وللمحاكاة التى فى الانسان فائدة، وذلك فى الاشارة التى تحاكى بها المعانى فتقوم مقام التعليم فتقع موقع سائر الأمور المتقدمة على التعليم، وحتى إن الاشارة إذا اقترنت بالعبارة أوقعت المعنى فى النفس إيقاعا جليا، وذلك الأن النفس تنبسط وتلتذ بالمحاكاة فيكون ذلك سببا لأن يقع عندها الأمر أفضل موقع. والدليل على فرحهم بالمحاكاة أنهم يسرون بتأمل الصور المنقوشة للحيوانات الكريهة والمتقذر منها، ولو شاهدوها أنفسها لتنكبوا عنها، فيكون المفرح ليس نفس تلك الصورة ولا المنقوش، بل كونه محاكاة لغيرها إذا كانت أتقنت.
ولهذا السبب ما صار التعليم لذيذا، لا إلى الفلاسفة فقط، بل إلى الجمهور، لما فى التعليم من المحاكاة، لأن التعليم تصوير ما للأمر فى رقعة النفس. ولهذا ما يكثر سرور الناس بالصور المنقوشة بعد أن يكونوا قد أحسوا الخلق التى هى أمثالها، فان لم يحسوها قبل لم تتم لذتهم، بل إنما يلتذون حيذئذ قريبا مما يلتذون من نفس [كيفية] النقش فى كيفيته ووضعه وما يجرى محراه. والسبب الثانى حب الناس للتأليف المتفق والألحان طبعا؛ ثم قد وجدت الأوزان مناسبة للألحان، فمالت إليها الأنفس وأوجدتها.
فمن هاتين العلتين تولدت الشعرية، وجعلت تنمو يسيرا يسيرا تابعة للطباع. وأكثر تولدها عن المطبوعين الذين يرتجلون الشعر طبعا. وانبعشت الشعرية منهم بحسب غريزة كل واحد منهم وقريحته فى خاصته وبحسب خلقه وعادته، فمن كان منهم أعف مال إلى المحاكاة بالأفعال الجميلة وبما شاكلها، ومن كان منهم أخس نفسا مال إلى الهجاء. وذلك حين هجوا الأشرار. ثم كانوا إذا هجوا الأشرار بانفرادهم يصيرون إلى ذكر المحاسن والممادح لتصير الرذائل بازائها أقبع. فان من قال إن الفجور رذالة، ووقف عليه، لم يكن تأثير ذلك فى النفس تأثيره لو قال: كما أن العفة جلالة وحسن حال.
قال: إلا أنه ليس لنا أن نسلم ذكر الفضائل فى الشعر لأحد قبل أوميرس وقبل أن بسط هو الكلام فى ذكر الفضائل؛ ولا ننكر أن يكون آخرون قد قرضوا الشعر بالفضائل، ولكن أوميرس هو الأول والمبدأ.
ومثال أشعار المتقدمين من الهجاء قول بعضهم ما ترجمته: إن لهذاك شبقا وفسقا وانتشار حال — وما يجرى مجرى ذلك مما يقال فى الأشعار المروفة؛ ب«يامبو»، وهى وزن يخص بالمجادلات والمطانزات والاضجارات من غير أن يقصد به إنسان بعينه، وهو وزن ذو اثنى عشر رجلا، وكان يستعمله شعراء «ديلاذا» و«فاروديا».
Sayfa 172