مُخْتَصر خَلِيل
للشَّيْخ خَلِيل بن إِسْحَاق الجندي الْمُتَوفَّى ٧٧٦ هـ
وَمَعَهُ
شِفَاءُ الغَلِيلِ فِي حَلِّ مُقفَلِ خَلِيل
تأليف
مُحَمَّد بن أَحْمد بن غَازِي العثماني الْمُتَوفَّى ٩١٩ هـ
دراسة وَتَحْقِيق
الدكتور أَحْمد بن عبد الْكَرِيم نجيب
أستاذ الحَدِيث النَّبَوِيّ وعلومه فِي كُلية الدراسات الإسلامية بسراييفو، والأكاديمية الإسلامية بزينيتسا، ومدرس الْعُلُوم الشَّرْعِيَّة فِي معهد قطر الديني سَابِقًا
مَرْكَز نجيبويه
Bilinmeyen sayfa
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين، ربِّ يسّر يا كريم. آمين
قال الشيخُ، الفقيهُ، الإمامُ، العالمُ، العلاَّمة، الحافظُ المتقنُ، المحقِّقُ، البليغُ، الصالحُ، الفاضلُ المتبركُ به، الصدر الأوحد، ترجمان الفقهاءِ، ورئيس النُبَهاءِ، أبوعبدالله محمد بن أحمد بن محمد بن محمد علي بن غازي العثماني المكناسي، غفر الله له، وتغمده برحمته، وتجاوز عنه بمنه وكرمه وفضله، وأبقى بركته، ورضي عنه، ونفعنا به وبأمثاله (١):
الحمدُ للهِ الذي منّ علينا بنعمة الإسلام، وجعلنا من أمة نبينا محمدٍ ﵊؛ فبيّن لنا ﷺ الحدود والأحكام، وفصّل لنا الحلال والحرام، وأورث علماءنا من معارفه ما جلّو به عنّا غياهب الظلام، وكشفوا به عن أبصار بصائرنا سدف (٢) الغمام، فصنّفوا لنا في ذلك المطولات الضخام، والمختصرات الصغيرات الأجرام، جزاهم الله تعالى عنّا أفضل ما جزى إمامًا عن ذوي إئتام، وجعلنا وإياهم في مستقر رحمته بدار السلام أما بعد:
فإنّ مختصر الشيخ العلامة خليل بن إسحاق أفضل نفائس الأعلاق، وأحقّ ما رمق بالأحداق، وصرفت إليه همم الحذّاق؛ إذ هو عظيمُ الجدوى، بليغُ الفحوى، مُبين لما به الفتوى، أو ما هو المرجّح الأقوى، قد جمع الاختصار في شدة الضبط والتهذيب، وأظهر الاقتدار في حسن المساق والترتيب، فما نسج أحدٌ على منوالهِ، ولا سمحت قريحةٌ بمثالهِ، ولله درّ الشيخ الأديب البارع أبي الحسن عليّ بن أبي حمامة السلوى إذ يقول فيه:
خَلَلت من قلبي مسالك نفسه ... والروْحَ قد أحكمتَهُ تخليلا
أخليلُ إني قد وهبتك خلة ... ما مثلها يهب الخليل خليلا
فخليل نفسي من يود خليلها ... وخلاه ذم إن أحب خليلا
_________
(١) أدرجت في هذه المقدمة جُلّ ما حوته النسخ الخطيّة من ألقاب ونعوت إلى كنية المؤلف، واسمه ونسبه ﵀، ولم أشر إلى الفوارق بينها لعدم الفائدة.
(٢) السدف الظلمة، وهي المرادة هنا، وهي أيضا الضوء، فهى من الأضداد. انظر: لسان العرب، لابن منظور: ٩/ ١٤٦.
1 / 111
ولقد عُني تلميذه الإمام أبو البقاء بهرام (١) بحلِّ رموزه، واستخراج كنوزه، وافتراع (٢) أبكاره، واقتباس أنواره، واجتناء ثماره، واجتلاء أقماره بأظرف عبارة، وألطف إشارة، إلاّ أماكن أَضْرَب عنها صفحًا، [أو لم يُجِدها] (٣) شرحًا؛ فتحرك مني العزم الساكن، لتتبع تلك الأماكن، فشرحتها في هذا الموضوع بقدر الاستطاعة، وإن كنت في العلم مزجي البضاعة، وأودعته مع ذلك نكتًا جملة، كل نكتة منها تساوي رحلة، وسمّيته بـ: " شِفَاءُ الغَلِيلِ (٤) في حلِّ مُقْفَلِ خَلِيلِ "، وأمّا ما خرج من ألفاظِ الشارحِ عن لفظِ المشروحِ، فلا يكون منّي للتنبيه عليه جنوحٌ؛ لأنّ ذلك مما يطول، ويشبه الفضول، ومن الله تعالى أستوهب التوفيق والهداية إلى التحقيق؛ فهو حسبي ونعم الوكيل، وهو على كلّ شيءٍ وكيل.
وقد رأيت أن أقدم هنا مقدمتين:
الأولى: [٢ / أ] في ذكر بعض مناقب المصنف - رحمه الله تعالى-.
الثانية: في أمور استنبطناها من كلامه بالاستقراء.
أمّا الأولى: فهو خليل بن إسحاق بن يعقوب (٥)، يُعرف بابن الجندي، كان عالمًا
_________
(١) هو: أبو البقاء، بهرام بن عبد الله بن عبد العزيز، الدميري، المالكي، قاضي القضاة بمصر، حامل لواء المذهب المالكي على كاهله أخذ عن الشيخ خليل وغيره، ودرس بالشيخونية وغيرها، من مصنفاته: " الشامل "، و" المناسك "، و" شرح مختصر خليل "، و" شرح مختصر ابن الحاجب "، و" شرح ألفية ابن مالك "، توفي سنة ٨٠٥ هـ. انظر ترجمته في: كفاية المحتاج لمعرفة من ليس في الديباج، لأحمد بابا التنبكتي، ص: ١٣٢، ونيل الابتهاج بتطريز الديباج، للتنبكتي: ١/ ١٥٩، وتوشيح الديباج، للقرافي، ص: ٦٢.
(٢) في (ن ٢): (افتضاض)، وافترع البكر: افتضّها. انظر، لسان العرب، لابن منظور: ٨/ ٢٥٠.
(٣) في (ن ٢): (أو لم يجد لها)، وفي (ن ٤): (يحددها ولم يجدها).
(٤) الغَلِيلُ: حرارة العطش، وربما سُمّيت حرارة الحزن والحبّ غَلِيلًا. الغَلِيلُ: حَرُّ الجوف لَوْحًا وامْتِعاضًا. والغَلِيلُ: الغِشُّ والعَداوة والضِّغْنُ والحقْد والحسد. انظر: لسان العرب، لابن منظور: ١١/ ٤٩٩.
(٥) المعروف في نسب خليل ﵀: خليل بن إسحاق بن موسى، فـ (يعقوب) خطأ، قال الحطاب: ذكر ابن غازى موضع (موسى) (يعقوب)، ويوجد كذلك في بعض النسخ، وهو مخالف لما رأيته بخطه. انظر: مواهب الجليل، للحطاب: ١/ ٣٠. على أن الخُرَشي في شرحه نسبه ليعقوب أيضا، وناقش العدوي الأمر فطالعه هناك، انظر: شرح الخرشي: ١/ ٣٤.
وأشار إلى ذلك الدسوقي في حاشيته على الشرح الكبير: ١/ ٩، أقول: ووضع في نسبه (يعقوب) صاحب " درة الحجال " أيضًا، ولعلّه تابع ابن غازي. انظر: درة الحجال، لابن القاضي، ص: ١٣٣.
1 / 112
عاملًا مشتغلًا بما يعنيه، حتى حُكي عنه: أنه أقام عشرين سنة لم ير النيل وهو بمصر، وحكي عنه أنه جاء يومًا لمنزل بعض شيوخه، فوجد كَنِيف (١) المنزل مفتوحًا، ولم يجد الشيخ هناك، فسأل عنه؟ فقيل له: إنه شوّشه أمر هذا الكَنِيف، فذهب يطلب من يُستأجر على تنقيته، فقال خليل: أنا أولى بتنقيته، فشمّر ونزل يُنَقّيه، فجاء شيخه فوجده على تلك الحال، والناس قد حلّقوا عليه ينظرون إليه تعجُّبًا من فعلِهِ فقال: من هذا؟ فقالوا: خليل؛ فاستعظم الشيخ ذلك، وبالغ في الدعاء له عن قريحة ونية صادقة، فنال بركة دعائه، ووضع الله تعالى البركة في عمره. فسبحان الفتّاح العليم.
وحدثنا شيخنا أبو زيد الكاواني (٢)، عمن رأي خليلًا بالديار المصرية: يلبس الثياب القصار، أظنّه قال: ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر.
