وقد هلك زيد! ألا واريت وجهك عني!» وكان جواب عبد الله: «سأل الله الشهادة فأعطيها، وجهدت أن تساق إلي فلم أعطها.»
على أن جزع ابن الخطاب لمقتل أخيه زيد وأصحابه الذين استشهدوا باليمامة لم يثنه عن التفكير في أمر خطير، هو لا ريب أجل الأمور في حياة الإسلام والمسلمين خطرا، لقد استشهد من حفاظ القرآن في هذه الغزاة من استشهد، واليمامة ليست إلا واحدة من الغزوات التي واجهت المسلمين بعد وفاة الرسول، فما عسى أن يكون الأمر إذا تلاحقت الغزوات فقتل فيها من الحفاظ مثل من قتل باليمامة؟! فكر عمر في هذا وطال تفكيره، فلما استقر به الرأي ذهب إلى أبي بكر وهو بمجلسه من المسجد فقال له: «إن القتل قد استحر يوم اليمامة بالناس، وإني أخشى أن يستحر القتل بالقراء في المواطن فيذهب كثير من القرآن إلا أن تجمعوه، وإني لأرى أن تجمع القرآن.»
1
لم يكن أبو بكر قد فكر في هذا الأمر، لذلك لم يلبث حين سمعه أن قال: «كيف أفعل شيئا لم يفعله رسول الله
صلى الله عليه وسلم !» عند ذلك دار بين الرجلين حوار طويل لم يورد المؤرخون تفصيله، واقتنع أبو بكر بعد هذا الحوار برأي عمر، فدعا زيد بن ثابت. جاء في البخاري عن زيد بن ثابت أنه قال: «أرسل إلي أبو بكر مقتل أهل اليمامة وعنده عمر، فقال أبو بكر: إن عمر أتاني فقال: إن القتل استحر يوم اليمامة بالناس، وإني لأخشى أن يستحر القتل بالقراء في المواطن فيذهب كثير من القرآن إلا أن تجمعوه، وإني لأرى أن تجمع القرآن. قال أبو بكر فقلت لعمر: كيف أفعل شيئا لم يفعله رسول الله؟! فقال: هو والله خير، فلم يزل يراجعني حتى شرح الله لذلك صدري ورأيت الذي رأى عمر. قال زيد: وعنده عمر جالس لا يتكلم، فقال لي أبو بكر: إنك رجل شاب عاقل ولا نتهمك، كنت تكتب الوحي لرسول الله
صلى الله عليه وسلم ، فتتبع القرآن فاجمعه، فوالله لو كلفني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل علي مما أمرني به من جمع القرآن. قلت: كيف تفعلان شيئا لم يفعله رسول الله
صلى الله عليه وسلم ؟ فقال أبو بكر: هو والله خير، فلم أزل أراجعه حتى شرح الله صدري للذي شرح له صدر أبي بكر وعمر، فقمت فتتبعت القرآن أجمعه من الرقاع والأكتاف والعسب.
2
وصدور الرجال، حتى وجدت من سورة التوبة آيتين مع خزيمة الأنصاري لم أجدهما مع غيره:
لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم * فإن تولوا فقل حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم ، فلما نسخنا الصحف في المصاحف فقدت آية من سورة الأحزاب، كنت أسمع رسول الله
صلى الله عليه وسلم
يقرؤها، لم أجدها مع أحد إلا مع خزيمة الأنصاري الذي جعل رسول الله شهادته بشهادة رجلين:
من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر
فألحقتها في سورتها، فكانت الصحف التي جمع فيها القرآن عند أبي بكر حتى توفاه الله، ثم عند عمر حتى توفاه الله، ثم عند حفصة بنت عمر.»
هذا حديث زيد بن ثابت فيما رواه البخاري، وقد أجمعت الروايات على صحته، وذكر القرطبي أن زيدا جمع القرآن غير مرتب السور بعد تعب شديد، وأن الصحف حفظت بعد جمعها عند أبي بكر، ثم عند عمر، ثم عند حفصة أم المؤمنين.
وتذهب رواية إلى أن عمر بن الخطاب أول من جمع القرآن في المصحف.
3
ذلك أنه سأل يوما عن آية من كتاب الله، فقيل كانت مع فلان فقتل يوم اليمامة، فقال: إنا لله! وأمر بالقرآن فجمع. وأصحاب الرواية المتواترة يردون هذا القول بأن عمر كان أول من رأى جمع القرآن؛ لأنه أشار على أبي بكر بذلك وأقنعه به، أما الجمع فتم في عهد الصديق، وهذا الرأي هو الصحيح، يؤيد ذلك ما روي عن علي بن أبي طالب أنه قال: «رحمة الله على أبي بكر! كان أعظم الناس أجرا في جمع المصاحف، وهو أول من جمع المصاحف، وهو أول من جمع بين اللوحين.» وقد تواترت بذلك شهادة عدد كبير من أصحاب رسول الله.
والذين قالوا إن عمر أول من جمع القرآن يذكرون أنه حين أراد أن يجمعه قام في الناس فقال: «من كان تلقى من رسول الله
صلى الله عليه وسلم
شيئا فيأتينا به.» وكانوا كتبوا ما تلقوه من ذلك في الصحف والألواح والعسب، وكان عمر لا يقبل من أحد شيئا حتى يشهد عليه شاهدان، وقتل وهو يجمع ذلك إليه؛ فقام عثمان بن عفان فقال ما قال عمر وصنع صنيعه، وعهد إلى زيد بن ثابت بجمع القرآن، وضم إليه نفرا من الحفاظ وقال لهم: «إذا اختلفتم فاكتبوا لغة مضر؛ فإن القرآن نزل على رجل من مضر.»
أما والثابت المقطوع به أن أبا بكر هو الذي أمر بجمع القرآن بعد حواره مع ابن الخطاب، فيجمل بي قبل أن أفصل كيف كان هذا الجمع أن أقف عند قول الصديق: «كيف أفعل شيئا لم يفعله رسول الله
صلى الله عليه وسلم !» فقد نزل الوحي بالقرآن على رسول الله خلال ثلاث وعشرين سنة، منذ بعثه الله نبيا وهو بمكة إلى أن قبضه إليه وهو بالمدينة. وكان الوحي ينزل ببعض الآيات أحيانا، وبالسورة كاملة أحيانا أخرى، ولقد كان أول ما نزل من الوحي قوله تعالى:
اقرأ باسم ربك الذي خلق * خلق الإنسان من علق * اقرأ وربك الأكرم * الذي علم بالقلم * علم الإنسان ما لم يعلم ، أما بقية هذه السورة على ما نتلوها اليوم في المصاحف فنزلت بعد ذلك، وبعد أن نزل غيرها من الوحي قبل نزولها. أفيعني قول أبي بكر وقول زيد بن ثابت من بعده: «كيف أفعل شيئا لم يفعله رسول الله!» أن القرآن بقي إلى وفاة الرسول لم يجمع سورا، ولم ينتظم كتابا، فبقيت الآيات التي نزلت فرادى لم تضم إلى غيرها على الصورة التي نراها اليوم بها، فلما كان الجمع رتبت السور ونظمت في كتاب؟
هذا ما يقول به بعض المؤرخين، وترجحه طائفة من المستشرقين، بل لقد نسب إلى زيد بن ثابت أنه قال: «قبض النبي ولم يكن القرآن جمع في شيء.» والمستشرق الإنجليزي سير وليم ميور يسوق هذا القول في مقدمة كتابه عن سيرة الرسول حجة من الحجج على الدقة والصدق في جمع القرآن، فيقول: «إن القرآن بمحتوياته ونظامه ينطق في قوة بدقة جمعه؛ فقد ضمت الأجزاء المختلفة بعضها إلى بعض ببساطة تامة، لا تعمل ولا تكلف فيها، وهذا الجمع لا أثر فيه ليد تحاول المهارة أو التنسيق، وهو يشهد بإيمان الجامع وإخلاصه لما يجمع؛ فهو لم يجرؤ على أكثر من تناول هذه الآيات المقدسة ووضع بعضها إلى جانب بعض.» والمستشرقون المؤيدون لهذا الرأي يؤاخذون زيد بن ثابت والذين عاونوه في جمع القرآن بأنهم لم يراعوا في ترتيب القرآن أوقات نزوله، ولم يقدموا ما نزل منه بمكة على ما نزل منه بالمدينة، بل وضعوا آيات مدنية خلال السور المكية دون أن يقتضيهم المقام هذا الصنيع، ولو أنهم راعوا الدقة التاريخية في الترتيب لكان ذلك أدنى في نظر هؤلاء المستشرقين إلى التحقيق العلمي، وأجدى في كتابة السيرة وفي تتبع أحوال النبي العربي من يوم بعثه إلى يوم وفاته.
ويزيد المستشرقون أن جامعي القرآن لم يعنوا كذلك بتأليف آياته حسب موضوعاتها، فأنت ترى في السورة الواحدة شئونا مختلفة من القصص والتاريخ، ومن الإيمان والعبادات، ومن الأحكام التشريعية، ومن قواعد الخلق، وأنت ترى الموضوع الواحد من هذه الشئون جميعا مذكورا في سورة مختلفة على صور تتقارب أو تتفاوت في اللفظ وفي قوة العبارة، أما وقد كان الجامعون أحرارا في ترتيب الآيات في السور فهم جديرون، في رأي هؤلاء المستشرقون، بالتثريب عليهم من الناحية العلمية؛ لأنهم لم يراعوا الموضوعات، وكان حقا عليهم أن يراعوها، وبخاصة؛ لأنهم لم يتقيدوا بمواقيت الوحي ونزوله.
هذه ملاحظات يبديها المستشرقون على جمع القرآن مستندين فيها إلى قول أبي بكر: «كيف أفعل شيئا لم يفعله رسول الله
صلى الله عليه وسلم !» وهم مخطئون في تحميل عبارة أبي بكر هذا المعنى، وفي ظنهم أن الآيات ظلت مبعثرة منذ نزولها إلى أن جمعت في عهد الخليفة الأول، ثم في عهد عثمان، فالأمر الذي لا ريبة فيه أن الآيات قد جمعت سورا في عهد رسول الله وبتوقيفه، ولقد كان مالك يقول: «إنما ألف القرآن على ما كانوا يسمعونه من رسول الله
صلى الله عليه وسلم »، وكان عبد الله بن مسعود يقول : «قرأت من في رسول الله
صلى الله عليه وسلم
بضعا وسبعين سورة، وقرأت عليه من البقرة إلى قوله تعالى:
إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين . ولقد قرأ زيد بن ثابت القرآن كله على رسول الله.
وفي مسلم والبخاري عن أنس بن مالك أنه قال: «جمع القرآن على عهد النبي
صلى الله عليه وسلم
أربعة كلهم من الأنصار: أبي بن كعب، ومعاذ بن جبل، وزيد بن ثابت، وأبو زيد.» وقول أنس لا يراد به أن هؤلاء الأربعة هم الذين حفظوا القرآن في عهد النبي دون سواهم، يقول القرطبي: «فقد ثبت بالطرق المتواترة أنه جمع القرآن عثمان، وعلي، وتميم الداري، وعبادة بن الصامت، وعبد الله بن عمرو بن العاص، فقول أنس: لم يجمع القرآن غير أربعة، يحتمل أنه لم يجمع القرآن وأخذه تلقينا من رسول الله
صلى الله عليه وسلم
غير تلك الجماعة؛ فإن أكثرهم أخذ بعضه عنه وبعضه عن غيره، وقد تظاهرت الروايات بأن الأئمة الأربعة جمعوا القرآن على عهد النبي
صلى الله عليه وسلم
لأجل سبقهم إلى الإسلام، وإعظام الرسول
صلى الله عليه وسلم
لهم.»
وروايات السلف متواترة على أن رسول الله كان يعرض القرآن على جبريل في كل عام مرة، فلما كان العام الذي قبض فيه عرضه عليه مرتين، ومن هذا العرض في عام الوفاة عرف عبد الله بن عباس ما نسخ من القرآن وما بدل.
وما ورد في سيرة النبي يؤيد الروايات التي قدمنا، من ذلك ما روي عن إسلام عمر بن الخطاب بعد عشر سنين أو نحوها من بعث محمد، فقد هال عمر ما أحدثه الدين الجديد من فرقة بين أهل مكة اضطرت كثيرين منهم أن يهاجروا إلى الحبشة، فرأى أن يقتل محمدا لتعود إلى قريش وحدتها، فلما ذكر له نعيم بن عبد الله أن فاطمة أخت عمر وزوجها سعيد بن زيد أسلما ذهب إليهما ودخل البيت عليهما، فسمع عندهما من يقرأ القرآن، فبطش بهما حتى شج أخته، وندم لما صنع ، وطلب إليها أن تعطيه الصحيفة التي كانوا يقرءون، فإذا بها سورة طه، فلما قرأها أخذه إعجازها وجلالها وسمو الدعوة التي تدعو إليها، فذهب إلى محمد فأسلم بين يديه.
لم تكن الصحيفة التي سجلت سورة إلا واحدة من صحف كثيرة كانت متداولة بين أيدي الذين أسلموا من أهل مكة سجلت سورا أخرى من القرآن، ولقد ظل رسول الله بين المسلمين بمكة وبالمدينة ثلاث عشرة سنة بعد إسلام عمر، كان يقول خلالها لأصحابه: «لا تكتبوا عني شيئا سوى القرآن، فمن كتب عني شيئا سوى القرآن فليمحه.» وكان طبيعيا أن يكتب الصحابة كل ما يستطيعون كتابته من القرآن لتلاوته في الصلاة، ولمعرفة أحكام الدين الذين يؤمنون به، وكان يكتبه الذين يوفدهم النبي إلى القبائل لتعليم أهلها القرآن وتفقيههم في الدين، وهم لم يكونوا يكتبونه آيات متقطعة، بل سورا متصلة يمليها رسول الله.
ونصوص القرآن تؤيد ما سبق؛ من ذلك قوله تعالى:
يا أيها المزمل * قم الليل إلا قليلا * نصفه أو انقص منه قليلا * أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلا ، وآيات المزمل هذه نزلت في الفترة الأولى من بعث الرسول، فمطالبة النبي فيها أن يقوم الليل يرتل القرآن ترجح أن الآيات لم تكن مبعثرة من غير ترتيب، وتؤكد ما قدمنا من أن ما كان يوحى إلى النبي متصلا بوحي سبق إليه كان الوحي يلحقه به، وذلك قولهم إن جبريل قال للنبي حين أوحى إليه قوله تعالى
واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون : «يا محمد، ضعها في رأس ثمانين ومائتين من البقرة.»
ولقد تكرر في القرآن نعته بأنه الكتاب، وسورة البقرة أولى سور القرآن بعد الفاتحة تبدأ بقوله تعالى:
الم * ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين ، وهذا المعنى وارد في مواضع كثيرة من سور مختلفة، والكتاب هو ما كتب منسقا، وقد كتب القرآن في عهد النبي كما أسلفنا من قول أنس بن مالك وقول غيره من أصحاب رسول الله، بل إن زيد بن ثابت نفسه ، وهو الذي قال كما قدمنا: «قبض النبي
صلى الله عليه وسلم
ولم يكن القرآن جمع في شيء» قد قال: «كنا عند رسول الله
صلى الله عليه وسلم
نؤلف القرآن من الرقاع.» يريد بذلك تأليف ما نزل من الآيات المتفرقة في سورها وجمعها فيها بإشارة رسول الله، وكثيرا ما كان رسول الله يتلو في الصلاة وفي غير الصلاة سورا كاملة؛ منها البقرة وآل عمران والنساء والأعراف والجن والنجم والرحمن والقمر وغيرها، وهذا كله صريح في الدلالة على أن ترتيب الآيات في السور قد تم بتوقيف النبي، وأنه قبض وهذا الجمع معروف للمسلمين، ثابت في صدور القراء والحفاظ.
ولقد رأيت كثيرين من الصحابة جمعوا القرآن على عهد النبي، منهم أربعة جمعوه بإملائه، واتفاق المؤرخين منعقد على أن ترتيب الآيات في السور كان واحدا في كل المصاحف التي جمعت قبل وفاة الرسول، وفي المصاحف التي جمعت عقب وفاته وقبل أن يأمر أبو بكر بجمع القرآن، أما ترتيب السور والابتداء بالفاتحة فالبقرة فآل عمران فالنساء فالمائدة والانتهاء بالمعوذتين، فذلك ما اختلف فيه، وما قيل إن رسول الله تركه كله أو بعضه لأمته.
ماذا أراد أبو بكر إذن بقوله ردا على عمر حين أشار عليه أن يجمع القرآن: «كيف أفعل شيئا لم يفعله رسول الله!» وما هي الحجج التي شرحت صدر أبي بكر ثم صدر زيد بن ثابت لجمع القرآن والأخذ برأي ابن الخطاب؟
لما تمت البيعة لأبي بكر لزم علي بن أبي طالب بيته، وتحدث الناس إلى أبي بكر في أمره، فأرسل إليه يقول: «أكرهت بيعتي فقعدت عني؟!» فكان جواب علي: «لا والله، ولكن رأيت كتاب الله يزاد فيه، فحدثت نفسي ألا ألبس ردائي إلا لصلاة حتى أجمعه.»
4
ولم يكن علي وحده هو الذي دأب على جمع القرآن بعد وفاة الرسول، بل دأب على ذلك كثيرون جعلوا يتلقونه عمن يطمئنون إليهم من أصحاب رسول الله، وكما حمد أبو بكر لعلي بن أبي طالب حديثه عن جمع القرآن حمد لغيره من المسلمين سعيهم في جمعه ، ورأى في عملهم تأسيا بالسابقين الأولين الذين جمعوه في عهد رسول الله، ولم يدر بخاطره أن يصد أحدا دون هذا العمل الجليل، مطمئنا إلى أن الله نزل الذكر وهو حافظه، وإلى أن المسلمين لن تحدث أحدا منهم نفسه بأن يدخل عليه ما ليس منه، فإذا أقدم أحد على ما قاله علي بن أبي طالب من زيادة على القرآن رد الله كيده في نحره، ورد الصالحون من المسلمين كلام الله إلى مواضعه، وذلك كان سبب تردده حين عرض عليه عمر أن يجمع القرآن، فقد كانت سنته ألا يصنع إلا ما كان يصنع رسول الله، وألا يدع شيئا كان رسول الله يصنعه، أما وقد ترك رسول الله كتابة القرآن للمسلمين، وقد كتب بعضهم القرآن بإملائه (عليه السلام)، ونقل آخرون عن هؤلاء الكاتبين وعمن وعت ذاكرتهم القرآن، فليجر الأمر في خلافته كما جرى في عهد الرسول، وليمسك خليفته فلا يقدم على ما لم يقم هو به.
كانت هذه حجة أبي بكر وحجة زيد بن ثابت، فلما راجع عمر الخليفة عدل عن رأيه، ولئن لم يورد المؤرخون تفصيل ما دار بين الرجلين من حوار، فإن فيما أورده الرواة عن تاريخ القرآن لما يفصح لنا عن حجة عمر وما يؤيدها ويجلو لنا اقتناع أبي بكر وزيد بن ثابت بها.
روى الترمذي قال: «لقي رسول
صلى الله عليه وسلم
جبريل فقال: يا جبريل، إني بعثت إلى أمة أمية؛ منهم العجوز والشيخ الكبير والغلام والجارية والرجل الذي لا يقرأ كتابا قط. فقال لي: يا محمد، إن القرآن أنزل على سبعة أحرف.»
5
وقد اختلف العلماء في المراد بالأحرف السبعة، وأوردوا فيها خمسة وثلاثين قولا؛ من هذه الأقوال أنه رخص للمسلمين أول العهد بالإسلام أن يحلوا المترادف محل بعضه إلا أن يخلطوا آية رحمة بآية عذاب، أو آية عذاب بآية رحمة، وذلك في نحو هلم وتعال وأقبل وأسرع وعجل. وعن أبي بن كعب أنه كان يقرأ «للذين آمنوا انظرونا»: «للذين آمنوا أمهلونا»، «للذين آمنوا أخرونا»، «للذين آمنوا ارقبونا». وكان يقرأ «كلما أضاء لهم مشوا فيه »: «مروا فيه»، «سعوا فيه»، ذلك أن أهل القبائل كان يعجزهم أن يأخذوا القرآن على غير لغاتهم، ولو راموا ذلك لم يتهيأ لهم إلا بمشقة عظيمة، فوسع لهم في اختلاف الألفاظ إذا كان المعنى متفقا، فلما كثر اتصالهم برسول الله حفظوا القرآن بألفاظه ولم يسعهم أن يقرءوا بخلافها، وفي رأي أن الإباحة في هذا كانت مطلقة أول العهد ثم نسخت.
