كان فريد باشا قد مات هو أيضا، وتولى فايز إدارة أعمال أبيه، ووجد الفلاحين يشكون من فايز ومن سوء معاملته لهم، ولكنه لم يسطع أن يقول قولهم، بل كان يسمع من كثير آخرين مديحا لفايز لا يشوبه نقد ولا تقف به كراهية، وقد ظل حتى يومه هذا لا يدري إن كان فايز يستحق المديح أم هو يستحق الكراهية.
وعاش حافظ في القرية سنوات طويلة، وكبر عتريس، فإذا هو يرث الإجرام عن جده، ويبدأ صيته في هذا الميدان يعلو ويرتفع وحينئذ قطع حافظ ما بينه وبين عبد الصادق، ولكن عبد الصادق لم يقبل هذه القطيعة، فهو يزور حافظ بين الحين والآخر، وحافظ يستقبله مبالغا في الحفاوة والإكرام، ولكنه مع ذلك لا يرد زيارته، وتكبر فؤادة، فهي شابة في ريق العمر، أخذت عن أمها إشراقة نفسها وإيمانها المطلق بالله، وأخذت عن أبيها طيبة نفسه وسماحة مشاعره، ولكن شيئا غريبا آخر تسرب في هوادة وإصرار إلى أخلاقها، لم يكن حافظ يستطيع تعليله؛ أتراها الكتب التي تصر على قراءتها ما أمكنتها الفرصة؟ أم تراه ذهابها في كثير من الأحيان للست تفيدة زوجة فايز بك التي كانت تجد فيها عقلية مثقفة وحديثا عذبا لا يشابه حديث الأخريات من بنات القرية؟ لقد أحبتها تفيدة منذ كانت فؤادة طفلة تلهو مع ابنها طلعت، وحين منعت السن فؤادة أن تلعب مع طلعت أصبحت تزور تفيدة وتجالسها إن لم يكن في كل يوم من أيام الأسبوع ففي أغلب أيامه.
كانت فؤادة سمراء سمرة ما تكاد تلحظ، سوداء الشعر غزيرته ذات عينين واسعتين نفاذتين تخترقان الحياة في فهم وذكاء، وكانت قوية الأسر لا يستطيع من يراها مرة إلا أن يذكرها دائما، وكانت أقرب إلى الطول منها إلى القصر أقرب إلى النحافة منها إلى السمن، تحب أن تضحك، ولكن قليلا ما كانت تجد شيئا يضحكها.
فهي تبقي على ابتسامة حلوة تعلقها بشفتيها الرقيقتين وكأنما هي تتهيأ للضحك عند أول بارقة تلوح بما يستحق الضحك. تسربت إلى أخلاقها من حيث لا يدري أبوها ولا يدري أحد، عناصر من العناد والإصرار، فهي إن أرادت شيئا حشدت كل قواها لتناله، لم يكن أبوها كذلك، هو تعود ألا يريد شيئا، فإن أراد شيئا، ونادرا ما يريد، فهمسة خجلة مترددة إن أفادت فبها ونعمت، وإلا عادت الهمسة تدوي في داخله، وينتهي بها الأمر أن تذوب مع الأمنيات المستحيلة التي قد تدور في النفس ولا تصل إلى اللسان، وأما أمها فملقية أمرها كله على الله، فما يأتي به الله خير، وما يمنعه عنها الله فهو شر، والحياة كما تحيا جميلة لا تريد منها أكثر مما تعطي، والحمد لله الواحد الخلاق فيما أعطى وفيما يمنع، «من أين» تسرب هذا العناد إلى نفس فؤادة، من أين؟
ومع صوت القطار ظلت كلمة من أين تدوي في مشاعر حافظ فتهز كيانه جميعا، وكان القطار يوشك أن يصل إلى القاهرة فهو يوهن من سيره الحثيث ويهن معه دوي «من أين» في نفس حافظ حتى يصمت القطار، ويفرغ حافظ إلى القاهرة وينزل من القطار أهم ما يفكر فيه أن يشتري بعض الكتب لفؤادة وخمارا للصلاة طلبته منه فاطمة.
الفصل الثاني
كانت فاطمة قد تعودت منذ تزوجت حافظ أن تصلي ركعتين لله دائما مع كل صلاة فجر أن يفتح الله الأبواب أمام زوجها، وأن يمنع عنه كل مكروه، فإذا سافر حافظ فالركعتان أربع ركعات أن يعود زوجها إليها بالسلامة، فزوجها عندها هو الحياة كل الحياة.
فمنذ ذلك الحين البعيد الذي لقيته فيه بكتاب القرية وهي تحبه، وما زالت تذكر ذلك اليوم حين أصر أبوها أن تتعلم ابنته القرآن وأرادت أمها يومذاك أن تعارضه، فإذا هو يقول في هدوء: ستتعلم القرآن إن شاء الله.
وكانت هذه الكلمة وحدها كافية لأن تأخذ طريقها في صبيحة اليوم التالي إلى كتاب القرية، كادت تبكي أول الأمر، ولكن ذلك الشاب الأسمر ذا الابتسامة الحنون الطيبة استقبلها في تشجيع وأخذ منها اللوح وخط لها الدرس الأول في غير زهو بعمله ولا استكبار. أقبلت وجلة في صدر النهار ثم متحمسة في آخره، وأصبح الكتاب وذلك الفتى الأسمر هو كل شيء في حياتها منذ ذلك الحين إلى سنوات طويلة، ثم انفرد الفتى الأسمر بحياتها، ولكم تستغفر الله أنها كانت تفكر فيه دون أن يربطها به رباط شرعي فهي تصلي أن يمحو الله عنها هذه الخطيئة، وهي تبالغ في الصلاة والاستغفار حين تذكر يوم انزلقت قدمها فوقعت في النهر، أنها يومذاك لم تكن تفكر في كلام الله الذي تتلوه، وإنما كانت تفكر في هذا الفتى الأسمر الذي كان يمسك لها اللوح.
وكانت تدمع عيناها في صلاتها وهي تطلب المغفرة، وكانت واثقة كل الثقة أن قدميها لم تنزلقا، وإنما الملائكة هم الذين شدوا قدمها إلى النهر جزاء وفاقا لها عن نسيانها جلال كلمات الله، وتفكيرها في ذلك الفتى الذي يمسك اللوح، كم هم رحماء هؤلاء الملائكة لم يغرقوها في ذلك اليوم، وقد كان من حقهم أن يغرقوها، وإنما هيئوا لها هذا الفتى الأسمر لينقذها ويعيدها إلى الحياة، ومنذ ذلك الحين تعودت فاطمة إذا قرأت القرآن أن تنسى كل شيء إلا القرآن الذي تقرؤه، كما تعودت أن تستغفر الله كلما ذكرت حافظا، وهكذا كان أبوها كثيرا ما يسمعها تطلق هذه التنهيدة العميقة وتعود بعدها في صوت خاشع متخاضع فيه كثير من الرجاء، وكثير من الروحانية: أستغفر الله العظيم من كل ذنب عظيم، وكثيرا ما كان أبوها يقول ياه يا بنتي! وأي ذنب اقترفته حتى تطلبي الغفران بكل هذا الخشوع؟! ويبتسم، كان طيبا أبوها، يعرف أن ابنته نقية كماء السماء عفيفة كالملائكة فما كان يزيد على ابتسامة يطلقها في حنان ويعود إلى تسبيحه مرة أخرى خاشعا هو الآخر مؤمنا أعمق الإيمان.
Bilinmeyen sayfa