إنه إذا اجتمع رجلان: أحدهما يقف من الطبيعة الخارجية وقفة العلماء، يلاحظ ظواهرها بحواسه المجردة أو بمناظيره المقربة والمكبرة، بحيث لا يجاوز هذه الظواهر ولا يسمح لأحد أن يجاوزها حتى لا يضرب في الغيب المجهول؛ والآخر يقف من الطبيعة وقفة المتصوف الفنان، يترك الظاهر ليلتمس الباطن ويجاوز عالم الشهادة ليغوص في عالم الغيب، أقول إنه إذا اجتمع رجلان بهذه المميزات لكل منهما، فلا رجاء ولا أمل في أن يلتقيا على رأي؛ لأن كلا منهما يجول في عالم غير العالم الذي يجول فيه زميله، وإذا لم يهبهما الله شيئا من سعة الصدر ورحابة الأفق، لكان الراجح أن يضيق كل منهما بزميله، ذلك إن لم يجعل من زميله موضع هزء وسخرية، فلا سبيل إلى تفاهم بينهما إلا إذا اتفقا بادئ ذي بدء على أي العالمين هو المقصود المنشود؟ أما أن يلتمس أحدهما حقائق الأشياء عن طريق حواسه الظاهرة من بصر وسمع وما إليهما، ثم عن طريق العقل المنطقي الذي يستخرج من هذه الظواهر المحسة قوانينها، على حين يلتمس الآخر حقيقة الأشياء فيما هو دائم ثابت وراء تلك الظواهر؛ فعندئذ لا تكون بينهما نقطة التقاء في وجهة النظر، وهذا الانفراج والتفاوت بين النظرتين هو الذي شهدناه مدى قرنين أو ثلاثة في التاريخ الحديث بين الغرب والشرق؛ فللأول منهما نظرة تدرك الجزئيات العابرة لتكون منها علما، فتدرك هذه اللمعة من الضوء تجيء وتذهب، وهذا اللون القرمزي من الزهرة يظهر ويختفي، وهذا الصوت يطرق الأذن ثم يفنى؛ وللثاني منهما نظرة أخرى، نظرة تلتمس شيئا لا يتحقق في هذه اللمعة وحدها، ولا في هذا اللون القرمزي وحده، ولا في ذلك الصوت المسموع، ولكنه يتحقق فيها جميعا على حد سواء، الأول منهما يهزأ من زميله الملغز الحالم، وكذلك يهزأ الثاني من زميله الأول لتفاهة إدراكه، ولغروره الصبياني الذي يرضى ويقنع بالعوابر الزائلات. ألا إن سر الشرق وروحه - أو إن شئت فقل: إن سر الفن وروحه - هو في الغوص وراء هذه الجزئيات العابرة كأنها الموجات الصغار تضطرب على سطح المحيط.
فليس الخلود وليس الدوام وليس السكون إلا للجوهر الذي تكون تلك الحالات الظاهرة الطارئة حالاته، وسبيل إدراك الجوهر الخالد هو الحدس النافذ، هو حدس المتصوف وبصيرة الفنان، وإنها لنظرة تنتهي بصاحبها إلى الاعتقاد الجازم بفناء الجوانب الحسية الزائلة من شخص الإنسان ومن الطبيعة على السواء؛ فكل صفة لأي كائن تعلم عنها أنها صفة خاصة بهذه اللحظة من حياة ذلك الكائن، أو خاصة بهذا الظرف المعين الذي يحيط به، هي صفة زائلة وإدراكها لذاتها لا يعني شيئا، ولا يغني عن الحق شيئا، والمهم هو أن ندركها لنستشف وراءها جوهرا لا يقتصر وجوده على هذه اللحظة المعينة، ولا على هذا الظرف الموقوت، وهو الجوهر الذي لا تعرف طبيعته تمايزا ولا تباينا بين أجزائه؛ لأنه متجانس متصل لا تجزئة فيه ولا كثرة ولا تعدد، هذا الجوهر الذي يتبدى من الأشياء ألوانا وأشكالا، هو وحده الذي يفلت من قبضة الموت، هو وحده الباقي، هو «وجه ربك» الذي يبقى بعد أن تفنى الأرض وما عليها.
