شرْح
الْعَلامَة أَحْمد بن مُحَمَّد البرنسي الفاسي الْمَعْرُوف بزرُّوق
الْمُتَوفَّى سنة ٨٩٩ هـ
على متن الرسَالَة
للْإِمَام أبي مُحَمَّد عبد الله بن أبي زيد القيرواني
الْمُتَوفَّى سنة ٣٨٦ هـ
ويليه
متن الرسَالَة
أعتنى بِهِ وَكتب هَوَامشه
أَحْمد فريد المزيدي
الْجُزْء الأول
دَار الْكتب العلمية
Bilinmeyen sayfa
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
المقدمة
الحمد الذي ابتدأ الوجود بإحسانه، وشمله بفضله وامتنانه، فخلق وصور وحكم ودبر، وقضى وقدر، وأرشد ويسر، ثم هدى وأضل، ووفق وخذل، وتفضل في ذلك وعدل، لا يسأل عما يفعل، أحمده وأشهده، وأستعينه وأستغفره، وأسأله العافية والتيسير، والفتح فيما أؤمله من كتب وتقرير، وأصلي على سيدنا محمد المختار، وعلى آله وأصحابه الأبرار، وأسلم عليه وعليهم كذلك، والحمد لله على ذلك.
أما بعد:
فإن العلم أفضل الأعمال، والتفقه في الدين أساس كل كمال، وإن رسالة ابن أبي زيد شهيرة المناقب والفضائل، غزيرة النفع في الفقه والمسائل، من حيث أنها مدخل جامع للأبواب، قريبة المرام في الكتاب والحفظ والاكتساب، وقد اعتنى بها الأوائل والأواخر، وانتفع بها أهل الباطن والظاهر، حتى صارت بحيث يهتدي بها الطالب المتبدئ ولا يستغني عنها الراغب المقتدي، ولم تزل الناس يشرحونها على مر السنين والدهور، والعلماء يتداولونها ويتأولون ما فيها من مشكل الأمور، نحوًا من خمسمائة سنة، ولم تنقض لها حرمة، ولا طعن فيها عالم معتبر في الأمة، مع ما فيها من عظيم الإشكال، ودواعي الإنكار من الحساد والإشكال، وهذه كرامة من الله لا تنال بالأسباب.
ومثله ما يذكر من أن من التزمها علمًا وعملًا فتحت له أبواب، فكان ذا أربعة أو أحدها أو اثنين أو ثلاثة:
أحدها: علم حاصل؛ أو مال واصل، أو صلاح كامل، أو جاه فاضل حسبما استقرئ ذلك في الغالب، وأخذ من كلامه بعض المطالب، وسنذكره في محله إن شاء الله تعالى وما ذاك إلا لإرادة وجه الله، ودوام اللجأ إلى الله، فقد حكي أنه كان يجعلها في محرابه الذي يصلي فيه ليلًا ويدعو الله أن يجعلها مكان عقبه؛ لأنه لم يكن له عقب، فلم تزل تتلى حتى لقد ذكر أنها منذ وجدت إلى الآن تخرج لها في كل مكان سنة شرح وتبيان.
إما من عالم كبير أو من نحرير، أو ممن هو مثلي فقير حقير، فوضعت هذه العجالة بحسب الوسع والتيسير، وقدر ما انتهى إليه فهمي القاصر وعلمي القصير، معتمدًا على رب السموات والأرض أن يجعله رحمة لعباده، وبركة شاملة في أرضه
1 / 9
وبلاده، وأن ينفع به الخاص والعام، بجاه محمد ﵊، وقد اجتنبت فيه الإطناب الممل، وفارقت الاختصار العنيف المخل، واعتمدت النقل دون التعليل، وأخذت عيون المسائل إلا في القليل، وآثرت النقل من كتب المتأخرين لما لهم من الجمع والتحرير، واخترت جماعة مشهورة لها بحث وتحقيق، ليرجع إليها فيما فيه من معقول ومنقول، ويحقق في كل مفهوم ومقول، غير إني قصدت لتصحيح المتن وبيان المشكل وتتميم الناقص فلم يتيسر لما علي من كلفة السفر، وعدم العدة في فرعه وأصله مع ما اعتراني من الأعراض والأمراض، فلذوي الفضل قبوله بإنصاف من غير تعنت ولا اعتراض.
فإن من صنف استهدف، ومن أبرز للوجود عمله، فقد ولي الناس حكمه، وعلى الله المعتمد في بلوغ التكميل وهو حسبنا ونعم الوكيل، وقد وضعت رموز المشايخ منهم الشيخ الفقيه الصالح العلامة الشهير شرقًا وغربًا سيدي أبي عبد الله محمد بن محمد بن عرفة الورغمي بفتح الواو المعجمة وتشديد الميم ثم التونسي المتوفى سنة ثلاث وثمانمائة في سن نيف وثمانين سنة وصورة الرمز له (ع)، ومنهم الشيخ الفقيه العالم القاضي العدل وإمام أهل عصره في الإنصاف والاعتبار أبو عبد الله محمد بن عبد السلام الهوري قاضي الجماعة بتونس وبه تخرج ابن عرفة وغيره من الكبار ثم توفى ﵀ في سنة ست وأربعين وسبعمائة وصورة رمزه (س) في كتابه على ابن الحاجب المشهور كمختصر ابن عرفة فمنهما النقل وعليهما الاعتماد ثم الشيخ الصالح العلامة فريد وقته علمًا وديانة أبو المودة غرس الدين خليل بن إسحاق بن الجندي المصري القاهري المتوفى سنة تسع وستين سبعمائة وهو من الديانة والعلم بالمكان العظيم.
وقد شرح ابن الحاجب بالتوضيح قتبع ابن عبد السلام وأتى بمختصره في الفتاوى حجة في الإسلام وقد رمزنا له على الكتابين بما صورته (خ) وهو رمزه لنفسه في توضيحه والشيخ تاج الدين بهرام بن عبد الله الدميري قاضي المالكية في وقته وقد شرح المختصر بكبير وصغير وشرح الإرشاد في ستة مجلدات وجمع كل ما حصله في شامله باختصار فأنا أنقل منه لا من غيره لكونه جامعًا مغتنيًا بالمشهور وإن كان في اختصاره للخلافيات قصر في بعض أبواب والمشهور ومحفوظ عنده وجعلت رمزه (م)
1 / 10
لعدم خفائها به؛ لأن رمز بعض شيوخنا له (ب) فإنها قد تندرج في الخط فلا تعرف وتوفي ﵀ سنة خمس وثمانمائة بالقاهرة والله تعالى أعلم.
