وإذ قد اتضح لك ما قلناه، فقد علمت، أن الكيفية التى تقال لها شجاعة، والأخرى التى يقال لها جبن، لا يتضادان فى جوهريهما؛ بل قد علمت أن الشجاعة إنما تضاد الجبن من جهة عارض لكل واحد منهما لما اقترن بهما سمى أحدهما شجاعة والآخر جبنا، ةأنها لا تضاد ذلك من حيث طبيعتها نفسها شيئا، بل طبيعتها وسط، ولكن لما كان ناء هذا الكتاب على الأمور المشهورة والمتعارفة، غير مردودة إلى الشروط التى بها تصير حقيقة، فلذلك لا يجب أن يلتفت فيه ألى هذا النحو من التحقيق. واعلم أن ههنا أمورا أخرى بينها متوسطات، ولا يوجد المتوسط فيها مضادا لشىء من الطرفين بوجه من الوجوه، إذ ليست لها هذه النسبة، فإن الفاتر والأدكن لا يضاد شيئا، بل طرفا هما المتضادان، وإن كان حال الفاتر فيما يظن ليس كحال الشجاعة، فإن الفاتر يعتقد من أمره أنه خلط من الطرفين، وأما الشجاعة فإنها طهارة من الطرفين. ومع ذلك ، فإن هذه القسمة المشهورة تتأتى فى تقابل التضاد، ولا تتأتى فى تقابل العدم والملكة. ومن أحكام المتضادين، أن وجود أحدهما مطلقا، لا يوجب وجود الآخر بوجه من الوجوه إيجاب المتضايفات، فإنه لو توهمنا أن الناس كلهم صحاح، لم يمنع هذا التوهم منا معارضة وجوب المرض، ولم يبعد أن لا يكون مرض ألبتة، وإن عنينا وجود أحدهما فى شىء بعينه، منع وجود الآخر معا، كما لو قلنا: زيد صحيح، منع أن يكون مريضا. والمتضايفات: إما مطلقات، فيوجب وجود أحدهما الآخر، وإما فى شىء واحد، فلا يمنع أن يكون ما هو أب هو أيضا ابنا، وقد أشير إلى تلخيص هذا فيما سلف وما للمتضادين أن محلهما واحد يتعاقبان فيه ويتنازعانه؛ فربما كان ذلك الواحد معنى أعم من نوع واحد، كالسواد والبياض؛ فإن موضوعهما الجسم، من حيث هو جسم طبيعى عنصرى مركب، أى جسم عنصرى مركب كان مما يصلح لقبوله. وقد يصلح له أنواع وليس ذلك نوعا واحدا، وربما كان من نوع واحد، مثل العدل والجور فإن موضوعهما ليس كل نفس ولا نفوس تقع فى أنواع كثيرة، بل نفس الإنسان. وربما كان الموضوع للضدين جنسا فيقتسمانه من غير تنازع، كالعدد للزوجية والفردية، والمتضادان ربما كانا فى جنس، كالبياض والسواد فى اللون، وربما كانا فى جنسين مختلفين، كالعفة والفجور اللذين أحدهما من جنس الفضيلة والآخر من جنس الرذيلة، وربما كانا بأنفسهما جنسين، كالخير والشر. ويشبه أن يكون المعنى فى قولهم، بإن الخير والشر جنسان، ليس أن الخير والشر من حيث هو مقول على الخير الجوهرى والخير الكمى والخير الكيفى وغير ذلك، فيقال قولا جنسيا، بل من حيث هو مقول على الملكات فيكون متواطئا من هذا الوجه، ليس باشتراك الاسم. ثم قد سومح فى كونه ذاتيا لها أو عرضيا لازما لهذه الملكات، فإن الحق، أن الخيرية أو الشرية يلزمها ولا يقومها، فإن كان كذلك فيكون الخير والشر من باب الكيف. ويشبه أن يكون المراد غير ما ناقشنا فيه، بل يكون قد توسع فى هذا الباب توسعا مطردا على المشهور من أمر الخير والشر، فإن المشهور من أمرهما أنهما عامان للأشياء، فأحرى الحكم على ذلك، ولم يبال بما يعرض من ذلك، إذ ليس هذا الكتاب كتاب الاستقصاء.
وأما الاستقصاء فإنه يقضى، أن تكون الشجاعة مضادا للجبن، قريب من كون الصارم مضادا للددان، وذلك إذا أخذ الصارم اسما لسيف مع الحدة، والددان اسما لسيف مع الكلال، فيكون لا تضاد بينهما إلا لانطوائهما على متضادين، ثم يقال إن التضاد بينهما لأجل جنسين، هما الحاد والكليل، وكذلك الشجاغعة، كأنهما اسم الكيفية مع النسبة المذكورة، وكذلك الجبن، وكذلك الحمق؛ ولكنا لا نناقش فى هذه الأشياء فى مثل هذا الكتاب، وأما التحقيق فى هذه الأمور، فسيأتيك له موضع محصل فى ذلك.
فينبغى لنا أن نشير قليلا الى ما وقع عليه الاتفاق الخاص فى أمر التضاد وأمر العدم والصورة بعد المشهور، فلا يترك المتعلم متحيرا، فنقول: أن الأضداد الحقيقية هى الأمور التى تشترك فى موضوع واحد، وكل واحد منها معنى كالبياض والسواد، ليس كالسكون والحركة، ويكون الاثنان المتقابلان منها، لا يجتمعان معا، بل يتعاقبان، وبينهما غاية الخلاف ليس كالفاتر والحار. وأما العدم والملكة، فالحقيقى من العدم، أن يكون الشىء معدوما فى الموضوع القابل لوجوده بطباعه من حيث هو كذلك، سواء كان المعدوم ما سميته ههنا ملكة أو شيئا آخر، وسواء عاد أو لم يعد، وسواء كان قبل الوقت أو بعده، أو فيه؛ ومنه ما هو أهم من ذلك، وهو عدم الشىء عما فى طبيعة من طبائع الموضوع أن يقارنه، شخصية كانت تلك الطبيعة أو نوعية كالخرس الأصلى، أو جنسية كالأنوثة، والخير والشر فى أكثر الأشياء يتضادان بالحقيقة تضاد العدم والملكة، فإن الشر عدم كمال ما من شأنه أن يكون للشىء إذل لم يكن. والسكون، والظلمة، والجهل، وما أشبه ذلك، كلها أعدام. والمرض أيضا من حيث هو مرض بالحقيقة عدم، لست أعنى من حيث هو مزاج أو ألم، والفردية أيضا، هى حال الجنس مأخوذة مع سلب عارض قد يكون فيه، وذلك الجنس هو العدد، وقد ينقسم بمتساويين، وقد يعدم هذا المعنى فيه، فإذا اقترن به، أن لا ينقسم بمتساويين، كان من تلك الجهة فردا، وكان منطويا على عدم ما، من شأنه أن يكون فى ذلك الجنس. ولنقتصر الآن على هذا المبلغ.
الفصل الرابع فصل (د) في المتقدم والمتأخر
Sayfa 147