هذا هو الشرق وطريقة إدراكه للوجود والموجود، وهو يرتب على هذا المبدأ فلسفته في الحياة؛ فيستحيل - مثلا - على شرقي أن يجعل مثله الأعلى في الأخلاق متعة الجسد؛ لأن متعة الجسد بطبيعتها صائرة إلى زوال سريع. والعبرة هنا «بالمثل الأعلى» لا بطرائق العيش الفعلية، فقد يحدث للشرقي أن يغوص في المتعة الجسدية إلى أذنيه، لكنه يحس في ضميره أنه ضال عن جادة الطريق، على حين قد تجد في الغرب فلسفات أخلاقية بأسرها - كفلسفة «بنتام» و«مل» - تجعل المنفعة والمتعة مبدأ خلقيا صريحا، ولو كانت المتعة مما يدوم دواما لا يطرأ عليه التغير والتحول - كما هي الحال في جنة الفردوس - لما كان فيها عند الشرقي من بأس، لكنها في هذه الدنيا متغيرة متحولة، شأنها شأن سائر الظواهر الجزئية الفردية العابرة؛ ولذلك ازدراها الشرقي في مثله العليا وغض عنها البصر.
الفصل التاسع
تلتقي ديانات الشرق الأقصى كلها في وجهة نظر واحدة، مؤداها هو هذا الذي أسلفناه؛ فللكون روح واحد أزلي أبدي، تنبثق منه هذه الكائنات الأفراد لتقيم على السطح الظاهر حينا ثم تعود فتندمج - كما كانت - في ذلك الروح الواحد الخالد، وإن هذه الكائنات التي تمر كأنها الظلال لهي من التنوع والكثرة بحيث يجوز لنا أن نتصور الجوهر الكوني أما ولودا، ما تنفك تخرج من جوفها ألوف الألوف من الصور، ثم لا تلبث أن تعيد ما أخرجته إلى جوفها من جديد؛ إنها تخرج الفضيلة والرذيلة معا، والجمال والقبح، والتقوى والفجور، من جوفها يخرج الغضب والجشع والفتك والإجرام، ومن جوفها كذلك يخرج صفاء القديسين ونقاء الأطهار، لكن جانب الفضيلة هذا إنما يخرج ليكون صورة معبرة عن روح العالم وهو في سكونه وصمته؛ لأن السكينة والصمت هما من الكون جانبه الأبدي الذي لا تفسده العواطف والانفعالات والكدح العابث المغرور.
وروح العالم إذ يعبر عن نفسه في كلتا الصورتين: صورة الطمع والجشع والتناحر والقتال، وصورة العفة والترفع والسكينة والصمت والتأمل؛ إنما يهيئ للإنسان بذلك سبيلا لتحقيق حريته بمعناها الصحيح، فليست الحرية الحقيقية هي أن تقر الكائن البشري كما هو برغباته وشهواته، ثم تضع في يديه وسائل العلم ليستغلها في استخدام الطبيعة لصالحه، بل الحرية بمعناها الصحيح هي في اندماج الإنسان بروحه في روح العالم ليصبح جزءا من مصدر الإمكانات التي بوسعها أن تكون أي شيء على وجه التعين والتحديد؛ الحرية بمعناها الصحيح هي أن تخرج عن كيانك هذا الجزئي الفردي الذي تحددت صفاته وخصائصه، ودخل في نطاق الأشياء التي تحققت بالفعل، ولم يعد في حدود المستطاع أن يصيبها تبدل وتغير وحذف وإضافة؛ الحرية الصحيحة هي أن تخرج من كيانك الفردي المفروغ من صياغته على نحو محدد معلوم، لتدخل في نطاق اللامحدود واللامتعين، فتصبح جزءا من الأم الولود التي تلد صنوف الكائنات، فتتجدد لك حرية الاختيار في أن تكون شيئا لم يتم بعد صياغته.
كثيرا ما يتهم الغربيون أهل الشرق بأنهم قد فرضوا على أنفسهم الأغلال التي تحد من حريتهم، باعتقادهم في القدر المحدد المرسوم، مع أننا لو تعقبنا النظرة العلمية الغربية والنظرة الشرقية الصوفية إلى أصولهما، لتبين أن مغلول الحرية هو صاحب النظرة الأولى، أليس العلم عند أصحاب النظرة العلمية منتهيا بهم إلى معرفة العالم معرفة كاملة؟ وإذا كان الأمر كذلك، أفلا يكون معنى هذا هو أن العالم قد خرج كله إلى دنيا التحقق الفعلي، فتحددت صفاته وخصائصه، وما علينا بعد ذلك إلا أن نرفع النقاب عن هذه الخصائص والصفات لنحيط بكل شيء علما؟ أين إذن تكون الحرية في تغيير ما هو كائن بالفعل؟ وأما وجهة النظر الأخرى فهي - على خلاف ذلك - ترى إمكان أن يعود الأفراد إلى الانغماس في المصدر اللامحدود اللامتعين، وإمكان أن يصدر عن هذا المصدر سيل آخر من الكائنات التي لا سبيل إلى تحديد صفاتها قبل صدورها؛ وإذن فهنالك الاحتمال دائما بأن ينشأ عن الجوهر الكوني مخلوق جديد مبتكر. وكما أن الكون كله فيه هذان الجانبان: جانب المصدر المبدع الخلاق في خلوده وثباته، وجانب المخلوقات الجزئية التي تم تكوينها على صور معلومة، فكذلك في الإنسان الواحد هذان الجانبان: ففيه جانب سلوكي جزئي هو هذه الحياة العملية التي يحياها ويسعى فيها نحو تحقيق رغباته وشهواته وآماله، وجانب السكون والصمت والتأمل، ولو استطاع الإنسان أن ينجو من تيار الحياة العملية المضطربة ليخلد إلى ذات نفسه في سكينة وتأمل، لاستطاع أن يحقق لنفسه الحرية بمعناها القويم.