وسمعت شيخنا العلاّمة أبا عبد الله القوري (٣) يحكي أنه بلغه عنه أنّه كان من أهل المكاشفات، وأنه مرّ بطباخ دلّس الناس ببيع لحم الميتة، فكاشفه وزجره؛ فأقرّ وتاب على يديه.
أخذ رحمه الله تعالى عن الشيخ الفقيه الصالح أبي محمد (٤) عبد الله المنوفي (٥) ... وغيره،
_________
(١) الكَنِيف: الخَلاء. انظر: لسان العرب، لابن منظور: ٩/ ٣٠٨ وما بعدها.
(٢) هو: أبو زيد، عبد الرحمن الكاواني، الفاسي، مفتيها، الفقيه العالم المتفنن، الإمام في الأصلين، توفي سنة ٨٦٠ هـ. انظر ترجمته في: كفاية المحتاج، لأحمد بابا: ١/ ٢٧٦، ونيل الابتهاج، للتنبكتي: ١/ ٢٨٠، وطبقات الحضيكي: ٢/ ٢٧٥، وشجرة النور، لمخلوف، ص: ٢٦٦، غير أنه ذكر وفاته سنة: ٨٩٠ هـ.
(٣) هو: أبو عبد الله، محمد بن قاسم بن محمد بن أحمد اللَّخْمي نسبًا، المكناسي دارًا ومسكنًا ومولدًا، الأندلسي سلفًا، القوري شهرة ولقبًا، الفاسي نقلة ومزارًا، قال عنه تلميذه ابن غازي: كان فقيهًا عالمًا علامة مفتيًا مشاورًا حجة حافظًا. انظر ترجمته في: كفاية المحتاج، ص: ١٨٤، وتوشيح الديباج، ص: ٢٠٢، وسلوة الأنفاس: ٢/ ١١٥.
(٤) في (ن ١): (عن)، وهو غير مستقيم.
(٥) هو: عبد الله المغربي، المصري، المشهور بالمنوفي، أخذ عن الشيخ شمس الدين التونسي، والزواوي، والأقفهسي، وكان من الصلحاء، وانقطع بالمدرسة الصالحية، فكان لا يخرج إلا إلى صلاة الجماعة أو الجمعة، وامتنع من الاجتماع بالسلطان، وعين لكثير من المناصب فلم يجب، واشتهر بالديانة والصلاح والعبادة والزهادة. انظر: ترجمته في: الدرر الكامنة، لابن حجر: ٣/ ٩٧.
1 / 113
وتوفي ثالث عشر أحد شهري ربيع سنة ست وسبعين وسبعمائة (١)، وفي هذه السنة توفي الشيخ أبو عمران موسى بن محمد بن معطي العبدوسي (٢)، وأبو عبد الله بن الخطيب السلماني (٣).
وأمّا المقدمة الثانية: فمن عادته أنه لا يمثِّل بشيء إلاّ لنكتة، من رفع إيهام، أو تحذير من هفوة، أو إشارة لخلاف، أو تعيين لمشهور، أو تنبيه بالأدنى على الأعلى، وعكسه، أو محاذاة نصّ الكتاب أو نحو ذلك، مما يستطعمه من فتح له في فهمه.
ومن قاعدته: أنه إذا جمع نظائر وكان في بعضها تفصيل أخّره، وقيّده بأحد طرفي التفصيل، ثم يتخلّص منه لطرفه الآخر مع ما يناسبه من الفروع فيحسن تخلّصه غاية، وينتظم الكلام، ويأخذ بعضه بحجزة بعض.
_________
(١) حرّر الحطاب هذا الأمر فقال: " سنة سبع وستين وسبعمائة، كذا ذكر القاضى تقى الدين وابن حجر، وذكر ابن غازى أنها في سنة ست وسبعين أي وفاة المصنف وهما أعلم من ابن غازى بذلك ". وما وهم فيه ابن فرحون أيضًا قال فيه الحطاب: وأما تاريخ الوفاة الذى ذكره ابن فرحون في ترجمة الشيخ خليل فإنما هو تاريخ وفاة الشيخ عبد الله المنوفى، وقد وهم بعض محققي المختصر فنقل كلام ابن فرحون بنصّه دون تحرير، فوقع في خطأ ابن فرحون. انظر: المختصر ط المكتبة العصرية، ص: ٨، وفي شرح الزرقاني مناقشة لهذا الأمر، ورجّح أنها سنة ٧٧٦ هـ، وانظر: شرح الزرقاني، ط، الكتب العلمية: ١/ ٣، والديباج المذهب، لابن فرحون ص: ١٨٦، وانظر: الدرر الكامنة، لابن حجر: ٢/ ٢٠٧.
(٢) هو: أبو عمران، موسى بن محمد بن معطي الفاسي، الشهير بالعبدوسي، أخذ عن عبد العزيز القروي، وعن أبي زيد عبد الرحمن بن عفان الجزولي، وكان يحضر مجلسه الفقهاء والصلحاء والمدرسون وحفاظ المدونة. انظر ترجمته في: كفاية المحتاج، ص: ٢٤٢، ودرة الحجال، لابن القاضي، ص: ٢٩٤.
(٣) هو: أبو عبد الله، محمد بن عبد الله بن سعيد بن علي السلماني، الغرناطي، القرطبي، المعروف بلسان الدين ابن الخطيب، الإمام الأوحد الفذ صاحب الفنون المنوعة والتآليف العجيبة، ذو الوزارتين، توفي قتيلًا سنة ٧٧٦ هـ، من مصنفاته: " الإحاطة فيما تيسر من تاريخ غرناطة "، و" سد الذريعة في تفضيل الشريعة "، و" الوزارة ومقامة السياسة "، و" الكتيبة الكامنة في شعراء المائة الثامنة "، وغيرها. انظر ترجمته في: كفاية المحتاج، لأحمد بابا، ص: ٨٣، والدرر الكامنة، لابن حجر: ٥/ ٢١٣، ودرة الحجال، لابن القاضي، ص: ٢٩٤.
1 / 114
ومن قاعدته غالبًا أنه: إذا جمع مسائل مشتركة في الحكم والشرط نسّقها بالواو، فإذا جاء بعدها بقيدٍ علمنا أنه منطبق على الجميع، وإن كان القيد مختصًا ببعضها أدخل عليه كاف التشبيه، فإذا جاء بالقيد علمنا أنه لما بعد الكاف.
وأمّا نسجه على منوال ابن الحاجب (١) في بعض اصطلاحه فواضح (٢).
_________
(١) هو: أبو عمرو، عثمان بن عمر بن أبي بكر بن يونس، الدويني، المصري، الفقيه المالكي، تبحّر في الفنون، وكان الأغلب عليه علم العربية، توفي سنة ٦٤٦ هـ، من تصانيفه: " الإيضاح شرح المفصل للزمخشري "، و" الكافية في النحو "، و" مختصر منتهى السؤل والأمل في علمي الأصول والجدل "، و" جامع الأمهات ". انظر ترجمته في: الديباج المذهب، لابن فرحون، ص: ١٨٩، والطبقات، لابن قنفذ، ص: ٣١٩، والبلغة في تاريخ أئمة اللغة، للفيروزآبادي، ص: ١٤٠، وطبقات القراء، للذهبي: ٢/ ٥١٦، وغاية النهاية، لابن الجزري: ١/ ٥٠٨.
(٢) يقصد المؤلف هنا أن المصنف ﵀ قد تابع ابن الحاجب في كثير من عباراته فمثلا يقول المؤلف في قول خليل: (ولا أَنَّهَا رَأَتْ أَوَّلَ الدَّمِ وانْقَطَعَ) يقول: هذه نفس عبارة ابن الحاجب، وقوله: (أَوْ قَصَدَ تَلَذُّذًا) يقول: اتبع فِي هذه العبارة ابن الحاجب، وقوله: (وفَسَدَ بِتَعْيِينِ الْمَعْمُولِ مِنْهُ أَوِ الْعَامِلِ) كذا فِي النسخ الصحيحة كعبارة ابن الحاجب، كما أن خليلًا نهج في اختياراته الفقهية نهج ابن الحاجب، والمطالع لما عند المؤلف هنا سوف يقف على ذلك بجلاء. وأما اصطلاح خليل ﵀ فتابع لابن الحاجب في كثير منه، كتعبير ابن الحاجب عن المدونة: (بفيها)، وهو نفس تعبير خليل ﵀، واصطلاح (الأصح)، و(المشهور)، و(الأظهر) يعبر بها عن ترجيح يراه ابن الحاجب في المسألة، وهي نفس اصطلاحات خليل ﵀، وإن كان يختلف عنه قليلًا فيما تطلق عليه.
