حسبي هذا في تحديد الفن - ومنه الأدب بالطبع - لأسائل نفسي: وماذا تريد بكلمة «العلم»؟
العلم - كما قلت في كلمتي للدكتور مندور عند التعليق على كتابه - هو منهج لا موضوع؛ فقد يختلف الموضوع عند مختلف العلماء فيكون النبات عند هذا، وطبقات الأرض عند ذاك، قد يكون الموضوع هو أجرام السماء عند عالم وماء البحر عند آخر، قد ينفق أحد العلماء عمره في حشرة يدرسها، وقد ينصرف عالم آخر بجهده كله إلى إشعاع الراديوم، وكل هؤلاء علماء! لماذا؟ لأنهم جميعا يصطنعون منهجا معينا في فرض الفروض وتحقيقها. وليس هنا مجال التفصيل في ذلك.
لكن الدكتور مندور لم يعجبه منا هذا القول، فأنكره، قائلا: «إن الذي يعرفه الجميع تعريفا للعلم هو أنه «مجموعة من القوانين التي تفسر الظواهر الطبيعية» ...» وقد كنت أحب أن يستثنيني على الأقل من هؤلاء الجميع؛ لأن «القوانين التي تفسر الظواهر الطبيعية» تتغير وتتبدل في مختلف العصور. قد يقول هذا بقانون ما، يفسر به ظاهرة طبيعية، وقد يقول غير ذلك من زملائه المعاصرين - ودع عنك من سبقوه ومن سيلحقون به - قد يأخذ زميل له بقانون آخر يفسر به الظاهرة عينها، ومع ذلك فكلاهما عندنا عالم إذا اتبع منهاج العلم الصحيح، بغض النظر عن القوانين التي وصل إليها هذا أو ذاك. ولو كانت العبرة في تعريف العلم بالقوانين التي تفسر الظواهر الطبيعية؛ للزم أن نخرج من قائمة العلماء كل من لم تثبت قوانينه التي وصل إليها ثبوتا يدوم على مر الزمن. وبعبارة أخرى، لزم أن نمحو كل العلماء من قائمة العلماء!
ولو كان العلم منهاجا - لا موضوعا معينا - كما نعتقد، لما كان مستحيلا أن ينصب هذا المنهاج على الآثار الأدبية فيصبح النقد علما. وسنعود إلى تفصيل ذلك.
أقول إن المجال لا يسمح بذكر تفصيلات المنهج الذي يجعل العلم علما، لكني أذكر من خصائص هذا المنهج خصيصة لا بد من ذكرها في سياق هذا الحديث؛ ليتكامل الرأي الذي ندافع عنه.
من أخص خصائص المنهج العلمي أن يسقط ما هو خاص من جوانب الموضوع الذي يبحثه؛ فلا يستبقي إلا ما هو عام بين الناس، ومن هنا يتضح الفرق بين الفن والعلم، فبينما الفن كما قلنا يلتقط من الموضوع تلك العناصر التي تجعله فردا فريدا لا يتكرر في أشباه؛ ترى العلم يستبعد هذه الجوانب الخاصة من موضوعه ليحصر نظره في العام المشترك. فمثلا، إن طالعتنا بأوصاف تتجمع في أذهاننا فتتكون منها صورة فريدة لشخص معين كما فعل شكسبير مثلا في تصوير هاملت أو الملك لير أو غيرهما من عشرات الأشخاص الذين رسمهم بقلمه، أقول إن طالعتنا بمثل هذه الصورة الفذة الفريدة التي تجد ما يطابقها تمام التطابق في سائر أفراد الناس؛ كنت أديبا فنانا. أما إن أتيتنا بقواعد عامة لسلوك الناس على اختلافهم؛ فأنت عالم يشاهد الجوانب المشتركة بين الأفراد، فيجردها ويسجلها، ولا يغير من الموقف أن تضع علمك هذا في قصيد منظوم.
وهاهنا نضع إصبعنا على مميز واضح للعلوم في شتى صورها، يميزها من الفنون في مختلف ألوانها، وهو «التجريد». العلوم موضوعاتها جوانب مجردة انتزعناها من المفردات التي نشاهدها، والفنون موضوعاتها هي هذه المفردات في تفردها؛ فلو لحظت صفة تميز البقر - مثلا - فعزلتها بذهنك جانبا، فقلت إن البقر يجتر، كنت بمنزلة العالم؛ لأنك جردت صفة واحدة من مجموعة صفات لا توجد في العالم الواقع إلا مركبة مشتبكة؛ أي انتزعتها وحدها، مع أنها لا توجد في الدنيا الحقيقية وحدها، ثم لأنك عممت هذه الصفة بين البقر جميعا. أما إذا استوقفت نظرك بقرة واحدة بشيء، فصورتها رسما أو كلاما أو نحتا، بحيث تثبت لها فرديتها التي لا تشترك فيها مع سائر البقر؛ فأنت ها هنا بمنزلة الفنان. •••
وننتقل في هذا الموضع إلى صميم ما أردنا أن نعرضه على القارئ، وهو الذوق والعقل، ما معناهما؛ لنرى أيهما يصلح معيارا للنقد الأدبي، وبالتالي لنرى هل يكون النقد الأدبي فنا أو علما.
سأعرف الذوق بأنه تأثر أي حاسة جسدية بأي أثر من الآثار. إن الذوق في أصله تأثر حاسة معينة عضوها اللسان، لكنا في هذا السياق سنعمم استعمال الكلمة على سائر الحواس، فلو نظرت إلى شجرة أمامك، فلنسم انطباع صورة الشجرة على شبكية عينك وتأثرك بها ذوقا، على غرار ما يتأثر اللسان بذوق الطعام الذي يمسه، وكذلك قل في سمعك لصوت، أو لمسك لشيء، أو شمك لرائحة.
وبديهي أن الحاسة لا تتأثر إلا بما هو فرد فريد؛ فليست «الحرارة» بصفة عامة هي التي تلسع أصابعك، لكنها «هذه القطعة المعينة من الحديد» هي التي تلسعك، وأنت لا ترى «الشجر» بصفة عامة، بل ترى هذه الشجرة الواحدة المعينة في هذه اللحظة الزمنية المعينة، وهكذا قل في سائر المدركات الحسية.
Bilinmeyen sayfa