هذه وجهة للنظر تجعل الإنسانية والطبيعة كلتيهما تسيران في طريق مفتوح قابل للتغير الذي قد تقتضيه الحكمة، وأما أن ننظر إلى العالم وكأنما هو شيء قد كمل واكتمل على قوانين معينة لا سبيل إلى تبديلها، فهو بمثابة أن نضع الغل في أيدينا؛ فقد يستقل المسافر الغربي في مدينة شرقية سيارة ساعة معينة، حاسبا حسابه بأنه سيبلغ جهته المقصودة في كذا من الدقائق، وكم تكون دهشته حين يسأل السائق الشرقي: ألا تكفينا عشر دقائق لنقطع المسافة إلى المكان الفلاني؟ فيجيبه السائق الشرقي بما معناه: «إن شاء الله.» لأن الشرقي في صميمه يحس أن مجرى الأمور معرض للتغير، ولا يدعي حسابه حسابا دقيقا إلا جاهل؛ فأي هاتين النظرتين تتمشى مع الحرية الحقيقة وأيهما تناقضها؟ أيكون الغربي مؤمنا بالحرية الكونية حين يزعم أن الأمور دقيقها وجليلها قد رسمت رسما لا سبيل إلى تغييره وتحويره؟ أم يكون الشرقي مؤمنا بالقدر المغلق المقفل حين يتصور أن الأمور تحتمل أن تجري على غير ما حسب لها الحاسبون؟ ... الفرق بين الرجلين هو هذا: رجل يعطي الحرية للإنسان الفرد ويسلبها من الكون في مجموعه، وآخر يعطي الحرية للكون في مجموعه بما فيه الإنسان نفسه باعتباره جزءا منه، ويسلبها من الإنسان الفرد من حيث هو فرد منعزل مستقل عن الكون العظيم.
ومن فلاسفة الغرب من يذهبون مذهبا قريب الشبه بهذه الفلسفة الشرقية، وعلى رأسهم «سبينوزا» بمذهبه المعروف، الذي يأخذ فيه بأن في الكون حقيقة شاملة يسميها «جوهرا»، وهذا الجوهر أزلي أبدي ثابت، يتبدى في هذه الأشياء الكثيرة التي تقع لنا تحت الحس، وهي كلها أعراض زائلة فانية؛ فأنت وجسدك وعشيرتك ونوعك الإنساني وأرضك التي تعيش عليها إن هي إلا أعراض زائلة، تنم عن حقيقة خالدة كامنة فيها، فقد يزول الشيء الجزئي ويفنى، وأما الحقيقة التي تتمثل فيه فباقية لا تخضع لزوال أو فناء.
ومن رأيه أن للطبيعة الكبرى مظهرين: فهي طابعة من ناحية ومنطبعة من ناحية أخرى؛ أي أنها فعالة منشئة خالقة من ناحية، وهي منفعلة مخلوقة من ناحية أخرى؛ فأما هذا الجانب المنفعل المنطبع المخلوق فهو الدنيا وما تحوي من غابات وهواء وماء وجبال وحقول وسائر الأشياء الحسية التي لا تقع تحت الحصر، فهي كلها أشياء من إنتاج الجانب الطابع الفعال المنشئ الخلاق؛ وهكذا تجد في الكون قوة تخلق وهي «الجوهر»، وأشياء مخلوقة وهي «الأعراض»، فإذا سألت عن الإنسان حرا أو مقيدا؟ أجبناك بأنه الاثنان معا من وجهتين للنظر مختلفتين، فهو حر إذا اعتبرته جزءا من الكون الطابع الفعال، وهو لا شك جزء منه؛ لأنه ليس خارجه ولا مفارقا له، ولكنه أيضا مقيد إذا اعتبرته أحد الأعراض التي جاءت نتيجة محتومة للجوهر الكوني؛ إذ لا سبيل أمام هذه الأعراض المنطبعة المنفعلة المخلوقة إلا أن تسيرها في مجراها المرسوم.
Bilinmeyen sayfa