صحيح أن بعض الأقوال في تأويل نزول القرآن على سبعة أحرف تخالف هذا القول، فيذهب بعضها إلى أن في القرآن سبع لغات العرب كلها، وأن هذه اللغات متفرقة فيه، أو أن هذه اللغات السبع في مضر، ويذهب بعض آخر إلى أن سبعة الأحرف تتصل بوجوه الاختلاف في القراءة، أو تتصل بمعاني كتاب الله، لكن هذه الأقوال لا تنفي القول الأول على الأقل أول ما بدأ الإسلام ينتشر في القبائل، ويذكر بعضهم أن الأمر ظل كذلك سنين متعاقبة، أو إلى أن قبض النبي؛ لكنهم يقيدونه بأن ذلك كان بالوحي لا بالاختيار، يقول القرطبي: «إنما وقعت الإباحة في الحروف السبعة للنبي
صلى الله عليه وسلم
ليوسع بها على أمته، فأقرأ مرة لأبي بما عارضه به جبريل، ومرة لابن مسعود بما عارضه به أيضا ... وعلى هذا يحمل قول أنس حين قرأ: «إن ناشئة الليل هي أشد وطئا وأصوب قيلا»، فقيل له إنما نقرأ «وأقوم قيلا»، فقال أنس: «وأصوب قيلا وأقوم قيلا وأهيأ واحد.» فإنما معنى هذا أنها مروية عن النبي
صلى الله عليه وسلم ، وإلا فلو كان هذا لأحد من الناس أن يضعه لبطل معنى قوله تعالى:
إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون (الحجر: 9)، روى البخاري ومسلم وغيرهما عن عمر بن الخطاب أنه قال: «سمعت هشام بن حكيم يقرأ الفرقان على غير ما أقرؤها، وكان رسول الله
صلى الله عليه وسلم
أقرأنيها، فكدت أن أعجل عليه ثم أمهلته حتى انصرف ثم لببته بردائه، فجئت به رسول الله
صلى الله عليه وسلم
فقلت: يا رسول الله، إني سمعت هذا يقرأ سورة الفرقان على غير ما أقرأتنيها. فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : أرسله، اقرأ. فقرأ القراءة التي سمعته يقرأ؛ فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : هكذا أنزلت. ثم قال لي: اقرأ. فقرأت، فقال: هكذا أنزلت، إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف فاقرءوا ما تيسر منه.»
وأضاف القرطبي قصة أبي بن كعب إذ سمع رجلين بالمسجد يقرآن آيات بعينها في الصلاة، كل يقرأ غير قراءة صاحبه وغير قراءة أبي، فذهب بهما إلى رسول الله فحسن النبي قراءتهم جميعا. قال أبي: «فسقط في نفسي من التكذيب ولا إذ كنت في الجاهلية، فلما رأى النبي
صلى الله عليه وسلم
ما قد غشيني، ضرب في صدري ففضت عرقا، وكأنما أنظر إلى الله تعالى فرقا، فقال: يا أبي، أرسل إلي أن اقرأ القرآن على حرف، فرددت إليه أن هون على أمتي، فرد إلي الثانية اقرأه على حرفين، فرددت إليه أن هون على أمتي، فرد إلي الثالثة اقرأه على سبعة أحرف.»
نشأ عن ذلك خلاف في بعض الألفاظ مما دون أو حفظ في عهد رسول الله؛ روى ابن أبي داود في كتاب المصاحف أن عمر بن الخطاب كان يقرأ: «صراط من أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم وغير الضالين.» في حين يقرأ غيره:
صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين ، وأنه (رضي الله عنه) قرأ: «الم، الله لا إله إلا هو الحي القيام» بدل «القيوم». وكان علي بن أبي طالب يقرأ: «آمن الرسول بما أنزل إليه وآمن المؤمنون كل آمن بالله» بدل
آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله .
6
وكان أبي بن كعب يقرأ: «فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى فأتوهن أجورهن فريضة» بدل
فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة ،
7
وأثبت أبي بن كعب في جمعه القرآن نصوصا تخالف في بعض لفظها مصحف عثمان، من ذلك: «فصيام ثلاثة أيام متتابعات» في كفارة اليمين بدل
فصيام ثلاثة أيام ذلك كفارة أيمانكم .
8
وشأن عبد الله بن مسعود كشأن أبي بن كعب في قراءته وفي مصحفه؛ فقد روي أنه كان يقرأ: «والعصر، إن الإنسان لفي خسر، وإنه فيه إلى آخر الدهر، إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالصبر» فيضيف «وإنه فيه لآخر الدهر» ويحذف «وتواصوا بالحق» كما ثبت في مصحف عثمان. وكان يقرأ: «إن الله لا يظلم مثقال نملة» بدل
إن الله لا يظلم مثقال ذرة
9
وكان يقرأ: «وتزودوا وخير الزاد التقوى» بدل
وتزودوا فإن خير الزاد التقوى
10
وقد أورد ابن أبي داود تفصيل هذا الخلاف في الألفاظ ونسبه إلى أصحابه؛ ومنهم عائشة أم المؤمنين، فقد روى أنه كان مكتوبا في مصحفها «حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر» إلى ما في مصحف عثمان، وذكر عن ابن يونس مولى عائشة أنه قال: كتبت لعائشة مصحفا فقالت: إذا مررت بآية الصلاة فلا تكتبها حتى أمليها عليك، فأملتها علي «حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر»، وقد وردت مثل هذه الرواية عن هذه الآية في مصحف حفصة وفي مصحف أم سلمة زوجي النبي، وقيل: بل أملت أم سلمة «حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى صلاة العصر».
أنت لا ريب قد رأيت أن الاختلاف في القراءات وفي مصاحف الصحابة لم يتعد الألفاظ، وأنه لم يجعل من نهي أمرا، ولا من أمر نهيا، ولا من آية رحمة آية عذاب، ولا من آية عذاب آية رحمة، والشأن كذلك في كل ما روي عن قراءات الصحابة وعن مصاحفهم ومصاحف التابعين، ولقد قدم المستشرق «أرثر جفري» لكتاب المصاحف لابن أبي داود، وأورد كل ما روي عن هذا الاختلاف في القراءات والمصاحف، فلم يزد الأمر على ما قدمت من الأمثلة، وعلة ذلك راجعة إلى ما ذكرنا عن الحديث: «أنزل القرآن على سبعة أحرف.»
وما كان الخلاف ليزيد على هذا في حياة الذين تلقوا القرآن عن رسول الله فكتبوه أو وعته صدورهم في تقديس لكلام الله وإيمان به يحولان دون الزيادة فيه أو النقص منه أو تحريفه، لكن هؤلاء القراء رجال كتب عليهم الموت كما كتب على الذين من قبلهم، ولقد استحر القتل في طائفة منهم في حياة النبي ببئر معونة، ثم استحر القتل فيهم في اليمامة، فإذا ذهب أكثرهم أو ذهبوا جميعا لم يكن عجبا أن يقوم من يزيد في القرآن أو ينقص منه، ومن يحرف كلام الله عن مواضعه، ثم لا عجب أن يختلف الناس على هذا، وأن ينتهي اختلافهم إلى الثورة يصلى المسلمون نارها ويصيب الإسلام منها ضر كبير.
كان لعمر ولأبي بكر ولزيد بن ثابت مما حدث في بلاد العرب نذير يعظهم أن يتقوا هذا اليوم، فقد ارتد في حياة الرسول بعض الذين أسلموا وكانوا يكتبون الوحي، ثم زعموا أنهم كانوا يزيفون ما يكتبون ويلقونه على المسلمين زائفا، وروايات المنافقين وما كانوا يصنعون من ذلك ومن مثله واردة في كتب السيرة، وفي قصة مسيلمة بعض هذا النذير، فهو إنما استغلظ أمره بعد أن ذهب نهار الرحال بن عنفوة من قبل رسول الله
صلى الله عليه وسلم
إلى اليمامة يقرئ أهلها القرآن ويفقههم في الدين، فلم يلبث حين رأى السواد من أهل اليمامة يتبع مسيلمة أن أقر بنبوته، وشهد بأن محمدا يقول: إن مسيلمة قد أشرك في الرسالة معه، وكان نهار فقيها يتلو على الملأ القرآن الذي أوحي إلى محمد ويقص عليهم تعاليمه ويفقههم في دينه، هذا وما حدث من مثله إثر وفاة الرسول إذ نجم النفاق واشرأبت الأعناق يشهد بما لحجة عمر في جمع القرآن بعد اليمامة من قوة تذهب بكل تردد.
وماذا بعد في جمع القرآن مما لم يصنعه رسول الله حتى يتردد أبو بكر أو يتردد زيد بن ثابت بسببه؟! لقد أمر (عليه السلام) أن يكتب الوحي وأن تكتب الآيات مرتبة في السور، وما منعه أن يأمر بجمع القرآن قبل أن يختاره الله إليه إلا أن الوحي كان يتتابع، وأن بعض الآيات كانت تنسخ، أما وقد قبض فانتهى نزول الوحي وتم كتاب الله وكمل دينه، فالخير في أن يجمع القرآن حتى لا يتعرض لما خشي علي بن أبي طالب أن يتعرض له من زيادة فيه أو نقص منه، وبخاصة بعد أن قتل من القراء باليمامة من قتل؛ ويخشى أن يقتل منهم آخرون في مواطن غير اليمامة.
أحسب هذه وأمثالها من الحجج هي ما ساقه عمر حين ناقش أبا بكر في جمع القرآن، وهي كما ترى حجج تحسم كل ريبة وتقطع بما في الجمع من خير للإسلام والمسلمين، لهذا اقتنع أبو بكر برأي عمر، ثم اقتنع به زيد بن ثابت.
11
ويجمل بي قبل أن أفصل ما حدث بعد اجتماع الصديق والفاروق وكاتب الوحي لرسول الله، أن أذكر أن ما حدث في عهد عثمان قد أيد ما رآه عمر من جمع القرآن، ودل على صدق نظره فيه، فقد اتسعت رقعة الفتح في عهد عمر وعثمان، وكان أصحاب رسول الله يقرءون القرآن ويعلمونه من أسلم من أهل البلاد المفتوحة؛ فاختلف الناس في القراءة وعظم اختلافهم وتشتتهم؛ حتى إن الرجل ليقول لصاحبه: إن قراءتي خير من قراءتك، وأفضل من قراءتك. وبلغ الأمر من ذلك حتى كاد يكون فتنة؛ اختلفوا وتنازعوا، وأظهر بعضهم إكفار بعض والبراءة منه، وتلاعنوا، ورأى حذيفة بن اليمان خلافهم إذ كان يقاتل مع المسلمين على إرمينية وأذربيجان، ففزع وكر راجعا إلى المدينة ودخل على عثمان قبل أن يدخل إلى بيته، فقال له: أدرك هذه الأمة قبل أن تهلك. قال عثمان: فيماذا؟ قال: في كتاب الله، إني حضرت هذه الغزوة وقد جمعت ناسا من العراق والشام والحجاز، ثم وصف له ما تقدم من اختلافهم في القراءة، وأردف: وإني أخشى عليهم أن يختلفوا في كتابهم كما اختلف اليهود والنصارى.
12
ورأى عثمان الخطر، فجمع الناس فعرض عليهم الأمر، فسألوه رأيه فقال: الرأي عندي أن يجتمع الناس على قراءة؛ فإنكم إذا اختلفتم اليوم كان من بعدكم أشد اختلافا. وأقره أهل الرأي، فأرسل إلى حفصة يسألها أن ترسل إليه مصحف أبي بكر لنسخه في المصاحف، وكان ذلك أول ما حدث في جمع مصاحف عثمان وتوحيد قراءة القرآن.
هذا الخلاف في عهد عثمان بالغ الدلالة على أن عمر كان صادق النظر حين أشار على أبي بكر بجمع القرآن، وقد اتخذ عثمان مصحف أبي بكر إماما لهم في توحيد القراءة، فلو أن أبا بكر لم يجمع القرآن لتفاقم الخلاف، ولأصاب المسلمين من ذلك شر أنجاهم عمل الصديق منه، من ثم لم يغل علي بن أبي طالب حين قال: «أعظم الناس أجرا في المصاحف أبو بكر، رحمة الله على أبي بكر، هو أول من جمع بين اللوحين.»
شرح الله صدر أبي بكر لجمع القرآن بعد حواره مع عمر، فعهد إلى زيد بن ثابت أن يتتبعه فيجمعه، روي أن عبد الله بن مسعود غضب لذلك وقال: يا معشر المسلمين! أعزل عن نسخ المصاحف ويتولاه رجل؟ والله لقد أسلمت وإنه لفي صلب رجل كافر! يريد زيد بن ثابت. وقد نسب هذا القول إلى ابن مسعود حين أمر عثمان زيدا بجمع القرآن وأردفه بمن أردفه بهم من الصحابة، ولعل عبد الله غضب في المرتين لما ذكره القرطبي حين قال: «قال أبو بكر الأنباري: ولم يكن الاختيار لزيد من جهة أبي بكر وعثمان على عبد الله بن مسعود في جمع القرآن، وعبد الله أفضل من زيد وأقدم في الإسلام وأكثر سوابق وأعظم فضائل، إلا لأن زيدا كان أحفظ للقرآن من عبد الله.» وهذه العبارة ترجح غضب ابن مسعود في المرتين.
وقد بلغ غضب ابن مسعود لهذا الأمر أمدا بعيدا، حتى كان يقول: «لقد قرأت من في رسول الله
صلى الله عليه وسلم
سبعين سورة، وإن لزيد بن ثابت ذؤابتين يلعب مع الصبيان.» بل لقد حرض أهل العراق في عهد عثمان على ألا يعاونوا في هذا العمل، وكان يقول لهم: «إني غال مصحفي، فمن استطاع منكم أن يغل مصحفا فليفعل؛ فإن الله يقول:
ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة (آل عمران: 161)»، وخطب الناس يوما فقال:
ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة
غلوا مصاحفكم، وكيف تأمروني أن أقرأ على قراءة زيد بن ثابت وقد قرأت من في رسول الله
صلى الله عليه وسلم
بضعا وسبعين سورة وإن زيد بن ثابت ليأتي مع الغلمان له ذؤبتان، والله ما نزل القرآن إلا وأنا أعلم متى وفي أي شيء نزل، ما أحد أعلم بكتاب الله مني، وما أنا بخيركم، ولو أعلم أحدا أعلم بكتاب الله مني تبلغنيه الإبل لأتيته.» كره رجال أفاضل من أصحاب النبي مقالة ابن مسعود، ورأوا فيها تحريضا على الفتنة لا مسوغ له. روي عن أبي الدرداء أنه قال: «كنا نعد عبد الله حنانا فما باله يواثب الأمراء!» صحيح أن عبد الله بن مسعود بدري وزيد بن ثابت ليس بدريا، ولعبد الله سابقة في الإسلام على زيد وعلى أبيه ثابت بن زيد، وهو قد تلقى عن رسول الله نيفا وسبعين سورة من القرآن، لكن زيدا كان كاتب رسول الله، وقد تلقى عنه القرآن كله إلى وفاته، يقول القرطبي: «الشائع الذائع المتعالم عند أهل الرواية والنقل أن عبد الله بن مسعود تعلم بقية القرآن بعد وفاة رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، وقد قال بعض الأئمة: مات عبد الله بن مسعود قبل أن يختم القرآن.» وقد جاء مصحف ابن مسعود خلوا من المعوذتين.
سقنا حديث عبد الله بن مسعود وغضبه حجة على حسن اختيار أبي بكر زيد بن ثابت لجمع القرآن، وذلك قول الصديق لزيد بعد أن أقنعه برأي عمر: «إنك رجل شاب عاقل ولا نتهمك، كنت تكتب الوحي لرسول الله
صلى الله عليه وسلم ، فتتبع القرآن فاجمعه.» ويضيف القرطبي على العبارة التي نقلناها في تفضيل زيد على عبد الله قول أبي بكر الأنباري: «إن زيدا كان أحفظ للقرآن من عبد الله؛ إذ وعاه كله ورسول الله حي، والذي حفظ منه عبد الله في حياة رسول الله
صلى الله عليه وسلم
نيف وسبعون سورة، ثم تعلم الباقي بعد وفاة رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، فالذي ختم القرآن وحفظه ورسول الله
صلى الله عليه وسلم
حي أولى بجمع المصحف وأحق بالإيثار والاختيار.»
ولعل أبا بكر قد اختار زيدا وآثره على غيره من أصحاب رسول الله لأنه شاب، فهو أقدر على العمل منهم، وهو لشبابه أقل تعصبا لرأيه واعتزازا بعلمه، وذلك يدعوه إلى الاستماع لكبار الصحابة من القراء والحفاظ، والتدقيق في الجمع دون إيثار لما حفظه هو، وإن كان المتواتر أنه حضر العرضة الأخيرة للقرآن حين عرضه رسول الله على جبريل للمرة الثانية في السنة التي كانت فيها وفاته.
شعر زيد بجسامة التبعة التي ألقاها الخليفة على عاتقه وقدرها قدرها؛ وذلك قوله: «فوالله لو كلفني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل علي مما أمرني به من جمع القرآن.» وكيف لا يشعر بجسامة التبعة وهو يعلم أن أبا بكر يحفظ القرآن، وعمر يحفظه، وعلي يحفظه، وعثمان يحفظه، وكبار الصحابة يحفظونه أو يحفظون منه أجزاء كثيرة، بل إن أربعة قد تلقوا القرآن عن رسول الله وكتبوه مرتب الآيات في السور، وكتب غيرهم، ومنهم عبد الله بن مسعود، مصاحف بعضها كامل وبعضها غير كامل، وهؤلاء جميعا رقباء عليه يحاسبونه أدق الحساب.
والرقابة الكبرى! رقابة صاحب القرآن من أوحاه إلى رسوله، أعظم من كل رقابة، وهي التي جعلت زيدا يشعر بأن نقل جبل من الجبال أيسر مما كلفه الخليفة إياه، وإيمان زيد بن ثابت بأن الله رقيب عليه في جمع كلامه جل شأنه هو الذي سما به ليقدر ما لهذا الأمر من جلال، وليبذل فيه كل جهد ويستهين بكل مشقة، وألا يدخر وسعا في جمع كل ما سطر القرآن فيه من الرقاع والأكتاف واللخاف
13
والعسب ومن صدور الرجال، وفي موازنة ذلك كله بعضه ببعض، وموازنته بما حفظ هو عن رسول الله في السنة الأخيرة من حياته، والوصول من الجمع إلى الغاية التي يبتغيها خليفة رسول الله والتي ترضي الله ورسوله، بذلك صار هذا المصحف المجموع إماما استراح إليه المسلمون، فلما أراد عثمان توحيد القراءات جعله إمامه.
ولست في حاجة إلى القول بأن زيدا لم يثبت القرآن في مصحفه على تاريخ نزوله بعد أن رتبت الآيات في السور بأمر رسول الله، فوضع ما نزل منها بالمدينة في السور المكية، إنما تتبع زيد السور كما رتبها رسول الله، ثم نسخها في الورق أو في الأديم، فلما تم له نسخها كانت عند أبي بكر، ثم عند عمر، ثم عند حفصة.
أية طريقة اتبع زيد في الجمع؟ تستطيع أن تقول في غير تردد إنه اتبع طريقة التحقيق العلمي المألوفة في عهدنا الحاضر، وقد اتبع هذه الطريقة بدقة دونها كل دقة، فقد طلب أبو بكر إلى كل من عنده من القرآن شيء مكتوب أن يجيء به إلى زيد، وإلى كل من يحفظ القرآن أن يدلي إليه بما يحفظه، واجتمع لزيد من الرقاع والعظام وجريد النخل ورقيق الحجارة وكل ما كتب أصحاب رسول الله القرآن عليه الشيء الكثير، عند ذلك جعل يرتبه ويوازنه ويستشهد عليه، ولا يثبت آية إلا إذا اطمأن إلى إثباتها كما أوحيت إلى رسول الله، روي أن عمر بن الخطاب قرأ: «والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار الذين اتبعوهم بإحسان»، برفع كلمة «الأنصار» ومن غير واو العطف بينها وبين «الذين»، فقال له زيد بن ثابت: «والذين اتبعوهم بإحسان»، واختلفا، فدعا عمر أبي بن كعب وسأله عن ذلك، فأقر قراءة زيد، وليزيل كل ريبة من نفس عمر قال: «والله، أقرأنيها رسول الله
صلى الله عليه وسلم
وأنت تبيع الحنطة.» فادكر عمر وقال: نعم! وتابع أبيا وأقر قراءة زيد، وكذلك كان يصنع زيد كلما خالفه من الصحابة أحد، وكلما وجد في المكتوب في الرقاع والعظام وغيرها خلافا، يستشهد ويستقصي، ولا يمنعه من ذلك أنه يحفظ القرآن، وأنه حضر قراءة رسول الله إياه قبيل وفاته، وهذا الخلاف على حرف الواو في الآية السابقة يدلك على مبلغ هذه الدقة، ويشهد بأن زيدا لم يضن بمجهود في القيام بالعمل العظيم الذي عهد فيه أبو بكر إليه.
وقد كانت هذه الدقة في جمع القرآن متصلة بإيمان زيد بالله، فالقرآن كلام الله جل شأنه، فكل تهاون في أمره أو إغفال للدقة في جمعه وزر ما كان أحرص زيدا في حسن إسلامه وجميل صحبته لرسول الله أن يتنزه عنه، ولقد شهد المنصفون من المستشرقين جميعا بهذه الدقة ، حتى ليقول سير وليم ميور: «الأرجح أن العالم كله ليس فيه كتاب غير القرآن ظل اثني عشر قرنا كاملا بنص هذا مبلغ صفائه ودقته.»
