شرح التسهيل
لابن مالك
جمال الدين محمد بن عبد الله بن عبد الله الطائي الجياني الأندلسي
(٦٠٠ - ٦٧٢هـ)
تحقيق
الدكتور عبد الرحمن السيد - الدكتور محمد بدوي المختون
1 / 1
بسم الله الرحمن الرحيم
صلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما.
قال الشيخ الإمام العلامة رئيس النحاة والأدباء جمال الدين أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن مالك الطائي الأندلسي ﵀، حامدا الله ربه العليم، ومصليًا على سيد المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد، فإن بعض الفضلاء سألني أن أشفع كتابي المسمى بتسهيل الفوائد وتكميل المقاصد بكتب تشتمل على ما خفى من مسائله، وتقرير ما اقتضى من دلائله، وعلى وجه يظفر معه بأتم البيان، ويستغنى فيه بالخبر عن العيان، فأحمدت ما أشار إليه، وعمدت إلى تحصيل ما نبه عليه، لأن الملتمس بعون الله هين، وإسعاف ذوي الأهلية متعين، والله المرجو لانقياد الحقائق، وإبعاد العوائق، لا اقتدار إلا بتقديره، ولا استبصار إلا بتبصيره، والله يحق الحق، وهو يهدي السبيل، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
باب شرح الكلمة والكلام وما يتعلق به
ص: الكلمةُ لفظٌ مستقلٌّ دالٌّ بالوضع تحقيقا أو تقديرا، أو منوِيٌّ معه، كذلك وهي اسمٌ وفعلٌ وحرفٌ.
ش: الكلمة في اللغة عبارة عن كلام تام كقوله تعالى "وكلمة الله هي العليا" وكقوله ﵇ "الكلمة الطيبة صدقة"، وعن اسم وحده، أو فعل وحده، أو حرف وحده. وهذا هو المصطلح عليه في النحو، وإياه قصد من تعرض لحد الكلمة.
1 / 3
فتصديره باللفظ مخرج للخط ونحوه مما هو كاللفظ في تأدية المعنى واللفظ أولى بالذكر من اللفظة، لأن اللفظ يقع على كل ملفوظ حرفًا كان أو أكثر، وحق اللفظة ألا تقع على حرف واحد، لأن نسبتها من اللفظ نسبة الضربة من الضرب. ولأن إطلاق اللفظ على الكلمة إنما هو من باب إطلاق المصدر على المفعول به كقولهم للمخلوق خلق، والمنسوج نسج، والمعهود في هذا استعمال المصدر غير المحدود بالتاء، ولذلك قلما يوجد في عبارة المتقدمين لفظة، بل الموجود في عباراتهم لفظ، كقول سيبويه في الباب الذي ترجمته: هذا باب اللفظ للمعاني:
"واعلم أن من كلامهم اختلاف اللفظين لاختلاف المعنيين، واختلاف اللفظين والمعنى واحد، واتفاق اللفظين واختلاف المعنيين" ثم قال: "فاختلاف اللفظين لاختلاف المعنيين نحو: جلس وذهب".
ولم يقل اختلاف اللفظتين، فتصدير حد الكلمة بلفظة مخل ومخالف للاستعمال المشهور، بخلاف تصديره بلفظ.
والمراد ههنا بالمستقل ما ليس بعض اسم كياء زيد، وتاء مسلمة، ولا بعض فعل كهمزة أعلم، وألف ضارب. فإن كل واحد من هذه المذكورات لفظ دال بالوضع، وليس بكلمة لكونه غير مستقل.
وقيدت الدلالة بالوضع احترازا من اللفظ المهمل كديز مقلوب زيد، فإنه يدل سامعه على حضور الناطق به وغير ذلك، دلالة عقلية لا وضعية.
واحترز بذكر التقدير من أحد جزأي العلم المضاف كامرئ القيس، فإن مجموعه كلمة واحدة باعتبار المعنى، وكلمتان باعتبار اللفظ، لأن أحد جزأيه مضاف والآخر مضاف إليه، والمضاف والمضاف إليه لا يكونان إلا اسمين أو في تقدير اسمين، فامرؤ القيس اسم واحد تحقيقًا لأن مسماه لا يدرك بأحد جزأيه، وهو اسمان تقديرًا لأنه في اللفظ بمنزلة غلام زيد. وإنما ذكر التحقيق توطئة للتقدير.
1 / 4
والحاصل أن إطلاق الكلمة على ثلاثة أقسام: حقيقي وهو الذي لا بد من قصده. ومجازي مهمل في عرف النحاة وهو إطلاق الكلمة على الكلام التام، فلا يتعرض لهذا بوجه، ومجازي مستعمل في عرف النحاة وهو إطلاق الكلمة على أحد جزأي العلم المضاف، فترك التعرض له جائز، والتعرض له أجود لأن فيه مزيد فائدة.
ولما كان الاسم بعض ما تتناوله الكلمة، وكان بعض الأسماء لا يلفظ بها كفاعل أفْعُل وتفْعَلُ، دعت الحاجة إلى زيادة في الرسم ليتناول بها ما لم يتناوله اللفظ فقيل "أو منوي معه" أي مع اللفظ، ومنوي صفة قامت مقام موصوفها والتقدير: الكلمة لفظ مقيد بما ذكر، أو غير لفظ منوي مع اللفظ، وأشير بكذلك إلى الدلالة والاستقلال المنبه عليهما، واحترز به من الإعراب المنوي في نحو: فتى، فإنه يصدق عليه أن منوي مع اللفظ المقيد إلا أنه غير مستقل ولا منزل منزلة مستقل، فإن الإعراب بعض الكلمة المعربة وإذا لفظ به لم يدخل في مدلولات الكلمة، فهو بأن لا يدخل حين لا يلفظ به أحق وأولى.