وقد أخذت ذلك في أول الكتاب من شرح شيخنا الفقيه الصالح أبي زيد عبد الرحمن بن محمد بن مخلوف الثعالبي ثم الجزائري وكانت الديانة أغلب عليه من العلم فكان يتحرى في النقل أتم التحري وإن كان لا يستوفيه في بعض المواضع توفي ﵀ سنة خمس وسبعين وثمانمائة عن ست وتسعين سنة وكتابه على ابن الحاجب وله تآليف غيره واعتمدت فيها بعد الثلث الأول إلى آخر الكتاب شرح الفقيه الفاضل أبي العباس القلشاني لأنه صحيح النقل، وربما ذكرت طريقات من اختصار الشيخ الصالح أبي محمد الشبيبي لشرح الشيخ تاج الدين بن الفاكهاني، وذلك في الأوائل.
فأما العقيدة فاعتمدت فيها على شرح الشيخ ناصر الدين المشذالي تلميذ الشيخ عز الدين بن عبد السلام الشافعي وعمدة الشراح في ذلك ثم شرح شيخنا أبي العباس أحمد بن البزليني المعروف بحلو لو أحد الأئمة بتونس وقد شرح جمع الجوامع ومختصر الشيخ خليل ونفع الله بكتبه في حياته وهو الآن حي كان الله له في الدارين، وما سوى ذلك فهو معزو لأهله وبالله سبحانه التوفيق.
فأما الجزولي وابن عمر ومن في معناهما فليس ما ينسب إليهم بتأليف وإنما هو تقييد قيده الطلبة زمن إقرائهم فهو يهدي ولا يعتمد وقد سمعت أن بعض الشيوخ في بأن من أفتى من التقاييد يؤدب والله أعلم وقد توفي الجزولي الشيخ عبد الرحمن بن عفان ﵀ في حدود الأربعين وسبعمائة عن مائة وعشرين سنة وسيدي يوسف بن عمر الفاسي رحمه الله تعالى بعده بنحو عشرين سنة بل زائدًا عليها بمدينة فاس وكانت شهرتهما بالصلاح كشهرتهما بالعلم أكثر.
وقد افتتحا الكتاب بالكلام على البسملة فلنقتد بهما على وجه الاختصار:
فقوله: (بسم الله) خبر مبتدأ محذوف تقديره ابتدائي أو افتتاحي بذكر اسم الله تبركًا به، وقال الترمذي الحكيم هي في أول كل سورة من القرآن قسم على أن ما في هذه السورة حق وفي ذكرها إناس من هيبة الكلام بذكر الرحمة والله اسم لذات المعبود الحق الغني عن العلة والفاعل الموصوف بصفات الألوهية وإن شئت قلت الموصوف
1 / 11
بصفات الكمال المنزه عن النقص والمثال وإن شئت قلت وهو الظاهر الربوبية بالدلائل المتحجب عن الكيفية والأوهام، وإن شئت قلت الذي تقدست عن سمة الحوادث ذاته وشهدت بوجوده مبدعاته ودلت على وحدانيته آياته.
و(الرحمن الرحيم): اسمان مشتقان من الرحمن جاريان على صيغ المبالغة والثاني أبلغ من الأول بل والأول مقتض للإيجاد والثاني للإمداد ولذلك اختص بالمؤمنين في قوله: ﴿وكان بالمؤمنين رحيمًا﴾ [الأحزاب: ٤٣] فانظر ذلك وبالله التوفيق.
قوله: (صلى الله على سيدنا محمد) من الناس من يعطفه بالواو على أن الجملة خبرية والمراد قد صلى الله على محمد فما عسى أن تبلغ صلاتنا عليه ومنه من يراها طلبية لفظها لفظ الخبر ومعناها الدعاء والتقدير يا ألله صل، والصلاة من الله على نبيه الإقبال عليه بزيادة التشريف والتعظيم.
ومن الملائكة الدعاء والاستغفار ومن سائر العباد الدعاء بزيادة التشريف والتعظيم والسيد من له السؤود أي الشرف الكامل ثم هل هو سيد منا أو سيد تملكنا كلا المعنيين صحيح لأنه أولى بالمؤمنين من أنفسهم وقد بعث فيهم من أنفسهم بضم الفاء وأنفسهم ومحمد مفعل من الحمد منقول من الصفة سمي بذلك ليكون محمود في السماء والأرض فكان أحمد من حمد بضم الحاء وأحمد من حمد بفتحها لأنه الحامد بجميع المحامد داعي الجميع من الكثرة إلى الواحد له مقام المحمود وبيده لواء الحمد يوم القيامة وأمته الحمادون ﷺ.
قوله: (وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا) وآله كل من رجع إليه بنسب خاص مع نسب صحيح: أي أهل بيته كبني هاشم وبني المطلب الذين تحرم عليهم الصدقة وقيل كل من آل إليه: أي رجع بنسب أو سبب وهم أمته واختاره الأزهري وغيره وصحبة أصحابه جمع صاحب وصحابي وهو كل من اجتمع به مؤمنًا عند جمهور المحدثين وقيل غير ذلك.
فائدة:
قال أبو زرعة: مات ﵊ عن مائة وألف وأربعة عشر ألف كلهم رآه أو روى عنه ذكره غير واحد منهم ابن القطفان في مراتب الصحابة وابن الأثير في
1 / 12
جامع الأصول فانظره وقوله وسلم تسليمًا هو بحسب ما قدر في صلى فإن قلنا خبرية فالمراد الإخبار عن ذلك وهو موافق التعظيم، وإن قلنا طلبية فالتقدير وسلم يا رب تسليمًا.
تنبيه:
الترجمة ثانية في آخر الكتاب باتفاق رواته وشراحه وغيرهم واختلف فيها ههنا والمقبول عدم ثبوتها وعلى ثبوتها.
فقوله: (قال) بمعنى يقول أوقع الماضي موقع المستقبل.
وقوله (أبو محمد عبد الله بن أبي زيد القيرواني) ذكر كنيته إذ كان يعرف بها لا تعظيمًا لنفسه ثم ذكر اسمه الذي وقع التكني عليه ثم ذكر والده بكنيته ولم يذكرا اسمه وهو عبد الرحمن اكتفاء بها ثم ذكر داره التي يعرف بها وهي دار العلم والدين قديمًا وحديثًا وأصل نسبته الأصلية وهو النفرزي بل النفزاوي لأنه من نفزى من بلاد الجريد مولده ٣١٦ وتوفي سنة ٣٨٦ ودفن بداره بدار القيروان.
فأما فضله ودينه وزهده فأشهر من أن يذكر قالوا وكان ينكر الكرامات ثم اختلفوا هل حقيقة أو حماية للذريعة وهل رجع أم لا والله أعلم.
(الحمد لله الذي ابتدأ الإنسان بنعمته) الألف واللام في الحمد تحتمل الاستغراق أي: كل المحامد لله والعهد أي الحمد لله الذي حمد نفسه به في أزلة إذ علم عجز خلقه عن حمده فحمد نفسه بنفسه والإنشاء أي أنشئ الحمد لله.
