Şeytan Bantaur
شيطان بنتاءور: أو لبد لقمان وهدهد سليمان
Türler
قال: خلق الإنسان من ضعف، فكان الوهم أول دين دان به، وأول حكومة دان لها، وأول شيطان سكن إليه. كان على وجه الدهر يستقبل المجسمات ويتخذ منها آلهة يسجد لها، ولا يزال آخر الدهر يتوجه إليها بالتأليه والتقديس والتنزيه، وإذا عبد الله كما تعبدونه أنتم والنصارى واليهود، كان لله الشطر من تلك العبادة وللأوهام الشطر؛ فالمسيحي يبلي الحديد في كنيسة القديس بطرس بروما استلاما وتقبيلا، كما يضع المسلم خده في عتب الأضرحة بالقاهرة تمسحا وتأميلا وتعظيما وتبجيلا. وكان في شبيبة الدهر يؤله الجبابرة من البشر أمثاله، ويحكمهم في عرضه ودمه وماله، ولا يزال معظم الخلق حتى الآن عبادا للملوك يأتونهم طائعين، غرهم التاج، وخدعهم العرش، وغشهم الحجاب، وضللهم الاستبداد، فالسلطان في الأصل للوهم لا للسلاطين، وحقيقة الطاعة له لا للمالكين. وكان الوهم أول شيطان سكن إليه الإنسان، تولد منه يقينه، ونشأ عنه علمه، وجرت عليه أموره، وانبنى عليه حكمه، وتألف منه مألوف عاداته، يحس به ويشعر، ويسمع به ويبصر، ويعجز به ويقدر، وبه يعيش وعليه يموت. خلت آلاف من السنين، وحافر البغل في مصر حافر البغل فيها، يمسح في وهم بعض الناس من بعض العلل، ويشفي من بعض الأمراض. ومضت مئات من القرون والميت في مصر يجنز آخر الدهر كما كان يجنز أوله، فلو رفع الصليب من جنازة قبطية، وصين القرآن عن أن يرتله الهمل في جنازة مسلمة، لخيل لك أنها جنازة ميت منا معشر القدماء؛ رسوم احتفال، وقربان، وأكل، وحثو تراب، وشق جيوب، وولولة نساء، وعويل عبيد وإماء، وندب الميت ونعته بكيت وكيت؛ والأوهام يا بني كما قلت لا تخلو منها الأمم الكبيرة والشعوب الحية، إلا أنها تقف حينئذ حيث العامة لا تجاوزها إلى الخاصة، إلا ما ندر؛ كما أنها تتملك الأمم الصغيرة والشعوب المنحطة، فيكون للخاصة منها مثل حظ العامة، وهنا عظيم البلوى، ومنتهى نكد الدنيا. أليس من الوهم القاتل للأنفس، المميت للقلوب، أن يصح في أذهان خاصة المصريين من أمراء وعظماء، وأدباء وعلماء، أنهم أمة ليس فيهم فلاح، ولا يرجى في أمرهم صلاح؛ وأن اتفاقهم سابع الجهات ، ورابع المستحيلات ، وأن الوطن ميت وأنهم ميتون، وما أشبه ذلك من الدعاوى الباطلة التي لا تنطبق على نواميس الوجود، ولا ترد إلى أحوال البشر وحوادث التاريخ. الأمم يا بني لا تموت، ولئن بدت عليها دلائل الموت في أزمنة الاضمحلال فما تلك إلا بؤسى تزول، وحال ستحول. الأمة تصح ثم تعتل ثم تصح؛ تتجدد من حيث تبلى، وتقوم من حيث تسقط، وتصح بالعلل. هذه اليابان، هل كان في حسبان أحد أن تضم صوتها يوما ما إلى أصوات دول الغرب في مسألة من أكبر مسائل العصر، وتطمع مع الممالك الطامعة، وتسير الجيوش في البر، وتخرج الأساطيل في البحر، وقد كانت وأنت في زمن الدراسة لا يذكر اسمها إلا مقرونا باسم الصين، عنوان الهمجية، ومثال التوحش، والمشبه به إذا ذكر التأخر والانحطاط.
