وإن شئت تسرية عن نفسك من عناء الحياة وأعبائها؛ فتعال لي أجلسك مع جماعة من أصدقائي يقرءون كتبا في التحليل النفسي هذه الأيام، فيجدون على صفحاتها ما يفرحهم من طريف الآراء ولطيف التعليلات للظواهر الإنسانية، فلا يكادون يسمعونك في أحاديثهم إلا أخبار هذا التحليل، وكيف انفتحت لهم بفضله مغاليق النفوس. وهم حريصون كل الحرص على أن ترد في أحاديثهم ألفاظ ضخمة حتى لا تظن بهم اللهو والعبث؛ لأنهم لا يقولون إلا «علما» لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. فهذه - مثلا - زوجة لا تجد سعادتها مع زوجها، لماذا؟ الجواب عندهم لا بد أن تكون هذه العقدة النفسية أو تلك مما تركب منذ الطفولة الباكرة. ويستحيل - في رأيهم - أن يكون سبب شقائها الزوجي ضآلة مرتب زوجها، أو قسوة هذا الزوج في معاملتها أو ما ينحو هذا النحو من علل وأسباب.
وتعجب أن ترى هذه النزعة تجاوز أوساط الناس إلى علمائهم وصفوة مفكريهم. فهذا كتاب ظهر حديثا في إنجلترا عن الكاتب الإنجليزي المعروف «تشارلز لام» الذي عاش في النصف الأول من القرن التاسع عشر، فهذا الأديب له قصة معروفة مشهورة مع أخته «مارية»؛ إذ أحبها وأحبته حب الشقيق المخلص لشقيقته المريضة العليلة، وحب الشقيقة لشقيقها الذي لم يتنكر لآصرة القربي، ولم يتزوج «لام»؛ لأن أخته «مارية» لم تتزوج. وكانت في مرضها تحتاج إلى عطف ورعاية، والذي جعل هذا التعاطف بين الشقيق وشقيقته معروفا ومشهورا هو أنهما تعاونا معا على إخراج بعض الآثار الأدبية، ومثل هذا التعاون والتآزر جميل ونادر، حتى ليستوقف النظر ويستقر في الذاكرة ... فتأتي هذه الكاتبة الحديثة التي أخرجت هذا الكتاب الجديد عن «تشارلز لام»، وتأبى إلا أن تطالع العالم بنظرية جديدة في العلاقة بين الرجل وأخته؛ إذ تذهب إلى أنها كانت علاقة جنسية، فقد كان الأخ والأخت معا على شيء من الشذوذ العقلي - وهو شذوذ قد انتهى بهما معا إلى الجنون - فالأرجح أن ينحرف بهما هذا الشذوذ إلى شذوذ جنسي كذلك ... إلى آخر ما قالت في هذا الاتجاه، ونحن لا نقول إن ذلك مستحيل الوقوع، لكننا نعجب: لماذا لا نعلل الأشياء بأسبابها القريبة ولا نلجأ إلى هذا الإغراب في التعليل إلا إذا كانت الحجة قاطعة باترة؟! إننا إذا سمعنا بشقيق وشقيقة يتحابان ويتعاطفان، فأول ما ينبغي أن نعلل به هذا الود بينهما هو العلاقة الطبيعية التي تكون بين أخ وأخته، وقد تزيد قليلا هنا أو تقل قليلا هناك، بل هذا ما تقتضيه شروط البحث العلمي الصحيح؛ إذ يقال لنا في هذا المجال: إنه لو كان لظاهرة ما تعليلان، ورأيت التعليلين كليهما على درجة واحدة من حيث تفسير الظاهرة، إلا أن أحدهما أبسط من الآخر؛ فالتحليل الأبسط هو التحليل الأصدق، وعلى هذا الأساس نفسه نأخذ بدوران الأرض حول الشمس لا العكس في تفسير الليل والنهار، مع أن تعاقب الليل والنهار - وسائر الظواهر الفلكية - يفسره أن تكون الأرض ثابتة والشمس تدور حولها (كما ظن بطليموس)، كما يفسره أن تكون الشمس هي الثابتة، والأرض تدور حولها (وهي نظرية كوبرنيق)، وإنما أخذنا بالرأي الكوبرنيقي؛ لأنه أبسط الرأيين؛ إذ يترتب على مذهب بطليموس تعقيدات في مسارات النجوم لا مبرر لافتراضها ما دام هناك تفسير أبسط يحل لنا الإشكال.
لو كان الكلام النظري الجميل يجد السبيل هينة ميسرة إلى التطبيق الناجح؛ لما عانت الإنسانية كثيرا جدا مما تعانيه. فما أجمل أن يجلس أفلاطون في الأكاديمية ليكتب جمهورية يكون فيها الحكم لأصحاب العقول الراجحة وحدهم! وتكون بين الناس مساواة تامة في الفرص وما إلى ذلك من كلام منسق جذاب، لكن الكلام شيء والتطبيق شيء آخر. وإنما يكون الأمر كذلك؛ لأن الكلام النظري يتجاهل ألوف الألوف من التفصيلات، لكن هذه التفصيلات كائنة واقعة في الحياة الحقيقية، فإذا ما أردت التطبيق وجدت الفرق واضحا بين سهولة القول الذي يلخص الواقع تلخيصا موجزا شديد الإيجاز، وبين هذا الواقع المركب المعقد الذي لا تكاد تحصى عناصره.
