Şeytan Bantaur
شيطان بنتاءور: أو لبد لقمان وهدهد سليمان
Türler
وحضرني بشأن هذا الأثر شيء من قبيل ما مر بالفكر بشأن الأهرام، فأملت من جهة أن ينشط المصريون يوما لتشييد بنائه، وتكملة أعضائه، وتجديد حسنه وروائه، عساهم يقضون بهذا العمل الجليل حق خير ملك لخير جيل رأى وادي النيل، وتمنيت من جهة أخرى أن تفشو التماثيل في مصر؛ لأن فيها بعض المكافأة لمن سلف، وتعظيم شأن الحياة في نفس الخلف.
ثم فكرت في رجل عظيم القدر جليل المقام، خطير الشأن في صحائف الأيام، لا صحف الأقوام؛ تضيء مزاياه ثنايا التاريخ، وترفعه أعماله فوق البرجاس والمريخ، إذا مات رشحته الأمة المصرية ليمثل بالحجارة الأبدية، ويبجل بالكلمات الذهبية؛ فما زال بي الوهم والخيال، حتى وجدت طلبتي في الرجال، ولم يبق إلا عمل التمثال، فقلت حينئذ في نفسي: أين من يصنعه، وأين آلات ترفعه؟ وكنت خرجت من أحلامي في المدينة الغابرة، وبلغت مقامي في ضواحي القاهرة، فنمت أطيب المنام، أصل الأحلام بالأحلام، حتى إذا طلع الفجر، انتهيت أشوق ما كنت إلى النسر، يطول النهار ولا صبر، كأن إحدى ساعاته شهر، ومالي لا أشتاق معلمي الحكمة في الحديث، وملهمي القديم من العلم والحديث، وممثل الحقيقة في حسي، وكنت أجهلها في أمسي، أو أغالط فيها نفسي.
ولما جاء الأصيل، هجت إلى شاطئ النيل، فوجدته كما عهدته، وألفيت الحال ما زال: صغرت مدينة وكبرت مدينة، وعطلت ضفة وضفت على أختها الزينة، فاطمأن قلبي وقلت: صدق النسر وعدا، وعمدت لأقرب الزوارق الحاضرة، وهي كالعرائس في النيل خاطرة، بعضها في جيئة وذهاب، ومنها المتسابق في كل منساب، الآخذ بأنواع الرياضات والألعاب، حتى خيل لي أنه التامين، أو أني لدي السين في باريز؛ فنظرت إليه وأنا أحسب أن سأجد سارية أحط عليها، وأستند في وقوعي إليها، فوجدت جزاء من ينقل قدمه ولا يبصر قدامه؛ إذ علق جناحي، فالتفت فإذا أنا في يد رجل تعلوه كبرة وفترة، ويضرب لونه إلى الصفرة، وعليه ثياب مزركشة من ثمين الكتان، وقد جلس أمامه غلام من أوسم ما استخدم الكبراء، فقلبني قليلا ثم دفعني إلى ذلك الغلام، وقال: هذه طلبتنا، ساقتها الآلهة إلينا، فتحفظ عليها؛ فقد تفاءلت أن شفائي فيها، ما زال طبيب الرأس يحيلني على طبيب الأحشاء، وهذا يرشدني إلى الطبيب الروحي، وهو يرى دوائي في مساءلة الهياكل، وقد أعيت الجميع علتي، حتى وصف لنا مضحكنا «أوتا» الذي اشتهر بصدق تجاريبه، على قصر قامته وتشويه خلقته، أن رأس الهدهد إذا سحق، وأضيف إليه قلامة من حافر البغل، ومزج هذان بشيء من شحم الخنزير المذبوح قربانا لأوزيريس الإله والقمر في ليلة تمامه، ثم تناولت كل يوم حبة من هذا التركيب؛ فقد ينفعني ذلك في علتي التي حارت فيها العقاقير، وعجز عنها الأطباء!
قال الهدهد: فما استتم الرجل حتى ذبحت من الذعر بغير مدية، وقلت في نفسي: ما ذنبي حتى يختلط رأسي بحافر البغل وشحم الخنزير، وليس أحقر من هذين! فجعلت أفكر في حيلة تنقذني من هذه الميتة الشنيعة، فرأيت أن أنطلق لعل الأمير يستعظم الأمر فيضن بي، ففعلت، فإذا أنا طليق الجناح أطير، فنظرت تحتي فرأيت الرجل يشير نحوي براحتيه، كأنه يستغفر لي أو يستغيث بي.
