الفن الثالث من الطبيعيات فى الكون والفساد وهو مقالة واحدة فى خمسة عشر فصلا
الفصل الأول فصل فى اختلاف آراء الأقدمين فى الكون والاستحالة وعناصرهما

Sayfa 77

قد فرغنا من تحديد الأمور العامة للطبيعيات وتعريفها، وفرغنا من تحديد الأجسام التى هى أجزاء أولية للعالم، ومنها ينتظم هذا الكل الذى هو واحد، والأجزاء الأولية للعالم بسايط لا محالة؛ وبينا أن بعض هذه البسايط لا يقبل الكون والفساد، وهى البسايط التى فى جواهرها مبادئ حركات مستدىرة. ولم يتضح لنا من حال الأجسام المستقيمة الحركة أنها قابلة للكون والفساد أو غير قابلة. نعم قد أوضحنا أن الأجسام التى فى طباعها أن تقبل الكون والفساد فى طباعها أن تتحرك على الاستقامة. فيجب من ذلك لمن حسن النظر أن بعض الأجسام المتحركة على الاستقامة يقبل الكون والفساد فيكون بعض الأجسام البسيطة قابلة للكون والفساد.

وأما أن ذلك كيف يجب فلأن الأجسام المستقيمة الحركة لا مبدأ للحركة المستديرة فيها، وهى فى أمكنتها الطبيعية ساكنة فى الأين والوضع، جميعا، واختصاص الجزء المفروض بجهة مفروضة يكون إما لأمر عارض قاسر وإما للطبع. والأمر العارض القاسر إما أن يكون قد اتفق ابتداء الحدوث هناك، أو بالقرب منه، فاختص به؛ أو اتفق أن نقله ناقل إليه، ولا يجوز أن يكون ذلك الأمر بالطبع، فقد عرفته.ولا يجوز أن يكون ذلك كله لنقل ناقل، حتى لو لم يكن ناقل لما كان لجزء منه اختصاص البتة

وبالجملة فأن القسرى يعرض على طبيعى .فلو كانت الأرض أو غيرها من الاسطقات أزلية لم يجب أن يكون مصروفة الأجزاء كلها دائما تحت نقل قاسر، ووجب أن يكون لها وضع يقتضيه أمر غير القاسر الناقل؛ بل يجوز أن يكون ذلك فى بعض الأجزاء، فبقى أن يكون العمدة فيه أن الجزء إن كان، فى ابتداء تكونه، حاصلا فى حيز يخصص حدوثه فيه عن بعض العلل لوجود ما يكون عنه به فلما كان أول حدوثه فى ذلك الحيز، أو فى حيز يؤديه التحريك الطبيعى منه إلى ذلك الموضع من موضع كليته، صار ذلك الموضع مختصا به ما علمته سالفا.

Sayfa 78

وأما المركبة فلا شك أنها من حيث هى مركبة فقد تكونت بعد ما لم تكن، فيجب أن يكون فى طباعها، لا محالة، أن تفسد؛ إذ قد بىنا لك أن كل كائن جسمانى فاسد.

فقد اتضح من هذا أن الكون والفساد موجود. وقد كان اتضح لك قبل ذلك الفرق بىن الكون وبين الاستحالة، وبين النمو والذبول فى ماهياتها. وإنما بقى لك الآن تعرف وجود كل واحد منها.

فمن الناس من منع وجود جميع ذلك؛ بل منع وجود الحركة. أما من أبطل الحركة المكانية والوضعية فلا كثير فائدة لنا فى الاشتغال بمناقضته، وإن كانت العادة قد جرت بها. فإن لنا، بمناقضيه آراء قيلت فى أمور ليس الحكم فيها يبين، شغلا شاغلا عن تكلف ما بيان وجوده يغنى عن إبانته. وأما هذه الباقية فإن الشغل فى إبانة وجودها مما ينبغى أن ىعتد به.

