ورأى المال يكثر في المدينة والرزق يتسع للناس، فأشفق أن يستجيب الناس لغرائزهم وطبائعهم، وأن يعود بعضهم إلى ما كانوا فيه قبل الإسلام من شرب الخمر والإدمان عليها، فاشتد في ذلك إلى أقصى غايات الشدة، وشاور المسلمين فيما يجب أن يفرض على شارب الخمر من عقاب.
فيقول الرواة: إن عليا أشار عليه بأن يأخذ شارب الخمر بعقوبة القاذف فيضربه ثمانين جلدة؛ لأنه إذا شرب سكر، وإذا سكر كان حريا أن يفتري. فأخذ عمر بهذا الرأي وأنفذه في المدينة، وكتب إلى ولاته بإنفاذ هذا الرأي في الأمصار.
ويتحدث الرواة بأن نفرا من المسلمين الذين شاركوا في فتح الشام، ودخلوا دمشق فيمن دخلها من الجند مع أبي عبيدة، فقد فتنتهم الحياة في دمشق فشربوا الخمر، فكتب فيهم أبو عبيدة إلى عمر، فكان جواب عمر أن كلف أبا عبيدة سؤال هؤلاء النفر أمام جماعة المسلمين في المسجد: أيرون الخمر حلالا أم حراما؟! فإن رأوها حلالا فليضرب أعناقهم؛ لأنهم استحلوا ما حرم الله، وإن رأوها حراما أقام عليهم الحد فضرب كل واحد منهم ثمانين جلدة.
ولم يكن الحد يقام على الناس سرا أو يستخفى به، وإنما كان يقام بمشهد من المسلمين.
فلما سأل أبو عبيدة هؤلاء النفر عن الخمر: أيرونها حلالا أم حراما؟ قالوا: نراها حراما؛ فأقام عليهم الحد بمشهد من المسلمين، وكان في هؤلاء النفر رجل من أشراف قريش ومن الذين أسلموا قبل الفتح وفتنوا في دينهم، وهو أبو جندل بن سهيل بن عمرو، فلما أقيم عليه الحد انكسرت نفسه، واستخزى، فجلس في داره واحتجب عن الناس، فكتب أبو عبيدة في شأنه إلى عمر، وطلب إليه أن يكتب إلى أبي جندل معزيا له عما أصابه وفاتحا له بابا إلى الأمل.
قال الرواة: فكتب إليه عمر يعزيه ويعظه وينهاه عن القنوط من رحمة الله، ويذكره قول الله عز وجل:
قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم .
فلما قرأ أبو جندل هذا الكتاب سري عنه وخرج للناس وشهد جماعة المسلمين.
وقصة عمر مع ابنه عبد الرحمن الأوسط أبي شحمة معروفة رائعة حقا، تصدق ما كان عمر يوصف به من أنه لم يكن يخاف في الله لومة لائم؛ فالرواة يتحدثون أن ابنه هذا كان بمصر، وأنه شرب الخمر مع صاحب له، ثم ندما، فأقبلا إلى عمرو بن العاص يطلبان إليه أن يطهرهما بإقامة الحد عليهما، وكره عمرو أن يقيم الحد على ابن أمير المؤمنين بمشهد من الناس فضربه في صحن داره. وبلغ ذلك عمر، ولم تكن أنباء الأمراء تخفى على عمر، فكتب إلى عمرو يعنفه أشد التعنيف، ويأمره أن يرسل إليه ابنه على قتب؛ ليكون السفر أشق عليه. فأطاع عمرو، وكتب إلى الخليفة يعتذر إليه، ويؤكد له أنه أقام الحد على ابنه حيث يقيم الحدود في صحن داره، ولكن عمر لم يقبل منه، ولم يعتد بالحد الذي أقامه، وإنما انتظر الفتى حتى إذا بلغ المدينة وجيء به إليه مريضا مكدودا، لم يحفل بمرضه ولا بما لقي في سفره من العناء، وإنما أقام الحد عليه فورا بمحضر من جماعة المسلمين، وقد استغاثه الفتى فلم يلتفت إليه، وقال له الفتى: إنك قاتلي. فلم يعبأ بما قال، وإنما مضى في ضرب الفتى ضربا مبرحا.
فيقول الرواة: إنه حين رأى ابنه مشرفا على الموت لم يزد على أن قال له: إذا لقيت رسول الله
Bilinmeyen sayfa