شرح زاد المستقنع - الشنقيطي - التفريغ
شرح زاد المستقنع - الشنقيطي - التفريغ
Türler
حقوق العلم على أهله
إذا كانت نعمة العلم عظيمة، ومنة الله بها على العبد جليلة كريمة، فإنه ينبغي لكل طالب علم أن يقف قبل العلم وقفات يتدبر فيها ويتأمل كلام الله وكلام رسوله ﷺ في حقوق هذا العلم، فقد أخبر الله تعالى في كتابه وعلى لسان رسوله ﷺ أن للعلم حقوقًا، ومن هذه الحقوق: أولًا: الإخلاص: فمن أعظم هذه الحقوق وأجلها: حق الإخلاص الذي أخبر النبي ﷺ أن من فاته فقد فاته حق العلم كله، بل أخبر أن علمه حينها وبالٌ عليه، ففي الحديث عن النبي ﷺ أنه قال: (من تعلم علمًا مما يبتغى به وجه الله، لينال به عرضًا من الدنيا لم يرح رائحة الجنة)، وقال ﷺ: (من تعلم العلم ليماري به السفهاء، وليجادل به العلماء، فليتبوأ مقعده من النار).
وأخبر صلوات الله وسلامه عليه أن أول خلق الله الذين تسعر بهم نار جهنم من أراد بعلمه غير وجه الله ﷻ، ذلك القلب المفتون الذي اتجه إلى هذه الدنيا الفانية، فآثرها على الآخرة الباقية، فأصبح حظه من العلم أن ينال السمعة والرياء، فيقف بين يدي الله جل وعلا ليقول له: (عبدي! ألم تكن جاهلًا فعلمتك؟ قال: بلى، ألم تكن وضيعًا فرفعتك؟ قال: بلى، قال: فما عملت لي؟ قال: تعلمت فيك، وعلّمت من أجلك، فقال الله له: كذبت، وقالت الملائكة له: كذبت)، نعوذ بالله العظيم وبوجهه الكريم أن يجعلنا ذلك الرجل.
فما أعظمها من ساعة رهيبة لو وقف العبد أمام الأولين والآخرين، فقال الله على رءوسهم: كذبت، نعوذ بالله من ذلك المقام.
وما أشرف ذلك المقام لمن أخلص لوجه الله، فوقف في ذلك الموقف العظيم فقال: (تعلمت لوجهك، وعلمت من أجلك، فقال الله له: صدقت، وقالت الملائكة له: صدقت).
فحق العلم الأول: أن يخرج الطالب من بيته وليس في قلبه إلا الله، وأن يخرج إلى حلق العلم وهو يرجو ما عند الله، فإنك إن أردت وجه الله بارك الله لك في العلم، وحفظك الله بهذا العلم، ولا زال العلم يأخذ بيدك حتى يقودك إلى الجنة.
العلم الخالص لوجه الله قربة، والعلم الخالص لوجه الله يوجب من الله الرضا والمحبة.
فيا أيها الأحبة في الله: على طالب العلم ألا يخرج إلى حلق العلم إلا وهو يريد وجه الله والدار الآخرة، ليشتري رحمة الله بخطواته، ويشتري رحمة الله بمجالسه وإنصاته وكتابته، فتكتب في دواوينه تلك الحسنات، فرجله تمشي في طاعة الله، ويده تكتب في مرضاة الله، وعينه ترى كتب العلم في مرضاة الله، وسمعه يسمع ما أمر الله تعالى به وأمر به رسوله ﷺ في طاعة الله، وذهنه وقاد مشتغل بتلك الآيات الكريمات، وتلك الأحكام الجليلة العظيمة، وكل ذلك في طاعة الله ومرضاته، إذا أخلص لوجه الله ﷻ.
فلا نخرج لطلب العلم إلا ونحن نريد ما عند الله ﷿، ولذلك قال بعض العلماء: من تعلم العلم لغير الله مكر الله به، فينبغي لطالب العلم أن ينزه قلبه من حظوظ الدنيا؛ فإن من طلب العلم للسمعة سمّع الله به، ومن طلبه للرياء راءى الله به، فعلى العبد أن يتقي ربه، وليحرص كل الحرص على الإخلاص، وهذا الحق كان العلماء كثيرًا ما يذكرون به.
