إن من يلعب دور العظيم في الحياة - كالذي يلعبه في المسرحية - قد لا يكون عظيما بالقياس إلى شخص آخر من أشخاص الرواية، إذا نظر إلى الشخصين نظرة مقارنة تحلل وتوازن، وهي النظرة التي ينظر بها المؤلف أو المتفرج الناقد، لكنه عظيم في ظن نفسه، لأنه- كما قلت - يحصر نفسه في دوره حصرا، لا يتيح له أن يمد النظر إلى ما وراء ذلك من أشخاص وأحداث.
وإنه لمن أشق الأمور على الإنسان أن يجاوز حدود نفسه، بحيث يجعل من شخصه شخصين: شخصا يلعب دوره في قصة الحياة، وشخصا «يتفرج» بعين الناقد الخبير العاقل؛ ليزن مقدار نفسه بالقياس إلى مقادير الناس الآخرين، غير أن هذا الأمر العسير الشاق قد استطاعه نفر قليل من العباقرة الجبابرة الفحول، فقد يبلغ الرجل من هؤلاء قمة المجد البشري، لكن هذا المجد لا يمنعه من الخروج على نفسه لينظر إليها «من الخارج»، فيزنها بالقسطاس المستقيم وزنا لا يصدر فيه عن التعصب والهوى لنفسه. أقول إن الرجل من هؤلاء قد يبلغ قمة المجد البشري، ثم ينظر إلى نفسه من الخارج، فإذا به يؤثر عليها «دورا» آخر، لا يكون له ظاهر المجد وإن تكن له حقيقته. فهذا بوذا مثلا، كان في مسرحية الحياة الظاهرة صاحب سطوة لا تقاس إليها عند النظرة العابرة أدوار كثيرين من سائر اللاعبين، لكنه خرج من حدود نفسه، وقارن وحلل، فإذا به يؤثر على سطوة الملك - أو ما في حكمها - دورا آخر يقتضيه أن يكون جائعا عاريا، وطاؤه الأرض وغطاؤه السماء، وقد أثبت الزمان صدق ميزانه؛ لأنه لو آثر وجاهة الإمارة والملك لما أفسح له التاريخ من صفحاته أكثر من سطر أو سطرين. على حين ضمن له ذلك العري والجوع زعامة ألوف الملايين من البشر، وكتب له صفحات من نور في سجل الخلود.
وهذا الغزالي مثلا آخر، أتيح له في مسرحية الحياة أن يلعب دورا فيه كثير من الأبهة والعظمة الظاهرتين، لكنه هو الآخر استطاع أن يتجرد من نفسه لينظر إلى نفسه نظرة موضوعية تمكنه من قياسها إلى غيرها، فإذا دور آخر يستهويه، ليس فيه من جلال المنظر كثير ولا قليل.
نحن في مسرحية الحياة لاعبون، لكل دوره الذي أريد له، أو الذي اختاره لنفسه بما يتفق مع ميله وهواه. ولو قد أتيح للواحد منا أن يكون لاعبا حينا ومتفرجا حينا آخر؛ لهان كثير جدا من الكوارث والخطوب؛ لأن كثيرا جدا من هذه الخطوب وتلك الكوارث منشؤه ما يعيش الناس فيه - أفرادا وجماعات - من أوهام عن أقدار أنفسهم. وإني أعود فأقول إنه ليس من الهينات الميسورة لكل إنسان أن يقف من نفسه موقف المتفرج ليضعها موضعها الصحيح بالنسبة لما عداها، ولو كان ذلك من الهينات الميسورة لكل إنسان، لما طلبت الرحمة من الله لمن يعرف قدر نفسه بالتعيين والتخصيص؛ إذ قيل: رحم الله امرأ عرف قدر نفسه. •••
على أن الحكمة هي في الموازنة بين اللعب والتفرج؛ فالإمعان في تجرد الإنسان عن نفسه ليتفرج مضر ضرر الإمعان في اللعب بغير وقفة للتدبر والنظر. فلو كان العالم كله لاعبا بغير تدبر الناقد الفاحص المحلل؛ لما اتخذت الأمور أقدارها الصحيحة، ولو كان العالم كله متفرجا لما أنتج شيئا.
وإن سياق الحديث ليدعوني في هذا الموضع أن أستطرد، فأقول: إن اللاعبين في مسرحية الحياة من جهة، والمتفرجين من جهة أخرى؛ قد اختلفت قيمة الفريق منهم بالنسبة لقيمة الفريق الآخر في العصور المختلفة، اختلافا يبعث على التأمل والتفكير.
فقد كان الناس في الألعاب الأولمبية عند اليونان الأقدمين، ينقسمون فرقا ثلاثا: ففريق ينزل مضمار السباق، وهؤلاء هم اللاعبون وفريق آخر يجلس على هامش الحلبة، وهؤلاء هم المتفرجون، وفريق ثالث لا ناقة له في مضمار اللعب ولا جمل، وإنما ذهب هنالك لينجز ما أراد لنفسه من أعمال تتصل بالبيع والشراء في ذلك المزدحم المائج من الناس ألوانا وأشكالا ، وكانت القيمة الاجتماعية الكبرى للفريق الثاني - فريق المتفرجين - فما كان يجوز لرجل يعتز بكرامته وكرامة أسرته أن ينزل المضمار لاعبا متسابقا، ويتلو هؤلاء في المنزلة فريق اللاعبين؛ فقد كان هؤلاء يظفرون بكثير من المجد في أعين الناس، مهما يكن قدرهم بالنسبة إلى الطبقة العالية المتفرجة. وأما أرباب البيع والشراء، الذين لا هم إلى أولئك ولا إلى هؤلاء؛ فكانوا أدنى الناس قيمة وقدرا.
ويمكن التعبير عن هذا المعنى نفسه بعبارة أخرى، فنقول: إن القيمة الكبرى عندئذ كانت لمن يتدبر ولا يعمل. أو بعبارة ثالثة: كان أصحاب التفكير النظري هم السادة، والعكس صحيح؛ أي إن من علامة السيادة والرفعة أن تقف عند حد التفكير النظري دون أن تجاوزه إلى العمل والتطبيق. ولذا كان أمعن العلوم في التفكير النظري - مثل الرياضة والفلسفة - هي أجدر العلوم بالدراسة عند أبناء العلية. ولا عجب في مثل هذا الجو الفكري أن يدعو فيلسوفهم أفلاطون إلى أنه لا يجوز أن يحكم الناس إلا فيلسوف. ثم لا عجب كذلك أن يقتضي بناء المجتمع عندئذ أن يكون فيه طبقة من العبيد، يوكل إليها العمل اليدوي بأنواعه المختلفة.
وها نحن أولاء نشهد في عصرنا كيف تغيرت الأوضاع، وتبدلت القيمة النسبية للاعبين والمتفرجين، بالمعنى الحرفي والمعنى المجازي على السواء.
فاللاعبون - بالمعنى الحرفي لهذه الكلمة - قد تفوقوا في قيمتهم على المتفرجين. فأين من يسبح في الماء ممن يقف على الشاطئ متفرجا؟ أين قيمة لاعب الكرة أو المتسابق في الجري والقفز ممن يقرأ أخبار ذلك في الصحف أو يستمع إليها في المذياع؟
Bilinmeyen sayfa