وحقيقة الحمد: الثناء الجميل بالقول سواء تعلق بالفضائل أم بالفواضل أي بالأفعال أو بالصفات وإضافته إلى الله تعالى إضافة استحقاق وملك فلا يستحق الحمد إلا الله ولا يثنى عليه حق الثناء سواه لأن الثناء تابع للمعرفة ولا يعرف الله إلا الله وقوله: ابتدأ: أي بدأ وبرأ وخلق وأوجد أو بادئ أي فاتح وأوجد الإنسان أو الجنس الآدمي الذي سمى إنسانًا لكونه يؤنس أي يرى عكس الجن لأنه يجتن أي يستتر أو لأنه يؤنس بعضه ببعض أو لأنه عهد إليه فنسى بنعمته أي بسبب نعمته التي واجهه بها حتى أوجده ولولا إنعامه عليه بإيجاده ما وجد إذ لا حاجة له فيه وهو مفتقر إلى موجد وقيل مصحوبًا بنعمته إذ لولاها ما تم له وجود فالباء على هذا لمصاحبة وعلى الأول للسببية
1 / 13
وكل صحيح. قال ابن عطاء الله في الحكم نعمتان ما خرج موجود عنهما ولا بد لكل مكون منهما نعمة إيجاد ونعمة إمداد أنعم عليك أو لا بالإيجاد وثانيًا بتوالي الإمداد انتهى.
(وصوره في الأرحام بحكمته) التصوير: التخطيط والتشكيل والأرحام جمع رحم وهي المشيمة التي يكون فيها الولد إلى خروجه سميت بها الارتحام المولود بها قبل خروجه للدنيا وقيل: جمعها هنا باعتبار أفراد الخلق وقيل باعتبار الظلمات الثلاث والله أعلم.
والحكمة الصفة المقتضية للإتقان فهي أخص من العلم.
(وأبرزه إلى رفقه وما يسره له من رزقه): أبرزه أظهره وأخرجه من العدم إلى الوجود ثم من الوجود الغيبي إلى الوجود العيني وما أظهره فيهما إلا لظهور رفقه وجريان رزقه إذ رفق به في بطن أمه فحفظ وجوده حتى جعل وجهه لظهر أمه لئلا يتأذى بحر غذائها ورفق به بعد خروجه بأن جعل حجرها مهادًا وثديها سقاء إلى غير ذلك ورزقه في بطنها ما يتغذى به من دم الحيض وغيره وبعد خروجه ما يجري له من لبن فما في قوله وما يسر موصول بمعنى الذي أي والذي يسر وهيأ وأعد بمعنى وفيه أن الرزق معد قبل بروز الوجود وهو صريح في الحديث إذ قال: فيكتب رزقه وأجله وشقي أو سعيد وهو في بطن أمه والرزق كل منتفع به حلالًا كان أو حرامًا لقوله تعالى: ﴿وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها﴾ [هود: ١٦].
وقد علم أن ثم من لم يأكل قط حلالًا، ولا يأكل أحد رزق أحد وقد قالت المعتزلة الحرام ليس برزق وهو مردود بما يطول ذكره فانظره وضمير رزقه يحتمل عوده للميسر وللميسر له والثاني أظهر والله أعلم.
(وعلمه ما لم يكن يعلم) أي وعلم الله الإنسان ما لم يكن عالمًا به قبل لأنه ولد جاهلًا لقوله تعالى: ﴿والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئًا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة﴾ [النحل: ٧٨] وذكر في هذه الآية أن أصل وجودنا الجهل وأنه تعالى الذي خلق لنا ما يتوصل به إلى العلم وهو السمع والبصر والفؤاد وذكر حكمة ذلك بقوله تعالى ﴿لعلكم تشكرون﴾ [البقرة: ٥٢] فتضمن أن ذلك كله نعمة يجب الشكر عليه والله أعلم.
1 / 14
(وكان فضل الله عليه عظيمًا): أي لم يزل فضل الله الذي هو إحسانه وإكرامه، ولا يزال عليه أي على الإنسان عظيمًا في الماضي والمستقبل والحال إذا مده بالنعم وأوجده من العدم وخصصه بالكرم وذكره في القدم والفصل إعطاء الشيء من غير علة ولا سبب ولا استحقاق قال ابن عطاء الله في الحكم عنايته فيك لا لشيء منك وأين كنت حتى واجهتك عنايته وقابلتك رعايته لم يكن في أزله إخلاص أعمال ولا وجود أحوال بل لم يكن هناك إلا محض الأفعال وعظيم النوال انتهى.
وهو عجيب في شأنه (ونبهه بآثار صنعته) أي نبه الله الإنسان لما يريده منه من معرفته بآثار صنعته فيه الدالة على قدرته بإبرازها على إرادته بتخصيصها وعلى علمه بإتقانها وعلى حياته بوجودها كذلك وعلى كماله بنقصها وإن تنبه كان ذلك محجة وسبيلًا إليه وإن لم ينتبه كان حجة ووبالًا عليه ولا يلزم من هذا كون النظر والاستدلال أول الواجبات ولا المعرفة بل كونها مطلوبة فقط والتحقيق أنها واجبة بالدليل الإجمالي مندوبة بالدليل التفصيلي وقد حكى ذلك (ع). عن ابن رشد في نوازله ولا خلاف في أن الخروج من التقليد مطلوب وإن لم يكن واجبًا.
قال ابن رشد: ولا يلزم فيه اصطلاح معين والقول بذلك بدعة بل بأي وجه أمكن فإذا استدل على وجود البارئ وكماله بوجود المخلوقات وعلى صدق الرسل بالمعجزات خرج عن التقليد هذا معنى كلامه وقال بعضهم: مجموع ذلك في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُم لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً﴾ إلى قوله: ﴿فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا وَلَن تَفْعَلُوا﴾ [البقرة: ٢١ - ٢٤] فتأمل ذلك وفي كلام الشيخ أربعة منبه وهو الله ومنبه هو إلإنسان ومنبه به وهو آثار الصنعة ومنبه عليه وهو ما تضمنته الآثار من التعريف والله أعلم.
(وأعذر إليه على ألسنة المرسلين الخيرة من خلقه) أي وأعذر الله للإنسان أي بالغ له في العذر بعد التنبيه لتنقطع حجته ببعث الرسل مبشرين بالفلاح لأهل الصلاح ومنذرين بالنار لأهل العار كما قال تعالى: ﴿لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ﴾ [النساء: ١٦٥] الآية.
