وإذا كنت مثلا بصدد قياس البعد بين الشمس والأرض؛ فلا يجوز لهواي الشخصي أن يتدخل في أمري، حيث يقول لي: اجعله كذا ميلا واخلص من الإشكال. وكذلك إذا خفق قلبي لهذا الخطاب وأردت تلاوته مرة بعد مرة، فلا يجوز لعقلي أن يتدخل في الأمر قائلا: إنه لا ينبغي لك أن تحس هذا الإحساس إزاء ورقة انتشرت عليها قطرات من مداد.
لكن الناس يخلطون بين نطاق العقل ونطاق الأهواء، بل إن الفرد الواحد ليخلط بينهما، فيعترك الناس فريق مع فريق، ويعترك الفرد عقله مع قلبه. •••
ولو جاز لنا أن نقول إن ميدان العقل هو ميدان العلوم على اختلاف أنواعها؛ فهلا يجوز لنا أن نقول كذلك إن ميدان الأذواق الشخصية هو الفنون على اختلاف صنوفها؟ أظن ذلك.
فموقف العالم إزاء جبال الهملايا هو أن يصف صخوره ويقيس ارتفاعه وما إلى ذلك. حقائق لو خالفته في واحدة منها؛ لم يشعر في نفسه بدافع لمبارزتك بالسيف، واكتفى بمطالبتك أن تسافر إلى الهملايا كما سافر، وتصفه أو تقيس ارتفاعه كما وصف أو قاس.
أما موقف الشاعر أو الفنان بصفة عامة إزاء الهملايا؛ فهو أن يحس إحساسا خاصا، فيرهب جبروت الطبيعة مثلا، أو يحب الإقامة في غابات السفوح هناك، وما إلى ذلك. إحساسات لو خالفته في واحد منها، لم يكن ثمة سبيل إلى اتفاق بينكما. فإذا أحس هو جبروت الطبيعة بحيث عبدها، وإذا جئت أنت فأحسست إزاء الطبيعة نفسها بالاستهزاء والاستخفاف؛ فقد يؤذى في شعوره إيذاء يدفعه إلى حمل السلاح، فإما خشعت معه لما خشع له، وإما فناؤك أو فناؤه.
وليس كل من يحس إحساسا خاصا إزاء شيء يخافه أو يحبه بقادر على إخراج هذا الإحساس في كلمات إن كان أديبا، أو في ألوان إن كان مصورا، أو في حجر أو برونز إن كان نحاتا، أو في أصوات إن كان موسيقيا ... على أنه لا يجوز لك في كلتا الحالين - في حالة قدرة صاحب الإحساس على التعبير الفني، وحالة عدم قدرته - أن تجادله فيما أحس؛ وإلا كنت بمثابة من يضع العقل في موضع الهوى. كل ما لك من حق في هذا الصدد هو أن تذوق مذاقه أولا تذوقه، وكفى الله المؤمنين شر القتال.
ومن ثم كان أكبر اختلاف بين العلم والفن؛ أي بين الحالات التي يجوز لنا أن نحتكم فيها إلى العقل، والتي لا يجوز فيها ذلك، هو أن الأولى عامة يشترك في إدراكها الناس جميعا، لو أتيحت لهم وسائل الإدراك، والثانية خاصة يدركها صاحبها وحده. ولست أريد للقارئ أن يظنني مدافعا عن الاحتكام في النقد الفني إلى الذوق دون العقل؛ لأني على نقيض هذا الرأي. فأنت تنتج الفن تبعا لذوقك وهواك، وتتمتع بفن غيرك تبعا لذوقك وهواك أيضا، لكنك إلى هنا لست بناقد. أما إذا بدأت تنقد؛ فقد بدأت تناقش صاحب الفن في فنه، أعني أنك قد أهملت الجانب الذاتي الخاص في فنه؛ لأن ذلك يستحيل بطبيعته أن يكون محلا لمناقشة بينكما، وأخذت من فنه إطاره أو بنائه أو هيكله. فهذا وحده ما يصح أن يكون عاما بينك وبينه، وبالتالي ما يصح أن يكون محلا للمناقشة والنقد. •••
إنني حين كتبت مقالي «عندما أطللت من النافذة» لأسوقه مثالا على سبيل التجربة للاتجاه الحديث في الأدب، بل في الفنون عامة، وهو أن يسجل الأديب خواطره كما تقع له في مجرى شعوره بغير تفرقة بين ما يسميه الناس فكرة جليلة تستحق التسجيل، وما يسمونه فكرة وضيعة لا تستحق الذكر؛ لم أتخذ موقف المدافع عن هذا المذهب، لكني أردت عرضه وتطبيقه على سبيل التوضيح والتمثيل.
وتفضل أستاذنا الجليل الدكتور أحمد أمين بك فنقد هذا المذهب، لكنه جعل بعض نقده قائما على أساس أن الخواطر المنسابة كما اتفق؛ لا تتفق مع العقل؛ لأنها لا تفرق بين ما هو شريف وما هو وضيع من الخواطر، وأنها تهم علم النفس؛ لأنها تصور نفسية الكاتب أكثر مما تهم الأديب.
وإني وإن كنت لا أتصدى للدفاع عن هذا المذهب الأدبي بصفة عامة؛ فإنني لا أرى أن هذا الجزء من نقد أستاذنا أحمد أمين بك يهدمه؛ لأننا إن قلنا لأنصاره: إنكم لا تفرقون بين الشريف والوضيع من الخواطر؛ كان جوابهم حاضرا على أطراف ألسنتهم. وهو أن الرفعة والضعة من القيم الذاتية، التي لا سبيل إلى المناقشة فيها كما نناقش المسائل العلمية. إننا نصور لك نفوسنا كما هي على حقيقتها، فلك أن تحب هذه النفوس من أوصافها، أو تمقتها لأنها من نوع لا يعجبك ولا تميل إليه. وهل تقول للكاتب المسرحي: لا تصور في مسرحيتك إلا الشخص العظيم؟!
Bilinmeyen sayfa