لقد قرأ قارئ مرة في إحدى المجلات أن الإنسان لو نظر بحدة إلى عيني قطة، فسرعان ما تنام القطة نوما «مغناطيسيا». وأحب صاحبنا أن يجري هذه التجربة اللذيذة؛ فأتي بقطة ووضعها على منضدة أمامه، وجعل ينظر إليها نظرا مركزا حادا، لا يتحول عنها، وجعلت القطة تنظر إليه بدورها - ولعلها كانت تعجب في نفسها من هذا المجنون! - حتى ملت القطة طول النظر؛ فمدت كفها في سرعة خاطفة، وخدشت عيني الرجل خدشة خطيرة، وانصرفت لحالها ... قد يكون الذي كتب هذا الخبر عن القطة وتنويمها صادقا فيما روى، لكن القطط مختلفات والرجال مختلفون؛ فمن القطط ما هو سمين ومنها ما هو هزيل ومنها ما هو جائع ومنها ما هو ممتلئ، وهكذا! وكذلك قل في الرجال وسعة حيلتهم أو ضيقها وقوة نظراتهم أو ضعفها إلى آخر ما بين الأفراد من فروق، لكن النظرية تلخص هذه الفروق، بل تهملها إهمالا، مع أنها قوام الواقع ونسيجه، ومن هنا كان التفكير النظري شيئا وتطبيقه شيئا آخر.
ولعلي تلقيت في ذلك درسا هو بين دروس الحياة أمرها وأقساها؛ فقد كنت أرى في المرأة المصرية رأيا حدا بي إلى الكتابة مرة بعنوان «النساء قوامات»؛ لأني رأيت - نظريا - أن المرأة المصرية أصدق نظرا وأصح رأيا من الرجل المصري، ناسيا بذلك ما بين الأفراد من فروق ... حتى علمتني الحياة درسها القاسي، وهو أنها في واقعها أعقد جدا من أن تلخصها النظريات في أقوال موجزة مبسطة.
بين الأماني والواقع
«الأحلام أفضل من تحقيقها» هذه عبارة يقولها الإنجليز، مع أنهم - أو إن شئت فقل لأنهم - من أكثر شعوب الأرض تمسكا بالواقع وانحصارا في نطاقه، حتى جاءت فلسفتهم متميزة من سائر الفلسفات باتجاهها الواقعي الصريح؛ فهم إذ يقررون ويكررون أن الأحلام أفضل من تحقيقها، فهم إنما يقررون ويكررون حقيقة نفسية هي نفسها جزء من الواقع الذي لا مفر من الاعتراف به، لمن أراد ألا يشطح مع أوهامه؛ حتى لا تمس هذه الأرض الصلبة في كثير أو قليل.
فمن الحقائق النفسية الواقعة، أن الإنسان يظل يزخرف لنفسه الأشياء ما دامت بعد في حدود الأمل، حتى إذا ما أخرجها - أو أخرجت له بفعل الظروف - واقعا ملموسا؛ هانت في عينيه، وخف وزنها على كفيه! لماذا؟ لأنه في أحلامه يطبخ لنفسه الطبخة كما يشتهيها، فيحذف عنصرا ويبقي عنصرا؛ حتى لا يقدم لنفسه إلا كل طيب مستساغ. وأما الواقع حين يتبدى له، فيقدم له صحاف الطعام مزيجا مما يشتهي وما لا يشتهي، وعندئذ لا يجد صاحبنا مهربا من إبر النحل إذا أراد العسل، ولا منجاة من الشوك إذا التمس الزهور.
وأقرب ما يرد إلى الخاطر من أمثلة على ذلك، هو هذه الفتاة أو هذا الفتى، يظل يحلم بحبيبة قلبه التي ستملأ له الدنيا سعادة وبشرا، حتى إذا ما جاءت هذه الحبيبة؛ خاب الرجاء في كثير جدا من الأحيان، ووجد الجنة المرتقبة جحيما وسعيرا؛ لأنه وهو يحلم، رسم الجانب البراق ونسي الجانب المعتم. ويستحيل أن يكون واحد بغير الآخر، إنه وهو يحلم رسم الحبيبة وهي في عافيتها تثب وتطفر، ونسي صورتها وهي عليلة طريحة الفراش. رسمها وهي ضاحكة مرحة، ونسي صورتها وهي عابسة متجهمة، رسمها وهي مكتسية بالثوب الجميل، متحلية بزينتها فواحة بعطرها، ونسي صورتها وهي تلزمه شراء ذلك الثوب وهذه الزينة وهذا العطر. وقل ذلك وأكثر منه في الفتاة وهي حيرى بين فتى أحلامها والفتى الذي جاءها به الواقع. آه لو لم يكن أسمر! لولا هذه الشعرات البيض في فوديه! لو كان أغنى قليلا مما هو! ماذا لو كان بغير أم وأخوات؟ ... هكذا ظلت فتاتنا تنظر إلى الفتى الواقع في حسرة على فتى الأحلام!
على أن الإنسان مضطر بحكم ضرورة العيش إلى نسيان أحلامه ليقبل الحقائق كما جاءته، إلا إذا كانت الفجوة أعمق وأوسع من أن تلتئم وتنمحي في غير عسر ولا مشقة. وعندئذ تجذب الأحلام صاحبها إلى صومعة بعيدة يعتزل فيها لينجو بنفسه من الحقائق المرة الأليمة، فلو رأيت زاهدا قد انتبذ إلى صومعة قصية نائية؛ فلا يخدعنك الهدوء البادي على وجهه، واعلم أنه على هدوئه ذاك يخفي في صدره ثورة متأججة على الحياة الواقعة كما لمسها بين الناس ورآها. ولا عجب أن نرى بعض الحكام المستبدين في الماضي يوجسون من أمثال هؤلاء الرهبان الزاهدين خيفة، ويتعقبونهم بالأذى؛ لأن مجرد وجودهم دليل حي ناطق أمام الناس على نقص الواقع وبعده عن الكمال الذي تتعلق به أحلام الحالمين.
Bilinmeyen sayfa