وقال بعض مشايخنا رحمة الله عليه: الإخلاص يُحتاج أن يذكر به طلاب العلم في كل مجلس من مجالس العلم، ولو أن كل مجلس من مجالس العلم استفتحه العالم بالكلام على الإخلاص لكان ذلك خليقًا به وليس بكثير.
فالإخلاص هو الفرق بين العبد المطيع الذي أراد وجه الله ﷿ والدار الآخرة، ومن أراد ما عند عباد الله من حظ السمعة والرياء.
ثانيًا: التضحية والمجاهدة: والوقفة الثانية أيها الأحبة في الله تعالى: أن هذا العلم يحتاج إلى تضحية وجهاد، ولا ينال إلا بالتعب والنصب، فلذلك ينبغي لطالب العلم أن يهيئ من نفسه الهمة الصادقة في طلب العلم؛ فإن في العلم سآمة ومللًا، وتضحية بالأوقات والأعمار، وتضحية بالمال والنفس، وبالجَهد والجُهد.
فإذا أخلص طالب العلم لله ﷿، فليتبع إخلاصه بالصبر والتحمل، حتى يبلغ من هذا العلم أعلى المراتب، وكلما ضحى الإنسان نال أعالي الدرجات عند الله ﷿، وانظر في سيرة السلف الصالح رحمة الله عليهم، وكيف أن الله فاضل بين علمائهم، فجعل لبعضهم من الدرجات ما لم يجعل لبعض، وصدق الله إذ يقول: ﴿وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ﴾ [يوسف:٧٦].
فينبغي على الإنسان أن يجتهد وأن يجد في تحصيل هذا العلم، حتى قال بعض العلماء: (أعط العلم كلك يعطك بعضه) فكيف إذا أعطى الإنسان العلم بعضه؟! فينبغي على الإنسان أن يجتهد في تحصيل هذا العلم، وأن يجد، وتكتحل عيناه بالسهر، وأن يضنى جسمه من التعب والنصب، لعلمه أن الله يسمعه ويراه، ولعلمه أن كل تعب ونصب يبذله فإن الله يحب ذلك التعب والنصب.
وإن أفضل ما أنفقت فيه الأعمار، وأفضل ما قضي فيه الليل والنهار طاعة الله جل وعلا بالعلم.
فهذا العلم الذي تقاد به الأمم، والذي تتبدد به دياجير الظلم، وتنشرح به الصدور، وتخرج به الأمة من الظلمات إلى النور، يحتاج صاحبه أن يجد ويجتهد، وكلما قرأت في سيرة السلف الصالح رحمة الله عليهم من العلماء العاملين الربانيين وجدت الهمة العالية والتعب والنصب من أبرز ما يكون في تراجمهم.
يتغرب أحدهم من أجل العلم، فتهون عليه الأموال والأولاد والأوطان، كل ذلك لكي يسمع حديثًا من أحاديث النبي ﷺ، فإذا سمعه رفع الله درجته وأعلى مقامه، وكل آية تسمعها وتتعلم حكمها وتفهمه وتعمل به، فإن الله يرفعك بها درجات، وكل حديث عن رسول الله ﷺ تعلمته وعملت به وعلّمته يرفعك الله به درجات، فاستقل من ذلك الخير أو استكثر.
ثالثًا: الأخوة والرفقة: والوقفة الثالثة التي ينبغي أن يتواصى بها طلاب العلم: المحبة، والتعاون، والتكاتف، والتعاطف لبلوغ هذه الغاية الكريمة؛ إذ يحتاج الطالب دائمًا إلى الأخ الصادق الذي يشد من أزره في طاعة الله جل وعلا، ويحتاج إلى من يذاكره العلم، ومن يعينه على تفهم المسائل والأحكام واستذكارها واستحضارها.
