الحرب
قف معي هنيهة قبل الهجوم، وانظر إلى ذينك الجيشين وهما يختلفان جنسا ولغة ودينا، ويتباينان مطعما ومشربا وملبسا ويتباعدان خلقا وأدبا، اجتمع أحدهما من أقاصي آسيا وأفريقيا من أمم شتى لا يجمعهم غير الإسلام إلى بلاد لم يطئوها من قبل، وإقليم لم يتعودوا برده ومطره، وقد رأوا أمامهم رجالا دروعهم من الجلود وعلى رءوسهم خوذات من الجلد وراياتهم مستطيلة وعليها شارات النصرانية، وجاء الآخرون من شمال أوروبا وهم قبائل مختلفة اجتمعوا الآن لدفع عدو غريب جاءهم بدين جديد وشكل جديد، وقد دهشوا لغرابة ما بدا لهم من اصطفاف تلك العمائم المتراصة في تلك الساحة الرحبة كأنها بحر يتلاطم بالأمواج، تظهر من بينها رايات متشابهة عليها كتابة لا يستطيعون قراءتها، ولو تفصحت ما يجول في خواطر ذينك الجيشين لرأيتهما متضاغنين متشاحنين، يتضرع كل منهما إلى ربه أن ينصره على الآخر تأييدا للحق، فإذا استعرضت الأسباب التي دعت إلى ذلك القتال لما رأيت سببا غير الجشع الذي انفرد به الإنسان من دون سائر المخلوقات، فإننا لم نسمع بسرب من الحيوان يجتمع لقتال سرب آخر من نوعه، وإذا تنازع حيوانان فإنهما يتنازعان على لقمة، يلتمس كل منهما أن يسد بها جوعه، فلهما العذر في ذلك الخصام وأما الإنسان فإنه يقتل أخاه على شيء لا يعبر عنه بغير الوهم، بل هو لا يقدم على قتله إلا على شبع، وإنما يطلب وهما يعبر عنه بالسيادة أو الشهرة، وكلاهما لا تسدان جوعا ولا ترويان عطشا.
طلعت شمس ذلك النهار وهو على تقديرهم يوم سبت من شهر أكتوبر عام 732 للميلاد، فبدأ العرب بالهجوم وأمطروا الإفرنج بالنبال، وانقضوا عليهم بجيادهم انقضاض الصاعقة فتلقاهم هؤلاء بالثبات والحزم ولم يتزحزحوا عن أماكنهم، فانقضى النهار ولم يلتحم الفريقان إلا سطحيا وقد تقابلا وتناديا وتصايحا، ولكنهما لم يتفاهما؛ لأن كلا منهما يعد لغة الآخر رطانة وألغازا وربما كان التفاهم أقرب فيما بين خيولهم مما بينهم، ولكنهم تعارفوا بالوجوه ولم ينفعهم التعارف؛ لأنه لم يزدهم إلا ضغينة وحقدا، ثم افترقوا على أن يعيدوا الكرة في غد.
رجع هانئ وهو منقبض النفس، وأمر فرسانه أن يعودوا إلى مضاربهم، وتحول بأدهمه مجانبا الساحة ليطل عليها من أكمة، وإذا هو بفارس ملتف بعباءة قد ساق جواده نحوه فأمسك شكيمة الأدهم وتفرس فيه ولا تسل عن دهشته حين رأى مريم على ذلك الجواد فخفق قلبه وصاح فيها: «مريم؟ ما الذي جاء بك إلى هنا؟»
فقالت: «لأشاهد حبيبي هانئا يبدد الكتائب ويفل الجيوش ...»
فأحس عند سماعه قولها كأنها طعنته بحربة في صدره، وحمل كلامها محمل التوبيخ لرجوعه بلا طائل، وبدا التأثر على وجهه وأدركت مريم ذلك فاستدركت قائلة: «لقد رأيتك تصول صولة الأسد، ولكن الحرب سجال على أني كنت أتوقع النصر لكم لو لم تجعلوا أولئك البرابرة في مقدمة الجند، فهم لا يستطيعون اختراق صفوف الإفرنج ولن يستطيع اختراقها إلا الفرسان، فلو تقدمت فرسانك وأنت معهم لبددتم شملهم؛ لأن خيالة الإفرنج ضعيفة.»
فرأى في قولها حكمة؛ لأنه كان يرى رأيها وقد هم بعرضه على عبد الرحمن، فابتسم ونظر إليها نظرة الحب والإعجاب وقال: «بورك فيك، فقد عهدت فيك لطف النساء وبسالة الرجال، ولكنني لم أكن أعرف فيك مهارة القواد إننا عاملون برأيك في غد بإذن الله وهو رأيي أيضا، ولكننا قدمنا البرابرة مسايرة لهم، كما تعلمين حالنا معهم ولكن لماذا عرضت نفسك للنبال؟ لقد كنت أنا أجول في ساحة الوغى أتصورك في الخباء تتوقعين رجوعي ظافرا، فلما رجعنا كما ترين انقبضت نفسي ولو رأيتك بجانبي لكانت النتيجة غير ذلك.»
فأدركت أن علمه بوجودها يزيده بسالة ونشاطا فقالت: «فموعدنا غدا.»
فقال: «لا لا تعرضي نفسك للخطر فإني أخاف عليك من الهواء، فكيف بالنبال؟»
فقالت: «لعلي لا أخاف عليك من ذلك؟ ولكن هل إذا أصيب هانئ بسوء أبقى أنا؟ دعنا من هذا الآن، وإن غدا لناظره قريب.» وكانا يتكلمان وفرساهما يسيران حتى أصبحا بجانب المعسكر فهمزت جوادها نحو الخباء وهي تقول: «أستودعك الله إلى الغد.»
Bilinmeyen sayfa