وقد بلغ من استخفاف العرب بأبي بكر أن كانوا يهزءون به، ويدعونه أبا الفصيل؛ لأن البكر هو الفصيل، وكان الذين يؤثرون العافية من عقلائهم وممن بقي على إسلامه يردون عليهم استخفافهم ذاك، ويقولون لهم: لتعرفن من أمره ما يحملكم على أن تدعوه أبا الفحل الأكبر.
فلا غرابة في أن يثير هذا كله أبا بكر ومن حوله من أصحاب رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، والرواة يتحدثون أن عمرو بن العاص عاد من مهمة كلفه النبي أداءها في عمان، فمر في طريقه إلى المدينة بسيد من سادات بني عامر - يقال له: قرة بن هبيرة - فأنزله قرة وأكرمه، فلما هم عمرو أن يرتحل خلا به قرة، وقال له: يا هذا، إن العرب لا تدين لكم بالإتاوة! ثم اتصل الحديث بينهما حتى تغاضبا وأوعده عمرو.
وبلغ عمرو المدينة وقد رأى كفر من مر بهم من العرب، فتحدث بذلك إلى نفر من أصحاب رسول الله، وريع هؤلاء النفر لحديث عمرو، وجعلوا يتحدثون في ذلك؛ فأقبل عمر بن الخطاب مسلما على عمرو، فلما رآه أولئك النفر سكتوا، قال عمر: إني أعلم فيما تتناجون. فأجابه طلحة بن عبيد الله: أتريد أن تحدثنا بالغيب يابن الخطاب؟! قال عمر: لا يعلم الغيب إلا الله، إنما ظننت أنكم سمعتم ما أنبأ به عمرو من كفر العرب وانتقاضهم، فراعكم وجعلتم تتناجون فيه. قالوا: صدقت! قال عمر: فإني والله لأخافكم على العرب أكثر مما أخاف العرب عليكم.
وفي هذا الحديث تأكيد لما قلته آنفا من أن عمر لم يجادل أبا بكر في قتال المرتدين كما زعم كثير من الرواة، ولكنه يصور إلى أي حد رجع العرب كفارا بعد إسلامهم، وهموا باستئناف الحياة التي كانوا يحيونها في جاهليتهم، لولا أن عاجلهم أبو بكر فرد إليهم رشدهم، أو ردهم إلى الرشد بعد أن هموا بالغي.
فلا غرابة إذن في أن يكون هذا كله محفظا للصالحين من المسلمين، ومخرجا لرجل كأبي بكر عن طوره الذي ألفه من لين الجانب، ورقة القلب، وإيثار الرفق على العنف.
ومما يصور استهانة العرب المرتدين بالمسلمين عامة - وبأبي بكر خاصة - هذه القصة التي تصور في الوقت نفسه كيف صار أبو بكر إلى الشدة والعنف، بعد ما ألف في حياته كلها من الرقة واللين.
جاءه رجل من بني سليم يعرف بالفجاءة، ويسمى إياس بن عبد ياليل، فقال له: إني مسلم، وأريد أن أقاتل المرتدين؛ فاحملني وأعني بالسلاح. فأعطاه أبو بكر ما احتاج إليه من الظهر والسلاح، فلم يكد هذا الرجل يخرج من المدينة حتى بين عما كان قد أضمر من الغش والخداع، فجمع إليه نفرا من أمثاله وجعل يتعرض الناس: مسلمهم وكافرهم، فيقتلهم ويأخذ أموالهم وينشر الفساد في الأرض.
وعرف أبو بكر ذلك، فأرسل إلى بعض عماله يأمره أن يجد في طلب الفجاءة حتى يقتله أو يأتيه به أسيرا، وجد عامله في ذلك حتى جاءه بعد خطوب بالفجاءة، فأمر أبو بكر أن توقد له نار عظيمة بمصلى المدينة، وهو المكان الذي كان يخرج إليه النبي
صلى الله عليه وسلم
Bilinmeyen sayfa