فينبغي على طالب العلم أن ينظر في إخوانه وخلانه، فمن وجده صادق العزيمة، تلوح من أعماله وأقواله أمارات الإخلاص فليقربه إليه، وليحبه في الله ولله، وليجتهد معه في بلوغ هذه الغاية الموجبة لرضى الله جل وعلا.
ولذلك قال الله عن نبيه موسى صلوات الله وسلامه عليه: ﴿وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي * كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا * وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا﴾ [طه:٢٩ - ٣٤].
فما أجلها من نعمة حين يقيض الله لك عبدًا صالحًا، فإذا كنت على طاعة ثبتك، وإذا كنت على غيرها دعاك للإقلاع عنها.
فينبغي علينا أن نحرص على طلب الإخوة في طلب العلم، وكثير من طلاب العلم يضيعون هذا الأمر العظيم الذي يكمل به طالب العلم نقصه، فطالب العلم لا يستطيع أن يعيش وحده، ولا يمكن أن يحصل هذا العلم على أتم الوجوه وأكملها إلا بأخ صادق يعينه على استحضار المسائل، وكذلك على حل المشاكل، ومعرفة ما كان في حلق العلم، ويحاول الإنسان أن يتناقش معه مناقشة تدل على المودة والمحبة، ولذلك قالوا في العلم: واعلم بأن العلم بالمذاكرة والدرس والفكرة والمناظرة فيحتاج العلم إلى مذاكرته مع الأخ الصادق.
رابعًا: محبة العلماء: والوصية الأخيرة في حقوق العلم التي أحب أن أوصي بها: أنه ينبغي على طالب العلم أن يكون حريصًا على محبة العلماء، فإن من مفاتيح العلم محبة العلماء، ومن فقد محبة العلماء والقرب منهم، فإنه قد حرم خيرًا كثيرًا من العلم، فحبهم قربة، والدنو منهم قربة، وكذلك اعتقاد فضلهم ونشر علمهم وفتاويهم قربة من الله جل وعلا، وكان السلف يوصون طالب العلم بالحرص على القرب من الشيخ وحفظ علمه، ونشر فتاواه، والدعاء له بظهر الغيب.
فينبغي على طالب العلم أن يحرص على هذه المرتبة التي تقربه من الله جل وعلا.
فحب العلماء الغالب فيه أن يكون خالصًا لوجه الله ﷿، فمن أحبهم أحبهم لدين الله الذي في صدورهم، فقد جعلهم الله ﷿ أمناء على وحيه، هداة مهتدين إلى طاعته وسبيله ومرضاته، فحبهم طاعة وقربة، والجفوة التي بين طلاب العلم وبين العلماء لا تليق، ولذلك كانوا يثنون على كثيرٍ من السلف بحبهم للعلماء، وقل أن تجد عالمًا نفع الله بعلمه إلا وجدته آية في حب عالمه، والقرب منه والاستفادة منه، وكان أصحاب النبي ﷺ لهم في ذلك الحظ الأوفر والمقام الأكبر رضوان الله عليهم، فقد كانوا أقرب الناس للنبي ﷺ.
فقد قال سهيل حينما وصف النبي ﷺ يوم الحديبية: (والله ما كلمهم إلا أطرقت رءوسهم حتى يقضي حديثه، ولا تنخم نخامة إلا سقطت في كف أحدهم فدلك بها وجهه)، وهذا من خصوصياته ﵊؛ ولا يليق بغيره كائنًا من كان، فكان الصحابة أقرب الناس إلى رسول الله ﷺ.
ولذلك قال ابن عباس ﵄ في كلام قريب من هذا الكلام: (إذا رأيت العالم بالسنة العامل بها، فإن النظر إليه عبادة وقربة)، فالعلماء حبهم والقرب منهم طاعة، وهم الأدلاء على الخير الأمناء على الطاعة والبر، وما رقت القلوب إلا بالقرب منهم، ولا أنس المستوحشون إلا بحبهم والدنو منهم.
فينبغي على من وفقه الله للخير أن يحرص على حب العلماء، وأئمة الإسلام أمواتهم وأحيائهم.
نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعل لنا ولكم من ذلك أوفر حظ ونصيب.
1 / 3