14
على أن زيدا لم يأخذ مع الدقة في جمع السور مرتبة الآيات بتنسيق السور في المصحف واحدة تلو الأخرى، وإنما كان التنسيق على النحو الذي نعرفه اليوم في عهد عثمان، وقد اختلف فيما كان منه في عهد النبي؛ قال بعضهم: إنه
صلى الله عليه وسلم
تركه لأمته، وقال بعض: بل ذكر الرسول نظام التتابع لبعض السور وترك بعضها، وقال غيرهم: بل ذكر نظامها جميعا، ذكر ابن وهب في جامعه قال: سمعت سليمان بن بلال يقول: سمعت ربيعة يسأل: لم قدمت البقرة وآل عمران وقد نزل قبلهما بضع وثمانون سورة، وإنما نزلتا بالمدينة؟ فقال ربيعة: «قد قدمتا وألف القرآن على علم ممن ألفه، وقد اجتمعوا على العلم بذلك، فهذا مما ننتهي إليه، ولا نسأل عنه.» وقال قوم من أهل العلم: إن تأليف سور القرآن على ما هو عليه في مصحفنا كان عن توقيف من النبي
صلى الله عليه وسلم ، وأما ما روي من اختلاف مصحف أبي وعلي وعبد الله، فإنما كان قبل العرض الأخير، وأن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
رتب لهم تأليف السور بعد أن لم يكن فعل ذلك.
15
يخالف بعضهم هذا الرأي، ويرى أن ترتيب السور لم يكن بتوقيف من رسول الله، ويحتج بأن علي بن أبي طالب لم يجمع مصحفه إلا بعد وفاته
صلى الله عليه وسلم ، وكذلك فعل عبد الله بن عباس، فلو أن رسول الله قد رتب السور لكان علي وابن عباس أجدر بأن يصنعا ذلك وأن يرتباها كما أمر رسول الله، ولم يرتب زيد بن ثابت السور حين جمع القرآن في عهد أبي بكر، فترتيب السور قد كان كله أو بعضه اجتهادا من الصحابة ولم يكن مما أمر به رسول الله.
16
والرأي بأنه
صلى الله عليه وسلم
لم يرتب السور كلها أو بعضها، ووكل أمر ذلك إلى الأمة بعده يأخذ به كثيرون.
17
روى ابن عباس أنه قال: «قلت لعثمان: ما حملكم على أن عمدتم إلى الأنفال وهي من المثاني وإلى براءة وهي من المئين، فقرنتم بينهما ولم تكتبوا بينهما سطر بسم الله الرحمن الرحيم، ووضعتموهما في السبع الطوال؟ فقال عثمان: كان رسول الله
صلى الله عليه وسلم
تنزل عليه السورة ذات العدد، فكان إذا نزل عليه شيء دعا بعض من كان يكتب فيقول: ضعوا هذه الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا، وكانت الأنفال من أوائل ما نزل بالمدينة، وكانت براءة من آخر القرآن نزولا، وكانت قصتها شبيهة بقصتها، فظننت أنها منها؛ فقبض رسول الله
صلى الله عليه وسلم
ولم يبين لنا أنها منها، فمن أجل ذلك قرنت بينهما ولم أكتب بينهما سطر بسم الله الرحمن الرحيم، ووضعتهما في السبع الطوال.»
لم يكن القول في ترتيب السور في المصحف مما يدخل في نطاق هذا الفصل، وإنما أدى إليه الاستطراد إيضاحا لقول القرطبي عن زيد بن ثابت وجمعه القرآن في عهد أبي بكر: «جمعه غير مرتب السور، بعد تعب شديد، رضي الله عنه.» أأتم زيد جمع القرآن في عهد أبي بكر أم استغرق عمله هذا زمنا من عهد عمر؟ ذلك أمر اختلف فيه، وقد رأينا في رواية البخاري أن الصحف التي جمع زيد فيها القرآن كانت عند أبي بكر حتى توفاه الله، ثم عند عمر حتى توفاه الله، ثم عند حفصة بنت عمر أم المؤمنين. وهذا القول يؤدي إلى أن الجمع تم في عهد أبي بكر، ويذهب بعض الرواة إلى أن الجمع استغرق زمنا في عهد عمر، وليس يتيسر القطع بأي الروايتين أصح، وإن أمكن التوفيق بينهما بأن زيدا أتم جانبا كبيرا من الجمع في عهد أبي بكر، وجعل صحف هذا الجانب عند الخليفة؛ وقبض الصديق فأخذ عمر ما كان عنده من هذه الصحف، فلما أتم زيد جمع ما بقي من القرآن وأضيفت صحفه إلى الصحف الأولى ثم كانت كلها عند عمر، وهذه الصحف هي التي كانت المصحف الإمام في عهد عثمان، وهي التي نتلوها اليوم، وسيتلوها من بعدنا من المسلمين وغير المسلمين حتى يوم الدين. «رحمة الله على أبي بكر! كان أعظم الناس أجرا في جمع المصاحف.» كذلك قال علي بن أبي طالب، وذلك ما يقوله كل مسلم. ولقد طالما سألت نفسي وأنا أكتب هذا الكتاب: أي أعمال الصديق أعظم: قضاؤه على الردة والمرتدين في بلاد العرب، أم فتحه العراق والشام وتمهيده بذلك للإمبراطورية الإسلامية العظيمة التي حملت عبء الحضارة الإنسانية قرونا متعاقبة، أم جمعه القرآن كتاب الله إلى رسوله محمد النبي الأمي هدى ورحمة للعالمين؟ طالما سألت نفسي وفكرت أتلمس الجواب، ولم أتردد قط في الإجابة، فجمع القرآن أعظم أعمال أبي بكر لا ريب، وأكثرها بركة على الإسلام والمسلمين والناس أجمعين، لقد اضمحلت جزيرة العرب وتقلصت منها أسباب القوة والحياة بعد عهد بني أمية، وقد تداعت الإمبراطورية الإسلامية وخضع المسلمون في أرجاء الأرض لغير المسلمين ولسلطان حكمهم، ولقد نسي الناس هذه الإمبراطورية وكادوا ينسون بلاد العرب، ولولا مناسك الحج لضمت شبه الجزيرة إلى مجاهل الأرض فلا يصل إليها إلا المستكشفون، أما كتاب الله الكريم فإنه خالد باق على الدهر، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من عزيز حكيم.
ولا يحسبن أحد أني بما أذكر من ذلك أهون من أمر حروب الردة أو من أمر الإمبراطورية الإسلامية، فكل من هذين الأمرين عظيم، وكل عمل منها كاف وحده ليخلد حياة من يقوم به، ولو أن أبا بكر وقف من خلافته عند القضاء على الردة لشهد الناس جميعا له بعظمة ما قام به وبجلاله، ولو أنه لم يصنع أكثر من وضع القواعد للإمبراطورية الإسلامية لأقروا كلهم له بالعظمة وخلود الذكر على صفحات الدهر، فإذا حفل عهده بهذين الأمرين البالغين كل هذا الجلال وكل هذه العظمة، ثم كان فيه جمع القرآن، وهو أبقى منهما جميعا وأعظم، فذلك الخلد الذي لا خلد بعده، والرضا من الله لا يؤتاه إلا الصديقون الذين سما إيمانهم فيسر الله لهم كل عظيم وهيأ لهم من أمرهم رشدا.
رحم الله أبا بكر، وأجزل له الأجر، إنه كان من عباده المخلصين.
الفصل السابع عشر
حكومة أبي بكر
لما بويع أبو بكر خاطبه رجل من المسلمين بقوله: «يا خليفة الله»، فلم يدعه أبو بكر يمضي في حديثه، بل قال له: «لست بخليفة الله ولكني خليفة رسول الله.»
هذه عبارة أوردها المؤرخون حجة على تواضع أبي بكر وصدق تقديره، وهي في رأيي تستوقف النظر لمعنى أعمق في دلالته من هذا المعنى المتصل بشخص أبي بكر وخلقه؛ ذلك ما فيها من قوة الإبانة عن تصور المسلمين الأولين لفكرة الحكم، فقد خلت قرون قبل عهد رسول الله، وتعاقبت قرون بعده، قام أثناءها في كثير من الأمم ملوك وحكام زعم دعاتهم وزعموا لأنفسهم أنهم خلفاء الله على الأرض، وأن لهم بذلك قدسية ليست لغيرهم من الناس، كذلك كان الأمر في مصر أيام الفراعنة الأولين، ومن هؤلاء الفراعنة من كان يقول لقومه: «أنا ربكم الأعلى.» وكان سواد المصريين في ذلك العهد يؤمنون بما لملوكهم من صفات الربوبية، ثم تزيدهم دعايات الكهنة إيمانا بهذه الصفات، وكذلك كان الأمر في آشور وإيران والهند وغيرها من الأمم التي عاصرت الفراعنة، وكان أكثر الملوك تواضعا في ذلك العهد أولئك الذين يرون أنفسهم خلفاء الله على الأرض.
ولقد قام في عصور أوربا الوسطى دعاة من العلماء زعموا للملوك حقا مقدسا مستمدا من الله يجعل لهم على الناس سلطانا لا يعرف حدا، وعدوهم لذلك خلفاءه جل شأنه، فكانت كلمتهم منزلة كالوحي، وكان حكمهم كحكم الله لا مرد له، وظلت هذه الآراء مقبولة في أوربا إلى القرن الخامس عشر الميلادي، وإلى القرن السابع عشر في بعض الأمم، ولم تستطع الشعوب أن تتغلب عليها، مع انتشار العلم وتقدم الحضارة، إلا بالثورات العنيفة، ذهبت فيها الألوف وعشرات الألوف من الأرواح ضحايا للمبادئ التي ثارت لها، مبادئ الحرية والإخاء والمساواة بين الناس.
هذه المبادئ التي سادت العالم دهرا طويلا، والتي كانت تسود أوربا إلى عهد قريب منا، هي التي أنكرها أبو بكر بقوله: «لست خليفة الله ولكني خليفة رسول الله.»
ولم يرد أبو بكر بأنه خليفة رسول الله إلا أنه خلفه
صلى الله عليه وسلم
قيادة المسلمين وسياسة أمورهم في حدود ما أمر الله به وما نهى عنه، أما ما اختص الله به رسوله فيما وراء ذلك فلم يدر بخاطر الصديق أنه خليفته فيه، وكيف يدور ذلك بخاطره ورسول الله خاتم الأنبياء والمرسلين، لا يخلفه في نبوته أحد، ولا في رسالته أحد!! اصطفاه الله وأنزل عليه الكتاب بالحق فأكمل للمؤمنين دينهم وأتم عليهم نعمته، وهذا ما خطب به أبو بكر إثر بيعته إذ قال: «إني وليت هذا الأمر وأنا له كاره، ووالله لوددت أن بعضهم كفانيه، ألا وإنكم إن كلفتموني أن أعمل فيكم بمثل عمل رسول الله
صلى الله عليه وسلم
لم أقم به، كان رسول الله
صلى الله عليه وسلم
عبدا أكرمه الله بالوحي وعصمه به، ألا وإنما أنا بشر ولست بخير من أحد منكم، فراعوني، فإن رأيتموني استقمت فاتبعوني، وإن رأيتموني زغت فقوموني.» وقد رأيت أبا بكر كيف قاتل الذين ادعوا النبوة، والذين ارتدوا عن دين الله وعن الإيمان به وبرسوله، وكيف كان صلبا في حرب هؤلاء جميعا، حتى ردهم إلى الهدى ودين الحق.
ولقد تولى أبو بكر قيادة المسلمين وسياسة أمورهم بعد رسول الله باختيار المسلمين ورضاهم، لم يبعثه الله خليفة عليهم كما بعث محمدا رسولا إليهم، ولم يجعل له فضلا على أحد منهم إلا بالتقوى، وهو لم يكن يرى لنفسه حقا في حكم المسلمين إلا في حدود كتاب الله وسنة رسوله، وذلك قوله (رضي الله عنه) حين خطب الناس يوم بيعته: «أطيعوني ما أطعت الله فيكم، فإن عصيته فلا طاعة لي عليكم.»
ولقد خلف عمر بن الخطاب أبا بكر، فلم يتخذ لنفسه لقب خليفة رسول الله، بل طلب إلى الناس فلقبوه: أمير المؤمنين، ذلك أنه أراد اتقاء التكرار في تلقيبه خليفة رسول الله، وهو تكرار يطول إلى غير حد بتعاقب الخلفاء ، فلو أنه لقب خليفة خليفة رسول الله للقب عثمان من بعده خليفة خليفة خليفة رسول الله، ولكان علي بن أبي طالب خليفة خليفة خليفة خليفة رسول الله.
واتخاذ عمر لقب أمير المؤمنين اتقاء لهذا التكرار يجعل عبارة أبي بكر: لست خليفة الله ولكني خليفة رسول الله، أكثر قوة في دلالتها وإبانة عن المعنى الذي قصده الصديق منها، ويشهد بأنه قصد معناها اللغوي من حيث تعاقب الزمن، فهو الرجل الذي خلف رسول الله على سياسة المسلمين بعد وفاته، ولو أن لقب الخليفة أريد به يومئذ غير هذا المعنى اللغوي للقب عمر كما لقب أبو بكر خليفة رسول الله، ولما اقتضى الأمر تغيير هذا اللقب بلقب أمير المؤمنين.
ولعل سببا آخر دعا عمر ليتخذ إمارة المؤمنين لقبا له، ذلك أنه رأى نظام الحكم تطور في بلاد العرب وفي البلاد التي تم فتحها في عهد أبي بكر، مع بقاء هذا الحكم في حدود ما أمر الله به وما نهى عنه، وكان هذا التطور سريعا في شبه الجزيرة وفيما وراءها سرعة أذهلت العالم وأدهشت المؤرخين، ولم يكن في كتاب الله ولا في سنة رسوله تفصيل لنظام الحكم كيف يكون، وإن جعل الكتاب الشورى أساس الحكم، فقال تعالى مخاطبا نبيه:
وشاورهم في الأمر
وقال:
وأمرهم شورى بينهم ، فلم يكن لعمر بد من أن ينظر في تفصيل هذا النظام بما يتفق واتساع رقعة الفتح، وما يكفل طمأنينة المحكومين، شأنه في ذلك شأن أمير الجيوش إذ يصفها وينظم تعبئتها بما يقضي به تطور المعارك وما يقتضيه موقف جنوده وموقف خصومه، غير مقيد برأي سلف ما دام في طاعة الله متأسيا برسوله.
وأنت إذا رجعت البصر إلى هذا التطور السريع ازددت إعجابا بأبي بكر وبمقدرته على مواجهته في لين ومرونة كانا مصدر قوته والسبب في نجاح سياسته، كانت بلاد العرب إلى عهد الرسول موزعة بين حياة الحضر وحياة البادية، مقسمة بين شتى الأديان، يكاد شمالها وجنوبها لا يتعارفان، كانت اليمن خاضعة لسلطان فارس، تتجاور فيها المسيحية واليهودية وعبادة الأصنام، وتتكلم لغة حمير التي تختلف في لهجتها عن لغة قريش كافة، وعن لغة مضر خاصة، ثم إن اليمن كانت مستقر حضارة تعاقبت على الأجيال، أما الحجاز فكان أدنى إلى البداوة، وكانت مدنه، مكة ويثرب والطائف، تستقل كل واحدة بنفسها وبنظامها، كاستقلال كل قبيلة بنفسها وبنظامها، ولا يحول هذا الاستقلال دون تجاور اليهودية والوثنية بيثرب، ولا دون تجاور النصرانية والوثنية بمكة، فلما انتشرت دعوة النبي العربي إلى التوحيد في أرجاء شبه الجزيرة، وأذن الله لدينه القيم أن يعم ربوعها، خلعت اليمن نير الفرس، وبقيت مستقلة بنفسها وبنظامها كما كانت من قبل؛ وكذلك بقيت سائر مدن الحجاز وقبائله مع إسلامها لله وللدين الذي أوحاه إلى رسوله، بذلك أصبحت بلاد العرب أشبه بعصبة أمم عربية تجمع بينها عقيدة واحدة، تدين كلها برسالة محمد وتؤمن بتعاليمه، ثم لا تنزل من استقلالها عن شيء إلا إيتاء الزكاة أداء لفرض الله وقياما بركن من أركان دينه الذي آمنت به.
على أن هذه الوحدة الدينية كانت بدء تطور في نظام البلاد السياسي لم يلق العرب بالهم إليه، لقد تحالفت القبائل والمدن على أن تدفع عن حرية العقيدة وتقاتل المشركين الذين يصدون عن سبيل الله، فلما سار جيش المدينة تحت راية الرسول ليغزو مكة بعثت القبائل من سليم ومزينة وغطفان وغيرها من انضم إلى المهاجرين والأنصار لفتح البلد الحرام، وفتحت مكة أبوابها وأسلم أهلها، فسار أبناؤها مع جيش الرسول إلى حنين والطائف. ثم إن رسول الله كان يبعث عماله إلى البلاد التي تدين بالإسلام ليعلموا الناس القرآن ويفقهوهم في الدين، وهؤلاء العمال هم الذين كانوا ينظمون الزكاة وتحصيلها فيرسلونها إلى المدينة أو يوزعونها بين الفقراء من أهل البلاد التي دخلت في دين الله، طبيعي أن يحدث ما صحب الانقلاب الديني من هذه الأحداث تطورا في النظام السياسي يميل ببلاد العرب إلى وحدة لم تألفها من قبل، لكن أهل هذه البلاد في اليمن وفي غير اليمن لم يقدروا لهذا التطور، ولم يدر بخلد أحد منهم أن يكون له بعد رسول الله أثر، بل كان ظنهم أن هذه التعاليم التي يذيعها رسول الله بينهم ستصبح أصيلة فيهم، ثم يعودون إلى حالهم السياسية الأولى، وتظل كل أمة وكل قبيلة منهم مستقلة بنفسها وبنظامها كما كانت من قبل.
وهذا هو السبب في ثورة تلك البلاد إثر وفاة الرسول، وفيما ترتب على ذلك من حروب الردة، فقد أراد أبو بكر أن تظل هذه البلاد كما كانت في عهد الرسول، وأرادت هذه البلاد أن تسترد حريتها السياسية كاملة، وكان لأبي بكر من إيمانه بالله ورسوله أبلغ العذر عن الإصرار على أن يؤدي من أسلم كل ما فرض الله مما كان يؤدي لرسول الله، وكانت هذه البلاد ترى لنفسها حقا في الاستقلال وتقرير المصير كحق أهل المدينة، وتأبى لذلك أن يفرض المهاجرون والأنصار رأيهم عليها بعد أن لم يبق بينهم رسول الله يوحى إليه فيؤمن الناس بكلمته؛ لأنها كلمة الله جل شأنه.
وما حدث من بيعة أبي بكر بالمدينة جدير بأن يقف نظرنا كما وقف نظر العرب في ذلك العهد، فما بال المهاجرين والأنصار قد استأثروا باختيار الخليفة دون سائر العرب؟! وما دلالة ذلك في تطور النظام السياسي يومئذ؟ أتراهم استأثروا باختيار أبي بكر؛ لأنهم رأوا في سبقهم إلى الإسلام وفي تقدمهم الصفوف للدفاع عنه ما يجعلهم أصحاب الأمر في شئون العرب، وما يقدمهم في ولاية السلطان عليهم؟! لعلك تذكر اعتراض عمر بن الخطاب على أبي بكر حين أرسل أهل مكة يشاورهم في فتح الشام ويستمدهم إليه، بعد أن قاتل أهل مكة المرتدين كما قاتلهم المهاجرون والأنصار، ثم لعلك تذكر كلمة سهيل بن عمرو لعمر في هذا المقام وإجابة عمر إياه، فقد قال سهيل: «ألسنا إخوانكم في الإسلام وبني أبيكم في النسب! أفئنكم أن كان الله قدم لكم في هذا الأمر قدما صالحا لم نؤت مثله قاطعو أرحامنا ومستهينون بحقنا!» وكان جواب عمر: «إني والله ما قلت ما بلغكم إلا نصيحة لمن سبقكم بالإسلام وتحريا للعدل فيما بينكم وبين من هو أفضل منكم من المسلمين.» فإن يكن ذلك رأي عمر ومن وافقه في أمر مكة وأهلها فما أحراه أن يكون رأيهم في أمر سائر العرب! أما كلمة سهيل فصريحة في إنكار رأي عمر، وفي تمسك أهل مكة بما لهم من حق في المشورة يعدل ما لأهل المدينة فيها.
هذا الحوار واضح الدلالة في تصوير العوامل التي كانت تتجاذب لتكيف النظام السياسي في الدولة الناشئة، فلئن قضت ضرورة المحافظة على كيان الدولة أن يسارع المهاجرون والأنصار بالمدينة إلى اختيار الخليفة ومبايعته، لقد انقضت هذه الضرورة أول ما تمت بيعة أبي بكر واطمأن المسلمون لها، ولقد أقامت مكة والطائف على الإسلام وشاركتا في حروب الردة، وصار لهما بذلك من حق الرأي في الحكم ما لأهل المدينة، أفيكون سبق المهاجرين والأنصار إلى الإسلام سببا في تقدمهم على جميع المسلمين ومسوغا لاستئثارهم بالأمر على العرب كلهم؟ ذلك ما رآه ابن الخطاب، مستندا إلى ما دار في سقيفة بني ساعدة من حوار بين المهاجرين والأنصار، أما أهل مكة فبرموا به، وأنكره باسمهم عكرمة بن أبي جهل وسهيل بن عمرو.