فجاءت الرسل ﵈ بثلاث التنبيه على مدركات العقول كالعلم بوجود
1 / 15
البارئ واتصافه بالكمالات وانتفاء النقائص عنه وتخصيص أحد الجائزين بالإثبات كالبعث وتوابعه أو بالنفي كفناء الدنيا وأهلها أو بعض ذلك وتقرير أوامر الله ونواهيه ترغيبًا وترهيبًا وتصويرًا وغير ذلك والمرسلين جمع مرسل وهو لغة: السفير المصلح قاله الجوهري، وشرعًا: نبي أمر بتبليغ ما أوحي إليه، وقيل: إن جاء بشرع جديد أو كتاب جديد فرسول وإلا فنبي فقط فكل رسول نبي وليس كل نبي رسولًا، والنبي: إنسان أوحى إليه بشرع فإن أمر بتبليغه فرسول وإلا فلا وقيل غير ذلك أي ما تقدم فوقه والخيرة بالكسر وبالفتح المختارين من خلقه ظاهره حتى الملائكة وبه جزم عز الدين بن عبد السلام.
وإن أرسل بني آدم أفضل من رسل الملائكة ورسل الملائكة أفضل من عامة بني آدم وعامة الملائكة أفضل من عامة آدم وقال وربما فضل مؤمن بزيادة مجاهد ونحوها، وقال غيره من غلب عقله على شهوته فكالملائكة أو أفضل ومن غلبت شهوته على عقله فكالبهيمة أو أضل قال بعض شيوخنا ولم نقف لهم في الأنبياء على كلام قال وقد منع بعضهم الكلام في هذه المسألة رأسًا ورآه من الفضول.
(فهدى من وفقه بفضله وأضل من خذله بعدله) لما ذكر منه الله على عبد بوجوده وموجوده وقيام حجته عليه في أوامره ونواهيه ذكر أن التوفيق إليها والهداية لها من فضل الله ورحمته وأن الإضلال عنها والخذلان فيها من قضائه وعدله فعاد الأمر إليه كما بدأ منه وقد ذكر الشيخ هنا ستة أشياء ثلاثة تقابلها ثلاثة: الهداية: ويقابلها الضلال، والتوفيق: ويقابله الخذلان، والفضل: ويقابله العدل فالتوفيق من فضله تعالى والخذلان من عدله ﷿ والهداية نتيجة التوفيق كما أن الخذلان نتيجة الضلال والتوفيق توجه الإعانة من الله لعبده بهدايته أي إرشاده لما يوافق أمره التكليفي بخلق القدرة على ما يريده منه مع ما يريد منه في محل العبد والخذلان صرف الإعانة من الله تعالى عن العبد بإضلاله أي إتلافه عن موافقة أمره التكليفي بخلق القدرة على مخالفة أمره مع مخالفته في حال العبد فرجع التوفيق والخذلان للموافقة والصرف والهداية والضلال للإرشاد والتلف وذلك أصلها لغة عند تحقيق النظر، وقد تطلق الهداية على بيان طريق الحق لقوله تعالى: ﴿وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم﴾ [الشورى: ٥٢] ﴿وأما
1 / 16
ثمود فهديناهم﴾ [فصلت: ١٧] وليس المراد هنا بل المراد خلق الضلالة والاهتداء لاختصاصه بالإضافة إلى الله تعالى لخلقه لهما في وجود العبد قال التفتازاني: نعم قد تضاف الهداية إلى النبي ﷺ مجازًا بطريق التسبب كما تسند إلى القرآن وقد يسند الإضلال إلى الشيطان كما يسند إلى الأصنام قال ثم المذكور في كلام المشايخ إن الهداية عندنا خلق الاهتداء ومثل هداه الله فلم يهتد مجاز، أعني الدلالة والدعوة إلى الاهتداء وعند المعتزلة بيان طريق الصواب وهو باطل لقوله تعالى: ﴿إنك لا تهدي من أحببت﴾ [القصص: ٥٦] الآية ولقوله ﵇: «اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون» مع أنه بين الطريق ودعاهم إلى الاهتداء.
انتهى فتأمله وبالله التوفيق.
وفي كلام الشيخ إشعار بما ذكر لما تقدم من ذكر التنبيه والإعذار المتضمن للبيان والإيضاح مع ما بعده والفضل الإعطاء بلا سبب ولا علة والعدل ما للمالك أن يفعله من غير منازع وسيأتي هذا المعنى في الباب الأول إن شاء الله تعالى.
(ويسر المؤمنين لليسرى وشرح صدورهم للذكرى فآمنوا بالله بألسنتهم ناطقين وبقلوبهم مخلصين وبما أتتهم به رسله وكتبه عاملين وتعلموا ما علمهم ووقفوا عند ما حد لهم واستغنوا بما أحل لهم عما حرم عليهم).
يسر: هيأ وأعد، المصدق بالله على ما يليق به وبما جاء عن الله على ما جاء عنه، واليسرى: الجنة وقيل: السهولة والسماحة في الدنيا والآخرة إذا رفع عنهم القتل والذل والإصر وأوجب لهم الأمن من الخلود في النار وجعلهم خالدين في الجنة وهذا هداية لمنافعهم بما هدوا إليه من الإيمان قال تعالى: ﴿وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ القَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الحَمِيدِ﴾ [الحج: ٢٤] وقال عز من قائل: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ﴾ [يونس: ٩] الآية، وقال عز وعلا: ﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ﴾ [الحجرات: ٧] الآية، فهو سبحانه الذي تفضل بالإيمان، ثم تفضل بثواب الإيمان ومن بثبوته فيسر للمؤمنين كل خير أولًا وأخرًا وباطنًا وظاهرًا وشرح: بمعنى فسح ووسع والصدور جمع صدر
1 / 17
وهو ما حوالي القلب سمي به القلب هنا مجازًا وتعبيرًا عن الشيء بمحله ولازمه والذكرى التذكير بما ذكروا به من آثار الصنعة وما جاء عن ألسنة المرسلين من وحيه، ودليل تذكرهم بما ذكروا به ظهور الإيمان عليهم ودليل صحة الإيمان ظهور الشهادتين على اللسان حتى قيل: إن النطق بهما شطره والمشهور شرطه فلا إيمان لمن لم ينطق بالشهادتين وإن اعتقد بقلبه إلا أن يكون له مانع من إكراه أو اخترام منية على المشهور: وقيل: لا يصح بناء على الشطرية وقيل يصح مطلقًا بناء على أنه فرض مستقل ولا خلاف في كفر الممتنع كثيرًا ونحوه وذكر ذلك الآبي في شرح مسلم وغيره والإخلاص شرط صحة في العقد.
