هل من سبيل إلى خمر فأشربها
أم هل سبيل إلى نصر بن حجاج؟!
فلما أصبح سأل عن نصر بن حجاج، فأنبئ بأنه رجل من سليم، فأمر بإحضاره، فلما نظر إليه رأى رجلا من أحسن الناس وجها وأجملهم شعرا، فأمره أن يقص شعره، فلما عاد إليه رآه قد ازداد حسنا، فأمره أن يعتم، فلما رآه بعد ذلك إذا العمامة قد زادته جمالا، فأقسم عمر لا يساكنه هذا الرجل أبدا؛ فأمر له بما يصلحه وسيره إلى البصرة جنديا.
وعس ليلة أخرى، فسمع نسوة يتحدثن ويتساءلن: أي أهل المدينة أصبح؟ قالت إحداهن: أبو ذئب. فلما أصبح سأل عن أبي ذئب هذا، فقيل له: رجل من سليم. فدعا به، فلما رآه، رآه رجلا جميلا، فقال: أنت ذئبهن؟! يعيدها ثلاثا، ثم أمره بمثل ما أمر به صاحبه؛ فلم يزدد إلا حسنا؛ فأقسم لا يساكنه في بلد هو به، قال الرجل: فإن كنت مسيري فألحقني بابن عمي، يريد نصر بن حجاج، فأمر له بما يصلحه، وألحقه بابن عمه في البصرة.
وعس ليلة أخرى حتى كاد يبلغ ظاهر المدينة، فرأى رجلا قد جلس منفردا أمام بيت له وبين يديه مصباح، فاستأذن عمر، ثم دنا من الرجل، فسلم عليه، ثم سأله: ما جلوسك ها هنا منفردا وقد تقدم الليل؟ ثم لم يلبث عمر أن سمع شكاة داخل البيت، وأنبأه الرجل أن امرأته قد جاءها المخاض، وأنها وحدها، وأنه لا يقدر لها على شيء، فانصرف عمر عن الرجل مسرعا حتى دخل على زوجه أم كلثوم، فقال لها: هل لك في خير ساقه الله إليك؟ قالت: وما ذاك؟ قال: امرأة جاءها المخاض وليس لها من يعينها. فأسرعت زوجه فخرجت معه، حتى إذا بلغ ذلك الرجل، دخلت أم كلثوم على المرأة، فما زالت تعينها حتى وضعت غلاما، قالت أم كلثوم: يا أمير المؤمنين، بشر صاحبك بغلام. قال الرجل: أصلحك الله! لم لم تنبئني بأنك أمير المؤمنين؟ وأصبح عمر، فأرسل إلى هذا الرجل وأهله ما يعينهم ويصلحهم.
وعس ليلة أخرى، فرأى رجلا من أهل المدينة جالسا على شراب له، فانصرف عنه وقد عرفه، فلما أصبح دعاه، فقال له: أليس قد نهاك الله عن الخمر؟! قال الرجل: بلى. قال عمر: فما شراب كنت جالسا عليه البارحة؟! قال الرجل: من أنبأك بذلك؟ قال عمر: أنا رأيتك. قال الرجل: ألم ينهك الله عن التجسس يا أمير المؤمنين؟! فسكت عمر، واستغفر الله.
ولم يكن عمر رفيقا بالمسلمين في المدينة وحدها، ولكنه كان رفيقا بالقريب منه والبعيد عنه، حريصا على أن يعرف أمر المسلمين في الأمصار، ولا يقدم عليه قادم إلا سأله عن الناس فأكثر السؤال، ثم لم يكن يكفيه أن يرفق بالمسلمين في حاضرهم الذي يعيشون فيه، وإنما كان يفكر في مستقبل أيامهم وينصح لهم في أمرهم كله بعد أن يفارقهم إلى جوار ربه.
قدم عليه يوما خالد بن عرفطة من العراق، فسأله عمن وراءه، فقال: يا أمير المؤمنين، تركت من ورائي يسألون الله أن يزيد في عمرك من أعمارهم؛ ما وطئ أحد القادسية إلا عطاؤه ألفان أو خمس عشرة مائة، وما من مولود يولد إلا ألحق على مائة وجريبين كل شهر ذكرا كان أو أنثى، وما يبلغ لنا ذكر إلا ألحق على خمسمائة أو ستمائة، فإذا خرج هذا لأهل بيت منهم من يأكل الطعام ومنهم من لا يأكل الطعام، فما ظنك به؟! فإنه لينفقه فيما ينبغي وفيما لا ينبغي. قال عمر: فالله المستعان، إنما هو حقهم أعطوه، وأنا أسعد بأدائه إليهم منهم بأخذه، فلا تحمدني عليه، فإنه لو كان من مال الخطاب ما أعطيتموه، ولكني قد علمت أن فيه فضلا فلا ينبغي أن أحبسه عنهم، فلو أنه إذا خرج عطاء أحد هؤلاء العريب ابتاع منه غنما فجعلها بسوادهم، ثم إذا خرج العطاء الثانية ابتاع الرأس فجعله فيها، فإني - ويحك يا خالد بن عرفطة - أخاف عليكم أن يليكم بعدي ولاة لا يعد العطاء في زمانهم مالا، فإن بقي أحد منهم أو أحد من ولده كان لهم شيء قد اعتقدوه فيتكئون عليه؛ فإن نصيحتي لك وأنت عندي جالس كنصيحتي لمن هو بأقصى ثغر من ثغور المسلمين؛ وذلك لما طوقني الله من أمرهم؛ قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : «من مات غاشا لرعيته لم يرح رائحة الجنة.»
وكان رفقه بالقريب والبعيد من المسلمين وفاء بما أعطى على نفسه من العهد يوم ولي الخلافة، فقد أنبأ في خطبته التي خطبها بعد أن فرغ من دفن أبي بكر - رحمه الله - بأن ما حضره من أمر المسلمين باشره بنفسه ولا يباشره أحد دونه، وما غاب عنه من أمرهم ولاه أهل الأمانة والكفاية، فإن أحسن هؤلاء الولاة زادهم إحسانا وإن أساءوا نكل بهم، فلم يغير طول خلافته من ذلك العهد شيئا.
Bilinmeyen sayfa