لم يذهب أبو بكر في هذا الأمر إلى المدى الذي ذهب إليه عمر، مع أنه في سقيفة بني ساعدة، هو الذي أيد بحجته البالغة حق المهاجرين في الإمارة لسبقهم الأنصار إلى الإسلام واحتمالهم الأذى في سبيله، ذلك أنه رأى سائر الذين أقاموا على إسلامهم من غير أهل المدينة قد شاركوا في حروب الردة، وذهب منهم من ذهب لغزو العراق؛ فمن العدل أن يكون لهم ما لأهل المدينة من حق في الرأي والمشورة، لهذا دعا أهل مكة يشاورهم في غزو الشام ويستمدهم إليه، كما أنه سوى في قيمة الذهب الذي كان يجيء من المنجم الذي فتح على مقربة من المدينة في عهده بين المسلمين، فلما قيل له في تفضيل السابقين إلى الإسلام كان جوابه: «إنما أسلموا لله ووجب أجرهم عليه، يوفيهم ذلك في الآخرة؛ وإنما هذه الدنيا بلاغ.» وبهذا التصرف الحكيم مهد للتطور السياسي في البلاد في لين ومرونة.
وقد تجدد الخلاف على هذا الرأي في عهد عمر فأصر على رأيه الأول فيه، مخالفا مذهب الصديق وسياسته، ثم إنه حاول في آخر عهده أن يعود إلى رأي سلفه فعاجلته المنية دون أن يتم ما عزم.
أدت سياسة الصديق إلى تطور العرب نحو الوحدة السياسية، وجعلتهم ينظرون إلى المدينة على أنها عاصمة دولتهم ومصدر سياستهم، لذلك اتجهت أنظارهم إليها فانضووا تحت سلطانها واستظلوا برايتها.
ما لون هذا السلطان؟ أكان ثيقراطيا (دينيا)، أم أرستقراطيا (حكم الخاصة)، أم ديمقراطيا (حكم الشعب)؟
1
لقد رأينا أنه لم يكن من نوع السلطان الديني الذي عرفته مصر الفراعنة، ولا الذي عرفته عصور أوربا الوسطى، لم يكن أبو بكر يستمد سلطة الحكم من الله، بل من الذين بايعوه، وقد انقضى نزول الوحي منذ اختار الله رسوله إليه، وبقي كتاب الله بين المسلمين هدى لهم جميعا، وحجة عليهم جميعا؛ فهو ميثاقهم الذي آمنوا به وارتضوه، وهو دستور الحكم، يسير الحاكم في حدوده لا يتعداه، فإن فعل وجبت طاعته، وإلا فلا طاعة له على مسلم.
هذه الصورة الدقيقة للحكم الإسلامي تنأى به عن الفكرة الثيقراطية، فهو كما ترى حكم مقيد لا سبيل للقائم به إلى السلطان المطلق، وفي طبيعة الحكم الثيقراطي أن يكون مطلقا لا يعرف قيدا إلا هوى الحاكم وحرصه على الاحتفاظ بسلطانه، وهذا الحرص هو مصدر الزعم بأن إرادة هذا الحاكم الثيقراطي من إرادة الله، وأنها لذلك هي القانون، بل هي فوق القانون؛ بيد صاحبها كل شيء: بيده العذاب والرحمة، والشقاء والنعمة، والحياة والموت، شتان ما بين هذا وبين تقيد الحاكم بمشاورة، وبما أنزل الله في كتابه.
ويذهب قوم إلى أن التقيد بما أنزل الله في كتابه يهدر إرادة الشعب ويقضي عليها، ويحول دون تطور التشريع مع تطورها، وأنه يجعل الحكومة الإسلامية ثيقراطية في أسها وجوهرها، وهذا اعتراض لا مسوغ له، فما ورد في القرآن من التشريع لا يعدو المبادئ العامة التي تقررها قواعد العدل مصورة في مثلها الأعلى، أما ما جاء فيه من تفصيل لبعض هذه المبادئ العامة فإنما يتناول أمورا بذاتها محصورة العدد ، والمبادئ العامة التي قررها القرآن ضرورية لحياة الجماعة الحرة، فالخروج عليها يفسد هذه الحياة، وقد ثبت على التاريخ أن ما يخالف هذه المبادئ قد استحال قيامه في البلاد التي تلائم بين حرية الفرد ونظام الجماعة، والتي تقر لذلك نظام الأسرة والملك والميراث، ثم تفرض قدرا من الاشتراكية يقتضيه تضامن الجماعة، وتدعو إليه مبادئ الرحمة الإنسانية التي تعد في الإسلام قاعدة مقررة لا كمالا نفسيا وكفى.
ولو أن تحديد ما جاء في كتاب الله ترك لطائفة خصت به، كما خصت طائفة الكهنة في بعض الأديان بإعلان إرادة الله، لكان للخوف من إهدار إرادة الشعب موضع، أما والإسلام يأبى هذا التخصيص ويجعل الناس سواء في الحرص على إدراك ما أمر الله به وما نهى عنه، وفي محاسبة الحاكم على تصرفاته، فالفكرة الثيقراطية في الحكم الإسلامي منتفية لا وجود لها على الإطلاق.
وهذا الحكم الإسلامي المقيد خاضع لرقابة المسلمين جميعا، لكل فرد منهم أن يحاسب القائم به، وليس لطائفة أن تستأثر لنفسها من أمور الحكم بما تمتاز به على غيرها من الطوائف، وقد رأيت في تصرف أبي بكر شدة الحرص على التقيد بكتاب الله والتأسي برسوله في التنزه عن كل مطامع الدنيا، ثقة منه بأن من ساس أمور الناس فأفاد لنفسه منها، كان ظالما لنفسه وللناس.
ولقد بلغ أبو بكر من هذا التنزه حدا يحسبه أهل جيلنا ممعنا في المبالغة، لم تغير الخلافة ولا غيرت الإمارة على المؤمنين من حياته، ولم تنتقل به من داره إلى دار غيرها، وقد نسي منذ تولي أمور المسلمين نفسه ونسي أهله وأبناءه، وتجرد لله تجردا مطلقا، وأوجب على نفسه أن يشعر بضعف الضعيف وحاجة المحتاج، تحقيقا لمعنى الإخاء في أسمى صوره، وإيذانا بأنه ليس له في الحياة هوى، وأنه يقدر لذلك على أن يقيم بين الناس عدلا منزها لا يعرف محاباة، وإنما يعرف حدود الله في أن يعيش الناس جميعا في ظل عدله، جل شأنه، آمنين مطمئنين.
حكومة ذلك شأنها، لم تعرف السلطان المطلق ولم يكن للكهنة وجود فيها، لا يمكن أن تكون ثيقراطية اللون، وهي لم تكن أرستقراطية، ولم يكن استئثار المهاجرين والأنصار باختيار الخليفة من الأرستقراطية في شيء، فقد كان هؤلاء رجالا من طبقات شتى، وهم إنما استأثروا بالأمر صونا للنظام القائم ودفاعا عنه، ثم إنهم كانوا طبقة مؤقتة تزول بزوال أفرادها، لا يرثها أحد، ولا تقوم مقامها طبقة أخرى، بل لقد نازعهم أهل مكة السبق كما رأيت، وولاية بني أمية ثم بني العباس أمر المسلمين من بعد شاهد قوي على أن الفكرة الأرستقراطية لم يكن لها بين المسلمين الأولين وجود.
وإنما كانت حكومة أبي بكر حكومة شورى في منشئها وفي نزعتها، بويع الصديق بالانتخاب العام، وبويع لصفاته الذاتية ولمكانته من رسول الله، لا لأسرته ولا لعصبية قبيلته، ولم يطلب أبو بكر البيعة لنفسه، بل كان يرشح عمر بن الخطاب وأبا عبيدة بن الجراح ليبايع المسلمون أيهما شاءوا، وكان يرشحهما والأنصار ينازعون المهاجرين الأمر ويتهمونهم بأنهم يريدون غصبه منهم، ولقد تم ذلك كله في اجتماع عام، هو اجتماع السقيفة، ألقيت فيه الخطب، وكانت فيه المداورات الانتخابية أبرع ما تكون، فلما أقبل الناس على البيعة لم يكن المهاجرون أسبق إليها من الأنصار، وكان عمر وأبو عبيدة أول من مهد لها ثم أتمها.
هذه بيعة أنشأها الشورى؛ فليس انتخاب رئيس الجمهورية في فرنسا، بل في أمريكا، بأكثر حرية منها، فلما تولى أبو بكر الحكم كانت أول خطبة له موطدة أسس الشورى مثبتة قواعدها، ألم يقل للناس إثر بيعته العامة: «لقد وليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني»؟ أولم يقل لهم: «أطيعوني ما أطعت الله ورسول فإن عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم»؟ هذا إقرار صريح بحق الرأي العام في مراقبته وإرشاده، وبحق الناس في العصيان إذا عصى الخليفة الله وصدف عن أمره، والنتيجة المنطقية لتقرير مبدأ العصيان هي الإقرار للعصاة بحقهم في عزل من عصوه، ولا نحسب معنى أبلغ في تقرير مبادئ الشورى من هذا المعنى.
ومع أن الحرب امتدت طيلة عهد أبي بكر كما رأيت، لقد قام حكمه على الشورى في الجليل والصغير من شئونه، فهو لم يكن يبت في أمر قبل أن يشاور الناس فيه، ولم يكن يميز طائفة من الناس على طائفة في القضاء أو في العطاء، وهو لم يعرف من أبهة الملك ومن جاه السلطان ما عرف أهل الملك والسلطان في أمم العالم جميعها، وكان المسلمون أمامه سواء، وللذين يدخلون في الإسلام من غير أهله ما للمسلمين وعليهم ما عليهم، وإنما أبى الصديق على الذين ارتدوا ثم عادوا إلى الإسلام أن يشتركوا في قتال الفرس؛ لأنه حرص على أمن الدولة وسلامتها؛ فلما زالت مخاوفه أوصى عمر أن يمد المثنى بهم في حروب العراق.
بذلك مهد أبو بكر للتطور الذي أشرنا إليه في نظام الحكم، وهيأ الأسباب لوحدة بلاد العرب السياسية بعد أن تمت لها وحدتها الدينية، وكانت مرونة أبي بكر وكان حكمه من أقوى العوامل في التمهيد لهذه الوحدة السياسية، وقد رأيته كيف عفا عن زعماء الثائرين باليمن وغير اليمن من البلاد التي ارتدت في سبيل استقلالها؛ عفا عن قرة بين هبيرة، وعن عمرو بن معدي كرب، وعن الأشعث بن قيس، وعن غيرهم من سادات العرب، فكان عفوه عنهم بعد الذي أبداه من الحزم والشدة مع غيرهم داعيا لهم ولأقوامهم أن يرتبطوا بالمدينة في وحدة لا تنفصم عراها، وزادت الشورى التي أقام عليها أبو بكر حكمه هذه الوحدة قوة، وزاد فتح العراق وفتح الشام جميع العرب عليها حرصا.
وكان طبيعيا أن يقوم الحكم في ذلك العهد على أساس الشورى، فقد نشأ الإسلام في بلاد العرب، وكان كتابه عربيا، وكان رسول الله به عربيا، وكانت بلاد العرب تعيش يومئذ في نظام بلغت الحرية فيه أقصى مداها، ذلك أن الحرية كانت أعز شيء على العربي، بدويا كان أو حضريا، وفكرة المساواة متأصلة في النفس البدوية، كذلك كانت ولن تزال، وقد زادت تعاليم الإسلام هذه الفكرة قوة إذ سمت بها إلى المساواة التامة أمام الخالق البارئ المعز المذل، لا يتفاضل الناس أمامه جل شأنه إلا بأعمالهم، ولا فضل لعربي على أعجمي منهم إلا بالتقوى، فأما الإخاء الذي يتم مع الحرية والمساواة شعار الحكم الشعبي في عصرنا، فقد بلغ به الإسلام مبلغا ما أشده وضوحا في قول رسول الله: «لا يكمل إيمان أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه.» لا غرو، وهذه تعاليم الإسلام التي نشرها رسول الله بين الناس والتي تتفق مع أكرم ما في النفس العربية من سجايا، أن تتوطد الوحدة العربية حول هذا النظام الذي ثبت أبو بكر قواعده، وأن تؤدي سرعة التطور إلى تماسك هذه الوحدة وإلى استقرارها.
وقد امتدت حكومة أبي بكر إلى ما وراء بلاد العرب، ومهدت للإمبراطورية الإسلامية المترامية الأطراف، أفكان ذلك مصادفة محضة تضافرت العوامل على نجاحها، أم إن التطور الذي صورناه وأدى الإسلام الناشئ إليه قد حتم هذا الفتح، وبلغ به مداه حين بلغت الإمبراطورية الإسلامية مداها؟
لا أتردد في القول بأن هذا التطور كان محتوما؛ لأن تعاليم الإسلام تنطوي بطبيعتها عليه، فالإسلام في جوهره إمبراطوري، كما أنه في جوهره شعبي، وإن اختلفت الفكرة الإمبراطورية فيه عن الفكرة الإمبراطورية في عهدنا الحاضر في أسسها وفي غاياتها.
ويرجع الخلاف إلى أن الإسلام يدعو إلى حرية العقيدة، ويفرض على المؤمنين به أن يدافعوا عنها بأموالهم وأنفسهم، وهو إذ يدعو إلى هذه الحرية في العقيدة لا يفرض على الناس أن يدينوا به على كره منهم، فلا إكراه في الدين، وإنما يريد لكل إنسان حرية النظر والتقدير حتى يستمع إلى القول فيتبع أحسنه، وهو مطمئن إلى أن الناس متى عرفوا تعاليمه اتبعوه؛ لأنه يدعو إلى ما يرضاه العقل وما يتفق مع الفطرة السليمة في الإنسان.
وحرية العقيدة كانت ولا تزال في حاجة إلى الدفاع عنها وإلى الاستشهاد في سبيلها، فالظالمون لا يطيقونها، بل يمقتونها أشد المقت، والذين يريدون أن يستغلوا الشعوب يزينون للشعوب أسوأ ما في عقائدهم وأشده فسادا؛ وهم لذلك لد في خصومة الأحرار المصلحين، أما والإسلام يريد الإصلاح ما استطاع ، يقيمه على أساس من الرأي الحر يقتنع به صاحبه فيؤمن به، وللناس بعد ذلك أن يكيفوا مصالحهم في هذه الحياة كما يرون؛ لأنهم أعلم بأمور دنياهم، فالفكرة الإمبراطورية في الإسلام إنسانية روحية، غايتها الأولى تحرير العقل إلى حيث يسمو على كل ضغط وكل اضطهاد.
والحجة القاطعة على ذلك أن المسلمين لم يفرضوا دينهم على البلاد التي فتحوها، ولم يكرهوا الناس يوما حتى يكونوا مؤمنين، بل إنهم كانوا إذا فتحوا بلادا أباحوا لأهلها حرية العقيدة، فمن أسلم فله ما للمسلمين وعليه ما عليهم، ومن آثر دينا غير الإسلام أدى الجزية، ولم تكن الجزية مغرما يفرض أية ذلة أو خضوع، وإنما كانت تقابل الزكاة المفروضة بحكم الدين على المسلمين، لإقامة نظام الدولة وللدفاع عن كيانها، ولقد رأيت فيما عقده المسلمون من معاهدات الصلح مع أهل العراق وأهل الشام أن الجزية كانت تؤدى لقاء دفاع المسلمين عن أموال من لم يسلموا، وعن حريتهم في عقيدتهم وإقامة شعائر دينهم، ولذلك كانت هذه المعاهدات تنص على حماية بيعهم، وكنائسهم، ومعابدهم، وأحبارهم، ورهبانهم، فإذا لم يقم المسلمون بالتزاماتهم المفروضة في الصلح أعفي غير المسلمين من دفع الجزية بحكم العهود وبنصها الصريح.
إمبراطورية تقوم على هذه الأسس تختلف أغراضها عن الأغراض الإمبراطورية كما فهمها الرومان، وكما نفهمها في العصر الحاضر، اختلافا جوهريا، فهي لا تجعل خضوع الناس للعرب أو لشعب بذاته غايتها، وإنما غايتها الأولى أن يعيش الناس أحرارا، وأن تربط بينهم أواصر الرحمة والمودة والعدل، وأن يكون للأمم المفتوحة من ذلك ما للأمة الفاتحة، وكما يقوم الحكم في مهد الإسلام على أساس الشورى، يجب أن يقوم في كل أمة فتحها المسلمون على أساس الشورى، وأهل هذه الأمم يتمتعون بالحقوق التي يتمتع بها العرب؛ من أسلم فله ما للعرب المسلمين وعليه ما عليهم، ومن لم يسلم فله ما للعرب غير المسلمين؛ وعليه ما عليهم، فالذين احتفظوا بنصرانيتهم من أهل العراق أو من أهل الشام، مثلهم كمثل الذين احتفظوا بنصرانيتهم في نجران وفي غير نجران من بلاد العرب ، وإنما يربط بين هذه البلاد التي تدين بالإسلام رباط واحد، ذلك رباط التوحيد والدعوة إليه والدفاع عن حرية هذه الدعوة، أما فيما وراء ذلك فأمر البلاد التي تؤلف الإمبراطورية الإسلامية كأمر بلاد العرب في عهد الرسول؛ عصبة أمم تسعى لغرض إنساني بالغ غاية السمو، تجاهد في سبيله، وتعمل لإعلاء كلمته، وسبيلها إلى هذه الغاية الحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي أحسن،
فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها وما أنا عليكم بوكيل (يونس: 108).
لم ينفسح الأمد لأبي بكر كي يقيم على هذا الأساس نظاما للحكم في البلاد التي فتحها المسلمون في عهده، وقد ترك خالد بن الوليد لأهل المدن المفتوحة في العراق أن يتولوا إدارتها، في حين احتفظ المسلمون بسياسة الدولة وتوجيه شئونها العامة، ولم يكن ذلك تنظيما للحكم، وإنما كان ضرورة قضت بها الخطط الحربية في وقت كان القتال ناشبا فيه بين المسلمين والفرس، فكان الأمر فيه للقيادة العسكرية.
وكان شأن الشام حين الفتح كشأن العراق، ولقد كان الحكم على أساس الشورى جديدا بين الشعوب التي فتحها المسلمون، كما كان الإسلام جديدا بين الأديان التي أحاطت بشبه الجزيرة من كل جانب، وإنما كان حكم الفرد مطلقا في هذا العهد، وكان الرهبان والكهنة وسائر رجال الدين يؤيدون هذا الحكم المطلق، ويخلعون على أصحابه قدسية رهيبة تنخلع القلوب من هيبتها، ويخر الناس سجدا أمامها، لذلك لم يلبث الناس حين رأوا هذا الحكم الجديد قائما على الإنصاف والعدل، متحريا إرادة الشعب في حدود ما أمر الله به وما نهى عنه، أن أقبلوا عليه ورحبوا بأهله؛ فكان إقبالهم سببا من أسباب النصر الذي أفاءه الله على المسلمين، فمد إمبراطوريتهم في سنوات محدودة لتحل محل الإمبراطوريتين الرومية والفارسية، ولتتخطى حدودهما إلى الهند شرقا وإلى شمال إفريقية غربا، فتنشر حيثما ذهبت لواء الحق والعدل والإيمان الصادق، وتقر مبادئ الحرية والإخاء والمساواة في أسمى صورها وأجدرها بالإنسانية الطامحة إلى الكمال.
لم ينفسح الأمد لأبي بكر كي يقيم نظاما للحكم في البلاد التي فتحها المسلمون لعهده، ولم ينفسح له الأمد كذلك كي يقيم نظاما ثابتا للحكم في بلاد العرب نفسها، وكل ما تلوته في هذا الكتاب من خطب الخليفة الأول، ومن تصرفاته في إقامة عمر بن الخطاب على القضاء، وعثمان بن عفان وزيد بن ثابت على الرسائل، يشهد بأن الفكرة الإسلامية في نظام الحكم كانت إلى يومئذ في طور الاستجنان، واضحة الأساس في كتاب الله وفي سنة رسوله، مبهمة التفاصيل فلا يستطيع أحد أن يذكر عنها ما يستطيع أن يذكره عن الحكومة الإسلامية في العهد الأموي أو في العهد العباسي، بل في عهد عمر وفي عهد عثمان، وذلك طبيعي في حكومة ألقت الأقدار عليها أن تكون حكومة انتقال من عهد إلى عهد جديد يختلف عن سابقه كل الاختلاف في لون الحضارة، وفي العقيدة، وفي طرائق التفكير وفي كل ما يتصل بنظم الحياة.
وهو طبيعي كذلك في عهد نضال وحرب، حكومته أدنى إلى الحكومة العسكرية منها إلى الحكومة المدنية، فالنظم المدنية تتقلص حين الحرب وتكاد تتفانى أمام النظم العسكرية، وذلك في البلاد التي استوت النظم المدنية فيها أمدا طويلا وأجيالا متعاقبة، ما بالك وبلاد العرب لم يستقر فيها نظام مدني ثابت موحد قبل الإسلام! لا جرم في هذه الحال أن تطغى نظم الحرب والجهاد متسلطة على كل النظم، وأن تتأثر الحياة المدنية بتطورات الحرب أبلغ التأثر.
فإذا ذكرت أن هذه الحرب كانت حربا أهلية في العام الأول من حكم أبي بكر، وأنها كانت قائمة من أجل الحكم ونظامه، ثم ذكرت أن مواجهة الفرس في العراق بدأت والحرب الأهلية ما تزال قائمة، وأن مواجهة الروم في الشام كانت وحرب العراق في أدق أدوراها، أيقنت أن التفكير في تنظيم حكم مستقر واضح التفاصيل لم يكن أمرا ميسورا، وأن أبا بكر كان في شغل بمواجهة الأسدين فارس والروم عن كل أمر سوى ما يحقق للمسلمين اجتماع الكلمة فيما بينهم والظفر بعدو الله وعدوهم.