1 / 115
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
يَقُولُ الْفَقِيرُ الْمُضْطَرُّ لِرَحْمَةِ رَبِّهِ، الْمُنْكَسِرُ خَاطِرُهُ لِقِلَّةِ الْعَمَلِ والتَّقْوَى، خَلِيلُ ابْنُ إِسْحَاقَ [ابْنِ مُوسَى عَفَا اللهُ عَنْهُ بِمَنِّهِ] (١) [الْمَالِكِيُّ] (٢) الْحَمْدُ للهِ حَمْدًا يُوَافِي مَا تَزَايَدَ مِنَ النِّعَمِ، والشُّكْرُ لَهُ عَلَى مَا أَوْلانَا مِنَ الْفَضْلِ والْكَرَمِ، لا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْهِ هُوَ كَمَا أَثْنَى عَلَى نَفْسِهِ، ونَسْأَلُهُ اللُّطْفَ والإِعَانَةَ فِي جَمِيعِ الأَحْوَالِ، وحَالَ حُلُولِ الإِنْسَانِ فِي رَمْسِه (٣).
وَالصَّلاةُ والسَّلامُ، عَلَى مُحَمَّدٍ سَيِّدِ الْعَرَبِ والْعَجَمِ، الْمَبْعُوثِ لِسَائِرِ الأُمَمِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وعَلَى آلِهِ وأَصْحَابِهِ وأَزْوَاجِهِ وذُرِّيَّتِهِ وأُمَّتِهِ أَفْضَلِ الأُمَمِ. وبَعْدُ:
فَقَدْ سَأَلَنِي جَمَاعَةٌ أَبَانَ اللهُ لِي ولَهَمُ مَعَالِمَ التَّحْقِيقِ، وسَلَكَ بِنَا وبِهِمْ أَنْفَعَ طَرِيقٍ، مُخْتَصَرًا عَلَى مَذْهَبِ الإِمَامِ مَالِكٍ بْنِ أَنَسٍ رَحِمَهْ اللهُ تَعَالَى، مُبَيِّنًا لِمَا بِهِ الْفَتْوَى، فَأَجَبْتُ سُؤَالَهُمْ بَعْدَ الاسْتِخَارَةِ.
مُشِيرًا بِـ (فِيهَا) لِلْمُدَوَّنَةِ.
قوله: (مُشِيرًا بِفِيهَا لِلْمُدَوَّنَةِ (٤» يريد وبنحو: رُويت، وحُملت، وظاهرها، وأُقيمَ منها.
وَبِـ (أَوَّلَ) إِلَى اخْتِلافِ شَارِحِيهَا (٥) فِي فَهْمِهَا.
قوله: (وَبِأَوَّلَ إِلَى اخْتِلافِ شَارِحِيهَا فِي فَهْمِهَا) أي: ومشيرًا بمادة (أول) ليندرج
_________
(١) ما بين المعكوفتين زيادة من أصل المختصر المحفوظ لدينا.
(٢) ما بين المعكوفتين ساقط من أصل المختصر لدينا.
(٣) الرمس: طمس الأثر، وما هيل التراب عليه. انظر: لسان العرب، لابن منظور: ٦/ ١٠١.
(٤) يعني: المدوّنة، لعبد الرحمن بن القاسم توفي سنة: ١٩١ هـ، تلميذ الإمام مالك، وأحد رواة الموطأ، وهي من أعظم الكتب في فروع مذهب المالكية، وللمالكية عليها شروح عديدة، والمراد أن خليلًا إذا قال: (فيها) فمراده: في المدوّنة، كقوله: (وفِيهَا كَرَاهَةُ الْعَاجِ)، وقوله: (وَفِيهَا نُدِبَ تَأْخِيرُ الْعِشَاءِ قَلِيلًا) وقوله: (وفِيهَا الْبُدَاءَةُ بِالْغَرِيمِ).
(٥) من شراح المدوّنة: ابن عبدوس المتوفى سنة ٢٦٠ هـ، وابن محرز المتوفى سنة ٢٩٩ هـ، وقاسم بن خلف الجبيري المتوفى سنة ٣٧٨ هـ، وابن زمنين المتوفى سنة ٣٩٩ هـ، وعمر بن أبي الطيب القيرواني المتوفى سنة ٤٣٠ هـ، وابن المرابط الطلمنكي المتوفى سنة ٤٨٥ هـ، وخليل بن إسحاق الجندي صاحب المختصر المتوفى سنة ٧٦٧ هـ، وأبي عمران العبدوسي المتوفى سنة ٧٧٦ هـ. . . وغيرهم ممن شرحها، أو علّق على شرحها، أو تهذيبها. انظر: جامع الشروح والحواشي، لعبد الله محمد الحبشي: ٣/ ١٩١٢ وما بعدها.
1 / 116
نحو: تأويلان وتأويلات، وهذا النوع من الاختلاف إنما هو في جهات محمل لفظ الكتاب، وليس في آراء في الحمل على حكم من الأحكام فتعد أقوالًا.
وَبِـ (الاخْتِيَارِ) لِلَّخْمِيِّ (١)، لَكِنْ إِنْ كَانَ بِصِيغَةِ الْفِعْلِ فَذَلِكَ لاخْتِيَارِهِ هُوَ فِي نَفْسِهِ، وبِالاسْمِ فَذَلِكَ لاخْتِيَارِهِ مِنَ الْخِلافِ، وبِـ (التَّرْجِيحِ) لابْنِ يُونُسَ (٢) كَذَلِكَ. وبِـ (الظُّهُورِ) لابْنِ رُشْدٍ (٣) كَذَلِكَ وبِـ (الْقَوْلِ) لِلْمَازِرِيِّ (٤) كَذَلِكَ ..
قوله: (وَبِالاخْتِيَارِ لِلَّخْمِيِّ .. إلى آخره) إنما جعل الفعل لاختيار الأشياخ في أنفسهم، والاسم والوصف لاختيارهم من الخلاف المنصوص لمن قبلهم؛ لأن الفعل يدل على الحدوث، والوصف يدل على الثبوت، وخصّهم بالتعيين لكثرة تصرفهم [٢ / ب] في الاختيار.
وبدأ باللخمي؛ لأنه أجرأهم على ذلك؛ ولذا خصه بمادة الاختيار (٥).
_________
(١) هو: أبو الحسن، علي بن محمد الربعي، القيرواني، المعروف باللخمي، نزل سفاقس، كان فقيهًا فاضلًا دينًا متفننًا، له تعليق كبير على المدونة سماه " التبصرة " أورد فيه آراء خرج بها عن المذهب، توفي سنة ٤٧٨ هـ. انظر ترجمته في: ترتيب المدارك، للقاضي عياض: ٤/ ٧٩٧، والديباج المذهب، لابن فرحون، ص: ٢٠٣، وشجرة النور، لمخلوف، ص: ١١٧.
(٢) هو: أبو بكر، محمد بن عبد الله بن يونس التميمي، الصقلي، الإمام الحافظ، الفقيه الفرضي، الملازم للجهاد، الموصوف بالنجدة، توفي سنة ٤٥١ هـ. انظر ترجمته في: ترتيب المدارك، لعياض: ٨/ ١١٤، والديباج المذهب، لابن فرحون، ص: ٢٧٤، وشجرة النور الزكية، لمخلوف: ١/ ١١١.
(٣) هو: أبو الوليد، محمد بن أحمد بن أحمد بن رشد، القرطبي، القاضي، شيخ المالكية، من تصانيفه " المقدمات الممهدات "، و" البيان والتحصيل لما في المستخرجة من التوجيه والتعليل "، و" اختصار المبسوطة "، و" اختصار مشكل الآثار " للطحاوي، وغيرها، توفي سنة ٥٢٠ هـ. انظر ترجمته في: الديباج المذهب، لابن فرحون، ص: ٢٤٨، وشجرة النور الزكية، لمخلوف: ١/ ١٢٩، والصلة، لابن بشكوال: ٢/ ٥٧٦، والوفيات، لابن قنفذ، ص: ٢٧٠.
(٤) هو: أبو عبد الله، محمد بن علي بن عمر بن محمد، التميمي، المازَري، القيرواني، الفقيه المالكي، المعروف بالذكي، أحد الأئمة الأعلام، كان فاضلًا متقنًا، وكان أفقه المالكية في عصره، حتى عدّ في المذهب إمامًا، وصار الإمام لقبًا له، فلا يعرف بغير الإمام المازري، توفي سنة ٥٣٦ هـ، من مصنفاته: " المعلم بفوائد مسلم "، و" إيضاح المحصول في برهان الأصول "، و" نظم الفرائد في علم العقائد "، و" تعليق على المدونة "، و" شرح التلقين ". انظر ترجمته في: وفيات الأعيان، لابن خلكان: ٤/ ٢٨٥، والديباج المذهب، لابن فرحون: ١/ ١٤٧، وسير أعلام النبلاء، للذهبي: ٢٠/ ١٠٥، شجرة النور الزكية، لمخلوف: ١/ ١٢٧.
