13
عندما ودعته قال في نفسه إنها تطالبني بالصبر ولو حتى الامتحان ولكن ألا يستوي أن أصبر شهرا أو عمرا؟! إنها مسألة مبدأ لا وقت. وقد انكشف عالمه عن حقيقته البشعة القذرة فكيف يقبله دقيقة واحدة؟ ما زالت نقود عمه في جيبه، يذهب ويجيء بها، وينعم بقوتها الفريدة. رغم ذلك كله ما زال مترددا ولما يتخذ قراره. ترى لو رفع صوت العقل في كل حين أكان يستشهد شهيد؟! العقل يحكم في الفلك لا في السلوك. إما براءة وإما قذارة. هل يظل ابن لص وعاهرة؟ ولو كانت المعركة صراعا بين لصوص لهان الأمر بعض الشيء ولكنها جناية وحشية ضحاياها أتعس تعساء البشرية!
وتفكر أيضا وهو ماض على الكورنيش أنه لم يبلغ ما بلغ من التربية والتهذيب والمستوى إلا بفضل النهب والدعارة فتضاعف امتعاضه وأساه. وهو على تلك الحال وجد نفسه يتجه نحو قصر الحكمة. ليس لديه قرار نهائي ولكنه سيلقى الموقف بتلقائية ولينظر كيف تتطور الأحداث. مر بعمه وهو يشارب رجلا غريبا في الدائرة الخضراء، رحب به الرجل وقال بنبرة المنتصر: قلت إنك ستضيق بالوحدة فترجع سريعا.
أما أمه فهرعت إلى حجرته متألقة بالسرور وقالت: خير ما فعلت، لا وقت لديك تضيعه وقد استجاب الله لدعائي ...
جلست قبالته وهو يجذب نفسه من بحر الانفعالات الذي يشده إلى أعماقه بين أمواج متلاطمة من النفور والازدراء والولاء. ها هي تقول إنها تعرف الله وتدعوه، وإنه يستجيب لها. وهي تجلس مطمئنة ملقية القدمين على وسادة مزركشة، جميلة وفخيمة وربة قصر وأي قصر. رياح الثورة ما زالت تعصف بأركانه ولكن يقاومها إشفاق لا يخلو من قداسة. ما زال يذكر بشدة منظر أبيه ومناظر الضحايا فيغص بالمرارة. غير أن الرحلة اقتلعت من صميمه التردد والحياء فلذلك اندفع يقول بلا روية: الحق أنني لم أسافر إلى مرسى مطروح! - حقا؟ إذن أين كنت يا حبيبي؟
فأجاب ببرود منذر بالويلات: كنت في حارة التكية بالقاهرة!
تلاشت البهجة فجأة من صفحة وجهها كأنها مصباح كهربائي انقطع عنه التيار. شحب لونها وهي ترنو إليه بوجوم واستسلام. لأول مرة يراها وهي مسحوقة بلا حيوية ولا كبرياء. وجاءه صوتها وانيا متسائلا: ماذا أذهبك إلى هناك؟ بل من دلك عليها؟
فلوح بيده ولم ينبس فقالت: محروس؟! - ما أهمية ذلك؟
وساد الصمت حتى أوشك أن يرثي لها، أوشك أن يندم على ما بدر منه. طال الصمت، وفيه قيل كل شيء بلا كلام. لم يتكلم ولم تسأل. كفى اسم الحارة لبعث تاريخ طويل بكل تفاصيله، ثم نكست رأسها ففقد القدرة على النطق. وقال لنفسه إنه لن يتيسر له البقاء بعد ذلك. لا قتال ولا سلام. ها هي تقوم متثاقلة وكأنها طعنت في الشيخوخة. مضت نحو الباب فتابعها بعين مودعة. غير أنها وقفت فجأة فوق العتبة. لبثت واقفة دقيقة كاملة. واستدارت بحركة لا تخلو من شدة. تجلى له وجهها جامدا ومتحديا، ثم أقبلت نحو مجلسها بتصميم جديد. نظرت إليه مضيقة عينيها وقالت برزانة أضفت عليها ثقة: يحيى، ماذا أقول؟ ولكن عليك أن تسمعني، وقبل ذلك أسألك ماذا عرفت؟
فأجاب وهو ينفخ: كل شيء ... - الأمر لله، عليك أن تسمعني، لقد وجدت نفسي ذات يوم وحيدة منبوذة مكروهة مع وليد رضيع ...
Bilinmeyen sayfa