وكان نظام هذه الحكومة العسكرية أدنى إلى البداوة التي سادت بلاد العرب وقبائلها من قبل عهد الرسول. لم يكن هناك جيش نظامي، بل كانت الفروسية تجعل من كل عربي جنديا، فإذا دقت طبول الحرب، ونادى المنادي للقتال خرجت القبائل والقرى وعلى رأس كل جماعة زعيمها، وقد رأيت كيف خرج العرب من أهل الجنوب حين دعوا لقتال الروم في الشام ومعهم نساؤهم وأبناؤهم، ومعهم ميرتهم وذخيرتهم، لا يكلفون الحكومة المركزية شيئا، ويعتمدون في معاشهم على ما يغنمون في الحرب.
فقد كانوا ينفلون أربعة أخماس الغنائم حين الحرب، ويرسل الخمس إلى الخليفة ليرده على بيت المال، ولينظم به الشئون العامة القليلة التي يتولاها بصورة مباشرة، وكانت رعاية الفقراء من أهل المدينة ومن الوافدين عليها في مقدمة ما ينفق الخليفة هذا الخمس فيه، وكان أبو بكر حريصا على أن يوزع الغنائم على هؤلاء وعلى كل ذي حق في بيت المال أول ما ترد إليه، لذلك كان بيت مال المسلمين في بيته بالسنح، فلما انتقل إلى المدينة نقله معه، وقيل له في ذلك وطلب بعضهم إليه أن يجعل عليه حراسا وخزنة فأبى؛ لأنه لم يكن يحتفظ فيه بما يستوجب الحراسة، ولم يكن يختزن ما يخشى عليه عدوان المعتدين.
فهذه الصورة من حكومة أبي بكر تشهد بأنها كانت أدنى إلى بساطة البداوة، وأنها كانت عربية صرفة، لم تتأثر في قليل ولا كثير بالنظم التي كانت قائمة ذلك العصر في بلاد الروم أو في بلاد فارس، وهي مع هذه البساطة الحلقة القوية التي ربطت بين عهد الرسالة وعهد الإمبراطورية، واتصالها الزمني الوثيق بعهد الرسالة جعلها به أشبه، فلم يكن أبو بكر يصنع شيئا كان رسول الله يدعه، ولم يكن يدع شيئا كان رسول الله يصنعه، لكنه لم يجمد مع ذلك جمود المقلدين، بل فتح له تأسيه برسول الله باب الاجتهاد في سياسة المسلمين واسعا، فهداه اجتهاده إلى أن فتح الله له العراق والشام، ثم مهد لحكومة العرب الموحدة أن تقوم من بعده على أساس من الشورى في حدود ما أمر الله به وما نهى عنه، لم يتزمت في أمر ولم يفرط ، وإنما اهتدى بنور الله لمصلحة عباد الله، فكان أكثر ما هداه الصراط المستقيم إيمانه بأنه محاسب أمام الله، كما أنه محاسب أمام عباده، والله شديد الحساب.
مرت الحكومة الإسلامية من بعد أبي بكر في أطوار شتى، فقد بدأ ابن الخطاب ينشئ الديوان في عهده متخذا من نظام الحكم في فارس وفي الروم مثالا ينسج عليه مع اعتصامه بكتاب الله وحدوده، ثم دنا عهد عثمان من الحكم المطلق دنوا لا يتفق وتقاليد العرب؛ فكان ذلك مقدمة الثورة التي انتهت إلى مقتله، وانقلبت إمارة المؤمنين في عهد الأمويين ملكا عضودا، يتوارثه أهل البيت المالك، وكذلك كان الأمر في عهد العباسيين، وفي أثناء هذه الأطوار كانت ليد الأعاجم من الفرس والروم أثر، لعله كان خفيا في عهد عمر وعثمان، ثم بدأ يظهر واضحا بعض الشيء في عهد الأمويين، ليتجلى من بعد ذلك صريحا كل الصراحة في عهد بني العباس.
وفي هذه الأثناء كان علماء المسلمين، وجلهم من الأعاجم، يضعون لنظام الحكم القواعد والتفاصيل يردونها إلى كتاب الله وسنة رسوله، وكان الخلاف يقع بين هؤلاء العلماء على هذا النظام، فتقوم الثورات بسببه فتطيح بالحاكم حينا، وتقمع بيد البأس والبطش فيستقر الأمر لصاحب السلطان حينا آخر، ما أعظم الفرق بين حكومة أبي بكر في بساطتها العربية المتأثرة بحياة البادية، وبين هذه الحكومات الأموية والعباسية التي وجدت من العلماء والفقهاء من شرع لها النظم المفصلة، والقواعد المترامية الأطراف!
كان إيمان أبي بكر بأنه محاسب أمام الله وأمام الناس هو الذي هداه سبيله، وخشية هذا الحساب جعلته لا يقدم على أمر ولا يحجم عنه، حتى يشاور ويروئ في المشورة ويستخير الله، فإذا خار له صح عزمه، فكان الحزم الذي لا يعرف التردد ولا الهوادة، لا يعرض عليه أمر المسلمين حتى يحسمه برأي قاطع.
وقد رأيت ما كان من ذلك طيلة عهده، ثم رأيته كيف استمع في مرضه للمثنى الشيباني حين جاء إليه من العراق يشير باستعمال الذين عادوا إلى الإسلام بعد ردتهم في حرب فارس، وكيف أوصى عمر أن يمد المثنى بهؤلاء ليسيروا إلى الميدان معه، وفي هذا المرض كان الصديق أكثر ما يكون في أمور المسلمين تفكيرا، وأشد ما يكون على وحدتهم حرصا، وأعظم ما يكون من خلافهم إشفاقا، لذلك أوصى، فكانت وصيته آخر عمل له في الحكم لخير الإسلام ولخير المسلمين.
الفصل الثامن عشر
مرض أبو بكر ووفاته
قضى أبو بكر على ردة العرب وعلى الثورة التي اندلعت إثر وفاة الرسول بسبب هذه الردة فأشعلت شبه الجزيرة نارا، ثم إنه فتح العراق وأوشكت جيوشه أن تدخل المدائن عاصمة فارس، كما تقدم في فتح الشام وساير النصر أعلامه فيها إلى دمشق، وبينما تبهر هذه الانتصارات أنظار العالم إذا أبو بكر يقيم الحكم في البلاد العربية المتحدة على أساس الشورى، وإذا هو يجمع كتاب الله، فيقر له الجميع بأنه أعظم المسلمين أجرا في جمعه بين اللوحين، هذه الأعمال ضخمة عظيمة أقرت الدين الحنيف في منزل الوحي، ومهدت لإقامة الإمبراطورية الإسلامية ولانتشار هذا الدين الحنيف فيها، وليقام الحكم بين أهلها على أساس متين من الإنصاف والعدل، وكان ذلك كله في سنتين وثلاثة أشهر.
أليست هذه بعض معجزات التاريخ؟! في سنتين وثلاثة أشهر تطمئن أمم ثائرة وتصبح أمة متحدة قوية مرهوبة الكلمة عزيزة الجانب، حتى لتغزو الإمبراطوريتين العظيمتين اللتين تحكمان العالم وتوجهان حضارته، لتنهض بعبء الحضارة في العالم قرونا بعد ذلك، هذا أمر لم يسجل التاريخ مثله، فلا عجب أن يقتضي من أبي بكر مجهودا تنوء به العصبة أولو القوة، أما وقد تخطى أبو بكر الستين يوم بويع، فطبيعي أن يهيض هذا المجهود قوته وأن يعجل به إلى لقاء ربه.
ولعلك بعد الذي تلوته من تفصيل هذه الأعمال الجسام أن تقدر هذا المجهود وما كان له من أثر، بل لعلك قد رأيت أن هذا المجهود لا يمكن أن ينهض به رجل إلا إذا أوتي من توفيق الله ومعونته ما لا يؤتاه إلا الصديقون، هذا ما آمن به أبو بكر، ولهذا نقش على خاتمه: «نعم القادر الله.»
عجلت عظمة المجهود وتقدم السن وفاة الخليفة الأول، وإن جرت رواية في تعليل وفاته بأن اليهود دسوا له السم في طعام تناول منه عتاب بن أسيد معه، كما تناول منه الحارث بن كلدة لقيمات ثم كف، وأن هذا السم كان بطيء الأثر يقتل بعد عام من تناوله، ولذلك مات عتاب بمكة في اليوم الذي قبض فيه أبو بكر بالمدينة، وهذه الرواية لم تؤيد بسند جدير بالثقة. ومما يزيد من تهافتها أن أبا بكر لم يكن بينه وبين اليهود في خلافته نزاع، وأن اليهود جلوا منذ عهد رسول الله عن المدينة.
والرواية الراجحة في مرض أبي بكر ووفاته تسند إلى ابنته أم المؤمنين عائشة وإلى ابنه عبد الرحمن، قالا: كان أول ما بدأ مرض أبي بكر أنه اغتسل في يوم بارد فحم خمسة عشر يوما لا يخرج إلى الصلاة؛ وكان يأمر عمر بن الخطاب أن يصلي بالناس.
على أن أبا بكر لم يفتأ في الأسبوعين اللذين قضاهما في مرضه إلى وفاته دائم التفكير في شئون المسلمين، دائم الحساب لنفسه عما قدم مذ تولى أمرهم، فقد كان قوي الشعور منذ مرض بأن أجله جاء، وأنه ملاق ربه، وقد كان مغتبطا لذلك مطمئنا له؛ لأنه كان في السن التي اختار فيها رسول الله الرفيق الأعلى، ولأنه كان يشعر بأنه أدى لله حقه، قيل له يوما: لو أرسلت إلى الطبيب! فكان جوابه: قد رآني. قيل: فما قال لك؟ قال: إني أفعل ما أشاء. يشير إلى أنه وكل الأمر لله، وأنه سعيد بقضاء الله، وأن أكبر همه أن يضمه الله إليه.
وأكثر ما شغل به أبو بكر أثناء مرضه إشفاقه من مصير المسلمين بعده، لقد ذكر اختلاف المهاجرين والأنصار بسقيفة بني ساعدة حين مات النبي، وذكر ما كان يوشك أن يحدث بين القوم لولا أن جمع الله كلمتهم على بيعته، ولئن اختلفوا حين وفاته ليكونن اختلافهم أجسم خطرا، فلم يبق الأمر دائرا بين المهاجرين والأنصار دون سائر العرب، بل لقد جاهد العرب جميعا ولا يزالون يجاهدون في العراق والشام، يواجهون فارس والروم، فإذا قبض واختلفوا لم يقف خلافهم في حدود سقيفة بني ساعدة، بل يتخطاها إلى مكة والطائف، وقد ينتقل إلى اليمن، وعند ذلك تعود الثورة تتلظى في بلاد العرب، وهي إن عادت لم يكن مدارها ركنا من أركان الدين، بل السلطان وولاية الأمر. واختلاف الناس على أمور الدنيا أشد إثارة للشر وإطارة لنار الفتنة، وما أجسم الخطر من ذلك على الإسلام والمسلمين في وقت يواجهون فيه الأسدين فارس والروم! فكيف يتلافى أبو بكر هذا الخطر، وكيف يجنب المسلمين ما ينشأ عن الفتنة من شر مستطير؟
فكر في هذا أثناء مرضه وطال فيه تفكيره، وألهمه الله الرأي وعزم له فلم يتردد، لا سبيل إلى ملافاة ما يشفق منه إلا أن يستخلف من يقوم بالأمر من بعده، وأن يجمع كلمة المسلمين عليه، هذا أمر لم يصنعه رسول الله؛ فقد قبض ولم يستخلف، لكن ذلك كانت فيه لله حكمة، وحكمته ألا يظن الناس أن من استخلفه رسول الله قد استمد الأمر على المسلمين من عند الله، فأصبح خليفة الله، وقد أراد الله من فضله أن يجمع كلمة المسلمين من بعد على أبي بكر وأن يهيئ له من التوفيق ما رأيت، فأما إن استخلف أبو بكر فإنما يستخلف برأيه، وبإرادة المسلمين، ولن يكون لخليفته على المسلمين إلا ما كان لأبي بكر، ولن تكون حكومته إلا كما كانت حكومة أبي بكر.
من ذا تراه يستخلف؟ لقد عجم عيدان من حوله من أولي الرأي جميعا في عهد النبي، ولقد عجم عيدانهم مدة خلافته، وهو اليوم أشد ثقة بأن عمر بن الخطاب خير من يخلفه، لكنه إن فرض ذلك على المسلمين فقد يثقل أمره عليهم، وقد يبرمون به، لذلك دعا عبد الرحمن بن عوف وقال له: أخبرني عن عمر بن الخطاب. قال عبد الرحمن: ما تسألني عن أمر إلا وأنت أعلمنا به. قال أبو بكر: وإن. قال عبد الرحمن: يا خليفة رسول الله، هو والله أفضل من رأيك فيه من رجل، ولكن فيه غلظة . قال أبو بكر: ذلك لأنه يراني رقيقا، ولو أفضى الأمر إليه لترك كثيرا مما هو عليه، ويا أبا محمد، قد رمقته فرأيته إذا غضبت على الرجل في الشيء أراني الرضا عنه، وإذا لنت له أراني الشدة عليه. وسكت هنية ثم قال: لا تذكر يا أبا محمد مما قلت لك شيئا.
ودعا الصديق عثمان بن عفان بعد عبد الرحمن بن عوف، وقال له: يا أبا عبد الله، أخبرني عن عمر. قال عثمان: أنت أخبر به. فقال: على ذلك يا أبا عبد الله! قال عثمان: اللهم علمي به أن سريرته خير من علانيته، وأنه ليس فينا مثله. قال أبو بكر: يرحمك الله يا أبا عبد الله! والله لو تركته ما عدوتك! لا تذكرن مما قلت لك ولا مما دعوتك له شيئا.
ولم يكتف أبو بكر بمشاورة عبد الرحمن بن عوف وعثمان بن عفان، بل شاور كذلك سعيد بن زيد وأسيد بن حضير وغيرهما من المهاجرين والأنصار، وسمع بعض أصحاب النبي بمشاورات أبي بكر وأنه يريد استخلاف عمر، فأشفقوا من شدة ابن الخطاب وغلظته أن يفرق ذلك كلمة المسلمين، فاجتمع رأيهم على أن يهيبوا بأبي بكر ليرجع عن عزمه، واستأذنوا فدخلوا عليه، فقال طلحة بن عبيد الله: «ما أنت قائل لربك إذا سألك عن استخلافك عمر علينا، وقد رأيت ما يلقى الناس منه وأنت معه، فكيف به إذا خلا بهم بعد لقائك ربك؟!» هنالك غضب أبو بكر وصاح بقوة والمرض يهزه: أجلسوني! فلما أجلسوه وجه الحديث إلى القوم الذين دخلوا عليه فقال: «أبالله تخوفونني! خاب من تزود من أمركم بظلم! أقول: اللهم استخلفت على أهلك خير أهلك.» ثم اتجه إلى طلحة فقال له: «أبلغ عني ما قلت لك من وراءك.»
واضطجع أبو بكر وقد هده هذا الحوار، فانصرف عنه القوم لم يبق منهم إلا عبد الرحمن بن عوف، وقيل: بل خرج عبد الرحمن معهم ثم عاد إليه صبح اليوم التالي، وقال يحييه وقد جلس إلى جانب سريره: «أصبحت والحمد لله بارئا.» قال أبو بكر: «أتراه؟» قال: «نعم!» فسكت أبو بكر وسكت عبد الرحمن هنيهة ثم تحدث الصديق وكأنما عناه ما حدث بالأمس: «إني وليت أمركم خيركم في نفسي، فكلكم ورم أنفه من ذلك يريد أن يكون الأمر له دونه.» واستطرد في حديث أحس معه عبد الرحمن بما يغص نفس الخليفة من ألم لحديث القوم، فقال له: «خفض عليك رحمك الله! فإن هذا يهيضك، إنما الناس في أمرك بين رجلين؛ إما رجل رأى ما رأيت فهو معك، وإما رجل خالفك فهو مشير عليك، وصاحبك كما تحب، ولا نعلمك أردت إلا خيرا، ولم تزل صالحا مصلحا.»
واطمأن أبو بكر إلى استخلاف عمر، فدعا عثمان بن عفان، وكان يكتب له فقال له: اكتب، وأملاه: «بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما عهد أبو بكر بن أبي قحافة في آخر عهده بالدنيا خارجا منها وعند أول عهده بالآخرة داخلا فيها، حيث يؤمن الكافر، ويوقن الفاجر، ويصدق الكاذب، إني استخلفت عليكم بعدي عمر بن الخطاب فاسمعوا له وأطيعوا، وإني لم آل الله ورسوله ودينه ونفسي وإياكم خيرا، فإن عدل فذلك ظني به وعلمي فيه، وإن بدل فلكل امرئ ما اكتسب من الإثم، والخير أردت، ولا أعلم الغيب، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون، والسلام عليكم ورحمة الله.» ثم ختم الكتاب.
وتذهب بعض الروايات إلى أن أبا بكر أملى عثمان حتى إذا بلغ «إني استخلفت عليكم» أغمي عليه قبل أن يملي اسم عمر بن الخطاب، فكتب عثمان في غيبوبة أبي بكر «إني استخلفت عليكم عمر بن الخطاب ولم آلكم خيرا»، ثم أفاق أبو بكر فقال: اقرأ علي، فقرأ عليه فكبر أبو بكر وقال: «أراك خفت أن يختلف الناس إن افتلتت نفسي في غشيتي؟» قال عثمان: «نعم!» وأقر الصديق ما كتب، وقال له: «جزاك الله خيرا عن الإسلام وأهله.»
خشي أبو بكر مع ذلك كله أن يختلف الناس من بعده، فأشرف من حجرة بداره على الناس بالمسجد وامرأته أسماء بنت عميس ممسكته موشومة اليدين، وقال يخاطب من بالمسجد جميعا: «أترضون بمن أستخلف عليكم؟ فإني والله ما ألوت من جهد الرأي ولا وليت ذا قرابة، وإني قد استخلفت عمر بن الخطاب، فاسمعوا له وأطيعوا.» قالوا: «سمعنا وأطعنا.»
وفي بعض الروايات أن عثمان خرج إلى الناس بعد أن أملى عليه أبو بكر وصيته وختمها، فأبرز لهم الكتاب مختوما وقال لهم: أتبايعون لمن في هذا الكتاب؟ قالوا: نعم. وبايعوا ابن الخطاب، فلما بايع الناس دعا أبو بكر عمر فأوصاه بما أوصاه به، على تعبير ابن سعد في الطبقات.
1
وإذ فرغ أبو بكر من استخلاف عمر واطمأنت نفسه على مصير المسلمين من بعده جعل يحاسب نفسه على ما قدم. روي عن عبد الرحمن بن عوف أنه كان يهون على أبي بكر علته وما يدور من أمر المسلمين، ويذكر له أنه لا يأسى على شيء من الدنيا، فقال أبو بكر: «أجل إني لا آسي على شيء من الدنيا إلا على ثلاث فعلتهن وددت أني تركتهن، وثلاث تركتهن وددت أني فعلتهن، وثلاث وددت أني سألت رسول الله
صلى الله عليه وسلم
عنهن. فأما الثلاث اللاتي وودت أني تركتهن، فوددت أني لم أكشف بيت فاطمة عن شيء وإن كانوا قد غلقوه على الحرب.
2
وددت أني لم أكن حرقت الفجاءة السلمي وأني كنت قتلته سريحا
3
أو خليته نجيحا. وددت أني يوم سقيفة بني ساعدة كنت قذفت الأمر في عنق أحد الرجلين - يريد عمر وأبا عبيدة - فكان أحدهما أميرا وكنت وزيرا. وأما اللاتي تركتهن، فوددت أني يوم أفتيت بالأشعث بن قيس أسيرا كنت ضربت عنقه؛ فإنه تخيل إلي أنه لا يرى شرا إلا أعان عليه. وددت أني حين سيرت خالد بن الوليد إلى أهل الردة كنت أقمت بذي القصة، فإن ظفر المسلمون ظفروا، وإن هزموا كنت بصدد لقاء أو مدد. وددت أني كنت إذا وجهت خالد بن الوليد إلى الشام كنت وجهت عمر بن الخطاب إلى العراق، فكنت قد بسطت يدي كلتيهما في سبيل الله - ومد يديه. وددت أني كنت سألت رسول الله
صلى الله عليه وسلم
لمن هذا الأمر فلا ينازعه أحد. وددت أني كنت سألته هل للأنصار في هذا الأمر نصيب؟ وددت أني كنت سألته عن ميراث ابنة الأخ والعمة فإن في نفسي منهما شيئا.»
لم يكن ذلك كل ما اختلجت به نفس أبي بكر وما دار بخاطره أثناء مرضه، فأنت تذكر أنه قد ترك التجارة ليفرغ لما يصلح شئون المسلمين، وأن أصحابه جعلوا له من بيت المال ما يصلح به نفسه وعياله، فلما رأى أنه مشف على الموت لم تطب نفسه بما أخذ من بيت المال، بل قال: «ردوا ما عندنا من مال المسلمين فإني لم أصب من هذا المال شيئا، وإن أرضي التي بمكان كذا وكذا للمسلمين بما أصبت من أموالهم.» واستخلص عمر ثمن هذه الأرض ورده على بيت المال تنفيذا لأمر أبي بكر، وجعل يقول: «يرحم الله أبا بكر! لقد أحب ألا يدع لأحد بعده مقالا!»