(٥) والمراد أن: (اختار) في كلام خليل يعني به اللخمي كقوله في باب إزالة النجاسة: " واختار إلحاق رجل الفقير "، وقوله: في باب الصلاة: " واختار في الأخير خلاف الأكثر ".
1 / 117
وخصّ ابن يونس بالترجيح؛ لأن أكثر اجتهاده في الميل مع بعض أقوال من سبقه، وما يختاره لنفسه قليل.
وخصّ ابن رشد بالظهور لاعتماده كثيرًا على ظاهر الروايات فيقول: يأتي على رواية كذا وكذا، وظاهر ما في سماع كذا وكذا (١).
وخصّ المازري بالقول؛ لأنه لما قويت عارضته في العلوم، وتصرّف فيها تصرف المجتهدين كان صاحب قول يعتمد عليه:
إذا قَالت حَذامِ فصدّقوها ... فإنّ القَوْلَ مَا قَالَتْ حَذامِ (٢)
ولا حجر فى اصطلاح ولا تسمية (٣).
توفي أبو الحسن اللخمي سنة ثمان وسبعين وأربعمائة، وأبو بكر بن يونس سنة واحد وخمسين وأربعمائة، وأبو الوليد بن رشد سنة عشرين وخمسمائة، وأبو عبد الله المازري سنة ست وثلاثين وخمسمائة، وقد نيّف على الثمانين سنة.
_________
(١) مما يوضح ذلك ما قاله ابن رشد في كتاب الوضوء الأول، من سماع أشهب وابن نافع، من رسم النذور والجنائز والذبائح: هاهنا في الخبز الذي عجن واللحم. . . وقال في رسم سلف من سماع ابن القاسم. . . وهو نحو ما في سماع يحيى من كتاب الصيد. . . وخلاف لما في سماع موسى بن معاوية. . . . وليس بخلاف لما في آخر السماع. . . والمسألة التي في آخر السماع. . . إلخ، وهذا في شرح سماع واحد. والأمر يطول على المتتبع له، فانظره إن شئت في البيان والتحصيل، وراجع ما سقناه عنه في نفس المصدر: ١/ ١٠٦.
(٢) البيت نسبه الزمخشري لدميس بن ظالم الأعصري، وقال ابن منظور: وأَنشد أَبو علي لوُشَيمِ بن طارقٍ، ويقال للُجَيمِ ابن صَعبٍ، وفي موضع آخر نسبه للجيم فقط، ونسبه السيوطي لزهير بن جَنَاب الكلبي، ونُسب أيضا لديسم بن طارق من شعراء الجاهلية، ونسب لعجل بن لجيم، وهو في تاج العروس للجيم. وهو من بحر الوافر، وحذام هي حذام بنت الريان، وهو من أمثال العرب المشهورة المستدل بها في اللغة، وله بدل صدقوها أنصتوها. انظر: لسان العرب، لابن منظور: ٢/ ٩٩، ٦/ ٣٠٦، المزهر، للسيوطي: ٢/ ٤٠٣.
(٣) انفرد المؤلف هنا من بين شراح المختصر ببيان السبب الذي لأجله خصّ المصنف هؤلاء الأربعة بتلك المصطلحات، وعنه نقلها الحطاب في شرحه.
1 / 118
وقد عرّف عياض (١) بالأوّلين في " المدارك " (٢) وبالآخرين في: " الغنية " (٣)؛ غير أنه لم يذكر وفاة ابن يونس؛ وإنما أفادنيها شيخنا العلاّمة أبو عبد الله القوري.
وَحَيْثُ قُلْتُ: (خِلافٌ) فَذَلِكَ لِلاخْتِلافِ فِي التَّشْهِيرِ، وحَيْثُ ذَكَرْتُ (قَوْلَيْنِ) أَوْ (أَقْوَالًا) فَذَلِكَ لِعَدَمِ اطِّلاعِي فِي الْفَرْعِ عَلَى أَرْجَحِيَّةٍ مَنْصُوصَةٍ.
فإن قلت: لم قال أولًا: (وَحَيْثُ قُلْتُ: خِلافٌ)؟ فعبّر بالقول، ورفع لفظَ خلاف، وقال ثانيًا: (وحَيْثُ ذَكَرْتُ قَوْلَيْنِ أَوْ أَقْوَالًا) فعبّر بالذكر، ونصب (قولين) و(أقوالًا)؟
قلت: لما كان ذكره الأقوال أعمّ من أن يتلفظ بها أو يقول مثلًا: وهل كذا أو كذا ثالثها كذا، ورابعها كذا، لم يصلح الرفع على الحكاية، ولا القول المناسب؛ لذلك فلو قال وحيث قلت أقوال؛ لخرح ما لم يتلفظ به بصيغة القول كثالثها رابعها، بخلاف (خلاف)؛ فإن حكايته بعد القول لا تُخْرِج معنىً يريد إدخاله.
فإن قلتَ: لا يطَّرد ذلك بهذا إلا في الأقوال لا القولين.
قلت: بل هو جارٍ في القولين أيضًا كقوله في باب الرهن: (وَرَجَعَ صَاحِبُهُ بِقِيمَتِهِ أَوْ بِمَا أَدَّى مِنْ ثَمَنِهِ، نُقِلَتْ عليهما). ولو لم يوجد له في القولين لقلنا: لمّا بيّن وجه اصطلاحه فيهما دفعة كانت التثنية تبعًا للجمع، قيل: وبحمل المستفتي على معين من الأقوال المستوية جرى العمل، وقد ذكر اللخمي في ذلك قولين في باب صلاة السفر فقال:
_________
(١) هو: أبو الفضل، عِياض بن موسى بن عياض بن عمرون، اليَحْصُبِيّ، السَّبْتِيّ، القاضي، عالم المغرب، وإمام أهل الحديث في وقته. كان من أعلم الناس بكلام العرب وأنسابهم وأيامهم، فقيهًا محدثًا. توفي سنة ٥٤٤ هـ. من مصنفاته: " الشِّفَا بتعريف حقوق المُصْطَفَى "، وبه اشتهر، و" الإعلام بحدود قواعد الإسلام "، و" مشارق الأنوار على صحيح الآثار "، و" ترتيب المدارك وتقريب المسالك في ذكر فقهاء مذهب مالك "، و" إكمال المعلم شرح صحيح مسلم ". انظر ترجمته في: الديباج المذهب، لابن فرحون: ١/ ١٦٨، وسلوة الأنفاس، للكتاني: ١/ ١٦٢، وجذوة الاقتباس، لابن القاضي المكناسي: ٢/ ٤٩٨، والإعلام، للسملالي: ٩/ ٣١٩.
(٢) هو: كتاب " ترتيب المدارك وتقريب المسالك "، للقاضي عياض، جمع فيه أسماء أعيان المالكية وأعلامهم، وبين طبقاتهم وأزمانهم، وجمع فضائلهم وآثارهم، انظر: كشف الظنون، لحاجي خليفة: ١/ ٣٩٥.
(٣) كتاب الغنية، للقاضي عياض، وضعه في أسماء شيوخه الذين أخذ عنهم، بدأه بذكر من اسمه محمد، وبلغ عدد من ترجم لهم ثمانية وتسعين شيخًا. انظر: كشف الظنون، لحاجي خليفة: ٢/ ١٢١٣.
1 / 119
وإذا كان في البلد فقهاء ثلاثة كلٌ يرى غير رأي صاحبيه وكلٌ أهل للفتوى، جاز للعامي أن يقلّد أيهم أحبّ، وإن كان عالم واحد فترجحت عنده الأقوال جرت على قولين:
أحدهما: أن له أن يحمل المستفتي على أيهما أحب
والثاني: أنه في ذلك كالناقل يخبره بالقائلين وهو يقلّد أيهم أحب، كما لو كانوا أحياء (١).
وَأَعْتَبِرُ مِنَ الْمَفَاهِيمِ مَفْهُومَ الشَّرْطِ فَقَطْ.
قوله: (وَأَعْتَبِرُ مِنَ الْمَفَاهِيمِ مَفْهُومَ الشَّرْطِ فَقَطْ) إنما خصّ مفهوم الشرط دون سائر مفهومات المخالفة العشرة المجموعة في قولنا:
صِفْ واشْتَرِطْ عَلِلْ ولَقبْ ثُنْيَا ... وعُدّ طَرَفَيْن وحَصْرًَا أَغْيَا
أي: غاية لأن مفهوم الشرط أقواها؛ إذ يقول به بعض من لا يقول بغيره، إلا مفهوم الغاية، فإنه يقول به بعض من لا يقول بمفهوم الشرط، إلاّ أنه قليل ولا يتأتي معه اختصار؛ فلذا تركه، وأمّا مفهوم الموافقة فمتفق عليه، وهو معتبر عنده كقوله في باب الحجر: (وللولي رد تصرف مميز)؛ إذ غير المميز أحرى. فإن قلنا: إنه من باب النص أو القياس الجلي، على رأي من يقول بهما، فلا إشكال، وإن قلنا: إنّه من المفهومات فهو أحرى من مفهوم الشرط، فكأنه اعتبره [٣ / أ] في نفس ما نحن بصدده (٢).
