ويقال: إنه أوصى ابنه إذا هو أحس أن أباه قد شارف الموت أن يجعل ركبتيه في صلبه، وأن يضع يده اليمنى على جبينه ويده اليسرى على ذقنه، فإذا مات فليغمضه. وأمره بالقصد في كفنه، فإنه إن يكن له عند الله خير أعطاه ما هو خير منه، وإن يكن له عند الله غير ذلك سلبه فأسرع في سلبه، وأمره ألا يجعل في حنوطه مسكا، وألا تتبعه امرأة، وأن يسرعوا في المشي إذا حملوه إلى قبره، فإن كان له عند الله خير قدموه إلى ما هو خير له، وإن يكن غير ذلك وضعوا عن رقابهم شرا كانوا يحملونه، وأمره ألا يوسعوا في حفرته لأن بيت عائشة ضيق، ولأنه إن لم يكن له عند الله خير وسع له في قبره مد بصره، وإن يكن غير ذلك ضيق عليه قبره حتى تختلف أضلاعه، ونهى ابنه أن يزكوه بعد موته بما ليس فيه، فإن الله هو أعلم به.
ويقول الرواة: إن الناس جعلوا يدخلون عليه أرسالا فيثنون عليه، فقال لهم حين كثر ذلك منهم: «أبالإمارة تغبطونني؟ لقد صحبت رسول الله
صلى الله عليه وسلم
فتوفي وهو عني راض، وصحبت أبا بكر - رحمه الله - فكنت سامعا مطيعا حتى توفي وهو عني راض، وأصبحت لا أخاف إلا إمارتكم هذه.»
ويقال: إن وفد العراق - وكانت الوفود قد صحبته بعد الحج إلى المدينة قبل أن ترجع إلى الأمصار - سأله الوصية، فأوصاهم بتقوى الله أولا، وبالمهاجرين من أصحاب رسول الله؛ فإنهم ينقصون والناس يزيدون، وبالأنصار الذين تبوءوا الدار والإيمان، وبالأعراب فإنهم مادة الإسلام، وبالمعاهدين من المغلوبين؛ فإن لهم ذمة الله وذمة رسوله وذمة المسلمين، ثم قال لهم: قوموا عني.
قال الرواة: ولما أحس عمر أن الموت منه قريب أمر ابنه عبد الله، وكان رأس عمر في حجره، أن يضع خده على الأرض، فقال عبد الله : وهل فخذي والأرض إلا سواء؟ فأعاد عليه عمر أمره أن يضع خده على الأرض، فأعاد عليه عبد الله جوابه، فقال له في الثانية أو في الثالثة: ضع خدي على الأرض لا أم لك. فلما وضع عبد الله خده على الأرض جعل يقول: ليتني لم أخلق! ليت أمي لم تلدني! ليتني لم أك شيئا! ليتني كنت نسيا منسيا! ثم جعل يقول بعد هذه الكلمات: ويلي! ويل أمي إن لم يغفر الله لي! وما زال يكرر هذه الكلمة حتى مات رحمه الله.
20
وبوفاة عمر رحمه الله، ختم أروع فصل في تاريخ الإسلام والمسلمين، منذ وفاة النبي
صلى الله عليه وسلم
إلى آخر الدهر، فلم يعرف المسلمون، وما أراهم سيعرفون في يوم من الأيام خليفة يشبه عمر من قريب أو من بعيد، فقد رأيت أنه كان - رحمه الله - أزهد خلفاء المسلمين وملوكهم في الدنيا وأشدهم لها ازدراء وأعظمهم منها نفورا.
Bilinmeyen sayfa