وقد أراد الله للإنسان أن تكون له النظرتان معا؛ فبالنظرة العلمية إلى الأشياء ينتفع، وبالنظرة الفنية ينعم، إلا أن إحدى النظرتين قد تغلب على زيد، على حين تغلب الأخرى على عمرو، وكذلك قد تسود إحداهما شعبا، وتسود الأخرى شعبا آخر، أو قد تشيع إحداهما في عصر كما تشيع الأخرى في عصر آخر ... وإني لأزعم أن نظرة الشرق إلى الوجود كانت نظرة الفنان، على حين كانت نظرة الغرب إلى الوجود نظرة العالم، حتى لتستطيع أن تعد الشرق معرضا كبيرا من معارض الفن، وأن تعد الغرب معملا كبيرا من معامل العلم، ذلك إن جاز لي أن أعمم القول تعميما لا يخلو من مجازفة خطيرة في الحكم - فيستحيل أن يخلو من هذه المجازفة حكم يعمم القول على ملايين البشر خلال عشرات من القرون.
إن ما قد جرى العرف على أن يطلق عليه اسم «الشرق» ليس بالبلد الصغير، بل هو أقطار بعيدة الأطراف فسيحة الأرجاء، تفصلها آنا شم الجبال، وآنا تفصلها الصحارى والبحار، فلا رقعة الأرض واحدة، ولا المناخ متشابه، كلا ولا الناس من طراز واحد؛ فليس التشابه ظاهرا قريبا بين أهل الشرق الأوسط وأهل الهند وأهل الصين واليابان، وإذن فما يسمى ب «المدنية الشرقية» لا بد أن يكون في حقيقة أمره بناء مركبا كثير التفصيلات، معقد العناصر، متشعب الأصول والفروع، غير أنه على الرغم من هذا الاختلاف البعيد كله، فما من شك في أن للشرق لونا ثقافيا واحدا تتحد فيه أقطاره جميعا، وهو الروحانية التي ظهرت في أرضه دينا وفنا.
والدين والفن كلاهما مما يتذوقه المتذوق، فلا سبيل إلى معرفتهما حق المعرفة سوى أن يحياهما الإنسان حياة ينبض بها قلبه، ولا يكفي لهذه المعرفة الصحيحة أن تقرأ عنها تلخيصا يصف لك حدود القواعد والأصول؛ ففرق بعيد بين أن أشرح لك نظرية الجاذبية مثلا في العلم الطبيعي، فتفهم عنها كل شيء، وبين أن أشرح لك الديانة البوذية أو إحدى الصور الفنية، فيصل الشرح إلى عقلك لكنه لا يتسلل إلى قلبك؛ أفلا يجوز لنا إذن أن نقول إن عبقرية أهل الشرق هي في التفاتهم إلى الوجود من حيث هو حقيقة تمارس بالخبرة الذاتية، لا من حيث هو شيء يوصف وتوضع له القوانين النظرية؟ فثقافة الشرق الأصيلة يوصل إليها بالمكابدة والمعاناة، وليست هي كالعلم النظري وصفا وتحليلا، فإذا أراد الشرقي أن يعرف طبائع الأشياء على حقيقتها، التمسها في أعماق خبرته من داخل، لا في الظواهر البادية للعين من خارج، إنه كالعاشق الذي لا يعرف شوقه إلا من يكابد مثل شوقه، ولا صبابته إلا من يعانيها؛ فالمعرفة إذن من وجهة نظره مكابدة ومعاناة، هي ممارسة وخبرة، وليست هي بالتجارب تجرى في المخابير، ولا بالمشاهدة التي ينظر صاحبها إلى الحقائق من وراء المناظير وخلال العدسات.
ذلك على خلاف المعرفة العلمية النظرية التي نقول إنها على وجه الإجمال طابع التفكير الغربي، والتي إن بدأ صاحبها بما يقع له في خبرة حواسه من بصر وسمع ولمس، فهو يعود فيجزئ تلك الخبرة قطعا قطعا، ليتناول كل قطعة منها على حدة، فيخضعها للتحليل والتشريح والوزن والقياس؛ ذلك لأن المعرفة العلمية تريد أن تنتهي - آخر الأمر - إلى قوانين ذات صياغة رياضية، تقوم عليها الحجة بسلامة الاستدلال المنطقي من جهة، وبصدق التطبيق من جهة أخرى.
