قال عبد الرحمن: «متى حضر الأمراء استشرناهم، ولا أظنهم إلا موافقين على الزحف، فنرحل برجالنا ونترك الأخبية في مكانها وعندها بعض الحامية والغنائم فإذا هزمنا الإفرنج بإذن الله حملنا نساءنا وغنائمنا، وسرنا إلى تورس على نهر لوار.»
وبعد قليل جاء الأمراء وهم بضعة عشر أميرا، وفيهم العربي والبربري والشامي والمصري والنبطي وغيرهم، وفي جملتهم الأمير بسطام، فعرض عبد الرحمن عليهم رأيه وساعده هانئ على تنفيذه فوافقوا جميعا على الرحيل في صباح الغد على أن يتركوا النساء في الأخبية حيث أقيمت، فلما أجمعوا على ذلك، التفت عبد الرحمن إليهم وقال لهم: «أنتم تعلمون أننا سائرون لمحاربة هؤلاء الإفرنج في معسكرهم، والمسافة بيننا قريبة وهم متحصنون في جبالهم فينبغي لنا أن نسير إليهم خفافا، ولا يخفى عليكم ما أصابه رجالنا من الغنائم في أثناء الفتوح التي وفقنا إليها منذ خروجنا من الأندلس وهي ثقيلة، حتى لقد ثقل على الرجل حمل غنائمه وحدها بلا حرب فكيف إذا اضطر إلى الهجوم والركض، فالرأي على ما أرى أن يتركوا غنائمهم في هذا المعسكر بقرب الأخبية فتبقى هناك هي والنساء ونجعل معها حامية من رجالنا فإذا بلغنا من عدونا ما نريده أضفنا إليها ما نغتنمه منهم.» قال عبد الرحمن ذلك وهو يتوقع معارضة بعضهم لعلمه بحرص أولئك القوم على حطام الدنيا، وفيهم من لم يأت إلى تلك الحرب إلا رغبة في الأموال فاستدرك هانئ ما خشيه عبد الرحمن قائلا: «إن الأمير مصيب في رأيه ولا أظنكم إلا موافقين عليه؛ لأننا نخشى إذا جاهد رجالنا وهم مثقلون بالغنائم أن يعجزهم حملها فينوءون تحت أثقالها، ولا يقاتلون كما ينبغي في ساحة الوغى ولا يخفى عليكم ما يترتب على ذلك من الفشل.»
وكان عبد الرحمن يخشى الاعتراض خصوصا من الأمير بسطام لحرص رجاله على الأموال لسبب تقدم ذكره، وكان عبد الرحمن في أثناء كلام هانئ يتفرس في وجوه الأمراء فوجد التردد ظاهرا وخاصة في وجه بسطام، فاستأنف الكلام قائلا: «والذي أراه أن نعهد بحراسة تلك الغنائم إلى الأمير بسطام ومن يختارهم من رجاله، ومعهم جماعة من رجال سائر الأمراء.» •••
فوقع ذلك الرأي موقع الاستحسان عند الجميع، فوافقوا عليه وخرجوا لتنفيذه وليأمروا رجالهم بالتأهب للرحيل صباح الغد .
فذهب هانئ إلى خيمته، ولم ينم تلك الليلة لما خالج أفكاره من الهواجس بمريم على أثر ما سمعه من عبد الرحمن، حتى حدثته نفسه أن يطير إليها في ذلك الليل ويكاشفها بما دار بينه وبين عبد الرحمن بشأنها، ويخبرها بعزمهم على الرحيل إلى محاربة الإفرنج، ويصبرها حتى ساعة الرجوع، وقد زاده رغبة في الذهاب إليها أنه فارقها ولم يتمكن من وداعها كما يريد، ولكنه تذكر أهمية وجوده في الصباح هناك وخشي أن يغضب عبد الرحمن فرجع عن عزمه.
الفصل الخامس والعشرون
المنديل
وفي الصباح، قام المسلمون للصلاة ثم نفخ في النفير فتأهبوا للسير، وساروا كأنهم بحر يتلاطم بالأمواج وفيهم الفرسان والمشاة وبينهم الرماحة والرماة وقائد الفرسان العام هانئ، وقد ركب جواده ولبس خوذته والتف بعباءته، وقوضوا الخيام، ولم يتركوا منها إلا ما وضعوا فيه غنائمهم، ومعها الأمير بسطام وبعض رجاله ونفر من رجال القبائل الأخرى.
وبعد المسير بضع ساعات، أشرفوا على جبال أخبرهم الجواسيس أن أود ورجاله متحصنون فيها فنزل المسلمون في سهل بالقرب من ذلك المضيق، وترجل الفرسان وسرحوا خيولهم للعلف والراحة، على أن يستريحوا ريثما يطيب لهم الهجوم وقد أقاموا الحراس حول المعسكر وبثوا سراياهم، يستطلعون أحوال أعدائهم ومناعة مواقعهم ليعلموا من أين يهاجمونهم، وذهب هانئ للاستراحة في خيمته، وفي المساء جاءت الطلائع فأخبروا أن الإفرنج مقيمون في الجبال - وهم كثيرون - وقد تحصنوا وأقاموا لا يبدون حراكا، فاجتمع أمراء المسلمين وتفاوضوا في الأمر، فرأوا أن الهجوم على حصون الإفرنج شديد الخطر، فتمهلوا ليروا ما يبدو منهم فإذا لم يخرجوا من حصونهم فكروا في الهجوم عليهم. «فنزل المسلمون في سهل بالقرب من مضيق، على أن يستريحوا ريثما يطيب لهم الهجوم وقد أقاموا الحراس حول المعسكر، وبثوا سراياهم يستطلعون أحوال أعدائهم.»
فبات هانئ تلك الليلة وقد عادت إليه هواجسه، وعاد إلى التفكير في مفارقة المعسكر بضع ساعات، ولا خطر على الجند في غيابه للأسباب التي قدمناها على أنه ظل مترددا في الذهاب خشية الفشل، وحياء من عبد الرحمن.
Bilinmeyen sayfa