وفي رواية أن عمر قال هذه العبارة لأهل أبي بكر حين أبلغوه مشيئته في هذا الأمر ثم أردفها بقوله: «وأنا والي الأمر من بعده، وقد رددتها عليكم.»
وتجري رواية ثالثة بأن أبا بكر توفي وليس عنده دينار ولا درهم، وإنما ترك عبدا كان يحمل صبيانه، وناضحا يسقي
4
بستانا له، وقطيفة قيمتها خمسة دراهم، وقد أمر بحملها إلى عمر بعد أن يفرغ منه، فلما حملت إلى عمر بكى وقال: «لقد أتعب أبو بكر من بعده تعبا شديدا.»
ولسنا نثق بصحة هذه الراوية وإن كانت البينات قائمة على أن أبا بكر إن كان قد ترك شيئا بعده فإنما ترك غير كثير، فقد أوصى بخمس ماله وقال: «آخذ من مالي ما أخذ الله من فيء المسلمين.» أو قال: «لي من مالي ما رضي ربي من الغنيمة.» ولعل بعضهن ود لو أن أبا بكر أوصى بأكثر من الخمس، فأجابه: «لأن أوصي بالخمس أحب إلي من أن أوصي بالربع، ولأن أوصي بالربع أحب إلي من أن أوصي بالثلث، ومن أوصى بالثلث فلم يترك شيئا.» فلو أن أبا بكر لم تكن له تركة وصح ما روي عن عائشة أنها قالت: «ما ترك أبو بكر دينارا ولا درهما ضرب الله سكته» لما أوصى بالخمس؛ ولا بما دون الخمس، فإنما يوصي من يملك شيئا وإن قل.
وكان أبو بكر قد وهب لعائشة أرضا بالعالية، كان النبي أعطاه إياها، فأصلحها وغرس فيها ثم جعلها لابنته أم المؤمنين، فلما حضر وعائشة تمرضه جلس فتشهد ثم قال: «يا بنية، إن أحب الناس غنى إلي بعدي أنت، وإن أعز الناس فقرا علي بعدي أنت، وإني كنت نحلتك أرضي التي تعلمين، وأنا أحب أن ترديها علي فيكون ذلك قسمة بين ولدي على كتاب الله؛ فإنما هو مال الوارث، وهما أخواك وأختاك.» ولم يكن لعائشة غير أخت واحدة، فسألت أباها في ذلك فقال: «ذو بطن ابنة خارجة فإني أظنها جارية.»
فكر أبو بكر أثناء مرضه فيمن يخلفه على المسلمين، وفكر في رد المال الذي جعلوه له حين خلافته، وفكر فيما يوصي به من تركته، وفكر فيما كان نحله ابنته عائشة ليرده على ورثته، فكر في هذا كله شديد الحرص على أن يدع هذه الدنيا بريئا، وعلى أن يلقى الله وقد ألقى عن نفسه كل ما يخشى أن يؤاخذه الله به، فلما اطمأن إلى ذلك بدأ يفكر في الموت وفي الأهبة له، فأوصى أن يكفن في ثوبين له كان يلبسهما وقال: «كفنوني فيهما فإن الحي أحوج للجديد من الميت.»
5
وأوصى أن تغسله امرأته أسماء بنت عميس، فإن لم تستطع استعانت بعبد الرحمن ابنه، وإنه لفي شغل بهذه الأمور إذ أقبل المثنى من العراق فأذن الصديق له، فلما طلب منه أن يمده بمن عاد إلى الإسلام من أهل الردة أوصى عمر أن يفعل وألا يشغل بوفاته عن أمور المسلمين.
وبدأ أبو بكر يعالج سكرات الموت، وعائشة ابنته إلى جانبه، فلما رأته كذلك تمثلت بهذا البيت من قول حاتم:
لعمرك ما يغني الثراء عن الفتى
إذا حشرجت يوما وضاق بها الصدر
فنظر الصديق إليها كالغضبان ثم قال: ليس كذلك يا أم المؤمنين، ولكن
وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد (ق: 19).
ولما ثقل جلست عند رأسه وتمثلت:
وكل ذي إبل موروث
وكل ذي سلب مسلوب
وكل ذي غيبة يئوب
وغائب الموت لا يئوب
وقيل: إن أبا بكر هو الذي تمثل بهذه البيتين، وإن آخر ما تكلم به: «رب توفني مسلما وألحقني بالصالحين».
وقبض أبو بكر يوم الاثنين لإحدى وعشرين ليلة خلت من شهر جمادى الآخرة للسنة الثالثة عشرة للهجرة (22 أغسطس سنة 634)، وهو في الثالثة والستين من عمره توفي مساء بعدما غابت الشمس، ودفن ليلا، وتولت زوجه أسماء بنت عميس غسله وعاونها ابنه عبد الرحمن إذ كان يصب الماء، ثم إنه حمل على السرير الذي حمل عليه رسول الله إلى المسجد ليدفن كما أوصى إلى جواره
صلى الله عليه وسلم
في بيت عائشة.
ووضع الجثمان في المسجد بين القبر والمنبر، وتولى عمر صلاة الجنازة فكبر أربعا، ثم نقل الجثمان ودخل معه عمر وعثمان وطلحة وعبد الرحمن بن أبي بكر، وأراد عبد الله بن أبي بكر أن يدخل فقال له عمر: «كفيت.» ودفن أبو بكر في حفرة حفرت له إلى جنب النبي، وجعل رأسه إلى كتف رسول الله، وألصق اللحد باللحد، فلما أهالوا عليه التراب خرجوا وقد ودعوا خليل رسول الله وصفيه بعد أن جمع بينهما الموت، فودعوا أقرب الناس إلى قلب رسول الله وأحبهم إليه وآثرهم عنده، وأشدهم إيمانا بالله ورسوله.
وقد ارتجت المدينة لوفاة أبي بكر، وتولى الناس دهش كدهشهم يوم قبض رسول الله، وأقبل علي بن أبي طالب مسرعا باكيا حتى وقف بالباب فقال: «رحمك الله يا أبا بكر! كنت والله أول القوم إسلاما، وأخلصهم إيمانا، وأشدهم يقينا، وأعظمهم غنى، وأحفظهم على رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، وأحدبهم على الإسلام، وأحماهم عن أهله، وأنسبهم برسول الله خلقا وفضلا وهديا وسمتا، فجزاك الله عن الإسلام وعن رسول الله وعن المسلمين خيرا، صدقت رسول الله حين كذبه الناس، وواسيته حين بخلوا، وقمت معه حين قعدوا، وسماك الله في كتابه صديقا فقال:
والذي جاء بالصدق وصدق به ، يريد محمدا ويريدك. كنت والله للإسلام حصنا، وللكافرين ناكبا، لم تضلل حجتك، ولم تضعف بصيرتك، ولم تجبن نفسك، كالجبل لا تحركه العواصف، ولا تزيله القواصف. كنت كما قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم
ضعيفا في بدنك، قويا في دينك، متواضعا في نفسك، عظيما عند الله، جليلا في الأرض، كبيرا عند المؤمنين، لم يكن لأحد عندك مطمع ولا هوى؛ فالضعيف عندك قوي، والقوي عندك ضعيف، حتى تأخذ الحق من القوي، وتأخذه للضعيف، فلا حرمنا الله أجرك، ولا أضلنا بعدك!»
وأبنته عائشة أم المؤمنين فقالت: «نضر الله يا أبت وجهك، وشكر لك صالح سعيك؛ فقد كنت للدنيا مذلا بإدبارك عنها، وللأخرة معزا بإقبالك عليها، ولئن كان أعظم المصائب بعد رسول الله
صلى الله عليه وسلم
رزءك، وأكبر الأحداث بعده فقدك. إن كتاب الله (عز وجل) ليعدنا بالصبر عنك حسن العوض، وأنا متنجزة من الله موعده فيك بالصبر عنك، ومستعينة كثرة الاستغفار لك، فسلم الله عليك، توديع غير قالية لحياتك، ولا زارية على القضاء فيك.»
وكان عمر بن الخطاب أوجز في القول، وكأنما عقد الرزء لسانه، قال حين دخل على أبي بكر بعد موته: «يا خليفة رسول الله! لقد كلفت القوم بعدك تعبا ووليتهم نصبا، فهيهات من شق غبارك، فكيف اللحاق بك.»
وتداولت أنباء الوفاة حواضر العرب وبواديها، فهزت كل نفس وأسبلت الدمع من كل عين؛ واضطرب أهل مكة لسماعها، وبلغ اضطرابهم سمع أبي قحافة فسأل: ما هذا؟ قيل: توفي ابنك. قال: رزء جليل! من قام بالأمر بعده؟ قالوا: عمر. فقال: صاحبه. ولم يزد، وأرادوا أن يردوا عليه حقه مما ترك أبو بكر فأبى وقال: بنوه أحق به، وما كان لهذا الشيخ الفاني بعد هذا الرزء الجسيم إلا أن يلحق ابنه في جوار الله. فتوفي بعد ستة أشهر من وفاته.
أفتدل هذه الكلمات الوجيزة التي نطق بها أبو قحافة على أنه كان أجمل العرب صبرا لقضاء الله في خليفة رسول الله؟! أم إن جزعه لوفاة ابنه هو الذي أسكته، كما أنه هو الذي عجل به إلى لقاء ربه؟! ما نحسب أبا يتجلد للمصاب في ابنه إلا تجملا، وإن تقدمت به السن وأدركه الهرم، لذلك كان حزن أبي قحافة غير حزن سائر العرب، لقد حزن العرب إشفاقا مما يخبئه الغيب، بعد أن غيبوا في التراب رجلا كان البر بهم، والعطف عليهم، وإنكار الذات في سبيلهم، وكان إلى ذلك موفقا كل التوفيق في ولاية أمرهم وسياسة دولتهم، أما أبو قحافة فحزن لأن أعز أجزاء نفسه عليه ذهب، فانهد ركنه وتداعت حياته.
وفدح الخطب أم المؤمنين عائشة، فأقامت النوح على أبيها وشاركتها أخته أم فروة وزوجتاه أسماء بنت عميس وحبيبة بنة خارجة ومن اجتمعن إليهن من نساء المدينة، فلما بلغ عمر ما يصنعن جاء إلى بيت عائشة ونهاهن عن النوح، فلم ينتهين، فقال لهشام بن الوليد: ادخل عليهن فأخرج إلي أم فروة بنة أبي قحافة أخت أبي بكر، وسمعت عائشة قول عمر فقالت لهشام: إني أحرج عليك بيتي. قال عمر: ادخل فقد أذنت لك. ودخل هشام فأخرج أم فروة إلى عمر، فعلاها بالدرة فضربها ضربات وهو يقول: تردن أن يعذب أبو بكر ببكائكن! إن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
قال: «إن الميت يعذب ببكاء أهله عليه.» وتفرق النوائح حين رأين ما أصاب أم فروة، ولم تستطع عائشة أن تحول بين عمر وما أراد.
ولعل عمر قد أزعجه هذا النوح لشدة جزعه على أبي بكر، فليس أوجع لنفوسنا من نوح النسوة على ميت نحبه ويحز الألم في قلوبنا لفراقه، وحق لعمر ولكل مسلم أن يشتد يومئذ جزعه، بل إننا اليوم لنشاركهم في حزنهم وفيما كان من مخاوفهم، مع علمنا بما أفاء الله على المسلمين في عهد عمر من نصر، وما أراد من فضله أن يتوج به سياسة أبي بكر من نجاح وفوز، فلم يمر الإسلام منذ هاجر النبي إلى المدينة بمثل ما مر به في عهد الصديق من محنة، ولم تسم نفوس المسلمين فوق البأساء والضراء وحين البأس سموها بفضل إيمانه وعزمه، لقد امتحن الله المؤمنين في خلافته فأحسنوا البلاء، واجتاز الدين الناشئ بفضل إيمان الخليفة وعزمه مناطق الأعراف، صلبا قوي الحياة، كفيلا بأن يظل العالم بلواء التقدم والحرية، وأن يرفعه إلى حضارة سامية هي وحدها الجديرة بالإنسانية، وقد كانت روح أبي بكر من مصادر هذه القوة، أفكان الإسلام لا يزال في حاجة إلى فيضها؟ أم إنه قد تخطى خلال هاتين السنتين وثلاثة الأشهر مناطق الخطر، فآن له أن يمتد في طمأنينة وأمن، وأن يمد إلى الإنسانية المضطربة يوم ذاك يد النجاة ليقر بينها الإخاء والسلام؟!
لعلنا لا ندري ماذا كان يحدث لو لم يستخلف أبو بكر عمر، ولو لم يخرج على ما أخذ به نفسه، ولم يصنع ما لم يصنعه رسول الله، فقد كان هذا العمل الأخير في حياة الصديق حلقة قوية في السلسلة التي رفعت الإسلام مكانا عليا، والتي أراد الله أن يتم بها كلمته وينصر دينه، ترى لو أن أبا بكر اختار عثمان أو غير عثمان، أفكان الإسلام ينتشر ما انتشر في عهد عمر، ثم يزداد في عهد خليفته انتشاره؟! أم إن اختيار عمر كان توفيقا من الله للصديق، فكان الفاروق بطل الموقف ورجل الساعة؟! لا غناء اليوم في أن نعرض لهذا الأمر بحكم، لكن الذي لا مرية فيه أن أبا بكر وعمر كانا يتفقان في جوهر النفس على تباين مظاهرهما لينا وشدة، صفى الإيمان بالله نفسيهما فتنزهتا وطهرتا وسمتا فوق خبائث الدنيا، وتجردتا لله، فكانتا العدل والرحمة والإيثار والحرص على أن ينتصر الحق وتعلو كلمة الله، بذلك كان استخلاف عمر عملا صالحا أراد الله به أن يعز دينه، وأن يقر به في الأرض كلمة الحق، وأن يعلي به منار البر والتقوى.
رحم الله أبا بكر ورضي عنه وألحقه بالصالحين.
خاتمة
ذكرت في تقديم هذا الكتاب أن عهد أبي بكر له ذاتيته الخاصة وتكوينه التام، وأنه ينطوي على عظمة نفسية تثير الدهشة، بل الإعجاب والإجلال، ولعل القارئ الذي بلغ من تلاوة الكتاب هذه الخاتمة، ووقف على ما تم خلال هذا العصر القصير من جليل الأعمال، يرى رأيي فيما ذكرت، ويقف لذلك معي مليا يستخلص من هذا العهد عبرته البالغة، ليرى كيف تنتقل حضارة الأمم من حال إلى حال بتفاعل عناصر الاجتماع خلال الأجيال والعصور، فإذا جاء الأجل الذي خطه القدر في لوحه لم يكن من هذا الانتقال بد، ولم تستطع قوة في العالم أن تقف في سبيله أو تحول دونه.
إمبراطوريتان عظيمتان تمثل إحداهما حضارة الغرب ومقوماتها من عقائد ونظم ومن فن وعلم وتفكير، وتمثل الأخرى حضارة الشرق ومقوماتها من عقائد ونظم ومن فن وعلم وتفكير، يمثل الروم حضارة اللاتين واليونان والفينيقيين والفراعنة، وتمثل فارس حضارة إيران والهند ومذاهب الشرق الأقصى مجتمعة، تمتد الأولى من أواسط أوربا بل من غربها الأقصى إلى شرق بحر الروم، ثم تتخطاه لتقف عند بادية الشام، وتمتد الأخرى من أواسط آسيا، بل من شرقها الأقصى إلى حوض دجلة والفرات، ثم تتخطاه لتقف عند بادية الشام، وهذه البادية التي تلتقي عندها الحضارتان تمتد بينهما جدباء إلا من قبائل نزحت من شبه جزيرة العرب، تنتقل في أرجائها ثم تأوي إلى الروم أو إلى الفرس حيثما يطيب لها المرعى. والإمبراطوريتان تقتتلان فتبهران الأنظار بقوتهما وعظمتهما، لا يسكن تعاقب القرون من حدتهما، ولا تجدان في غير الحروب وسيلة لإرواء ظمئهما إلى المجد، واستكمال حظهما من الترف والنعيم.
أفأعوزت إحداهما أسباب العيش فكان ذلك سبب ما اتصل بينهما من حروب أفنت كلتاهما فيها على القرون ما لا يحصى من مهج، وبيعت فيها الأرواح بيع السماح؟ كلا! بل كانت الإمبراطوريتان مترعتين بخيرات البلاد التي تحكمانها، كانت الروم تنعم بما تغل مصر وسائر ممتلكات قيصر من زراعة وما تنتج من صناعة، ومما كان لمصر وسائر بلاد الإمبراطورية من تراث ضخم في العلم والأدب والفن، وكانت فارس تنعم بخيرات البلاد الخاضعة لكسرى، والتي كانت تمدها بكل ثمراته، لكن كل واحدة من الدولتين كانت تزعم لنفسها حقا في المتاع من نعم الحياة بما لا ينعم به غيرها، ولا ترى لذلك بأسا بأن تغصب غيرها ما في يده من أسباب هذا المتاع، أليست لها القوة وفي متناولها أسباب البطش؟! وحق القوة بعض ما آمنت وتؤمن به الإنسانية أمما وأفرادا، ألا يرى أحدنا مواد الترف حاجات ماسة لا غنى له عنها، ثم لا يغير من رأيه هذا ألا يجد جاره الكفاف لنفسه ولذويه! والقوانين تشرع دفاعا عن حق القوة، ذلك بأن القوة هي قوام القانون تنفذه وتلزم الناس احترامه، فباسم القانون ينال القوي ما يراه حاجة ماسة لحياته، وباسم القانون وباسم الحضارة تثير الدول الحروب لتبلغ من أسباب الترف ما يكفل المستوى الذي تراه لائقا لمكانتها بين سائر الأمم.
لهذا ظلت الإمبراطوريتان تقتتلان سبعة قرون متوالية، فتبهران العالم بقوة بأسهما وسمو حضارتهما، يحالف النصر إحداهما تارة، ويحالف الثانية تارة أخرى، فلا تنهنه الهزيمة من هيبة أيهما؛ لأن الأمم الصغيرة من حولها كانت ترى دورة الدوائر بينهما، وترى مغلوب اليوم منهما غالبا غدا، فتحسب أن القدر فرضهما على الوجود فرضا، وأنها من القوى الثابتة في دورة الكون كالشمس والقمر والكواكب سواء.
وبينما لا تعرف الأمم إلا اسميهما، ولا تتحدث إلا بفعالهما، إذا أمة تنهض من حيث لم يكن أحد يتوقع أن تنهض، وأنى لشبه جزيرة العرب ببواديها الماحلة وصحاريها الجرداء أن تبعث أمة أو تنشئ دولة! وأنى لقبائل هذه البادية، وكل ما تعتمد عليه في حياتها الغزو والسلب، أن تفكر في حضارة، بله أن تقيمها؟! لقد كان كسرى فارس يسميهم رعاة الإبل والغنم، وكان قيصر الروم يصفهم بالحفاة العراة الجياع، أفمن هؤلاء الرعاة الحفاة تنهض أمة يعبأ بها الروم أو يهتم لها الفرس؟!
مع ذلك نهضت هذه الأمة، فواجهت الأسدين فارس والروم، وحاربتهما وتغلبت عليهما، وقد رأيت من خلال هذا الكتاب أن العرب لم يتغلبوا على الأسدين بتفوق في العدة أو في العدد، وإنما تغلبوا بالعقيدة الثابتة والإيمان الذي لا يتزعزع، وبهذا الغلب نشأت الإمبراطورية الإسلامية التي حملت عبء الحضارة في العالم عشرة قرون تباعا، والتي نشرت الإسلام في أنحاء الإمبراطوريتين وفيما وراءهما: في الهند والصين والتركستان وغيرها من ممالك آسيا، وفي مصر وما وراءها إلى المحيط الأطلنطي من بلاد إفريقية، وفي عاصمة قسطنطين، وفي روسيا وإسبانيا وغيرها من أمم أوربا.
كيف حدثت هذه المعجزة؟! كيف تغلب العرب مع قلة عددهم، وضعف حضارتهم، وتأخر علومهم وفنونهم، على الفرس وعلى الروم ولهم من العدد ومن الحضارة ومن العلوم والفنون ما لا يزال التاريخ يحدث عنه في إكبار أي إكبار؟! أهي المصادفة التي لا تفسير لها من سنن الكون؟! كلا! فلو أن ما حدث في عهد أبي بكر أثمرته المصادفة لما كتب له أن يبقى وأن يتصل على الزمان، ولوقف الفرس والروم في وجه العرب فردوهم على أعقابهم، لكن ما حدث في عهد عمر وعثمان من توغل العرب في أراضي الإمبراطوريتين العظيمتين والقضاء عليهما، لا يدع مجالا للريب في أن ما حدث كان حتما قضت به سنن الكون، ولذلك اطرد فكانت الحضارة الإسلامية ثمرته، وما كانت المصادفة لتتمخض عن مثل هذه الحضارة التي ازدهرت في ظل لوائها كل مقومات الحضارة، فقد اجتمع للحضارة الإسلامية من العلم والأدب والفن وسائر ألوان الثقافة ما حل في العالم محل الثقافة اليونانية بعلمها وأدبها وفنها وتفكيرها، وذلك بعد أن كانت اليونان وارثة مصر وآشور والحضارة الإنسانية الأولى جميعا. لا مفر لنا إذن من أن نلتمس لهذه الظاهرة الكونية العظيمة تفسيرا من سنن الكون يكشف لنا عن السر في قيام هذه الحضارة، وامتداد سلطانها في العالم، واستقرارها فيه دهرا طويلا.