3
وعرض على المسيو تييرس الوزير الفرنساوي المشهور، مشروع يراد به إنشاء السكة الحديدية في فرنسا، فسخر منه علانية في المجلس، وعده ضربا من الهذيان، ثم لم يمض نصف قرن على ذلك حتى أصبحت سكك الحديد في فرنسا تكاثر الأنعام. وقارن المؤرخ فولنيه - الشهير بأسفاره الطويلة في الشرق وكتبه الجليلة عنه - بين القاهرة وباريز على عهده، فذهب إلى أن عدد أهالي القريتين واحد، وأنهما كلتيهما تضاءان بالسرج وزيت الزيتون، وتحصنان من الخارج بالأسوار، ومن الداخل بالأبواب، وأن الإنسان لا يخرج فيهما بعد ساعة معلومة من الليل، إلى غير ذلك من شبه التأخر ومخايل الانحطاط. وفولنيه هذا قدم القاهرة في أيام المماليك،
4
وكتب ما كتب عنها في القرن الثامن عشر، فانظر كيف تبدلت الأمور، وتحولت الأحوال، وأصبحت باريز كما عهدت عروس عواصم الغرب، تعتاض كل يوم عن ضوء بضوء، وتبدل حصونا بحصون، وتذهب مخترعات وتأتي مخترعات، وتخرج المدينة من أبوابها، وتمتد إلى ما وراء أسوارها، من تكاثر الأعمال، وتزاحم العمال؛ على كثرة ما أصابها بعد فولنيه من مصائب الدهر ونوائبه؛ فكم هول ثورة لاقت، ونار حرب ذاقت، وخراب إليه انساقت، وكم حكومة قلبت، ودولة غيبت، وملك قتلت، وقيصر عزلت، كل ذلك في قرن ونصف قرن ، ثم كانت النتيجة خروجها من دجنة هذه الحوادث سافرة زاهرة، عظيمة فاخرة، فلو أن أهلها دعوا إلى اليأس فلبوا، وقال لهم عقلاؤهم موتوا أحياء فسمعوا، لكانت النتيجة بقاءها كما وصفها فولنيه أو أضيق حلقة أو أشد انحطاطا. من هذا ومثله تعلم يا بني أن العلم والبيان خلقا ليكونا حرب الأوهام، ونورا يخرج إليه الأمم من الظلمات، وأن حاملهما مطالب بالعمل والدعوة إلى العمل حتى النفس الأخير من الحياة، فمن ثبط هممكم من علمائكم وعظمائكم، فالووا الوجوه عنه، وانفروا بالأسماع عنه؛ ومن دعاكم إلى حياة فذلك داعي الخير، فاستمعوا له وأنصتوا.
قال الهدهد: فما استتم النسر حتى ملئت حياة وأملا وثقة من المستقبل الذي أعتقد أنه بيد الله، إذا شاء صد عنه وإذا شاء أقام فيه.
وكان للأستاذ درس يلقيه على الطلبة، فأدرك أن الوقت سرق بعضه بعضا، وأن حديثه معي كان السبب في ذلك، فغضب في نفسه، وهرول حتى دخل القاعة الكبرى، وهناك خف مئات الطلبة له إجلالا، ثم انحنوا إكبارا؛ وكان ملل الانتظار تبدو دلائله على وجوههم، فتأملتهم وأنا لا أصدق حسي فيما أنظر وأسمع، فإذا هم جميعا مرد أو كالمرد؛ لأن من عادتهم إزالة شعر الوجه - كما قدمنا، وعليهم أردية صافية من الكتان الأبيض.
ثم تصدر الأستاذ للتدريس كأنه الملك على عرشه، فغلب علي السرور وقلت في نفسي: الآن نلت من السعادة ما لم ينله أحد، لكني ما تأهبت للسماع حتى تثاءب النسر وغشيته السنة المعهودة، فالتفت إلي يقول بلسان يعقده النعاس: إذا جاء الليل ذهبت الشياطين، وموعدنا غدا هذا المكان.
فاستعذت بالله وخرجت من أحلامي، وإذا أنا في وكري بحلوان.
المحادثة الخامسة
Bilinmeyen sayfa