_________
(١) هذه مسألة طال فيها بحث العلماء، وتعددت فيها أقوالهم، وهي تشبه مسألة اختلاف الفتوى على المستفتي، التي قال فيها النووي: إذا اختلف عليه فتوى مفتيين ففيه خمسة أوجه للأصحاب، أحدها: يأخذ بأغلظهما، والثاني: بأخفهما. والثالث: يجتهد في الأولى، فيأخذ بفتوى الأعلم الأورع،. . والرابع يسأل مفتيا آخر فيأخذ بفتوى من وافقه، والخامس: يتخير فيأخذ بقول أيهما شاء. انظر: آداب الفتوى، للنووي، ص: ٧٨، وقال ابن القيم: فإن اختلف عليه مفتيان فأكثر، فهل يأخذ بأغلظ الأقوال أو بأخفها أو يتخير أو يأخذ بقول الأعلم أو الأورع أو يعدل إلى مفتٍ آخر فينظر من يوافق من الأولين فيعمل بالفتوى التي يوقع عليها، أو يجب عليه أن يتحرى ويبحث عن الراجح بحسبه؟ فيه سبعة مذاهب، أرجحها السابع، فيعمل كما يعمل ثم اختلاف الطريقين أو الطبيبين أو المشيرين كما تقدم. انظر: إعلام الموقعين، لابن القيم: ٤/ ٢٦٤، وانظر أدب الفتوى، لابن الصلاح، ص: ١٣٤، وصفة الفتوى، لابن حمدان، ص: ٨٠، وانظر: الموافقات، لأبي إسحاق الشاطبي: ٤/ ١٣٢، وما بعدها.
(٢) مفهوم الموافقة: هو ما كان حكم المسكوت عنه موافقا لحكم المنطوق. انظر الإحكام، للآمدي: ٢/ ٢٥٧، ومفهوم الغاية: هو مد الحكم بإلى أو حتى. انظر: إرشاد الفحول، للشوكاني، ص: ٣٨٧. مفهوم الشرط: ما علق من الحكم على شيء بأداة شرط، كإن. انظر: إرشاد الفحول، ص: ٣٨٦. والنص: كل لفظ دل على الحكم بصريحه على وجه لا احتمال فيه. انظر: اللمع، للشيرازي، ص: ١٤٣.
1 / 120
ومن البيّن أنه لابد أن يستثني مما ذكر أنه لا يعتبره مفهوم الوصف الكائن في التعريفات؛ فإنها فصول أو خواص يؤتى بها للإدخال والإخراج؛ ليطّرد المعرف ينعكس، ولا مرية أن الماهية المحكوم عليها بالحكم تنعدم بانعدام جميع أجزائها أو بعضها، فينعدم الحكم، وهذا موجود في كلامه وفي بعض الحواشي، وأظنّها مما قُيد عن: الشيخ أبي عبد الله محمد بن عمر بن الفتوح، يعتبر المصنف مفهوم الشرط لزومًا، ويعتبر غيره من المفاهيم جوازًا، يظهر ذلك بتأمل كلامه. انتهى. وقبله شيخنا العلاّمة أبو عبد الله القوري ﵀.
قلت: وإنما يحتاج لهذا فيما وصفُه بصفةٍ مثلًا، ولم يصرح بحكم ما خلا من تلك الصفة، وأما إذا صرح بحكم الخالي منها فلم يقنع بالمفهوم كقوله: (وإن بدهن لاصق)، ثم صرّح في مقابله بحكم غير الملاصق قائلًا: (كدهن خالط)، وهو كثير في كلامه.
وها هنا وجه إذ تم وسلم كان رقيق الحواشي، وهو أن يكون أراد باعتبار مفهوم الشرط اعتبارًا خاصًا، زائدًا على ما تقتضيه مفهومات الأوضاع اللغوية، بحيث ينزل مفهوم الشرط دون غيره منزلة المنصوص، فتنصرف إليه القيود والاستثناءات ونحوها، انصرافها للمنطوقات الملفوظ بها، وإذا حمل على هذا انحلّت به معضلات كثيرة في كلامه كقوله في باب: الجهاد: (وفِرَارٌ إنْ بَلَغَ الْمُسْلِمُونَ النِّصْفَ ولَمْ يَبْلُغُوا اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا)، وقد تكلّمنا على بعضها في محالّها.
وَأُشِيرُ بِـ (صُحِّحَ) أَوِ (اسْتُحْسِنَ) إِلَى أَنَّ شَيْخًا غَيْرَ الَّذِينَ قَدَّمْتُهُمْ صَحَّحَ هَذَا أَوِ اسْتَظْهَرَهُ.
قوله: (وأُشِيرَ بِصُحِّحَ أَوِ اسْتُحْسِنَ إِلَى أَنَّ شَيْخًا غَيْرَ الَّذِينَ قَدَّمْتُهُمْ صَحَّحَ هَذَا أَوِ اسْتَظْهَرَهُ) أي: يشير إلى غير الأربعة المذكورين بلفظ (صُحِحَ) أو (اسُتحسن) مبنيين للمفعول، لقصده عدم التعيين؛ ولذا نكّر (شيخًا)، والأقرب إلى الحقيقة أن التصحيح فيما يصححه الشيخ من كلام غيره، والاستحسان فيما يراه، مع احتمال الشمول فيهما، وقد يعبّر بالوصف كـ (الأصح) و(الصحيح) و(الأحسن).
1 / 121
وَبِـ (التَّرَدُّدِ) لِتَرَدُّدِ الْمُتَأَخِّرِينَ فِي النَّقْلِ، أَوْ لِعَدَمِ نَصِّ الْمُتَقَدِّمِينَ.
قوله: (وبِالتَّرَدُّدِ لِتَرَدُّدِ الْمُتَأَخِّرِينَ فِي النَّقْلِ أَوْ لِعَدَمِ نَصِّ الْمُتَقَدِّمِينَ) تردد المتأخرين في النقل اختلاف طرقهم في العزو للمذهب، فهو كقول غيره: وفي كذا طرق أو طريقان (١)، وأما ترددهم لعدم نص المتقدمين فهو أقل في كلامه كقوله في السلس: (وفِي اعْتِبَارِ الْمُلاَزَمَةِ فِي وَقْتِ الصَّلاَةِ أَوْ مُطْلَقًا تَرَدُّدٌ) وكقوله: (وفِي خُفٍّ غُصِبَ تَرَدُّدٌ) وكقوله في الحج: (وفِي رَابِغٍ تَرَدُّدٌ) وكقوله فيه: (وفِي إجْزَاءِ مَا وَقَفَ بِالْبِنَاءِ تَرَدُّدٌ).
وينبغي أن يكون قوله: (أو لِعَدَمِ نَصِّ الْمُتَقَدِّمِينَ) معطوفًا على قوله: (في النقل)؛ فيكون المعنى: أن تردد المتأخرين مرة يكون في النقل عن المتقدمين، ومرة يكون لأجل عدم نصّ المتقدمين، فهو أولى من جعله معطوفًا على قوله: (لِتَرَدُّدِ الْمُتَأَخِّرِينَ)، وإن كان متبادرًا من جهة اللفظ، إذ يكون المعنى حينئذ أنه يشير بالتردد لأمرين:
أحدهما: تردد المتأخرين في النقل.
والثاني: عدم نصّ المتقدمين، ظاهره ولو لم يتردد المتأخرون في الأمر الثاني، وليس كذلك؛ لفقد معنى التردد الذي هو التحير، إذ لا تحير مع تحرير المتأخرين المقتدى بهم؛ ولا سيما أمثال من تقدم ذكره، وعلى التقديرين فلم يعطنا علامة نميّز بها بين الترددين، إلا أن الثاني أقل كما تقدم (٢).
وَ[أُشِيرُ] (٣) بِـ (لَوْ) إِلَى خِلافٍ مَذْهَبِيٍّ.
قوله: (وبِلَوْ إِلَى خِلاَفٍ مَذْهَبِيٍّ) يريد: أنه يشير بلو الإغيائية المقرونة بواو [النكاية، المكتفى] (٤) عن جوابها بما قبلها إلى خلاف منسوب لمذهب مالك وشاهد الاستقراء يقضي بصحته؛ وإن لم يثبت في بعض النسخ، ولكن لا يشير بها إلا لخلاف قويٍ، ولا يطّرد ذلك
_________
(١) لعل الغير هذا هو ابن الحاجب، إذا هذا شائع في كلامه.