والنطق وهو إرادة وجه الله وامتثال أمره بذلك وهو فرض في كل همل صالح وقد قال الشيخ في آخر الكتاب وفرض على كل مؤمن أن يريد بكل قول وعمل من البر وجه الله العظيم والعمل بما جاءت به الرسل والكتب بمعنى إثبات حكمه على وجهه حيث لا احتمال من الاعتقادات؛ لأن من أحل حرامًا قطعيًا أو حرم حلالًا قطعيا كافر إجماعًا والعمل به بمعنى الحركة في تحصيله وفعله من كال الإيمان لا من صحته.
واختلف في العمل بالقواعد الأربع هل هي شرط صحة فيكفر تاركها وإن أقر بالوجوب وقاله ابن حبيب وابن الجهم والحكم بن عتيبة أولًا وعليه الجمهور إلا في الصلاة فإن أكثر المحدثين مع أقل الفقهاء يقولون بكفر تارك الصلاة وأكثر الفقهاء مع أقل المحدثين يقولون: إنه عاص مستباح الدم حدًا والله أعلم.
والظاهر أن الشيخ إنما قصد وصف المؤمن الكامل الذي تم له التوفيق والهداية فمراده بالعمل إيقاع الطاعات بدليل قوله وتعلموا ما علمهم يعني ما أوجب عليهم تعلمه أو ندبهم إليه أو أباحه لهم لا مانع منه كالسحر وغيره والواجب من العلم ما لا يؤمن الهلاك مع جهله والمندوب ما يكون كمالًا أو موصلًا إلى كمال والمباح ما لا ضرر فيه كما يأتي في تعلم الأنساب ونحوه وفي استغنائهم بالحلال عن الحرام تجنب الشبهات لدخول جزء من المحرم فيها والحد في اللغة المنع وفي الشرع ما منع من الزيادة عليه وتعديه إلى غيره كعدد الركعات في الصلاة، والرجعيات في الطلاق والحدود الشرعية موضوعة للامتناع من العود لما وقعت فيه مع أنه لا يزاد عليها والاستغناء
1 / 18
الاكتفاء، والحلال: ما انجلت عنه التباعات فلا حق فيه للخلق ولا منع فيه من الحق، والحرام: ما أوجب الشارع احترامه أي: تجنبه واتقائه وما من حلال إلا ويقابله حرام وبالعكس كالبيع يقابله الربا والنكاح يقابله الزنى فمن استغنى بالحلال عن الحرام كان مهديًا ومن لم يفعل كان على وجه من الضلال وإن لم ينته إلى الكفر فيخشى عليه من خاتمة السوء لأن المعاصي بريد الكفر وقد تكلم الشيخ على جانب السعادة فكان دليلًا على مقابله للكفار والله ولي التوفيق بمنه وكرمه.
(أما بعد أعاننا الله وإياك على رعاية ودائعه وحفظ ما أودعنا من شرائعه فإنك سألتني أن أكتب لك جملة مختصرة من واجب أمور الديانات مما تنطق به الألسنة وتعتقده القلوب وتعمله الجوارح وما يتصل بالواجب من ذلك من السنن من مؤكدها ورغائبها وشيء من الأداب منها).
يعني أما بعد ما تقدم من حمد الله والثناء عليه وذكر ما من به على الإنسان من المبرة والإكرام؛ فإن السؤال ورد علي بكذا فهي إذا كلمة فصل تضمنت معنى الشرط وقد كان رسول الله ﷺ يستعملها في خطبه ومكاتبته وجرى السلف في ذلك على سنته، وقيل: إنها فصل الخطاب الذي أوتيه داود ﵇ قال النووي: والتحقيق إن فصل الخطاب: الذي أوتيه الفصل بين الحق والباطل في الحكم وفي الكشاف هي من فصل الخطاب، وفي الترمذي: ما يدل لأن أول من تكلم بها يعقوب ﵇ لبنيه فقال: أما بعد فإن أهل بيت أهل بلاء الحديث، وقيل: أول من تكلم بها داود ﵇ وقيل: قس بن ساعدة، وقيل: يعرب بن قحطان فالله أعلم بذلك، وأعاننا قوانا المتكلم ومعه غيره فهي نون الجمع ويحتمل نون المعظم نفسه أي من حيث ما احتوت عليه لا من حيث إجلالها والله أعلم.
والمخاطب بإياك قيل الشيخ الصالح أبو محفوظ محرز بفتح الراء وهو ابن خلف الصد في المشهور بتونس، وقيل: هو الشيخ الصالح الشهير الكبير أبو إسحاق إبراهيم ابن محمد السبائي وعلى الأول اقتصر أصحاب التقاييد وعلى الثاني اقتصر المؤرخون ويحتمل اتفاقية الجمع وإلا فالأول أرجح والرعاية: المراقبة والمحافظة، والإيداع: التوكيل بالحفظ والودائع: الأشياء الموكل يحفظها.
1 / 19
قال الشيخ: والمراد بها هنا الجوارح السبع التي هي الفرج والبطن والعين والأذنان واللسان واليدان والرجلان فإنها أمانات عند العبد ليحفظها وينتفع بها والحفظ الصون والحياطة من الاختلال وغيره وما أي وحفظ الذي أودعنا من شرائعه التي جاءت بها الرسل من عبادات وغيرها فحفظ الشرائع بالعمل بها فعلًا وتركا وهي الاستقامة ورعاية الودائع بالتقوى وهي مجانية، كل ما نهى الله عنه وهذا هو المطلوب من كل العباد وقد قال ابن عطاء الله: في الحكم خير ما تطلبه منه ما هو طالبه منك فالشيخ طلب خير المطالب وبدأ بنفسه لأنه المأمور به شرعًا ففي الحديث أنه ﵇ أمر بذلك وكان يفعله في نفسه وفيه سر التواضع وإظهار الافتقار والاستعداد للإجابة والله أعلم.
وفي كلام الشيخ جواز سؤال كتب العلم والإجابة له قد اختلف فيه قديمًا والصحيح إذ ذاك الجواز لأن النبي ﷺ أمر بالكتب لأبي شاه وأذن لعبد الله بن عمرو بن العاص وأنس بن مالك في كتب ما يسمع منه في الغضب والرضا قائلًا: «لأني لا أقول إلا حقًا» ﷺ.
قال اللخمي: ولا يختلف في ذلك اليوم لقصور الهمم وقلة حفظ الناس والله أعلم.
والجملة الجماعة من الكلام المضاف بعضه إلى بعض والمختصر ما قل لفظه وكثر معناه فمرجع الاختصار إدراج كثير المعنى في قليل اللفظ فتأمل ذلك، والوجوب في اللغة السقوط ومنه قوله تعالى: ﴿فإذا وجبت جنوبها﴾ [الحج: ٣٦] أي سقطت ووجبت الشمس سقطت وهو في العرف سقوط الحكم في موضعه العقلي أو الشرعي بوجه لا يمكن انفكاكه فينقسم إذا إلى عقلي وشرعي والمراد هنا الواجب الشرعي وهو مقتضى خطاب الله تعالى المتعلق بفعل المكلف من حيث أنه مكلف فعله اقتضاء جازمًا.