ومن سنن الكون أن الأمم والحضارات يصيبها الهرم على نحو ما يصيب الأفراد، فإذا هرمت وشاخت دب الفساد إلى كيانها، فأدى إلى انحلالها، وإلى قيام أمة شابة وحضارة شابة مقامها.
أشرت غير مرة في غضون هذا الكتاب إلى عوامل الفساد والاضطراب التي كانت تظهر الحين بعد الحين في فارس وفي الروم، وقد استفحلت هذه العوامل في القرن السادس المسيحي واشتد خطرها، فكان من أثرها في فارس أن اضطرب بلاطها، وانتشرت الدسائس في جوها، وتنازع الطاعون في عرشها، واتخذ بعضهم الغدر سلاحه لتولي أمورها، بذلك فسد الرأس، فامتد الفساد منه إلى ما دونه، فكثرت مذاهبها وأحزابها، وتبلبلت عقائد الناس فيها، فانكمشوا يتوفرون على رزقهم يكثرونه، ويلتمسون النيل والجاه عن طريقه، هذا إلى أن الطوائف في فارس كانت كثيرة العدد كثيرة المطامع؛ تريد الحكم تستذل به رقاب السواد، وتبلغ باستغلاله كل ما تصبو إليه من أسباب النعمة والمتاع، لذلك انحلت العصبية القومية في الفرس، وانهارت القوة المعنوية في نفوسهم، وتدهور مثلهم الأعلى إلى حيث لا يعدو متع الحياة ولينها، طبيعي وذلك شأنها أن يتداعى ركنها، وأن تضعف مقاومتها، وبخاصة إذا واجهتها قوة تسمو على الحياة وتتخذ المثل الأعلى شعارها.
ولم يكن أثر هذه العوامل في الإمبراطورية الرومية دونه في فارس، فقد نجمت الثورات فيها لأسباب تتصل بالنزاع بين الفرق المسيحية حينا، وبالنزاع على العرش حينا آخر، فكان ذلك سبب تدهورها وانحلالها، ومع أن جستنيان استطاع أن يرد إليهم أعظم الاعتبار في نظر العالم يومئذ، بجلال حكمته ونزاهة عدله وقوة بأسه، لقد كانت عوامل الانحلال أعمق أثرا من أن يتلافاها خلفاؤه ولم يكونوا في مثل حكمته وبأسه، فلما كان أول القرن السابع المسيحي تولى فوكاس عرش الإمبراطورية وساسها بيد من حديد، عند ذلك قام هرقل حاكم إفريقية الرومية بالثورة عليه، ثم انتهى به الأمر إلى الظفر به وقتله واعتلاء العرش مكانه، وكان الفرس قد غلبوا الروم في نهاية عهد فوكاس وبدء عهد هرقل، فلما حانت الفرصة أخذ هرقل بالثأر منهم، فحاربهم وغلبهم ووطد بذلك سلطانه في الإمبراطورية، حتى لقد خيل إلى الناس جميعا أن عهد جستنيان عائد لا محالة، ثم إنه حاول أن يزيد سلطانه تثبيتا بالقضاء على أسباب الضعف الناشئة عن اختلاف الفرق الدينية في أرجاء ملكه، وذلك بتوحيد المذهب المسيحي وفرضه على الناس في جميع أنحاء الإمبراطورية، وليتم غرضه بطش بخصوم المذهب الرسمي في مصر وفي غير مصر؛ فكان ذلك سببا في قيام الثورات واندلاع لهيبها، ثم كان سببا في ازدياد الضعيف الذي حاول هرقل أن يخلص الإمبراطورية منه.
1
كانت هذه العوامل تنخر في عظام الإمبراطوريتين العظيمتين وتنحدر بهما سراعا إلى مهاوي الشيخوخة، فكان من مقتضيات سنن الكون أن تقوم أمة شابة مقامهما، توجه العالم وتكيف مصايره، والنجاح مكفول لهذه الأمة ما حملت إلى العالم رسالة يشوق الناس سماعها، ويرون فيها ما ينقذهم من شرور طالما ناءوا بها ورزحوا تحت أعبائها.
لم يكن عالم يومئذ يشقى بأسباب الحياة المادية؛ فلم يكن همه الأول رفع مستوى العيش، إنما كانت تعوزه الطمأنينة إلى الحياة والمتاع بالحرية فيها، فقد كان الناس لا يتحركون ولا يسكنون أحرارا في حركتهم وفي سكونهم، بل كانت العقائد والقوانين السائدة يومئذ تكبلهم بقيود شلت حركتهم وأهدرت حريتهم، لم تقف هذه العقائد والقوانين عند المبادئ العامة التي تكفل للفرد حريته في ظل النظام، وتكفل بذلك للجماعة أن تطور إلى ناحية الكمال بجهود أفرادها الأحرار وجماعاتها الطليقة، بل دخلت القيود مع الفرد داره ومخدعه، وآذته في يقظته وفي نومه، فشلت نشاطه وتفكيره، وجعلت التحايل وسيلته إلى اتقاء الأذى والفرار من البطش، وإلى اهتبال الرزق من كل طريق، والتوسل بسعته وبسطته إلى مكان النبل والجاه، نبل البطش وجاه الجبروت، وحيثما قضي على النشاط الحر للعقل الإنساني، فذلك النذير بانحلال الأمة وتدهورها،، وبدبيب الشيخوخة إلى كيانها.
فالحرية العقلية هي التي طوعت للإنسان منذ أقدم العصور أن ينظر، وأن يلاحظ، وأن يعلم، وأن يبتكر. أسلافنا الأولون الذين عاشوا في الغابات وحاربوا الحيوان، إنما استطاعوا محاربته يوم هدتهم حرية الغريزة إلى ابتكار الأدوات التي استعملوها في حروبهم في العصر الحجري والعصور التي تلته، فلما أقامت الجماعة الإنسانية الأولى على ضفاف النيل وعرفت الزراعة، ثم عرفت حياة الاستقرار والحضارة، أدركت بفطرتها أن لا مفر لها من نظام يكفل لها الأمن وحرية العمل، وأن لا مفر لنظامها من قواعد ثابتة يقرها الجميع ويحترمونها، وقد هدتهم فطرة الاجتماع الغريزية في الإنسان إلى تجسيد هذه القواعد، وتقديس ما ظنوه آلهتهم التي ترعاها وتحميها، ثم ما لبثت هذه الجماعة الأولى، حين سما تفكير الموهوبين من أبنائها إلى ما فوق الغريزة الفطرية، أن قدرت معاني العدل والحرية والكرامة الإنسانية، بذلك استيقظ الضمير، فتفتحت للإنسان أبواب التفكير، فاهتدى من سبيلها إلى العلم وإلى الأدب والفن، كشف له أستارها من اختارتهم الأقدار لمعالجتها ووهبت لهم هبتها.
2
وظل التطور الإنساني يتقدم في هذه الناحية حينا ويتراجع حينا آخر في جزر ومد، وفي كل حين كانت حرية العقل آية تقدم الإنسان، وجموده آية تراجعه، فإذا تحرر العقل استطاع بقوة تفكيره أن يتحكم ولو بقدر في قوى الطبيعة، وأن يسخرها لأغراض الإنسان، وأن يفيد بذلك من هذا التحكم جديدا لرقيه، وإذا جمد العقل وقف تقدم الإنسانية، فاكتفت بغريزة حفظ النوع تستجن في كنفها حتى تبتعثها الحرية العقلية إلى التقدم كرة أخرى.
لم يكن بد، وقد جمدت الإمبراطوريتان فارس والروم فدب الفساد في كيانهما، من أمة جديدة تنهض فتدفع العالم إلى الأمام، ترى في أية أمة تستكن هذه القوى الدافعة، ومتى يتاح لها أن تظفر؟! ذلك أمر كتبه القدر في لوحه، أو هو، على تعبيرنا العلمي في هذا العصر، أمر ثابت في دورة الزمان والمكان للجماعة الإنسانية ثبوت كسوف الشمس وخسوف القمر وظهور المذنبات في دورة الفلك، وقد شاءت الأقدار فألقت على الأمة العربية في شبه الجزيرة عبء النهوض بالحضارة المتداعية، وبعث الحياة في شتى نواحيها، ولهذا اصطفى الله نبيه محمدا
صلى الله عليه وسلم ، فأوحى إليه دين الحق يبلغه للناس ويدعو إليه بالحجة والموعظة الحسنة، عن طريق النظر في الكون، نظرا حرا من قيود الوثنية والمجوسية ومن الجدل العقيم الذي هوت إليه المذاهب المتضاربة في بلاد الروم، وقد حوربت هذه الدعوة في منبتها حربا اتصلت على السنين، فلم تعرف هوادة ولا صلحا، حتى نصر الله دينه وأتم كلمته، إنما أراد الله لهذه الدعوى أن تنتصر ببساطتها وصفائها وسموها بالكرامة الإنسانية وبالعقل الإنساني إلى المكان اللائق بهما، وبانتصارها قضي على الوثنية في شبه الجزيرة كلها قبل أن يختار رسول الله من عند الله.
أما وقد قضت الدعوة إلى التوحيد وإلى مبادئ العدل وسمو الخلق على كل ما يخالفها، فلم يكن لزعماء الردة في بلاد العرب أن يحاولوا إعادة الوثنية، وإنما حاول هؤلاء الزعماء استغلال التوحيد والمبادئ المترتبة عليه لينتشر سلطانهم، وتعظم فائدتهم في تجارة الحياة، ولهم من العذر عن ذلك أننا معشر الناس لما بلغ من سمو الإدراك ما يجعلنا نقيم الحد الفاصل بين الحق لذاته، والمنافع المادية التي نجنيها من استغلال اسمه والتذرع لخداع الناس بسلطانه، والناس يرون الحق فيبهرهم لألاؤه، ويعشون دون استجلائه في جلال كماله؛ لأن الضمير الإنساني لا يزال في طفولته، والنفس الإنسانية لا يزال جوهرها العلوي يختلط بجواهر النقص التي تغشى عليه وتفسد حكمه.
لذلك يؤذي الناس من يدعونهم إلى الحق، ويحتمل الدعاة الصادقون هذا الأذى راضية نفوسهم ما أدى احتماله إلى ذيوع الحق وانتشار كلمته، وكلما علا صوت الحق اشتد في حربه من يخشونه على بسطة رزقهم وسلطان بأسهم، ذلك هو النزاع الذي اتصل على الزمان بين المنافع العاجلة والمبادئ الخالدة، والذي جعل الحرب مسوغة للقضاء على الباطل ورد كيده إلى نحره.
والضمير الإنساني لا يزال قريبا من طوره الذي كان عليه في القرن السادس المسيحي، فهو لم يشب بعد عن الطوق، لذلك لا تفتأ الحرب تشب لأغراض دون ما قامت حروب الردة وحروب الفتح في العراق والشام لتحقيقه، ترتفع الصيحة للحرية وللعدل وللإخاء، فيلقي الناس بكل سمعهم للمنادي بها، ويبذلون حياتهم فداء لها، وتدوي آلات الدمار لنصرتها، فإذا وضعت الحرب أوزارها، توقع الناس أن تظلهم المبادئ التي قاتلوا في سبيلها، لكن ما تحقق من هذه المبادئ لم يزد يوما على طيف تتبدى وراءه حقيقة نحيفة، هي على نحافتها مبهمة غير واضحة المعالم. من ثم بقيت الشرور التي شكا الناس منها تثقل حتى اليوم كواهلهم، ولم تفد مبادئ الحرية والعدل والإخاء من تضحيات الإنسانية إلا قليلا، أما الثمرة الكبرى للحروب الطاحنة فقد آل معظمها إلى الذين يؤمنون بحق الجسد في النعمة والمتاع، والذين يبتغون الجاه والمال ويكنزون الذهب والفضة، ولا يرون بأسا في أن يرووا غلتهم للمتاع وظمأهم للمال بما أريق من دماء الإنسانية، وما بذل من مهج وأرواح فداء للعدل والإخاء والحرية.
وسبب ذلك ما قدمنا من أن الضمير الإنساني لا يزال أدنى إلى الطفولة، والطفولة كثيرة العثرات، لكن عثرات الطفل لم تصده يوما عن أن يعود فيمشي ليعثر من جديد.
وهذه العثرات هي التي تعلمه كيف يحفظ توازنه حتى تصل به إلى أن يسير مستقيما سوي القامة، يسرع الخطا إلى فتوة الشباب ثم إلى حكمة الرجولة، ولعل عثرة قاسية تكب الناشئ على وجهه تكون أجدى عليه وأقوى أثرا في تقويم سيرته، ولقد كانت كبوة فارس والروم من العثرات القاسية التي صادفت الإنسانية؛ لذلك كان قيام الإسلام ونهوض الإمبراطورية الإسلامية من أقوى البواعث على تقدم الضمير الإنساني إلى ناحية نضجه.
وآية ذلك أن الإسلام إنما استرعى سمع الناس فدانوا به؛ لأنه يصور مثل الإنسانية الأعلى، ويسمو بالحرية وبالكرامة الإنسانية إلى أرفع الذرا، فهو لا يجعل للناس إلها غير الله، هم عباده وحده جل شانه، لا يملك لهم أحد غيره نفعا ولا ضرا، ولا مثوبة ولا عقابا، وما يصيبهم في هذه الحياة أو يصيبون فيها يجزيهم الله عنه الجزاء الأوفى، فليعملوا إذن مطمئنين إلى حريتهم، لا يريدون إلا وجهه، فإذا أصابهم ظالم بمكروه فالويل لظالمهم من ربه، وإذا رأوا منكرا فليزيلوه، وليعلموا أن الله من ورائهم محيط.
لماذا كتب القدر الحكيم منذ الأزل في لوحه، فاصطفى الله نبيه الكريم من شبه جزيرة العرب دون غيره من أرجاء العالم؟!
ليس في مقدورنا، ولا في مقدور غيرنا، أن نقطع برأي حاسم في الجواب عن هذا السؤال، فنحن جميعا لم نؤت من العلم إلا قليلا، لكن ذلك لا يمنعنا من تلمس سنن الكون والاجتهاد لإدراك ما يقع بمشيئة الله فيه، وما يقع في حياة الإنسانية وجماعاتها يخضع لهذه السنن الثابتة كما يخضع لها سائر ما في الكون مما برأ الله، فمن الحق علينا أن نحاول تفسير الظاهرات الاجتماعية على ضوء هذه السنن، وإن كنا لا نطمع اليوم، وعلمنا الإنساني كما هو، في أن نعرف ما يطويه غيب المستقبل للجماعات الإنسانية على النحو الذي نستطيع أن نعرف به ما سيكون من أمر الأفلاك ودوراتها.
والذي يهدينا إليه الاجتهاد جوابا عن هذا السؤال أن حضارة العالم استقرت في الأجيال الأولى من حياة الإنسانية، وإلى القرن السادس المسيحي، في مصر وآشور واليونان ورومية، ثم امتدت منها إلى ما وراءها؛ وأن العقل الإنساني بلغ من النضج في هذه المناطق ما لم يبلغه في غيرها، مما يسر الضمير الإنساني أن يستقيظ فيها ويبزغ فجره، ولذلك وجهت الإمبراطوريتان فارس والروم مصاير العالم في ذلك العهد، ونهضتا بعبء الحضارة فيه، فلما آن لهاتين الإمبراطوريتين أن تهرما كانت شبه جزيرة العرب هي المنطقة المستقلة عنهما، المتصلة مع ذلك بهما، المتداخلة فيهما، ومهما يكن من أمر هذا الهرم الذي أصابهما فالدعوة إلى المثل الأعلى أدنى إلى أن تستجاب فيهما، وأن تمتد منهما إلى ما وراءهما، هذه كلها أحداث كتبت منذ الأزل في لوحد القدر، فلا غرو أن يكتب معها منذ الأزل أن يقوم الداعي إلى المثل الأعلى في أدنى الأرض من الإمبراطوريتين وأكثرها مع ذلك استقلالا عنهما، فالاستقلال هو الكفيل بحرية العقل، وبأن يستجيب الناس آخر الأمر للدعوة إلى الحق.
وكذلك اصطفى الله للقيام بهذه الدعوة نبيه من أهل شبه الجزيرة، ومن بلد هو أكثر بلاد شبه الجزيرة استقلالا، وأوفر هذه البلاد لذلك العهد عزة وكرامة.
ودعا محمد قومه إلى التوحيد وإلى المبادئ التي يتحقق بها مثل الإنسانية الأعلى، ثم بلغ دعوته إلى عاهلي الإمبراطوريتين فارس والروم ودعاهما إلى ما جاء به من الحق، بذلك أقام الحد الفاصل بين الحق والباطل، وحذر الناس حين دعاهم إلى الحق ممن يخادعون الناس باسمه، ثم ترك من بعده أصحابه الذين عزروه في حياته ونصروه، والذين أدركوا ما جاء به وامتثلوه.
وأنت قد رأيت كيف بلغ أبو بكر من سمو الإدراك لهذه المبادئ ما مكنه من أن يقيم في نفسه الحد بين الحق لذاته والمنافع العاجلة التي يسعى إليها من يخادعون الناس باسم الحق؛ ورأيته كيف أصر على أن ينصر الحق لذاته ولو قام لنصرته وحده، وإذا بلغ سمو الإدراك من نفس هذا المبلغ، فذلك الدليل على نضج الضمير غاية النضج، ولو أن الإنسانية كلها بلغت يوما هذا النضج لما شبت الحرب بين بنيها، ولاستجاب الله دعوة الذين يدعونه عند بيته المحرم: «ربنا أنت السلام ومنك السلام، أحينا ربنا بالسلام!»
لا يزال الأمد بعيدا بيننا وبين اليوم الذي تستجاب فيه هذه الدعوة، فالناس لا يزالون إذا دعوا بالحكمة والموعظة الحسنة إلى غير ما وجدوا عليه آباءهم جعلوا أصابعهم في آذانهم، وأخذتهم العزة بالإثم، وأبوا أن يجادلوا بالتي هي أحسن، وحسبوا أن القوة الغاشمة تخفت صوت الحق، ذلك أن ضميرهم لا يزال في طفولته، والطفل يحسب أنه كلما ضج وعلا ضجيجه خضع أبواه لرغائبه وأهوائه، فإذا رأى أبويه يهذبانه ولا يزعجهما ضجيجه أذعن وسكن، وذلك ما صنع أبو بكر مع أهل الردة حين ضجوا وحاولوا المقاومة، أخذهم بما يجب أن يؤخذوا به، فقضى على مقاومتهم وعلى ضجيجهم.
وشاءت الأقدار أن تمهد لانتشار الإسلام في فارس والروم بانتشار العرب في بادية الشام؛ فقد يسروا لأهل الجزيرة أن ينفذوا إليهم، وأن يتخطوهم لغزو الفرس على شاطئ دجلة والفرات وما وراءهما، ولغزو الروم في الشام وفي مصر إلى السودان.
أنت ترى من ذلك كله أن المعجزة التي حدثت في عهد أبي بكر لم تكن ثمرة المصادفة، وإنما كانت أمرا محتوما قضت به سنن الكون التي لا تبديل لها، فلو أن شبه الجزيرة لم تكن تجاور الشام والعراق، ولو أن اللغة العربية لم تكن لغة القبائل التي استقرت ببادية الشام منذ قرون، ولو أن الله لم يصطف نبيه في ذلك العهد الذي اشتد فيه ظمأ العالم لسماع كلمة الحق والاهتداء بنوره، لو أن ذلك كله لم يكن، لجرت المقادير بغير ما جرت، ولكان تاريخ الإنسانية غير ما نعرف اليوم، ولما حلت الحضارة الإسلامية محل حضارة فارس والروم، بل لاتخذت الحضارة أطوارا أخرى غير التي عرفنا من يومئذ إلى عصرنا الحاضر.
وإذا شاءت الأقدار أن تتم على الأرض مثل هذه المعجزة مهدت لها بما رأيت، وهيأت لها أسباب الفوز، فأبرزت من ملكات الرجال ومواهبهم ما يخطون به في صحف الكون مشيئة القدير الحكيم. لقد رأيت ما صنعه أبو بكر وخالد بن الوليد وعمر بن الخطاب وأمراء الجند المسلمين، ورأيت كيف اضطلعوا بمثلها لولا أن أراد ربك لهذه المعجزة أن تتم وفاقا لسنته. فلولا هذه المشيئة لظل أبو بكر تاجرا ينمو ربحه ويكثر ماله، ثم تنطوي صفحته ولم تزد مكانته في قومه على زعامة قبيلة تيم بن مرة، وعلى احتمال الديات والمغارم، ولولا هذه المشيئة لظل خالد بن الوليد فارس بني مخزوم وفارس قريش، ولما سما اسمه فاقترن على التاريخ بأسماء الإسكندر الأكبر، ويوليوس قيصر، وهانيبال، وجنكيز خان، ونابليون، ولولاها لما أصبح اسم الفاروق عمر بن الخطاب علما للعدل والرحمة والبأس مجتمعة، فإذا نحن أرخنا اليوم لهم وأشدنا بفعالهم، وقرنا سمو الدعوة للحق إلى اسم القائد العبقري وجعلنا منهما وحدة على الزمان، لم نعد بذلك أن نرسم صورة من مشيئة القدر والعوامل التي تهيأت لتنفيذها، والتي أدت إلى انتقال الحضارة هذا الانتقال الذي مهد لعهد جديد في حياة العالم.