(٢) فالمسألة على وجهين: عدم نص المتقدمين أصلًا، والثاني: نصهم واختلاف المتأخرين في نقولهم عنهم، وهو الأكثر في كلام المصنف.
(٣) ما بين المعكوفتين، زيادة من أصل المختصر المحفوظ لدينا.
(٤) في الأصل: (الكناية المكنى).
1 / 122
في (وإن) مع أنّه كثير من كلامه (١).
والله أَسْأَلُ أَنْ يَنْفَعَ بِهِ مَنْ كَتَبَهُ، أَوْ قَرَأَهُ، أَوْ حَصَّلَهُ، أَوْ سَعَى فِي شَيْءٍ مِنْهُ، واللهُ يَعْصِمُنَا مِنَ الزَّلَلِ، ويُوَفِّقُنَا فِي الْقَوْلِ والْعَمَلِ، ثُمَّ أَعْتَذِرُ لِذَوِي الأَلْبَابِ، مِنَ التَّقْصِيرِ الْوَاقِعِ فِي هَذَا الْكِتَابِ، وأَسْأَلُ بِلِسَانِ التَّضَرُّعِ والْخُشُوعِ، وخِطَابِ التَّذَلُّلِ والْخُضُوعِ، أَنْ يُنْظَرَ بِعَيْنِ الرِّضَا والصَّوَابِ، فَمَا كَانَ مِنْ نَقْصٍ كَمِّلُوهُ، ومِنْ خَطَإٍ أَصْلِحُوهُ، فَقَلَّمَا يَخْلُصُ مُصَنِّفٌ مِنَ الْهَفَوَاتِ، أَوْ يَنْجُو مُؤَلِّفٌ مِنَ الْعَثَرَاتِ.
_________
(١) انتهى هنا المؤلف ﵀ من ذكر مصطلاحات المصنف ﵀ في تقرير مسائله.
1 / 123
[كتاب الطهارة]
[باب يُرْفَعُ الْحَدَثُ وحُكْمُ الْخَبَثِ]
بِالْمُطْلَقِ، وهُوَ مَا صَدَقَ عَلَيْهِ اسْمُ مَاءٍ بِلا قَيْدٍ [٢ / أ] وإِنْ جُمِعَ مِنْ نَدًى، أَوْ ذَابَ بَعْدَ جُمُودِهِ أَوْ كَانَ سُؤْرَ بَهِيمَةٍ أَوْ حَائِضٍ أَوْ جُنُبٍ أَوْ فَضْلَةَ طَهَارَتِهِمَا، أَوْ كَثِيرًا خُلِطَ بِنَجِسٍ لَمْ يُغَيِّرْهُ، أَوْ شُكَّ فِي مُغَيِّرِهِ هَلْ يَضُرُّ، أَوْ تَغَيَّرَ بِمُجَاوِرِهِ، وإِنْ بِدُهْنٍ لاصِقٍ أَوْ بِرَائِحَةِ قُطْرَانِ وِعَاءِ مُسَافِرٍ.
قوله: (أَوْ شُكَّ فِي مُغَيِّرِهِ هَلْ يَضُرُّ؟) الشكّ هو: التردد بين أمرين متساويين، [٣ / ب] فيخرج به التردد في ماء بئر الدور، إذا جهل سبب نتنها؛ لما يغلب على الظن أن ذلك من [المراحيض المجاورة] (١) لها؛ فتترك ما لم توقن السلامة، بخلاف بئر الصحراء حسبما في سماع أشهب وابن نافع (٢).
أَوْ بِمُتَوَلِّدٍ مِنْهُ، أَوْ بِقَرَارِهِ كَمِلْحٍ، أَوْ بِمَطْرُوحٍ فِيهِ ولَوْ قَصْدًا مِنْ تُرَابٍ أَوْ مِلْحٍ، والأَرْجَحُ السَّلْبُ بِالْمِلْحِ.
قوله: (أَوْ بِمُتَوَلِّدٍ مِنْهُ) كالطحلب ما لم يطبخ فيه، كذا قيّده الطرطوشي فيما ذكر ابن فرحون (٣).
وَفِي الاتِّفَاقِ عَلَى السَّلْبِ بِهِ إِنْ صُنِعَ تَرَدُّدٌ، لا بِمُتَغَيِّرٍ لَوْنًا أَوْ طَعْمًا أَوْ رِيحًا بِمَا يُفَارِقُهُ غَالِبًا مِنْ طَاهِرٍ أَوْ نَجِسٍ كَدُهْنٍ خَالَطَ، أَوْ بُخَارِ مُصْطَكَى، وحُكْمُهُ كَمُغَيِّرِهِ.
قوله: (وفِي الاتِّفَاقِ عَلَى السَّلْبِ بِهِ إِنْ صُنِعَ تَرَدُّدٌ) ابن عمران فِي " شرح ابن
_________
(١) في الأصل: (الرائحة المجاوزة)، وفي (ن ٣): (الرائحة المتجاورة).
(٢) قال في سماع أشهب وابن نافع: (سئل فقيل له: إن بيرًا لنا قد أنتن ماؤها، ونزحناه، وماؤها بعد منتن؟ فقال: لا أرى أن يتوضأ منه حتى يأتوا ببعض هؤلاء الذين ينظرون إلى الآبار؛ فإني أخاف أن يكون من قناة مرحاض إلى جانبه. قال: فقلت له: أرأيت إن لم يكن نتنه من ذلك؟ فقال: لو علم أن نتنه ليس من ذلك ما رأيت بأسًا أن يتوضأ به) انظر: البيان والتحصيل، لابن رشد: ١/ ١٤٠.
(٣) انظر: النوادر والزيادات، لابن أبي زيد: ١/ ٨٠، قال: (ومن " المجموعة " قال عليّ: لا بأس بالوضوء بالماء يتغير ريحه من حمأٍ أو طحلب، إذا لم يجد غيره)، وانظر: المنتقى شرح الموطأ، للباجي: ١/ ٣١٢، والخصال، لابن زرب، ص: ٥٢، والمعونة على مذهب عالم المدينة: ١/ ٦٢، والمقدمات الممهدات، لابن رشد: ١/ ٢٣، والقوانين الفقهية، لابن جزي، ص: ٥٤.
1 / 124
الحاجب " (١): الملح غير المصنوع قسمان: ملح السباخ، وهو ما يخرج عليه الحرّ فيجمد فيصير ملحًا.
وملح المعادن، وهو حجارة، فإن أراد الفقهاء المعدني هذا الثاني فقط فهو من نوع الأرض كالكبريت والزرنيخ والزاج، وإن أرادوا مع ذلك ملح السباخ ففيه نظر؛ فإنه ماء جامد فينبغي أن لا يُختلف فيه كالثلج والجليد.
ويَضُرُّ بَيِّنُ تَغَيُّرٍ بِحَبْلِ سَانِيَةٍ.
قوله: (ويَضُرُّ بَيِّنُ تَغَيُّرٍ بِحَبْلِ سَانِيَةٍ) الظاهر من كلام ابن رشد فِي " الأجوبة ": أن السانية (٢) ليست مخصوصة بهذا الحكم؛ لأنه فرض ذلك فِي حبل الاستقاء وهو أعمّ، ونصّه: " وأما الماء يستقى [بالكوب] (٣) الجديد أو الحبل الجديد فلا يجب الامتناع من استعماله فِي الطهارة إلا أن يطول مكث الماء فِي الكوب أو طرف الحبل فيه حتى يتغير من ذلك تغيرًا بيّنًا فاحشًا.
وكذا فرضه ابن عرفة عامًّا فقال: وفِي طهورية المتغيّر بحبل استقائه؟ ثالثها: إن لَمْ يكن تغيره فاحشًا، الأول لابن [زرقون والثاني لابن الحاج] (٤)، والثالث لفتوى ابن رشد فِي المغير به وبالكوب.
كَغَدِيرٍ بِرَوْثِ مَاشِيَةٍ، أَوْ بِئْرٍ بِوَرَقِ شَجَرٍ أَوْ تِبْنٍ.
قوله: (كَغَدِيرٍ بِرَوْثِ مَاشِيَةٍ أَوْ بِئْرٍ بِوَرَقِ شَجَرٍ أَوْ تِبْنٍ) ينبغي أن يكون التشبيه فيهما راجعًا لمجرد التغير، لا بقيد كونه بينًا كالمشبه [به] (٥)، وهذا هو المساعد للمنقول؛ ألا
_________
(١) قال ابن الحاجب: (وفي الملح ثالثها الفرق بين المعدني والمسخن بالنار) انظر: جامع الأمهات، ص: ٣٠.
