١٦- تأنيث العدد، وجمع المعدود
منشأ هذه الشبهة:
هو قوله تعالى: (وقطعناهم اثنتى عشرة أسباطًا أممًا وأوحينا إلى موسى إذ استسقاه قومه أن اضرِب بعصاك الحجر فانبجست منه اثنتا عشرة عينًا قد علم كل أناس مشربهم..) (١) .
وشاهدهم على اللغط بهذه الشبهة هو قوله ﷿ " اثنتى عشرة أسباطًا أممًا " والصواب الذى توهموه عبروا عنه بقولهم:
" كان يجب أن يُذَكَّر العدد، ويأتى بمفرد المعدود فيقول: اثنى عشر سبطا ".
الرد على الشبهة:
وجَّه النحاة تأنيث العدد فى الآية بأن السبط فى بنى إسرائيل كالقبيلة عند العرب. يعنى أنه أراد بالأسباط القبائل، ولذلك أنث جزئى العدد المركب، وهما: اثنتى، وعشرة (٢) .
هذا وجه، ووجه آخر هو تأويل السبط بالجماعة أو الفرقة أو الطائفة.
أما جمع أسباط، وكان حقه أن يفرد فقد روعى فيه المعنى دون اللفظ، ومراعاة المعنى دون اللفظ، أو اللفظ دون المعنى كثير الورود فى النظم القرآنى، ويبدو أن هؤلاء الطاعنين فى سلامة القرآن من كل خطأ يجهلون هذه الأساليب فى القرآن خاصة، وفى اللغة العربية عامة، ويتشبثون بظواهر العبارات حبًا فى ترويج ما يريدون ترويجه من الشبهات الواهية وكان العرب النازل بلغتهم القرآن يذكِّرون عدد المؤنث مراعاة للفظ فيقولون: ثلاثة أنفس، أى رجال ويقولون عشر أبطن.
ففى الأول " ثلاثة أنفس " ذكَّروا العدد نظرًا للمعنى؛ لأن المعدود مذكر " رجال " وفى الثانى أنثوا العدد " عشر أبطن " لأن المعدود هو القبيلة أى عشر قبائل. وهذا باب واسع لا تحصر شواهده (٣) . أما جمع المعدود الذى فى الآية " أسباطًا أممًا فله نظائر فى الاستعمال المأثور الوارد عن العرب ومنه قول الشاعر:
فيها اثنتان وأربعون حلوبة
سُودًا كخافية الغراب الأسحم
فقد وصف الشاعر " حلوبة " وهى مفرد، بقوله " سُودًا " وهو جمع سوداء.
ولهذه.. الشواهد نظائر من المأثور عن العرب الخلَّص.
والخلاصة:
فقد طاحت هذه الشبهة، وانمحت آثارها، كما طاحت نظائرها من قبل. ومن الدلائل القوية على صحة تأنيث العدد، فوق ما تقدم، أن بعض النحاة أضاف إلى بدلية " أمما " من " أسباطا " أن " أمما " وقعت نعتًا ل " أسباطا " و" أممًا " مؤنثة لفظًا. وسواء كانت " أممًا " بدلًا من " أسباطًا " أو كانت نعتًا له. فإن الذى لا نزاع فيه أن المؤنث لا يبدل من المذكر، ولا يقع نعتًا له. وهذا دليل قاطع على أن المراد من " أسباطًا " وإن كان مذكَّرًا فى اللفظ، معنى مؤنث لا محالة. ولذلك أنث النظم القرآنى جزئى العدد المركب " اثنتى عشرة ".
أما جمع المعدود " أسباطًا أممًا " وإن وجهه النحاة توجيهًا صائبًا، فقد بقى فى مجيئه جمعًا ملمح بلاغى دقيق ذلك الملمح نوضحه فى الآتى:
بدأت الآية الكريمة بهذا الفعل " قطَّعناهم " بتشديد " الطاء " على وزن " فَعَّل " وهذا التشديد يفيد التكثير، أى كثرة التقطيع والتفريق. وهذا يناسبه بلاغة جمع " أسباطًا أممًا " لا إفرادهما، والمعانى البلاغية من هذا النوع تزال من أجلها كل الموانع والسدود. ولغة القرآن وبلاغته أوسع من قواعد اللغة وفنونها البلاغية.
_________
(١) راف: ١٦٠.
(٢) انظر: الدر المصون (٥/٤٨٥) .
(٣) ومما رجح التأنيث فى الآية إبدال " أمما " من " أسباطا " مما يؤكد أن الأسباط معناها هنا مؤنث بمعنى قبائل أو جماعات.
1 / 70