بل إن الفلسفة الغربية نفسها - ودع عنك العلوم - إنما تستند في سياقها - أو على الأقل هكذا يزعم لها أصحابها - إلى استدلالات منطقية تخاطب في القارئ عقله لا قلبه؛ إنها لا تدعي أنها جاءت لتثير في القارئ خياله، أو أنها تحتكم في صدقها إلى الخبرة الذاتية الخاصة، بل هي تلجأ إلى العقل تقنعه بأن المقدمة الفلانية تلزم عنها النتيجة الفلانية، سواء كانت تلك المقدمة أو هذه النتيجة مما عانيته معاناة في خبرتك الخاصة أو لم تكن ... ولا كذلك الفلسفة الشرقية القديمة، التي قالها قائلوها تعبيرا عن ذوات أنفسهم قبل كل شيء، ولا عجب أن كان هؤلاء حكماء أكثر منهم فلاسفة بالمعنى الغربي لهذه الكلمة، والذين يقولون إن الفلسفة قد بدأت عند اليونان لا ينكرون بطبيعة الحال حكمة الشرق القديم، وإنما المهم أن نفرق بين نظرتين: نظرة تقيم البراهين وتسلسلها مقدمات ونتائج، ونظرة أخرى تستوحي وجدان القلب وحدس اللقانة وصفاء البصيرة - وهي النظرة التي أسلفنا لك القول عنها بأنها في صميمها هي نظرة الفنان.
الفرق بين ثقافة الغرب وثقافة الشرق التقليديتين هو نفسه الفرق بين الرأس والقلب، بين العقل والوجدان، بين الحياة توصف لغير صاحبها والحياة يحياها صاحبها، فبينما الشرقي يرتكز أولا وآخرا على إدراكه المباشر الحي، ترى الغربي لا يعنيه هذا الإدراك المباشر إلا بمقدار ما يترتب عليه من نتائج، وسواء لديه أن يكون هو نفسه الذي أدرك الإدراكات المباشرة، أو أن يكون قد أدركها سواه ثم وصفها له وصفا دقيقا أمينا؛ لأن الجانب الذاتي لا يعنيه، ما دام هدفه هو استخلاص القوانين النظرية لا المشاهدات في ذاتها.
وما كذلك الشرقي الصوفي الفنان، الذي إن لجأ إلى كلمات اللغة ليعبر بها عن ذات نفسه، فما ذلك إلا لأنه لا حيلة له سواها، على أن تجيء للسامع موحية بما هو خفي خبيء، لا واصفة وصفا كاملا شاملا دقيقا، واقرأ إن شئت شيئا من حكمة الشرق وديانته، وشيئا يقابله من فلسفة الغرب وعلمه، تجد هذا الفرق واضحا، فهنا خبرة ذاتية فردية حية، وهناك أحكام منطقية عامة لا فرق إزاءها بين عقل وعقل، فلئن كان الغربي يحكم بالنتائج، فالشرقي يحكم بالشعور الراهن، فإذا سعد بشعوره وبقلبه وبإيمانه فلتكن النتائج بعد ذلك ما تكون، وما أصدق ما قاله في هذا حكيم من الشرق الأقصى حين طفق يعلم تلاميذه ألا يأخذن أحدا منهم خزي لطعامه الغليظ وثوبه الخشن ومأواه الفقير، فالخزي خليق فقط بمن لا يجد في ثقافته ما يدعوه إلى إدراك الوجود إدراكا جماليا تستروح به النفس، وينعم به الروح، ومما قاله ذلك الحكيم في هذا الصدد: «عش على أرز وماء، متخذا من ذراعك المطوية وسادة، تكن نشوة النفس نصيبك، وأما الثراء الذي ساءت وسائله، والأمجاد التي جاءتك عن طرائق السوء، فكالسحائب العابرة، لا خصب منها ولا نماء.»
كانت الكتابة الشرقية القديمة - وبعضها ما يزال - صورا تصور المسميات تصويرا مباشرا، وفرق بعيد في عملية الرمز اللغوي بين أن تستخدم كلمة «إنسان» مثلا لتدل بها على كائنات معينة لا وجه للشبه بين صورها في الحقيقة، وبين صورة هذه الكلمة كما تكتب، أقول إنه فرق بعيد بين هذا الموقف من ناحية، وبين أن ترسم صورة كائن بشري ذي رأس وجذع وأطراف لتشير بها إلى هذه الكائنات من ناحية أخرى؛ ففي هذه الحالة الثانية ترتكز في الرمز الكتابي على إدراكك الحسي المباشر لما هو قائم في الوجود الحقيقي الواقع، فليست الكتابة الصينية مثلا مركبة من أحرف هجاء معينة نفكها ونركبها، وننثرها ونجمعها، لنكون منها أية كلمة شئنا، بل هي مجموعة من رسوم يبين كل رسم منها - بيانا قريبا أو بعيدا - طريقة تكوين الشيء نفسه الذي جاءت الكلمة لتسميه، فالعلاقة وثيقة بين الاسم والمسمى ، شكلا وتكوينا، وهي علاقة الرؤية المباشرة للأشياء، أو إن شئت فقل إنها نقل للخبرة المباشرة بها.