(٢) السانية: الناضحة، وهي الناقة التي يُستَقى عليها. انظر: لسان العرب، لابن منظور: ١٤/ ٤٠٤.
(٣) في (ن ١)، و(ن ٢)، و(ن ٤): (بالكرب) والمثبت هو الموافق لما في فتاوى ابن رشد: ٢/ ٨٠٧. والكَرَبُ: حَبلٌ يُشَدُّ على عَرَاقِيِّ الدَّلو. انظر: لسان العرب، لابن منظور: ١/ ٧١٤.
(٤) تباينت النسخ في هذين العلمين ووقع فيهما تصحيف من النساخ، ما بين رزق ورزوق، والحاج والحاجب، والمثبت عن شراح المختصر الأخرى، ويعضده قول ابن الحاجب: (والمتغير بالمجاورة أو بالدهن كذلك أي طهور). انظر: جامع الأمهات، لابن الحاجب، ص: ٣٩.
(٥) ما بين المعكوفتين ساقط من (ن ٣).
1 / 125
تراهم لَمْ يذكروا فيهما قولًا بالتفصيل بين البئر وغيره، كما ذكروه فِي المشبه به؛ ولذلك قال ابن عرفة: وفيما غيّر لونه ورق، أو حشيش غالب ثالثها: يكره، الأول للعراقيين، والثاني للإبياني، والثالث قول السليمانية: تعاد الصلاة بوضوئه فِي الوقت، وروى ابن غانم فيما تغيّر لونه وطعمه، ببول ماشية ترده، وروثها: لا يعجبني الوضوء به، ولا أحرّمه. الباجي (١): لأنها لا تنفك عنه غالبًا (٢). كقول العراقيين فِي الورق والحشيش. اللخمي: لأنه كثير تغيّر بطاهر قليل. وجعل فِي سلب طهوريته وكراهته قولين.
والأَظْهَرُ فِي بِئْرِ الْبَادِيَةِ بِهِمَا الْجَوَازُ، وفِي جَعْلِ الْمُخَالِطِ الْمُوَافِقِ كَالْمُخَالِفِ نَظَرٌ، وفِي التَّطْهِيرِ بِمَاءٍ جُعِلَ فِي الْفَمِ قَوْلانِ، وكُرِهَ مَاءٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي حَدَثٍ وفِي غَيْرِهِ تَرَدُّدٌ. وَيَسِيرٌ كَآنِيَةِ وضُوءٍ، وغُسْلٍ بِنَجِسٍ لَمْ يُغَيِّرْ أَوْ وَلَغَ فِيهِ كَلْبٌ، ورَاكِدٌ يُغْتَسَلُ فِيهِ، وسُؤْرُ شَارِبِ خَمْرٍ، ومَا أَدْخَلَ يَدَهُ فِيهِ، ومَا لا يَتَوَقَّى نَجِسًا مِنْ مَاءٍ، لا إِنْ عَسُرَ الاحْتِرَازُ مِنْهُ، أَوْ كَانَ طَعَامًا كَمُشَمَّسٍ، وإِنْ رُؤِيَتْ عَلَى فِيهِ وَقْتَ اسْتِعْمَالِهِ عُمِلَ عَلَيْهَا، وإِذَا مَاتَ بَرِّيٌّ ذُو نَفْسٍ سَائِلَةٍ بِرَاكِدٍ ولَمْ يَتَغَيَّرْ نُدِبَ نَزْحٌ بِقَدْرِهِمَا، لا إِنْ وَقَعَ مَيِّتًا.
قوله: (والأَظْهَرُ فِي بِئْرِ الْبَادِيَةِ بِهِمَا الْجَوَازُ). قال ابن رشد فِي " الأجوبة ": سئلت عن آبار الصحاري التي تدعو الضرورة إِلَى طيّها بالخشب والعشب؛ لعدم ما تطوى به سوى ذلك، فيتغيّر لون الماء ورائحته وطعمه من ذلك، هل يجوز الغسل والوضوء به؟ فأجبت بأن ذلك جائز، ثم احتجّ له، وذكر فِي آخر احتجاجه: .... أن قول بعض المتأخرين فِي الماء المتغيّر فِي الأودية والغدر مما يسقط فيه من أوراق الشجر النابتة عليه، والتي جلبتها الرياح إليه: لا يجوز الوضوء ولا الغسل به - شاذ خارجٌ عن أصل المذهب
_________
(١) هو: أبو الوليد، سليمان بن خلف الباجي، الأندلسي، القرطبي، برع في الحديث والفقه، والكلام، له عدة تصانيف منها: " المنتقى، للباجي شرح الموطأ "، و" تفسير القرآن "، و" فصول الأحكام "، و" الإشارة "، وغير ذلك، توفي سنة: ٤٧٤ هـ. انظر ترجمته في: ترتيب المدارك، للقاضي عياض: ٤/ ٨٠٢، والأنساب، للسمعاني: ٢/ ١٩، الصلة، لابن بشكوال: ١/ ٢٠٠، بغية الملتمس، لابن عميرة الضبي: ٣٠٢، ٣٠٣، الديباج المذهب، لابن فرحون، ص: ١٩٧، المغرب في حلى المغرب، لابن سعيد المغربي: ١/ ٤٠٤.
(٢) انظر: المنتقى، للباجي: ١/ ٣١٢.
1 / 126
فلا ينبغي أن يلتفت إليه، ولا يعرج عليه. انتهى (١). وكأنه أراد ببعض المتأخرين: الإبياني، ودل آخر كلامه أن فتياه غير قاصرة عَلَى ما تطوى به البئر من ذلك، فإطلاق المؤلف صواب.
وإِنْ زَالَ تَغَيُّرُ النَّجِسِ لا بِكَثْرَةِ مُطْلَقٍ فَاسْتُحْسِنَ الطَّهُورِيَّةُ، وعَدَمُهَا أَرْجَحُ، وقُبِلَ خَبَرُ الْوَاحِدِ إِنْ بَيَّنَ وَجْهَهَا أَوِ اتَّفَقَا مَذْهَبًا، وإِلا فَقَالَ (٢) يُسْتَحْسَنُ تَرْكُهُ، ووُرُودُ الْمَاءِ عَلَى النَّجَاسَةِ كَعَكْسِهِ.
قوله: (وإِنْ زَالَ تَغَيُّرُ النَّجِسِ لاَ بِكَثْرَةِ مُطْلَقٍ فَاسْتَحْسِنَ الطَّهُورِيَّةُ وعَدَمُهَا أَرْجَحُ) كما عزى عدم الطهورية هنا لابن يونس، كذلك فعل فِي " التوضيح " (٣)، وهو وهمٌ؛ فإن ابن يونس إنما قال ما نصّه: " اختلف فِي الماء المضاف: هل إِذَا زال (٤) عين النجاسة يزول حكمها؟، والصواب أن لا يزول حكمها؛ لأن المضاف لا تؤدى به الفرائض، ولا النوافل ". وليس هذا فِي معنى مسألتنا، ولا هو منها فِي وردٍ ولا صدرٍ؛ وإنما هذا فِي غسل النجاسة بالماء المضاف؛ ولذلك كان فِي النسخ [٤ / أ] العتيقة عن ابن يونس: (إِذَا أزال) بصيغة الرباعي.
وأصل ما قال ابن يونس مبسوط فِي " تهذيب " عبد الحقّ، قال فيه: (أعرف بين أصحابنا اختلافًا فِي الماء المضاف تغسل به النجاسة: هل إِذَا زال (٥) عينها يزول حكمها؟ أو يبقى الحكم؟ وهو الصواب؛ لأن هذا الماء المضاف لا تؤدى به الفرائض ولا النوافل،
_________
(١) انظر: مسائل ابن رشد: ٢/ ٨٦٦ وما بعدها.
(٢) في المطبوعة: (قال المازري) و(قال) تغني عن هذه الزيادة؛ لأنها مصطلح خليل على المازري.
(٣) يعني كتاب التوضيح، للمصنف ﵀ خليل ابن اسحاق، وهو شرح لمختصر ابن الحاجب الفرعي، في فروع المالكية جاري تحقيقه بمركزنا.
قال المصنف في التوضيح: (اختلف إذا زال تغير النجاسة بنفسه على قولين، فمن رأى أن الحكم بالنجاسة إنما هو لأجل التغيير، وقد زال، والحكم يدور مع علته وجودًا وعدمًا حكم بالطهورية، ومن رأى أن الأصل أن لا تزال إلا بالماء، وليس هو حاصلًا حكم ببقاء النجاسة، وصوّب هذا الثاني ابن يونس وابن راشد) انظر: التوضيح، لخليل بن إسحاق، ١/ ٢٥٩، رسالة دكتوراة مقدمة لجامعة القرويين، للباحث زماحي أحمد.
(٤) في الأصل: (أزال).