ويقابله المحرم وهو ما اقتضى الخطاب المذكور على الوجه المذكور تركه كذلك، والمندوب كالواجب إلا أنه بغير جازم، والمكروه كالمحرم إلا أنه يغير جازم أيضًا وشرط السبكي كونه بنهي مخصوص وإلا فهو خلاف الأولى، والمباح: ما استوى طرفاه وهذه هي أحكام الشريعة وأقسامها وأحكام المكلفين وللناس عنها عبارات: وهي من فن علم الأصول والأمور جمع أمر وهو الشأن والديانات: جمع ديانة وهي المعاملة ومنه قوله: " كما تدين تدان " أي كما تعمل تعامل وكما تفعل تجازي.
1 / 20
فالمراد ما يدان الله به أي يعامل مجازًا والأحكام إنما هي ثلاث: ما تنطق به الألسنة مفرد أو مركبًا مع فعل أو تعتقده القلوب مفرد أو مركبًا مع فعل أو قول أو تعمله الجوارح مفردًا أو مركبًا مع غيره وسيأتي بيان ذلك عند قوله وقد فرض الله سبحانه على القلب إلى آخره فقوله: ما تنطق به إلى آخره بيان لمواقع أمور الديانات وما يتصل بالواجب من ذلك أي ما تنطق به الألسنة وتعتقده القلوب وتعمله الجوارح من السنن أي من الطرائق الشرعية فإن السنة لغة الطريقة وما رسم ليتبع المراد بها عرفا طريقة محمد ﷺ التي لم يدل دليل على وجوبها ثم إن كان قد فعلها وداوم عليها وأظهرها في جماعة كالوتر والعيدين والاستسقاء أو فهم منه إدامتها كصلاة خسوف الشمس فسنة مؤكدة أي لا يسع تركها، وإن لم يأثم التارك لها وإن اختل الإظهار أو الدوام فنافلة كصلاة الضحى وقيام الليل كما نص عليه الشيخ فيهما بعد لأن صلاة الليل أظهرها ولم يداوم على إظهارها وصلاة الضحى داوم عليها ولم يظهرها حتى قالت عائشة ﵂: " من حدثكم أنه كان يصلي الضحى فقد كذب "، وصح نقلها عنه ﵇ من غير وجه فتأمل ذلك وإن وقع الترغيب فيها فقط بمجرد قول: كقوله: «ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها» فرغيبه وكذا بمجرد فعل كالركعتين بعد المغرب وإحياء ما بين العشاءين ونحوه وإنما اختلف في ركعتي الفجر اعتبارًا بمدرك الحكم والله أعلم.
وإن كانت منوطة بالفوائد كالأكل والشرب واللباس والسفر ونحوه فهي الآداب هذا ما اقتضاه كلام الشيخ وهو قريب من اصطلاح الشافعية والمحدثين فأما أهل المذهب فكل ما وراء الفرض عندهم نافلة لأن أصل النفل الزيادة ثم يفصل إلى سنة مؤكدة ومخففة ورغيبة ونافلة وهي الفضيلة.
قال ابن بشير ولا فرق بينهما إلا كثرة الثواب وقلته وقد اضطرب أهل المذهب في ذلك بما يفهم منه إن ذلك راجع للاصطلاح وهو لا يتقيد بغير قصد واضعه وبالله التوفيق.
(وجمل من أصول الفقه وفنونه على مذهب مالك بن أنس ﵀ وطريقته).
يروى بالكسر عطفًا على شيء من الآداب وبالرفع للاستئناف وبالفتح عطفًا
1 / 21
على قوله جملة مختصرة وهو أولى ولا سيما على ما روى الشيخ كتب أولًا باب العقيدة وجمل من الفرائض فما بعده فراجعه فطلب جملًا من أصول الفقه كما ذكر، والجمل: جمع جملة وهي الجماعة من المسائل وغيرها ومراده بأصول الفقه أمهات مسائله التي ترجع إليها فروعه كمسألة بيوع الآجال وبيع الدين بالدين وبيع الغائب ونحو ذلك، وبفنونه: فروعه المتفرعة عن تلك الأصول الراجعة إليها والمأخوذة منها وكلا الأمرين في كل الأبواب إلا القليل فينفرد بالأخير لا بالأول والله أعلم.
والفقه: العلم بالأحكام الشرعية المكتسب من أدلتها التفصيلية فلا ففيه إلا المجتهد وإطلاقه على من دونه مجاز أي على الحافظ له والخائض فيه كما هو الاصطلاح اليوم القرافي ويقال: فقه بكسر القاف: إذا فهم وبفتحها إذا سبق غيره إلى الفقه وبضمها إذا صار الفقه له سجية فهو في اللغة: الفهم والله أعلم.
والمذاهب أقوى في النفس حتى يتقلده في نفس وفي حق غيره لراجحيته عنده ومالك بن أنس بن أبي عامر الأصبحي إمام دار الهجرة فقها وحديثًا بعد التابعين، قال النووي: وقد اجتمعت طوائف العلماء على إمامة مالك وجلالته وعظيم سيادته وتبجيله وتوقيره والإذعان له في الحفظ والتثبت وتعظيم حديث رسول الله ﷺ، وقال الشافعي ﵀: مالك أستاذي وعنه أخذت العلم وهو الحجة بيني وبين الله تعالى وما أحد أم علي من مالك، وإذا ذكر العلماء فمالك النجم الثاقب، وقال ﵊: «يوشك أن يضرب الناس أكباد الإبل فلا يجدون عالمًا أعلم من عالم المدينة».
قال القاضي عبد الوهاب: ولم يشتهر بعالم المدينة من الأئمة الأربعة وغيره فهم لا ينازعونه في هذه المزية وحمل غير واحد الحديث عليه كابن عيينة وأمثاله ومن جرى له ذلك قبل مالك لم يدم له ولم يشتهر به شهرته ويكفي في راجحيته كونه إمام دار الهجرة في خير القرون، ومتبوع أهل المغرب الذين لا يزالون ظاهرين على الحق إلى قيام الساعة كما صح في الحديث، وإن اختلفت رواياته وعصم الله مذهبه من أن يكون فيه
1 / 22
ذو هوى موسوم بالإمامة وجعله مقدمًا عند الكافة؛ حتى إن كل ذي مذهب إنما يختار مذهبه بعد مذهبه وجعل رؤساء مذهبه حجة بعده في الحديث كالفقه، قد خرج لهم البخاري وما ملأ كتابه إلا بهم فهم الحجة الثقات والأئمة الإثبات الذين برزوا ولم يثبت ذلك لغيرهم وإن كان صالحًا أمينًا ومن طالع مناقب الأئمة الأربعة عرف علو مراتبهم ووجوب تقديمهم على غيرهم ولزوم الاقتداء بهم وترجح عنده أحدهم على ما يتعرف من مراتبهم.
