ضاق «ثورو» بهذا التنافس الحاد العنيف الذي يتدافع الناس فيه بالمناكب؛ سعيا وراء أدوات العيش التي ألهتهم عن العيش ذاته. وفكر وتدبر، فلم يجد مهربا إلا الحد من حاجاته حتى لا يضطر إلى العمل إلا بضع ساعات قليلة. وهو في ذلك يقول: إن أوضاع الأمور يجب أن تنقلب رأسا على عقب. فبدل أن نسعى ستة أيام ونستريح في السابع، ينبغي أن يكون سابع أيام الأسبوع هو فترة العمل التي نكسب فيها رزق الحياة بالكدح وعرق الجبين. أما الستة الأيام الأخرى، فكلها يكون عطلة الأسبوع ، نستمرئ فيها حياة الوجدان والروح، ونستجلي فيها روائع الطبيعة في جلالها وجمالها.
لكن المدينة بالطبع لم تسمح له بمثل هذا الذي تمناه، ففر إلى غابة عاش فيها مع الحيوان الذي أحبه؛ لأنه أحب الحياة في شتى صورها ... وهل تظنه قد استراح في عزلته تلك من أعباء المجتمع؟ لا والله، بل ذهب إليه في مكمنه جباة الضرائب يطلبون منه ضريبة للدولة، فأبى أن يجيبهم إلى ما طلبوه؛ احتجاجا على سياسة الدولة عندئذ في إرغام العبيد الفارين على العودة إلى المزارع التي كانوا يعملون فيها لسادتهم، فقبض عليه وسيق إلى السجن. وهاهنا يروي أن «إمرسن» زاره في سجنه، وسأله: «ما الذي جاء بك إلى هنا يا هنري؟!» فأجابه: «العجيب هو أنهم لم يجيئوا بك أنت أيضا إلى هنا يا إمرسن!»
قرأت كتاب «وولدن» وتعلمت منه درسا لن أنساه ما بقيت على ظهر الأرض حيا. تعلمت ذلك الدرس من سؤال ألقاه «ثورو» على نفسه وأجابه لنفسه: ما الذي يبرر للإنسان أن يعيش حياته؟ - إنه لا مبرر للإنسان أن يحيا لحظة واحدة، إن ملك الدنيا بأسرها وفقد نفسه.
حمى الحياة
يروى أن آخر عبارة نطق بها سقراط قبل أن يطبق جفنيه عن نور الحياة، هي هذه: «يا أقريطون! إني مدين بديك لأسكلبيوس، فهلا تذكرت أن ترد علي هذا الدين؟»
وذلك أن الناس كانوا إذا ما ألم بأحدهم مرض، ثم عوفي منه، قدم ديكا إلى إسكلبيوس. فكأنما رأى سقراط نفسه وهو مشرف على الموت، بمنزلة من أصابته الحمى حينا، ثم زالت، فوجب عليه إذن أن يقدم الديك التقليدي إلى من تقدم له الديكة إثر الشفاء من المرض. والحمى التي أصابته في هذه الحالة ثم زالت، هي حمى الحياة.
والشبيه يذكر بشبيهه؛ فقد أمضيت ساعات من القلق الذي لا يستقر على قرار، أجلس إلى مكتبي ساعتين ثم أنهض إلى مقعد وثير في ركن الغرفة أستوي فيه لأسترخي وأستريح، ثم أمل الراحة والاسترخاء، فأعود إلى المكتب ساعة أو بعضها، ثم يعاودني القلق وأنتفض نحو النافذة أطل منها دقائق، ثم يغريني السرير بضجعة تقصر أو تطول. فمعظم حياتي أقضيه في غرفة واحدة لا أملك أثاثها. نعم قد يغريني منظر السرير بضجعة تقصر أو تطول حسب هذه السرحات التي أسرحها، أستعيد بها الماضي بكل مرارته، وأتوجه إلى نفسي فيها بالتأنيب والتقريع، حتى لأكاد أمزقها تأنيبا وتقريعا: لماذا لم تفعل هذا؟ ولماذا لم تقل ذاك؟ ... وأنتزع نفسي من هذه السرحات انتزاعا لأعود من جديد إلى مكتبي دقائق، وتقع عيني على بدلتي معلقة مدلاة كالمشنوق انتحارا، فأرتديها وأخرج إلى مكان قريب أحسو قهوتي إن كنت من النهار في ساعة الضحى، أو الشاي إن كان الأصيل.
حياة أرقة قلقة أعيشها كالمحموم يتقلب في الفراش بين جنبيه، هي التي ذكرتني بما يشبه الفكرة التي طافت برأس سقراط وهو يحتضر، مودعا الحياة ببسمة على شفتيه؛ لأنه رآها عندئذ مرضا، ورأى نفسه قد دنا من البرء والعافية. •••
لكني في ساعة من طمأنينة النفس أكتب هذه السطور لأقول لسقراط حين سخط على الحياة، ولأقول لنفسي حين سخطت على الحياة؛ لما فيها من قلق لا يعرف الرضا: لقد أخطأتما؛ فالحياة محببة لهذا القلق نفسه الذي لا يعرف الرضا. ولو حلت محلها سكينة الهدوء والقرار؛ لما كانت جديرة بالعيش. ولم يخطئ «ستيوارت مل» حين قال: «إني لأفضل أن أكون سقراط في قلق نفسه، على أن أكون مطمئنا طمأنينة الغر الأبله.»
ولولا هذه الشرارة المقدوحة التي تؤرق جنوب الناس، وتباعد بينهم وبين السكينة والهدوء؛ لكان الإنسان قطعة من طين لم تنفخ فيها النفخة التي تنقلب معها إنسانا قلقا طامعا طامحا. ثم لولا طموح الإنسان وأطماعه، لما كان هنالك ما يبرر ارتفاع السماء عن الأرض، ولا ما يبرر أن يكون الأفق بعيد المدى. فكلما دنوت منه خطوة تقهقر إلى الوراء خطوة؛ حتى لا ينقطع لك سير، ولا يخمد لك نشاط.
Bilinmeyen sayfa