والزورق يكاد ينقلب بمن فيه من هول ما فاجأ رجاله من أمري وشهدوا من حالي مع مولاهم، فضحكت من رؤيتهم على هذا الحال، وارتفعت في المطار حتى جازتني المدينة، فجعلت أحط تارة فوق جدار، وأستتر أخرى في الأشجار، وأتنقل من حانوت إلى دار، وأنا في هذه الأثناء ألحظ مجمل الأحوال، وأتزود من المدينة نظرة عامة، فرأيت حركة لم أر مثلها فيما غبر.
وشهدت من العظمى ما يصغر المدائن الكبر، شوارع وسيعة، ودور رفيعة، وحدائق بديعة، وجماهير متدفقة، وشرطة منبثة متفرقة، وخيل مركوبة، ومركبات مجرورة، ومخازن تفيش من صنوف المتاجر، وحوانيت لا تحصى لديها ضروب الصنائع، وكان من أعجب ما رأت العينان، أنس الحيوان إلى الإنسان، واطمئنان الطير إليه في كل مكان؛ تمشي بجانبه آمنة، وتتوثب حوله مطمئنة، وأعجبها الكراكي، رأيتها تتألف الأهالي وكنت أظنها لا تستأنس.
ورأيت نساء العامة يحملن أحمالهن على الأكتاف، ويجعلها رجالهم فوق الرءوس، وتلبس المرأة ثوبا واحدا، ويلبس الرجل ثوبين، وقد دهشت من توحد الزي عند القوم، وإيثارهم من اللباس الكتان أو الصوف، واختيارهم من الألوان الأبيض مع نظافة تضرب بها الأمثال، فكأنما كملت الجوامع فيهم حتى هذه؛ وتحيتهم في الطريق أن يفضي أحدهم بيمناه إلى الأرض؛ وإذا عارض كبيرهم صغيرهم تنحى حتى يعبر، وإذا مر به وهو جالس قام له حتى يمر.
ورأيت جميع الحيوان في الطريق إلا الخنزير، ثم عرفت السبب اتفاقا؛ وذلك أني بصرت بزحام فاقتربت منه، فعلمت من تساؤل الناس أن أحدهم تمسح به خنزير، فهم يسوقونه إلى النهر ليغمس فيه بجميع ثيابه، وهم يعتقدون أنه لا يطهر بدون ذلك، فرثيت في نفسي لحاله، وضحكت من أمر هذه العادة؛ ثم احتواني ميدان عظيم، ينحسر الطرف في جوانبه، ولا تحيط العين بأطرافه، فابتهجت باستقباله، وقلت: لعله ميدان الملك، ولعل الملتقى قريب!
وفي الواقع كان الأستاذ بنتاءور أول إنسان وقع نظري عليه، رأيته يشير بوجهه المتهلل نحو السماء، وكأنما يفتش عني الجواء، وينشدني في طبقات الهواء، فلما أخذني بصره، رفع يده يستنزلني، فهبطت فيها، ثم وثبت منها إلى كتفه منتفضا من التأنس والحبور، مرنقا من غلب السرور، فسألني عن أمري، وما لقيت من وحدتي في رحلتي، فحدثته حديثي أوله وآخره، فضحك من حادثة الزورق، وقال: تلك وحدة لم يكن لك عنها غنى وأنت في أول أيامك بهذه المدينة؛ لأني أردت أن تجمع في حكمك عليها بين ما تسمع مني وما تراه في خاصة نفسك، من أحوال أهلها وأطوارهم، وأخلاقهم وعاداتهم؛ فما رأيك في ذلك المريض؟
قلت: أحمق جاهل يا مولاي، وأطباؤكم أحمق منه وأجهل؛ وإني لأعجب منهم كيف يبلغون في الطب إجارة الجسد من الفساد، وحفظه من البلى على مدى الآباد، ثم ينزلون إلى الإيمان بالرقى والطلاسم، واعتقادهم أن رأس الهدهد وحافر البغل من العقاقير النافعة في بعض الأدواء!
Bilinmeyen sayfa