ويرى مع ذلك أن مالكًا أعلى منهم وأسناهم ألا ترى أن الشافعي تلميذه وأحمد تلميذ الشافعي فيرحم الله ابن الأثير حيث قال: كفى مالكًا شرفًا أن الشافعي ﵀ تلميذه وكفى الشافعي شرفًا أن مالكًا شيخه قلت وكذا ما بين أحمد والشافعي ﵄ فأما أبو حنيفة فقد حكى غير واحد أنه لقي مالكًا وأخذ عنه بعض شيء من الحديث فهو إذا شيخ الكل وإمام الأئمة وكلهم على هدى وتقى وعلم وورع وزهد وبالله التوفيق وسيأتي تاريخ الجميع وبعض مناقبهم آخر بالكتاب إن شاء الله.
واختلف الشيوخ هل المذهب والطريقة مترادفان أو متغايران وعلى التغاير فقيل: المذهب ما أفتى به والطريقة ما أخذ به في نفسه.
وقيل: المذهب: ما قاله بنفسه والطريقة ما قاله أصحابه على أصوله وهذا الذي رجحه ابن ناجي وغيره والله أعلم.
(مع ما سهل سبيل ما أشكل من ذلك من تفسير الراسخين وبيان المتفقهين).
يعني سألتني أن أكتب لك مع الجملة المختصرة والجمل من أصول الفقه وفنونه ما سهل: أي يسر وقرب للفهم سبيل أي طريق ما أشكل: أي اشتبه واختلط من ذلك أي من الجملة وتفاصيلها الواجبة والمندوبة والجمل وما احتوت عليه من أصول الفقه وفنونه في المذهب المذكور إذ في كلام الإمام وتابعيه مشكلات قام ببيانها من بعدهم فأبانوا عن مشكلتها وفسروا مبهمها والتفسير: التبيين والإيضاح وقيل التفسير مغاير للتبيين والأول أشرف من الثاني ولذلك أضاف الشيخ التفسير للراسخين والبيان للمتفقهين لأن التفسير: الكشف عن المراد من اللفظ والتبيين: توصيل المعنى المراد بعبارة واضحة فهو تابع والراسخون جمع راسخ والراسخ الثابت في العلم وغيره ثبوتًا لا
1 / 23
يتزحزح ولا يتزلزل ولا يحيد به عن موقعه في توقيع ولا فهم والمتفقهون جمع متفقه أي بالغ في الفقه مبلغ الرد والقبول والتقلب فالمراد المتخلون للفقه على وجه فالأولون كابن القاسم وأشهب وابن وهب وعبد الملك ومطرف وابن كنانة ونحوهم والآخرون كسحنون والشيخ وأمثالهم وقد يراد بالتفقه تفعل الفقه على غير تحقق به وليس ذلك بمراد هنا وقد قال تعالى: ﴿ليتفقهوا في الدين﴾ [التوبة: ١٢٢] أي يتعلموا ما يتعلق به من الأحكام تفهما وتحصيلًا والله أعلم.
(لما رغبت من تعليم ذلك للولدان كما تعلمهم حروف القرآن) لما ذكر مقاصد المطلب وهي خمسة: بيان الواجب نطقًا وعقدًا وعملًا وبيان المندوب كذلك على حسب متعلقة من الجوارح وتعلقه وذكر جمل من أصول الفقه وفنونه وكون ذلك مقيدًا بمذهب مالك مع ما يحل مشكلة ويفتح مقفلة من كلام عالم راسخ أو متفقه ناصح ذكر السبب الموجب لطلب ذلك والباعث عليه وهو رغبته في تعليم ذلك للولدان كما تعلمهم حروف القرآن أي الحروف التي يقرأ بها القرآن وسواء أراد حروف التهجي أو حروف الرواية فهي التي يقرأ بها فتدل عليه وإلا فنفس القرآن لا يوصف بالحروف الحسية لثبوت قدمه وهي حادثة.
وقد اعترض أبو بكر بن الطيب هذا الإطلاق على الشيخ وأجيب بأن جوازه مأخوذ من قوله ﵊: «إن هذا القرآن أنزل سبعة أحرف» الحديث والشبه في التعليم من جهة أنه يحصل أولًا حفظًا وضبطًا ثم تصويرًا وفهما ثم تتبعا وتدقيقًا ثم إفادة وتحقيقًا والله أعلم ثم بين علة رغبته في ذلك وحرصه عليه فقال:
(ليسبق إلى قلوبهم من فهم دين الله وشرائعه ما ترجى لهم بركاته وتحمد لهم عاقبته).
هذه علة بعد علة لأنه طلب لما رغب ورغب فيما طلب ليسبق ودين الله الإسلام أضيف إليه لأنه ارتضاه ولم يقبل سواه فقال تعالى: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلامُ﴾ [آل عمران: ١٩] ﴿وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ﴾ [آل عمران: ٨٥] ﴿أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ﴾ [آل عمران: ٨٣] وفهمه إدراك مقاصده وأصوله التي يتميز بها من
1 / 24
غيره وذلك في باب ما تنطق به الألسنة ويعرف بالعقائد وأصول الدين وهو علم الأديان ما يتميز به دين الحق من دين الباطل وشرائعه طرائقه فإن الشرائع جمع شريعة وهي الطريقة المتبعة فشرائع الله أحكامه التي لا تعرف إلا منه ومن ثم كان الحكم خطاب الله المتعلق بفعل المكلف من حيث أنه مكلف فلزم منه أن لا حكم إلا لله ولا حكم قبل الشرع بل الأمر موقوف إلى وروده خلافًا للمعتزلة فيهما، وتحقيق ذلك من الأقوال والرجاء يأتي قريبًا إن شاء الله والبركة الخير المتدارك المتزائد وتحمد تمدح ويثنى عليها بالجميل والعاقبة ما يؤول إليه الأمر والمقصود ما يحصل لهم النفع به عاجلًا وآجلًا فهو مرجو في الدنيا والآخرة بذلك والله أعلم.
(فأجبتك إلى ذلك لما رجوت لنفسي ولك من ثواب من علم دين الله أو دعا إليه).