إن كل كلمة في الكتابة الصينية مؤلفة من جرات، كل جرة منها مستقلة بذاتها؛ لأنها تشير إلى جانب معين من جوانب الشيء الخارجي المدرك، ثم تأتي التركيبة اللغوية، سواء كانت كلمة واحدة أو عبارة كاملة، تأتي وقد تآلفت فيها تلك الجرات المستقل بعضها عن بعض تآلفا يجعل منها وحدة واحدة، هي نفسها الوحدة الإدراكية التي يحصل عليها الإنسان المدرك حين يدرك الحقيقة الخارجية؛ ومن هنا امتازت اللغة الصينية في قدرتها على نقل الحقيقة التي يراد التعبير عنها، نقلا يحافظ لها على فرديتها وتفردها وشتى خصائصها ومميزاتها وتفصيلاتها وظلالها التي تجعل منها حقيقة فردية قائمة بذاتها.
وانظر إلى الكتابة الهيروغليفية تجدها تصويرا، ثم انظر إلى التصوير المصري تجده ضربا من ضروب الكتابة، حتى يصح القول - كما قال «دريتون» مدير الآثار المصرية ذات يوم - بأن الكتابة المصرية القديمة تسجيل بصري للمسموع، والتصوير المصري القديم تسجيل بصري للمنظور؛ فقد كان الكاتب يرسم ما يريد أن يقوله، والرسم بطبيعته لصيق العلاقة بالأشياء المحسة المرئية، ومن ناحية أخرى قد كان التصوير المصري - في رأي «دريتون» أيضا - ضربا من الكتابة؛ لأن المصور إذا ما أراد تصوير بضعة أشياء يجمعها في لوحته لتعبر له عن معنى معين، كان يختار العناصر التي تكون ذلك المعنى، من ناس وحيوان ونبات وغيرها، ثم يرتبها ترتيبا ترتبط به أجزاء المعنى المقصود، كأنه كاتب يضع الكلمات جنبا إلى جنب ليصوغ منها جملة مفيدة؛ فلا عجب إذن أن نرى التصوير المصري خاليا من دلائل الانفعال والعاطفة في الشخوص المصورة؛ فقد ترى صورة لسيد يضرب خادمه، أو صورة لعامل يحمل الأثقال، دون أن ترتسم في الصورة الأولى دلائل الغضب على وجه السيد، ولا دلائل الألم عند الخادم المضروب، ودون أن ترتسم في الصورة الثانية دلائل التعب في ملامح العامل الذي ينوء بحمله الثقيل. كذلك قد ترى صورة للملك رافعا عصاه على جمع من الأسرى والهدوء والسكينة باديتان على وجهه، حتى لكأنه يقدم لهؤلاء الأسرى طاقة من الزهر؛ فالعاطفة والانفعال في التصوير المصري لا يعبر عنهما بتغير في الملامح، بل يعبر عنهما بوضع معين للجسم يصطلح عليه للدلالة على عاطفة معينة أو على انفعال معين؛ فوضع خاص للرجل وهو يتكلم، وآخر للرجل وهو نشوان، وثالث للرجل وهو سأمان أو حزين، وهلم جرا. وهذه هي نفسها الحال في الكتابة، فلا ينتظر من الكاتب أن يجعل كلماته التصويرية معبرة عن نشوة أو حزن، فهو مثلا لا يصور الكلمة الدالة على خوف تصويرا يجعلها مرتعشة الأحرف، ويكفي أن ترص الكلمات رصا مستقرا هادئا، بحيث تثير في قارئها ما يراد له من فرح وحزن وسأم وخوف، وحسبنا هذا التشابه الشديد عند المصريين القدماء بين طريقتهم في الكتابة وطريقتهم في التصوير، لنعلم أن النظرة إلى العالم الخارجي هي في صميمها نظرة الفنان.
Bilinmeyen sayfa