فيقول ابن سعد عن شيوخه: إن عمر خرج وجلا، فجلس على المنبر وأقبل الناس عليه، فسألهم: هل يأخذونه بشيء أم هل ينكرون من عمله شيئا؟ قال الناس: لا. قال عمر: فإن فلانا أنبأني بكذا وكذا. فقال بعض الناس: إنما أمرك رسول الله أن تستسقي. فأزمع الاستسقاء في يوم عينه وكتب به إلى عماله وأمرهم أن يصنعوا صنيعه في هذا اليوم.
والشيء الثاني: أن عمر خرج في اليوم الذي اختاره للاستسقاء، وخرج الناس معه إلى المصلى، فصلى بالناس صلاة الاستسقاء، ثم استغفر الله وعج إليه بالدعاء، وعج الناس معه، ثم أخذ بيد العباس بن عبد المطلب، وقال وهو يبكي والناس من حوله يبكون: اللهم إنا نستشفع إليك بعم نبيك.
قال الرواة جميعا: فما هي إلا أيام حتى أرسل الله الغيث.
ولست أدري إلى أي حد تثبت قصة الرجل الذي رأى النبي وتلقى منه رسالة أبلغها عمر، ولكني أقطع بأن قصة التوسل بالعباس بن عبد المطلب كذبة تقرب بها الرواة إلى بني العباس، وما كان عمر ليستشفع بأحد.
والأمر المحقق أن عمر قد استسقى، وأن الله قد أرسل الغيث بعد استسقائه بأيام قليلة أو كثيرة، وأن عمر حين رأى الناس قد سقوا وكل بالأعراب رجالا يخرجونهم من المدينة، وكان هو يشارك في إخراجهم إلى البادية بعد أن سقاهم الله وآمنهم من الجدب.
وقد وقف عمر الزكاة عام الرمادة فلم يرسل السعاة إلى القبائل، فلما كان من قابل أرسل السعاة وأمرهم أن يأخذوا الصدقة مضاعفة، وأن يقسموا نصفها بين فقراء القبائل ويأتوه ينصفها الآخر.
فكل هذا يصور لك عمر في أصدق صورة وأروعها، يصور لك شدة عنايته بالمسلمين واهتمامه لأمرهم، وقيامه من دونهم يحميهم من الجوع، ويصور لك شدته على نفسه وأخذها بما تكره، لا لأنه كان ضيق اليد ولكن لأنه كان يكره أن يشبع والناس جياع، وأن ينعم والناس بائسون، ذلك على ما كان قد أخذ نفسه به أيام الخصب والسعة من الزهد في الدنيا والانصراف عن طيباتها.
وفي ذلك العام كان عمر يكثر أن يقول كلمة تصور إيمانه بالعدل الخالص والمساواة الكاملة بين الناس، كان يكثر أن يقول: نطعم ما وجدنا الطعام، فإذا لم نجد أدخلنا على كل أهل بيت عدتهم فشاركوهم في طعامهم فإنهم لن يهلكوا على أنصاف بطونهم.
ومعنى ذلك أنه كان يريد إذا عجز بيت المال عن إطعام الناس، أن يفرض على الأغنياء أن يقاسموا الفقراء ما يجدون من الطعام حتى لا يشبع فريق من المسلمين ويجوع فريق آخر.
وما أعرف أن المسلمين رأوا خليفة أو ملكا سار فيهم هذه السيرة أو سيرة تقاربها، بل ما أعرف من أمة من الأمم قديمها وحديثها رأت ملكا أو أميرا يسير في الناس سيرة عمر فيمن عاصره من المسلمين والذميين على السواء.
Bilinmeyen sayfa