معنى أجبتك أسعفتك بمرادك الذي هو كتب الجملة المختصرة وما معها وتحصل ذلك في أربعة آلاف مسألة تضمن أربعمائة حديث تارة نصًا وتصريحًا وتارة إشارة وتلويحًا وهي إذا تتبعت وجدت على ذلك إلا في القليل لكن مع ضعف جملة من أحاديثها ويذكر أن الأبهري خرج أحاديثها كلها بأسانيدها في تأليف مفرد ولم أقف عليه وفي قوله أجبتك إخبار عن تقدم الكتب على الخطبة وقد يريد عزمت على إجابتك عزمًا ينزل منزلة الوقوع لتحققه إن شاء الله والأول أظهر وفي قوله: لما رجوت لنفسي ولك أخبار عن أن عزمه على الإجابة إنما أراد به ثواب الله لنفسه ولمن ندب لذلك فإن الدال على الخير كفاعله وفاعله من أهل الجنة، وقد قال ﷺ: «لأن يهدي الله بك رجلًا خير لك مما طلعت عليه الشمس» وكل من الشيخ والسائل منه ممن دعا إلى دين الله وعلمه وسيذكر ثواب ذلك إن شاء الله.
(واعلم أن خير القلوب أوعاها للخير وأرجى القلوب للخير ما لم يسبق الشر إليه وأولى ما عنى به الناصحون ورغب في أجره الراغبون إيصال الخير إلى قلوب أولاد المؤمنين ليرسخ فيها وتنبيههم على معالم الديانة وحدود الشريعة ليراضوا عليها وما عليهم أن تعتقدوه من الدين قلوبهم وتعمل به جوارحهم).
أتى بهذه الجملة تنبيهًا على أن قلوب أولاد المؤمنين محل لقبول الخير فيطلب
1 / 25
إلقاؤه إليها أكثر من غيرها وإن أهم ما اشتغل به أهل العلم والدين توصيل ذلك إليهم فأما الأول فلفراغ قلوبهم والقلب الفارغ يقبل مما يلقى إليه بلا مشقة ولا تعب ثم إذا دخله ولم يخرج منه بل كما قال قائلهم:
أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى ... فصادف قلبًا خاليًا فتمكنا
فمعنى خير القلوب أخيرها أي أفضلها وأحسنها وأوعاها أحفظها وسمى الوعاء وعاء لأنه يحفظ ما يلقى ﴿وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ﴾ [الحاقة: ١٢] أي تحفظها والخير في قوله للخير المراد به ما فيه صلاح ومنفعة وهو هنا العلم والعمل وخير كل قوم على حسب ما هم فيه فخير الزهاد في نفي الدنيا عنهم وخير غيرهم في حصولها لهم إلى غير ذلك وأرجى القلوب أي أكثر القلوب يرجى له حصول الخير الذي هو العلم والعمل ما لم يسبق الشر الذي هو السوء والمكروه إليه وقلوب أولاد المؤمنين كذلك لكونها لم يسبق الشر إليها مع إيعائها للخير لانتفاء الشواغل والشواغب عنها وإذا كان الأمر كذلك كان المطلوب بل الأهم والأولى السعي في عمارة هذه القلوب بكل أمر محبوب ومطلوب لأنه زرع في أرض طيبة وعمل في محل معمل فيتعين على العالم الناصح لله تعالى ولرسوله وللمؤمنين أن يعمل بما علم ويعلمه من لم يعلم إذا كان أهلًا للتعليم أو كان واجبًا عليه فقد جاء في الخبر " لا تمنعوا الحكمة أهلها فتظلموهم ولا تؤتوها غير أهلها فتظلموها " وفي معنى ذلك قيل:
ومن منح الجهال علما أضاعه ... ومن منع المستوجبين فقد ظلم
ثم قال: أعلم كلمة تنبيه لمحط الفائدة والقلوب جمع قلب عبر به عن العقل بملازمته له والرجاء: تعلق القلب بمطموع يحصل في المستأنف مع الأخذ في العمل المحصل له وأولى أحق وأهمها عنوا به بالفهم صرف العناية إليه وتهمهم به ويروى بالفتح مع ما فيه أي تعب فيه نفسه وأسرها لأجله والناصحون جمع ناصح وهو العامل في نفع الخلق بما أمكنه وفي حقوق نفسه أو حقوق الله.
وفي مسلم من طريق تميم بن أوس الداري ﵁: «الدين النصيحة» قالوا لمن يا رسول الله؟ قال: «لله ولرسوله ولكتابه ولعامة المسلمين وخاصتهم» ورغب طلب بجد واجتهاد والراغبون جمع راغب وهم المجدون في الطلب والأجر:
1 / 26
الثواب المرتقب من الله على فعل ما يرضاه والإيصال والتوصيل التبليغ وكنه إلى قلوب أولاد المؤمنين لكونها قابلة بخلاف أولاد الكفار مع عدم إمكان ذلك غالبًا ولو أمكن لوجب إيصال الخير إليها تارة بالتعليم وتارة بالتذكير وتارة بهما وتارة بغير ذلك. قال الله تعالى: ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ [النحل: ١٢٥] الآية.
ومعنى ليرسخ فيها ليثبت فلا يتزلزل ولا يتزحزح لعدم تزاحم الأضداد والعوارض عليهم وقد تقدم أن الرسوخ الثبوت والتنبيه الإيقاظ للأمر المغفل ومعالم الديانة أي الطرق الموصلة إليها لأنه جمع معلم وهو دليل الطريق عند خفائه والديانة ما يدان الله به أي يعامل ومنه قوله كما تدين تدان أي كما تفعل يفعل بك وهو راجح إلى الجزاء وحدود الشريعة ما ينتهي إليه أمرها من إباحة وتحريم وغير ذلك فإن الحد في اللغة المنع وحدود الله ما يمنع تعديه والشريعة ما جاءنا عن الله بواسطة رسوله من أمر ونهي وغيرهما.
ومعنى ليراضوا ليذللوا من الرياضة التي هي تمرين برفق لما يراد دوامه هنا وما قيل موصولة بمعنى الذي فالتقدير والذي عليهم يعني عند بلوغهم وتوفر شروط التكليف فيهم وقيل: هي نافية وأن كل ما ذكر ليس عليهم ولكنهم يتعلمونه رياضة وتمرينًا والله أعلم.
والذي تعتقده من الدين قلوبهم هو في الباب الأول، والذي تعمل به جوارحهم هو ما وراء ذلك فتدخل فيه الأحكام لأن إعمالها عمل بها والله أعلم.
والجوارح: جمع جارحة وهو العضو من يد ولسان وبطن وفرج وغيرها وبالله سبحانه التوفيق.
(فإنه روي أن تعليم الصغار لكتاب الله يطفئ غضب الله وأن تعليم الشيء في الصغر كالنقش في الحجر).
يعني روي عن النبي ﷺ رواه هو مختصره بلفظ: من تعلم علمًا وهو شاء كان كوشي في حجر، ومن تعلم بعدما يدخل في السن كان كالكتابة على ظهر الماء ومعنى يطفئ غضب الله قيل: يطفئ النار التي يستحقها من غضب الله عليه، وقيل: معناه يرد
1 / 27