فقد منع قوم الكون، وزعموا أن البسائط، مثل الأرض والنار والهواء والماء، فإن جواهرها لا تفسد، بل لاشىء منها يوجد صرفا فى طبيعته، بل هو مركب من الطبيعة التى ينسب إليها ومن طبايع أخرى. لكنه إنما يسمى بالغالب .فلا أرض صرفا ولا نار صرفا، ولا ماء صرفا ولا هواء صرفا؛ بل كل واحد منها مختلط من الجميع، و يعرض له فى وقت ملاقاة غيره إياه مما الغالب فيه غير الغالب فيه، أن يبرز ويظهر فيه ما هو مغلوب لملاقاة الذى من جنس المغلوب فيه غالب، وظهوره بأن يتحرك إلى مقاومة ما غلبه وعلاه، فيستعلى عليه. وإذا تحرك إلى ذلك عرض للنظام الذى كان يحصل باجتماع الغوالب والمغلوبات أن يحيل ويستحيل.

Sayfa 79

والحس إنما يشاهد من جملة ذلك غالب الأجزاء التى تبرز وتظهر فيحسب أن جميعه استحال إلى الغالب، بأن صارت مثلا، الخشبة أو غيرها نارا. ولا يشاهد الأجراء التى تتفرق من الجوهر الآخر كالدخان مثلا، نعم إنما يشاهد بقية بقيت من الأول بحالها، أو يشاهد ما يتبقى من الأول - وقد تفرق وتشتت ، أو بطلت تلك الصورة التى كانت له - بقاء الرماد.

وأما جوهر الماء فلن يصير نارا البتة، ولا جوهر النار يصير ماء البتة، بل يتفرق، ويغيب عن الحس فيرى ما يظهر ويبرز للحس، فيظن أنه بجملته استحال.

فهؤلاء الطبقة يرون أن النار لا تكون من شىء بل الكائن منها يبرز ويستعلى للحس ليس على أنه حدث، بل على أنه ظهر، ويرون أنه لا استحالة ألبيه، وأن الماء ليس يسخن بالحقيقة من النار، بل تخالطه أجزاء فإذا لقيها إليه فى أول ما يظنها يستحيل لقاء أجزاء محرقة وأجزاء مبردة لقاء لا يميز الحس بين أفرادها، فيتخيل هناك أمرا بين الحر الشديد والبرد الشديد، وهو الفتور .فان كثرت الأجزاء النارية بلغ الأمر إلى أن يحرق.

قالوا: وليست الشعرة الواحدة تسود بعينها وتبيض، بل مرة تجرى فيها، ومن غذائها، أجزاء يغلب عليها فى ظاهرها سواد يخالطها ويعلوها فيبيضها. وإن الدكنة ليست لونا متوسطا بين السواد والبياض، بل مختلطا فيها، بل تكون أجزاء تسود

Sayfa 80

وأجزاء بيضا فيختلطان ويبرزان، فلا يميز الحس بينهما، وإذا لم يميز الحس تخيل المجتمع لونا واحدا.

ومن هؤلاء من يرى أن الجزء الحار مثلا ليس فيه حامل ومحمول، حتى يكون هناك جوهر وحرارة محمولة فيه؛ بل يجعل الحرارة جزءا بنفسها.

ومنهم من يرى أن هناك حاملا ومحمولا، لكنه ليس من شأن الحامل أن يفارقه المحمول ألبتة البتة .

ويشبه أن يكون بإزاء هؤلاء قوم يرون ما يسمى كونا، ولا يرون للاستحالة وجودا ألبتة البتة ، حتى يمنعوا أن يكون الماء يسخن، وهو ماء، ألبتة البتة ؛ بل إذا سخن فقد استحال ذاته، وأنه مادام ماء، ويرى أنه سخن، فهو مختلط.

وقد ألجأ بعض المطالبات واحدا من المتفلسفة، على مذهب نصارى بغداد، إلى أن قال بذلك.

وهنا قوم يرون الاستحالة، ولا يرون كونا ألبتة البتة ، وأكثر هؤلاء هم الذين يقولون بعنصر واحد، إما نار. وإما ماء، وإما هواء، وإما شىء متوسط بين هواء ونار وماء.

Sayfa 81