أما وقد ذكرت القائد العبقري خالد بن الوليد، فلأقف الآن وقفة قصيرة أتناول مسألة تناولتها في «حياة محمد»، لكني أتناولها هنا من غير الناحية التي تناولتها هناك. لقد طالما تحدث من شاء عن انتشار الإسلام بالسيف، وقد بينت في «حياة محمد» أن القرآن ينكر حرب الاعتداء في مواضع كثيرة منه، يقول تعالى:
وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين (البقرة: 190) ويقول:
فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم واتقوا الله واعلموا أن الله مع المتقين (البقرة: 194)، وهو يدعو إلى الصلح والصفح والتسامح دعوته لحرية الرأي ولدفاع المؤمن عن عقيدته إن حاول غيره أن يفتنه عنها.
هذه مبادئ ثابتة في الإسلام يصور بها المثل الأعلى ويدعو الناس إليه، فما بال أبي بكر دفع المسلمين لحروب الردة ولفتح العراق والشام؟ وما بال أمراء المؤمنين بعده نهجوا في هذا الأمر نهجه وساروا فيه سيرته؟ لقد كان الصديق أكثر المسلمين اتصالا بالنبي وامتثالا لما أمر الله به ونهى عنه، أفلا ينهض ذلك دليلا على أن الإسلام، وإن أقر مبادئ الرحمة والتسامح والصفح، لم ينكر على الدعاة إليه أن ينشروه ببطش القوة! ولذلك غزوا البلاد وحكموها ودعوا أهلها إلى دينهم؟
لا شك في أن الصديق قد نفذ في حروب الردة ما جاء في كتاب الله من قوله تعالى في سورة براء:
فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين ونفصل الآيات لقوم يعلمون * وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون (التوبة: 12)، وهم لم يعد ما أمر الله به حين وافق على غزو العراق وغزو الشام، وليس معنى ذلك أن هذا الغزو هو المثل الأعلى الذي دعا الإسلام إليه وجعل السلام غايته، وإنما معناه أن ما حدث منه هو بعض إملاء الغرائز الإنسانية في ذلك الطور من طفولة الضمير الإنساني، كما أنه بعض إملاء هذه الغرائز في عصرنا الحاضر حيث الضمير الإنساني لا يزال يتدرج إلى الصبا، فله من الصبا طيشه ونزواته.
وإملاء الغرائز كثيرا ما أدى إلى عثرات كعثرات الطفل في سيره، ترهقه وتؤلمه، ثم تنتهي به ليسير مستقيما سوي القامة يسرع الخطا إلى فتوة الشباب وحكمة الرجولة.
والإسلام لم يغفل، حين صور المثل الأعلى للإنسانية، أن بلوغ الغاية من هذا المثل إنما يكون حين يبلغ الضمير الإنساني نضجه، وذلك لا يتم إلا أن تتعاقب عشرات الأجيال ومئاتها حثيثة السعي إليه كيما تدركه، لذلك قدر الإسلام الواقع من أمر الإنسانية وما تمليه عليها غرائزها، ورسم السبيل التي تسلكها لتقترب رويدا رويدا من غايتها، وكما أنك إذ تربي ولدك ليبلغ ما تريده من كمال الجسم والعقل لا تحمله على أن يسير سيرة الرجال، بل ترضي أهواء طفولته وصباه حينا وتكبح هذه الأهواء حينا آخر، وكما أنك تصادف أثناء ذلك من صلابة الطفولة والصبا ما قد يقف تقدم ولدك تارة، وتصادف من مرونته وذكائه ما يسرع بتقدمه تارة أخرى؛ فإذا رأيته صلبا لم تكسره، بل لنت له لتلين صلابته، وإذا رأيته متقدما أغريته ليتابع تقدمه ويزداد إسراعه فيه، وربما دعاه هذا الإسراع إلى وقفات تجني عليه وتؤذيه؛ كذلك رأى الإسلام أن يساير الضمير الإنساني في تدرجه من الطفولة إلى الصبا، وجعل تهذيب هذا الضمير غايته الأولى، كما جعلت أنت تهذيب طفلك غايتك الأولى، وهو لذلك يساير الغرائز ليقومها، يلين لها حينا ويقسو بها حينا، جاعلا همه دائما أن يتجه بها إلى الناحية التي تدنيها من الغاية التي أرادها، والمثل الأعلى الذي صوره لها.
والضمير الإنساني يجمد أحيانا حتى نخاله ارتد عن تقدمه، ويسرع السير أحيانا أخرى إسراعا يخشى منه العثار، وسيره قد يقف وقد يتغير اتجاهه، فإذا القوى التي تدفعه إلى التقدم تضطرب بين أرجاء العالم المختلفة، وذلك ما حدث حين جمدت الأمم الإسلامية وجمدت المبادئ التي دعا الإسلام إليها، لكن الجمود والوقفة ليسا في طبيعة الحياة، لذلك يخفيان دائما عوامل الدفاع تستكن دونهما، ثم لا تلبث أن تظهر فإذا الإنسانية تستأنف تقدمها، وهذا التقدم هو الذي يجعلنا نؤمن بأن الضمير الإنساني لا بد له يوما من أن يبلغ الغاية من النضج، وإن اقتضى ذلك أن تتعاقب عليه مئات الأجيال، فإذا بلغ هذه الغاية بلغ المثل الأعلى كما صوره الإسلام، عند ذلك يظل الأرض سلام الله، ويستجيب الله دعاء من يدعونه عند بيته المحرم: «ربنا منك السلام وإليك السلام، أحينا ربنا بالسلام.»
يجب أن يسمع الناس جميعا دعوة الحق في مختلف أرجاء الأرض خلال تعاقب الأجيال ليتقدم الضمير الإنساني رويدا رويدا إلى النضج، ولن يبلغ النضج مداه حتى يعم الإنسانية كلها، فأما إن نضج الضمير في ناحية من العالم ثم ظلت غرائز الطفولة ونزوات الصبا تحركه في سائر الأرجاء، فسيبقى لسلطان هذه الغرائز والنزوات من الحكم ما يديم النزاع ويديم الحرب، وما يقتضي قوادا عباقرة من أمثال خالد بن الوليد أن يكونوا الأداة لتهذيب الشذوذ في كل ناحية لم ينضج فيها الضمير ؛ شأنهم في ذلك شأن المربي إذ يهذب شذوذ تلاميذه.
وإنا لنسجل في كثير من الغبطة والرضا خطوات تقدمها ضمير الإنسانية من الطفولة إلى الصبا، لا يصدنا عن ذلك ضيق هذه الخطوات واضطرابها، لقد كان للإسلام في هذا التقدم أعظم الأثر، وسيكون له مثل هذا الأثر من بعد حتى تتم كلمة ربك ويؤمن الناس بالمثل الأعلى في مشارق الأرض ومغاربها.
ويسرني وأنا بصدد هذا التسجيل أن أثبت هنا كلمة للكاتب الإنجليزي الكبير برنارد شو تؤيد رأيي، قال: «لقد كان دين محمد موضع تقديري السامي دائما لما ينطوي عليه من حيوية مدهشة؛ لأنه، على ما يلوح لي، هو الدين الوحيد الذي له ملكة الهضم لأطوار الحياة المختلفة، والذي يستطيع لذلك أن يجذب إليه كل جيل من الناس.
لا مرية في أن العالم يعلق على نبوءات كبار الرجال قيمة كبيرة، وقد تنبأت بأن دين محمد سيكون مقبولا لدى أوربا غدا، وهو قد بدأ يكون مقبولا لديها اليوم.
لقد عمد رجال الإكليروس في العصور الوسطى إلى تصوير الإسلام في أحلك الألوان؛ وذلك بسبب الجهل أو بسبب التعصب الذميم، والواقع أنهم كانوا يسرفون في كراهية محمد وكراهية دينه ويعدونه خصما للمسيح، أما أنا فأرى واجبا أن يدعى محمد منقذ الإنسانية، وأعتقد أن رجلا مثله إذا تولى زعامة العالم الحديث، نجح في حل مشكلاته، وأحل في العالم الإسلامي السلام والسعادة، وما أشد حاجة العالم اليوم إليهما!
لقد أدرك مفكرون منصفون قاموا في القرن التاسع عشر ما لدين محمد من قيمة ذاتية، من هؤلاء كارليل، وجوته، وجيبون، بذلك حدث تحول صالح في موقف أوربا من الإسلام، وقد تقدمت أوربا تقدما كبيرا في هذا القرن المتم العشرين، فبدأت تحب عقيدة محمد، ولعلها تذهب في القرن التالي إلى أبعد من ذلك فتعترف بجدوى هذه العقيدة لحل مشاكلها.
وقد دان كثيرون من قومي ومن أهل أوربا بدين محمد في الوقت الحاضر، وهذا يجعلنا قادرين على أن نقول إن تحول أوربا إلى الإسلام قد بدأ .»
3
هذه الكلمات التي نقلت إلى العربية من عشر سنوات خلت تؤيد ما قدمت، وها نحن أولاء نسمع اليوم من زعماء العالم عبارات تردد مثل الإسلام الأعلى وتدعو إليه وتستهين بالحرب في سبيله، ولا تزال الإنسانية تضطرب في هذه السبيل خلال طوفان جارف من الآلام والتضحيات والدموع، وهي تبذل اليوم منها أضعاف ما بذلت مجتمعا على القرون التي خلت، أفقدر لها أن تبلغ ما طالما أملت بلوغه، وأن تعيش في ظلال الحرية والمحبة والسلام؟ أفيكون النظام الجديد الذي يتحدث زعماء العالم اليوم عنه محققا حرية الشعوب، كما حققت الثورات فيما مضى حرية الأفراد؟ وهل يؤدي ذلك إلى أن يتحرر الجميع صدقا من قيود الخوف والفاقة، وأن يتعاونوا تعاونا خالصا لوجه الله يسعد به الناس في مختلف أرجاء العالم؟ هذا أمل عذب ما أحبه إلى كل نفس، وأقربه من كل قلب! وما أشد الناس حرصا على أن يتم فتتم به على الأرض كلمة الحق والسلام!
وتحقيق هذا الأمل رهن أن يبلغ الضمير الإنساني نضجه، ترى هل كتب القدر الرحيم في لوحه أن تتمخض الآلام والضحايا التي احتملها العالم في هذا القرن المتم للعشرين عن هذا النضج؟! لا ريب عندي في أن الإنسانية ستخطو في هذه السبيل خطوة إن لم نستطع اليوم أن نقدر مداها فمن حقنا على كل حال أن نغتبط بها، وأن نرجو بعدها خطوات أفسح منها، فالعالم اليوم تتقارب أجزاؤه، وتتزايد وسائل الاتصال بين أبنائه، كانت الصحافة تعد في القرن الماضي أعظم قوة لتيسير التفاهم بين الناس، ثم كانت صحافة أمريكا لا تصل إلى هذا الشرق العربي قبل أسابيع من ظهورها، أما ما يجري اليوم في العالم فيتلقاه الناس في مختلف أرجائه بسرعة البرق على موج الأثير عن طريق الإذاعة، وهذه الإذاعة المشغولة اليوم بأنباء الحرب وأهوالها ودعايتها ستشغل غدا بالدعوة إلى السلم وإلى السمو الإنساني وتصور الوسيلة التي تهيئ أسبابهما، وقد تهذب هذه الدعوة الضمير وتقربه من النضج، وتجعله الحكم العدل المنزه عن الهوى، والذي يستطيع لذلك أن يجنب الإنسانية الحرب، فيجنبها الضحايا والآلام والدماء والدموع.
متى يبزغ فجر هذا اليوم ومتى تشرق شمسه؟ إنا نراه بعيدا، ويراه الله قريبا، فيوم عند ربك كألف سنة مما تعدون، وذلك اليوم الذي تشرق فيه الشمس على الإنسانية وقد نضج ضميرها، هو الذي تبلغ فيه الكمال ويصبح فيه المثل الأعلى حقيقة واقعة، ويومئذ يصفو جوهر النفس من كل ما يخالطه من شوائب النقص، فتسمو على إملاء الغرائز الدنيا، وتمتثل مبادئ قائمة بها، بل تصبح سر حياتها، فإذا مر بها طيف يخالفها لفظته وعدته دخيلا عليها ومرضا يؤذيها ويتلفها، عند ذلك يكمل إيمان الناس جميعا، فيحب كل منهم لأخيه ما يحب لنفسه، وينظر كل منهم نظرة الإشفاق والتألم لكل من تبدو في نياته أو أعماله شائبة من أثرة أو نزوة من هوى، ويرون واجبا عليهم أن يلتمسوا له الطب وأن يسعفوه بالدواء؛ فإن برئ فذاك، وإلا عزلوه عنهم اتقاء عدواه، ورجاء أن يسمع أثناء العزلة صوت الحكمة، فإذا سمعه برئ وعاد إلى الناس وقد صار مثلهم، وأصبح ضميره قاضيه الذي يحاسبه وينصفه منه من ترد بخاطره خصومتهم، وأصبحت نفسه التي برأت فلم تعد أمارة بالسوء هي التي تجعل الناس جميعا أحب إليه من نفسه، وآثر عنده منها.
ويومئذ يصبح ضمير الإنسانية ميزان العدل بالقسطاس المستقيم، فلا تكون أمة خيرا من أمة، ولا جنس خيرا من جنس، ولا لون خيرا من لون، بل تكون الأمم كالأفراد إخوة يربط بينها العدل والرحمة ويدعوانها للتعاون على البر والتقوى، ويجعلان الأمم الصغيرة آثر عند الأمم الكبيرة من نفسها، والأمم الضعيفة والأمم القوية سواء في السعي إلى الخير ابتغاء وجه الله وحده.
ويومئذ ينظر أبناؤنا مطمئنين من عالمهم السعيد إلى عالمنا الذي انطوى في صحف الماضي وطوانا معه، أتراهم يتحدثون بينهم مشفقين مما احتمل هؤلاء الآباء بحكم غرائزهم وشهواتهم، باسمين سخرا من هذه الشهوات والغرائز، ومن إذعان الناس لها وإسلامهم لحكمها؟! أم تراهم ينصفوننا، والضمير الناضج منصف بطبعه، فيقدرون أن غرائزنا وشهواتنا وآلامنا وضحايانا هي التي أدت بهم إلى ما ينعمون به من سلام وسعادة؟! ما نراهم إلا منصفين، وما نراهم، إذا قر نظرهم خلال هذا الماضي عند عهد أبي بكر ورأوا ما تم في خلافته القصيرة الأمد من خلال جلائل الأعمال إلا يقولون: رحم الله الصديق صفي النبي وخليله! لقد كان ضعيفا في بدنه، قويا في إيمانه، وقد دفع العالم بقوة هذا الإيمان دفعة نشرت فيه لواء الحق وأقرت كلمته، والكلمة الطيبة كالشجرة الطيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء، تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها، والذين جاهدوا مؤمنين لإقرار كلمة الحق لهم عند ربهم جزاء الصديقين، وحسن أولئك رفيقا.
ستكون هذه كلمتهم، فهي كلمة التاريخ المنصف، ونحن نقولها اليوم وسيقولها من بعدنا أبد الدهر، ومن أحسن قولا ممن جعل الله حجته، والإنصاف غايته!
تقدير وشكر
بقلم محمد حسين هيكل
الآن وقد أراد الله للطبعة الأولى من هذا الكتاب أن تتم، فمن الحق علي أن أقدر معاونة الذين عاونوني أثناء كتابته، وأثناء طبعه، وأن أشكر لهم هذه المعاونة أصدق الشكر.
لقد كتبت فصول هذا الكتاب بين شهر سبتمبر سنة 1939 وشهر يونيو سنة 1940، في الفترة التي انقضت بين وزارتي المغفور لهما محمد محمود باشا، وحسن صبري باشا، وكنت إذا فرغت من كتابة بعض فصوله دفعتها إلى الأستاذ سيد نوفل فأملاها على لبيب أفندي فكري إبراهيم فكتبها على الآلة الكاتبة.
ثم إن الأحوال حالت دون مراجعة الكتاب وتهذيبه إلى شهر مارس سنة 1942، فلما تيسر لي من الفراغ ما مكنني من إعادة النظر فيه جعلت أراجع ما كتبت، وفي منتصف يوليو دفعت ما أتممت مراجعته إلى مطبعة مصر، وطلبت إليها أن تتخذ من كتابي «حياة محمد» نموذجا للطبع في القطع والطريقة، ونقحت الفصول التي رأيتها في حاجة إلى التنقيح، ثم دفعتها من جديد إلى الأستاذ سيد نوفل فأملاها على الآلة الكاتبة.
وقد عاونني الأستاذ سيد كذلك في تصحيح تجارب الطبع، وأبدى لي أثناءها، كما أبدي لي أثناء إملاء الكتاب، ملاحظات ذات قيمة، فله عن ملاحظاته ومعاونته وإخلاصه فيهما أجزل الشكر وأصدقه .
ومنذ بدأت أطبع الكتاب تولى الأستاذ عبد الرحيم محمود من أمره مثل ما تولاه من أمر «حياة محمد» و«منزل الوحي» من قبل، فجعل همه مع دقة التصحيح إلى الدقة اللغوية والتدقيق في ضبط النصوص والأعلام والألفاظ التي تحتاج إلى الضبط، والأستاذ عبد الرحيم حجة ثقة يعتمد عليه، وقد بذل من الجهد فيما تولاه ما أشكره اليوم له، كما شكرته من قبل، مقدرا صدق مودته وإخلاصه لعمله.
وما دمت بصدد التصحيح فلست أنسى جهد الأستاذ الشاعر محمود أبو الوفا، والأستاذ علي فودة، فهو جهد جدير بالثناء.
أما الفهارس فوضعها الأستاذان الشيخ محمد البرهامي منصور والشيخ أحمد عبد العليم البردوني، فلهما خالص الشكر.
ولست في حاجة إلى التنويه بعناية مطبعة مصر بدقة الطبع وجماله، فالكتاب بين يدي القارئ شهيد عليهما، وأحسب القارئ يشاركني في شكرها على ما بذلت من عناية دونها كل عناية.
والحمد الأكبر والثناء الأجل لله جل شأنه، منه الهدى، وبه التوفيق، وإليه يرجع الأمر كله.
سجل المراجع
المراجع العربية
الجامع لأحكام القرآن: لأبي عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي.
جامع البيان في تفسير القرآن: لأبي جعفر محمد بن جرير الطبري.
تاريخ الرسل والملوك: لأبي جعفر محمد بن جرير الطبري.
تاريخ اليعقوبي: أحمد بن يعقوب بن جعفر بن وهب بن واضح الكاتب العباسي.
سيرة سيدنا محمد رسول الله: لأبي محمد بن عبد الملك بن هشام.
الطبقات الكبرى: لمحمد بن سعد كاتب الواقدي.
تاريخ ابن خلدون: لعبد الرحمن بن محمد بن خلدون.
الكامل في التاريخ: لعز الدين أبي الحسين علي محمد بن أبي الكرم الشيباني المعروف بابن الأثير.
وفيات الأعيان: لابن خلكان، شمس الدين أبي العباس أحمد بن إبراهيم بن علي بن أبي بكر الشافعي.
فتوح البلدان: لأحمد بن يحيى جابر البلاذري.
فتوح الشام: لمحمد بن عمر الواقدي.
فتوح الشام: لأبي إسماعيل محمد بن عبد الله الأزدي البصري.
الفتوحات الإسلامية بعد مضي الفتوحات النبوية: للسيد أحمد بن السيد زيني دحلان.
الأغاني: لأبي الفرج الأصفهاني علي بن الحسين القرشي الأموي .
الإمامة والسياسة/عيون الأخبار/المعارف: لأبي محمد بن عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري.
الإعلام بأعلام بيت الله الحرام: لقطب الدين محمد بن أحمد المكي الحنفي المعروف بالنهرواني.
مروج الذهب ومعادن الجوهر: لأبي الحسن علي بن الحسين بن علي المسعودي.
الإتقان في علوم القرآن: لعبد الرحمن بن أبي بكر جمال الدين السيوطي.
كتاب المصاحف: لأبي داود الحافظ أبي بكر عبد الله بن أبي داود سليمان بن الأشعث السجستاني.
تاريخ القرآن: لأبي عبد الله الزنجاني.
أشهر مشاهير الإسلام: للسيد رفيق العظم بك.
بيت الصديق: للسيد محمد توفيق البكري.
فجر الإسلام: للأستاذ أحمد أمين بك
خلفاء محمد: للأستاذ عمر أبي النصر.
عمرو بن العاص: للأستاذ حسن إبراهيم حسن.
دائرة المعارف الإسلامية.
دائرة معارف القرن العشرين: للسيد فريد وجدي. المراجع الأجنبية
Annals of the Early Caliphate, by Sir Wolliam Muir.
Successors of Mahomet, by Washinoton Irvino.
The Early Caliphate, by Maulana Mohammed Ali.
Mohammedanism, by C. Smouk Huroronje.
History of the Arabians, by ABBE DE Mariony.
The Arab Conquest of Egypt, by ALFRED J. Butler.
The Early Development of Mohammedanism, by D. S, Mar Goliouth.
Essai sur I’histoire des Arabes, par CAUSSIN DE
Le Mondo Musulman et Bysantin, par GAUDERON-DEMOMBYNER.
Historians History of the World.
Eneyclopedia Britannice.
Dictionnaire Larousse.
Bilinmeyen sayfa