(٥) هكذا في جميع النسخ، وإن كان الأولى أن تكون بصيغة الرباعي على تحرير الشارح لنقل ابن يونس، والله أعلم.
1 / 127
فكذلك لا يزيل حكم النجاسة، ومن قال إنه يرفع حكم النجاسة؛ فلضعف (١) أمرها إذ تزول بغير نية، وإذ ليس إزالتها بفرض مع اختلاف الناس فِي المضاف هل تجزيء به الطهارة للحدث؟
وقد نقل ذلك أبو الحسن الصغير عند قوله فِي الكتاب: ولا يزيل النجاسة من الثوب والبدن إلا الماء، وكره مالك لمن فِي فمه قطرة من دم أن ينزعه بفيه ويمجّه، بل لَمْ يعرف ذلك الإمام ابن عرفة من نقل ابن يونس ولا غيره (٢) ممن قبل ابن بشير فقال: وقول ابن بشير فِي طهورية النجس يزول تغيّره بلا نزح: قَوْلانِ، لا أعرفه، فنفى وجدان القولين معًا فِي المذهب، وإن كان لا يلزم من عدم الوجدان عدم الوجود.
ولا يلتفت لما حكى الشيخ أبو زيد الثعالبي من ردّ بعضهم عَلَى ابن عرفة بقول ابن يونس؛ لأن الرادّ مقلدٌ لخليل فِي نقله كالشارح. نعم أغفل ابن عرفة ما ذكر ابن رشد فِي رسم النسمة (٣) من سماع عيسى (٤) قال: روى ابن وهب وابن أبي أويس عن مالك فِي جباب تحفر بالمغرب، فتسقط فيها الميتة فيتغير لون الماء وريحه ثم يطيب الماء بعد ذلك؟ أنه لا بأس به، ظاهره بلا نزح؛ عَلَى أنه ذكر أن أبا محمد جهَّل بعضهم فِي قوله فِي ماجل (٥) قليل الماء وقعت فيه فأرة: يطين (٦) حتى يكثر ماؤه فيشرب.
قال: فإن فعل شرب وهذا مما زال بكثرة مطلق، وقد كان صاحبنا الفقيه المحصل أبو العباس أحمد الونشريسي - حفظه الله تعالى - لما بلغه عني هذا التعقب أتاني بجزءٍ من وضع الإمام العلامة أبي عبد الله بن مرزوق عَلَى هذا المختصر، استخرجه من خزانة من هو به
_________
(١) في الأصل: (فليضعف).
(٢) في (ن ٣): (قبله).
(٣) في (ن ١)، و(ن ٢): (القسمة) والمثبت هو الموافق لما في السماع المذكور في البيان والتحصيل، لابن رشد: ١/ ١٥٩.
(٤) ما بين المعكوفتين ساقط من (ن ٤).
(٥) الماجِلٌ: يتخذ كالحوض الواسع عند مخرج القناة يجتمع فيها الماء، ثم يتفجر منها إِلى المزرعة، والماجِلُ: الماء الكثير المجتمع، والمعنى الأول كونه حوضًا هو مقصود المؤلف. انظر: لسان العرب، لابن منظور: ٣/ ٣٨، و١١/ ٦١٦.
(٦) في (ن ٢): (يصير).
1 / 128
ضنين، وأطلعني عليه فإِذَا به تعقب كلام المؤلف بنحو ما قلناه؛ فقال لي: احمد الله عَلَى موافقة نظرك لنظره، وتعلّق بحفظي من كلام ابن مرزوق ما معناه: أن المؤلف إن كان حمل كلام ابن يونس عَلَى نفس ما نحن فيه فهو وهمٌ، وإن أراد أن يقيسه عليه فهو بعيد؛ وإنما أطلت الكلام فِي هذا؛ لأن بعض فضلاء أصحابنا نازع فيه استبعادًا لتوهيم المؤلف واتباعه، والحقّ أحقُّ أن يتبع (١).
فصل [الأعيان الطاهرة]
الطَّاهِرُ مَيْتُ مَا لا دَمَ لَهُ، والْبَحْرِيُّ ولَوْ طَالَتْ حَيَاتُهُ بِبَرٍّ، ومَا ذُكِّيَ وجُزْؤُهُ، إِلا مُحَرَّمَ الأَكْلِ، وصُوفٌ، ووَبَرٌ، وزَغَبُ رِيشٍ، وشَعْرٌ ولَوْ مِنْ خِنْزِيرٍ إِنْ جُزَّتْ، والْجَمَادُ وهُوَ جِسْمٌ غَيْرُ حَيٍّ، ومُنْفَصِلٍ عَنْهُ إِلا الْمُسْكِرَ، والْحَيُّ ودَمْعُهُ وعَرَقُهُ ولُعَابُهُ ومُخَاطُهُ وبَيْضُهُ ولَوْ أَكَلَ نَجِسًا، إِلا المَذِرَ، والْخَارِجَ بَعْدَ الْمَوْتِ، ولَبَنُ آدَمِيٍّ إِلا الْمَيِّتَ، ولَبَنُ غَيْرِهِ تَابِعٌ، وبَوْلٌ، وعَذِرَةٌ مِنْ مُبَاحٍ إِلا الْمُتَغَذِّي بِنَجِسٍ، وقَيْءٌ، إِلا الْمُتَغَيِّرُ عَنِ الطَّعَامِ، وصَفْرَاءُ، وبَلْغَمٌ، ومَرَارَةُ مُبَاحٍ، ودَمٌ لَمْ يُسْفَحْ، ومِسْكٌ وفَأْرَتُهُ، وزَرْعٌ بِنَجِسٍ، وخَمْرٌ تَحَجَّرَ أَوْ خُلِّلَ.
والنَّجِسُ مَا اسْتُثْنِيَ، ومَيْتُ غَيْرِ مَا ذُكِرَ ولَوْ قَمْلَةً أَوْ آدَمِيًَّا، والأَظْهَرُ طَهَارَتُهُ، ومَا أُبِينَ مِنْ حَيٍّ ومَيْتٍ مِنْ قَرْنٍ وعَظْمٍ وظِلْفٍ وعَاجٍ وظُفُرٍ وقَصَبَةِ رِيشٍ وجِلْدٍ ولَوْ دُبِغَ ورُخِّصَ فِيهِ مُطْلَقًا إِلا مِنْ خِنْزِيرٍ بَعْدَ دَبْغِهِ فِي يَابِسٍ [٢ / ب] ومَاءٍ، وفِيهَا كَرَاهَةُ الْعَاجِ، والتَّوَقُّفُ فِي الْكَيْمَخْتِ، ومَنِيٌّ ومَذْيٌ، ووَدْيٌ، وقَيْحٌ، وصَدِيدٌ، ورُطُوبَةُ فَرْجٍ، ودَمٌ مَسْفُوحٌ، ولَوْ مِنْ سَمَكٍ وذُبَابٍ، وسَوْدَاءُ، ورُمَادُ نَجِسٍ ودُخَانُهُ، وبَوْلٌ، وعَذِرَةٌ مِنْ آدَمِيٍّ، ومُحَرَّمٍ ومَكْرُوهٍ، ويَنْجُسُ كَثِيرُ طَعَامٍ مَائِعٍ بِنَجَسٍ قَلَّ كَجَامِدٍ، إِنْ أَمْكَنَ السَّرَيَانُ وإِلا فَبِحَسَبِهِ.
ولا يَطْهُرُ زَيْتٌ خُولِطَ ولَحْمٌ طُبِخَ وزَيْتُونٌ مُلِّحَ وبَيْضٌ صُلِقَ بِنَجِسٍ، وفَخَّارٌ بِغَوَّاصٍ، ويُنْتَفَعُ بِمُتَنَجِّسٍ لا نَجِسٍ فِي غَيْرِ مَسْجِدٍ وآدَمِيٍّ، ولا يُصَلَّى بِلِبَاسِ كَافِرٍ، بِخِلافِ نَسْجِهِ، ولا بِمَا يَنَامُ فِيهِ مُصَلٍّ آخَرُ ولا بِثِيَابِ غَيْرِ مُصَلٍّ إِلا لِرَأْسِهِ، ولا بِمُحَاذِي فَرْجِ غَيْرِ عَالِمٍ، وحَرُمَ اسْتِعْمَالُ ذَكَرٍ مُحَلًّى (٢)، ولَوْ مِنْطَقَةً، وآلَةِ حَرْبٍ؛ إِلا الْمُصْحَفَ،
_________
(١) حرر الشارح هنا المسألة بالتفرق بين مسألة: الماء تغير بالنجاسة ثم زال تغيره من تلقاء نفسه، ومسألة الماء المضاف تزال منه النجاسة بفعل فاعل.
(٢) أي: حرم على الذكر استعمال الأواني من الذهب والفضة.
1 / 129