وأحست بجاذبية نحوه لا تدري ما هي وقد ذهب من خاطرها ما كانت تسمعه من والدتها عن أهمية مستقبلها، والواقع أنها لم تسمع منها شيئا صريحا بهذا الشأن ولكنها كانت تحملها على إتقان النطق بالعربية ، وتعليمها ركوب الخيل وفنون الفروسية وسائر الألعاب الرياضية، حتى خشنت عظامها وقوي عضلها وشبت على الحمية وعزة النفس والشجاعة، ولكن رقة الجنس اللطيف ظلت غالبة على طبيعتها وإنما زادتها تلك الرياضة صحة، وأكسبت وجهها رونقا وإشراقا.
مشت في أثر الغلام وبجانبها حسان يتوكأ على عكازه بنشاط وخفة، وقد تزمل بقبائه وعلى رأسه قبعة (طاقية) قد لصقت من كل أجزائها برأسه، وكان رأسه حليقا فظهرت كأنها جلد ثان له، فمروا في أثناء الطريق بجماعات من الرجال كل جماعة من قبيلة، بعضهم في الخيام والبعض الآخر فيما بينها وقد علت الضوضاء، وأكثر ما يسمع من أصوات الرجال عبارات الاختصام على قسمة الغنائم، وخصوصا ما كان ثمينا من الأثواب الموشاة أو الآنية الذهب أو الفضة أو الدروع أو الطنافس، فربما أفضى الخصام في بعضها إلى تجزئتها إلى قطع وتوزيعها بين المختصمين على حين أن أجزاءها لا تفيدهم شيئا، وكانت مريم تسمع أصوات الأمراء يهددون رجالهم أو يوبخونهم، ولا تسل عن قلبها حينما سمعت صوت هانئ في خيمته على بعد بضع خطوات منها وهو يحاسن بعض الناس، ليقنعهم بتسليم آنية الكنيسة عملا بإشارة عبد الرحمن، فلما سمعت صوته اختلج قلبها في صدرها، وودت لو أنها وقفت هناك برهة لتسمع حديث حبيبها وتستأنس بصوته، وتمنت لو أن الخباء كان على مقربة منها ليمر بها هانئ إذا خرج، فنادت الغلام وسألته عن موقع الخباء فقال: «إنه خارج هذا المعسكر يا مولاتي.»
قالت: «وهل هو بعيد عنا؟»
فمد الغلام عنقه وهو ينظر نحو الأفق ثم قال: «إن الخباء يا سيدتي بالقرب من هذه النار.» وأشار بإصبعه إلى نار موقدة وراء حدود المعسكر.
فنظرت مريم فإذا هي لا تزال بعيدة عن المكان فقالت: «ولماذا جعلوا الخباء بعيدا بهذا المقدار؟»
قال: «لأنه دار النساء، والعادة في هذه الدور أن تقام خارج المعسكر ومتى وصلنا إلى هناك ترين أخبية عديدة لنساء الأمراء والقواد وغيرهم من رجال الجند، ولولا من يقوم بخدمتهن من الخدم والخصيان والعبيد لحسبت نفسك في مدينة من النساء.»
فصبرت مريم نفسها وسكتت وهي تجد في المشي، وحسان إلى جانبها يمشي ساكتا، وكأنه استأنس بصوت خفق نعاله ووقع عكازه على الحجارة، حتى إذا خرجوا من المعسكر سمعت عند خروجهم أصواتا آتية من أطراف المعسكر تشبه أن تكون تهديدا فأجفلت وتراجعت فطمأنها حسان قائلا: «لا تخافي يا بنية إن حراس الجند يطلبون منا شعار الليل، فإذا لم نجبهم به اشتبهوا في أمرنا.»
فقالت: «وكيف ذلك؟ وما هو الجواب؟»
قال: «هو عند هذا الغلام.» والتفت إليه ليسأله فإذا به يقول بصوت عال جوابا على ما قاله الحراس: «طليطلة وقرطبة.» فتحول حسان نحو مريم وقال: «هذا هو شعارهم الذي يتعارفون به اليوم.» فسكت الحراس، ومشت مريم وحسان على أثر الغلام حتى انتهوا إلى الأخبية فسمعوا من حراسها مثل ذلك النداء فأجابوا عليه مثل ذلك الجواب، واتجه بهم الغلام إلى خباء منفرد أمامه نار عظيمة فعلمت مريم أنه الخباء الذي تقصده فلما دنت منه رأت الخدم ببابه وفيهم البيض من الصقالبة الذين يباعون في تلك البلاد والسود والزنوج الذين رافقوا الحملة من أفريقيا وأكثرهم من الخصيان، ولما أقبلت مريم على الخباء تأملت فيه، فإذا هو يتكون من بناء من نسيج أحمر متين مربع الشكل قائم على أعمدة من الخشب مخيطة بالقماش، وربما بلغت مساحة الخباء خمسين ذراعا في خمسين، يكتنفه سور من ذلك النسيج مسند بالأعمدة ومشدود إلى الأرض بالأوتاد والأمراس، وسقف الخباء يشبه قبة كبيرة صنعت من ذلك النسيج قائمة على عمد متينة، وقد قسم الخباء داخل السور إلى غرف وأفنية يفصل بينها جدران من نسيج أخضر مسندة بالعمد أيضا.
وبينما هي تتأمل في ذلك البناء أقبل عليهم رجل من خصيان الخباء أبيض اللون، عرفت مريم من سحنته أنه صقلبي فاستقبله الغلام وتعارفا وتفاهما، وكان الغلام قد أفهم الخصي المهمة التي قدم من أجلها فتركه وهو يقول بلسان عربي تخالطه عجمة: «إني ذاهب إلى القهرمانة قيمة الخباء أستقدمها لاستقبالها .» ومضى حتى دخل الخباء فوقفت مريم وحسان والغلام في انتظاره ثم عاد وهو يقول: «تفضلي يا مولاتي بالدخول ويبقى خادمك معنا في إكرام ورعاية.»
Bilinmeyen sayfa