ثم إن القوة المتخيلة قوة قد يصرفها النفس عن خاص فعلها بوجهين، تارة مثل ما يكون عند اشتغال النفس بالحواس الظاهرة وصرف القوة المصورة إلى الحواس الظاهرة وتحريكها بما يورد عليها منها حتى لا تسلم للمتخيلة المفكرة فتكون المتخيلة مشغولة عن فعلها الخاص، وتكون المصورة أيضا مشغولة عن الانفراد بالمتخيلة، ويكون ما تحتاجان إليه من الحس المشترك ثابتا واقعا فى شغل الحواس الظاهرة، وهذا الوجه هو وجه، وتارة عند استعمال النفس إياها فى أفعالها التى تتصل بها من التمييز والفكرة، وهذا على وجهين أيضا، أحدهما أن تستولى على المتخيلة فتستخدمها والحس المشترك معها فى تركيب الصور بأعيانها وتحليلها على جهة يقع للنفس فيها غرض صحيح ولا تتمكن المتخيلة لذلك من التصرف على ما لها أن تتصرف عليه بطباعها بل تكون منجرة مع تصريف النفس النطقية إياها انجرارا، والثانى أن تصرفها عن التخيلات التى لا تطابق الموجودات من خارج فتكفها عن ذلك استبطالا لها فلا تتمكن من شدة تشبيحها وتمثيلها، فإن شغلت المتخيلة من الجهتين جميعا ضعف فعلها، وإن زال عنها الشغل من الجهتين كلتيهما كما يكون فى حال النوم أو من جهة واحدة كما يكون عند الأمراض التى تضعف البدن وتشغل النفس عن العقل والتمييز وكما عند الخوف حتى تضعف النفس وتكاد تجوز ما لا يكون وتكون منصرفة عن العقل جملة لضعفها ولخوفها وقوع أمور جسدانية فكأنها تترك العقل وتدبيره أمكن التخيل حينئذ أن يقوى ويقبل على المصورة ويستعملها ويتقوى اجتماعهما معا، فتصير المصورة أظهر فعلا فتلوح الصور التى فى المصورة فى الحاس المشترك فترى كأنها موجودة خارجا لأن الأثر المدرك من الوارد من خارج ومن الوارد من داخل هو ما يتمثل فيه، وإنما يختلف بالنسبة، وإذا كان المحسوس بالحقيقة هو ما يتمثل فإذا تمثل كان حاله كحال ما يرد من خارج، ولهذا ما يرى الإنسان المجنون والخائف والضعيف والنائم أشباحا قائمة كما يراها فى حال السلامة بالحقيقة ويسمع أصواتا كذلك، فإذا تدارك التميز أو العقل شيئا من ذلك وجذب القوة المتخيلة إلى نفسه بالتنبيه اضمحلت تلك الصور والخيالات،
وقد يتفق فى بعض الناس أن تخلق فيه القوة المتخيلة شديدة جدا غالبة حتى أنها لا تستولى عليها الحواس ولا تعصيها المصورة، وتكون النفس أيضا قوية لا يبطل التفاتها إلى العقل وما قبل العقل انصبابها إلى الحواس، فهؤلآء يكون لهم فى اليقظة ما يكون لغيرهم فى المنام من الحالة التى سنخبر عنها بعد، وهى حالة إدراك النائم مغيبات بتحققها بحالها أو بأمثلة تكون لها، فإن هؤلآء قد يعرض لهم مثلها فى اليقظة، وكثيرا ما يكون لهم فى توسط ذلك أن يغيبوا آخر الأمر عن المحسوسات ويصيبهم كالإغماء، وكثيرا ما لا يكون، وكثيرا ما يرون الشىء بحاله وكثيرا ما يتخيل لهم مثاله للسبب الذى يتخيل للنائم مثال ما يراه مما نوضحه بعد، وكثيرا ما يتمثل لهم شبح ويتخيلون أن ما يدركونه خطاب من ذلك الشبح بألفاظ مسموعة تحفظ وتتلى، وهذه هى النبوة الخاصة بالقوة المتخيلة وهاهنا نبوات أخرى سيتضح أمرها،
Sayfa 173