وأمر آخر يتفق المحدثون والعلماء بالقرآن على إضافته إلى أبي بكر عن مشورة عمر، ولم يقبل عليه أبو بكر إلا بعد تردد؛ لأنه كان كما رأيت يتحرج من أن يفعل شيئا لم يفعله النبي
صلى الله عليه وسلم ، وهو جمع القرآن.
فقد قتل من أصحاب رسول الله في حرب مسيلمة مائتان وألف من المسلمين، وكان في القتلى عدد كثير من القراء الذين جمعوا القرآن كله أو أكثره في صدورهم، فلما كثر القتلى من القراء في هذه الموقعة أشفق عمر أن يقتل مثلهم أو أكثر منهم في مواطن البأس، وأن يذهب كثير من القرآن بقتلهم، فأشار على أبي بكر أن يجمع القرآن حتى لا يتعرض نص من نصوصه للضياع بقتل من يقتل القراء خاصة ومن أصحاب النبي عامة.
وتردد أبو بكر في ذلك كما قلت آنفا، ولكن عمر ما زال به حتى أقنعه. قال الرواة من المحدثين والعلماء بالقرآن: فدعا أبو بكر زيد بن ثابت رحمه الله، وكان شابا جلدا عاقلا، وكان يكتب الوحي لرسول الله في المدينة، فكلفه أن يتتبع القرآن فيجمعه، وتردد زيد كما تردد أبو بكر؛ لأن النبي
صلى الله عليه وسلم
لم يفعل ذلك.
ولكن الشيخين أقنعاه بما في ذلك من خير للإسلام والمسلمين، فنهض زيد بهذه التبعة الثقيلة، وجعل يتتبع القرآن؛ يجمعه من صدور الرجال، لا يقبل من رجل نصا من نصوصه إلا إذا وجده عند رجل آخر من أصحاب النبي، ويجمعه من ألواح الحجارة وأكتاف الإبل وعسب النخل التي كانوا يكتبون القرآن عليها، حتى أتم ذلك في عهد أبي بكر، أو في أيام عمر، على اختلاف في ذلك؛ فاجتمع بذلك أول مصحف كتب فيه القرآن.
وظل هذا المصحف عند أبي بكر، إن كان قد تم جمعه في أيامه، ثم صار بعد ذلك إلى عمر، أو ظل عند عمر إن كان قد تم جمعه بعد وفاة أبي بكر، حتى قتل عمر؛ فكان عند حفصة أم المؤمنين، حتى هم عثمان - رحمه الله - بنسخ المصاحف وإرسالها إلى الأمصار، فطلب هذا المصحف من حفصة فدفعته إليه، وكان مما اعتمد عليه الذين نسخوا المصاحف.
ومعنى هذا أن المصحف الذي جمعه زيد بن ثابت عن أمر أبي بكر لم يكن معروضا على الناس، وإنما كان محفوظا عند الشيخين، أو عند عمر وحده ثم عند حفصة، ولم يذع في الناس إلا حين نسخت المصاحف عن أمر عثمان، في القصة التي رويناها في غير هذا الحديث.
وكان زيد بن ثابت من الذين شاركوا في نسخ هذه المصاحف، ومن الناس من يظن أن جمع القرآن أيام أبي بكر أريد به إلى منع اختلاف الناس في القراءة، وهذا خطأ؛ فالمصحف الذي جمع لأبي بكر وعمر لم يكن مرجعا لعامة المسلمين، وإنما أريد به إلى حفظ نصوص القرآن من أن تذهب بموت الذين يحفظونها في صدورهم، أو يحتفظون بها عندهم مكتوبة، فأما المصحف الذي أريد به إلى جمع الناس على قراءة لا يختلفون فيها، فهو الذي أرسله عثمان إلى الأمصار، والذي سمي بالمصحف الإمام.
Bilinmeyen sayfa