ثم الكلمة إن لم تكن ركن الإسناد فهي حرف، وإن كانت ركنا له فإن قبلت الإسناد بطرفيه فهي اسم، وإلا فهي فعل.
ص: والكلامُ ما تَضَمن من الكَلِم إسنادا مُفيدًا مَقْصُودًا لذاته.
ش: صرح سيبويه في مواضع كثيرة من كتابه بما يدل على أن الكلام لا يطلق حقيقة إلا على الجمل المفيدة، فمن ذلك قوله: "واعلم أن قلتُ في كلام العرب إنما وقعت على أن يحكى بها ما كان كلاما لا قولا" عنى بالكلام الجمل، وبالقول المفردات، ولا يريد أن القول مخصوص بالمفردات، فإن إطلاقه على الجمل سائغ باتفاق. وقد سمى الاعتقاد قولا، لأن الاعتقاد لا يفهم إلا بغيره والقول قد لا يتم معناه إلا بغيره، بخلاف الكلام فإنه تام المعنى بنفسه، ولذلك أطلق على القرآن أنه كلام الله تعالى، ولم يطلق عليه أنه قول الله تعالى، وقد شاع إطلاق القول على ما لا يطلق عليه كلام كقول أبي النجم:
قالت له الطير تَقَدَّمْ راشدًا ... إنك لا ترجع إلا حامدًا
1 / 5
وقال الآخر:
فقالت له العينان سمعًا وطاعة ... وحدَّرتا كالدُّرِّ ما لم يثقَّب
وبيَّن عنترة أن هذا الحال المعبر عنه بالقول ليس كلاما بقوله:
لو كان يدري ما المحاورةُ اشتكى ... ولكان لو علم الكلامَ مُكلمي
وقد قسم سيبويه الكلام إلى: "مستقيم حسن نحو: أتيته أمس، وإلى مستقيم كذب نحو: حملت الجبل، وإلى مستقيم قبيح نحو: قد زيدًا رأيت، وإلى محال نحو: أتيتك غدًا، وإلى محال كذب نحو: سأحمل الجبل أمس".
وزاد الأخفش الخطأ فقال: ومنه الخطأ نحو: ضربني زيد، وأنت تريد: ضربت زيدًا.
والظاهر أن سيبويه لا يرى الخطأ كلامًا لخوه من القصد، ويؤيد رأيه قوله ﷺ: "كلام ابن آدم كله عليه لا له إلا ما كان أمرًا بمعروف، أو نهيًا عن منكر، أو ذكرًا لله تعالى" فبين أن كل ما سوى هذه الثلاثة من كلام ابن آدم عليه، أي يؤاخذ به، وليس الخطأ أحد هذه الثلاثة، ولا يؤاخذ به لقوله تعالى (وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به) فليس بكلام، ولذلك لم يعتد بقول الذي غلبه الفرح فقال مخطئًا: اللهم أنت عبدي وأنا ربك، بل عذره الرسول ﷺ فقال (أخطأ من شدة الفرح) فإن أطلق على الخطأ كلام فعلى سبيل المجاز، وإطلاق سيبويه على نحو: حملت الجبل، كلاما أسهل من إطلاقه على الخطأ من وجهين: أحدهما كون أوله مستوفيا لقيود الكلام فلا يعتد بآخره بل يلغى، والثاني إمكان تأويله بالمبالغة في وصف
1 / 6
الجبل بالثقل في نحو: حملت الجبل، وبأن يكون التقدير في نحو: سآتيك أمس، سآتيك في مقابل أمس، لأن غدًا مقابل أمس، وكل ذلك مما قد يقصد، بخلاف الخطأ فإنه مناف للقصد.
وقد صرح سيبويه وغيره من أئمة النحويين بأن ما لم يفد ليس بكلام مفردًا كان كزيد، أو مركبًا دون إسناد كعبدك وخير منك، أو مركبًا بإسناد مقصود لغيره نحو: إن قمت، أو مركبا بإسناد مقصود لا لغيره لكنه مما لا يجهله أحد نحو: النار حارة. فيلزم مَنْ تَعَرَّضَ لحدِّ الكلام أن يحترز من ذلك كله بإيجاز.
فقولي: (ما تضمن من الكلم) إعلام بالجنس الذي منه الكلام، وأنه ليس خطًّا ولا رمزًا ولا نحو ذلك، وإنما هو لفظ أو قول أو كلم، فاللفظ أبعد الثلاثة لوقوعه على المهمل والمستعمل بخلاف القول والكلم، والقول مثل الكلم في القرب لتساويهما في عدم تناول المهمل، لكن قد يقع القول على الرأي والاعتقاد مجازًا، وشاع ذلك حتى صار كأنه حقيقة ثابتة، ولم يعرض هذا للكلم، فكان تصدير حد الكلام به أولى، لكن على وجه يعم المؤلف من كلمتين فصاعدًا، فلذلك لم أقل (الكلم المتضمن) لأن الكلم اسم جنس جمعي كالنبِق والطَرَف واللّبِن، وأقل ما يتناول ثلاث كلمات، وإنما قيل (ما تضمن من الكلم) فصدر الحد بما لصلاحيتها للواحد فما فوقه، ثم خرج الواحد بذكر تضمن الإسناد المفيد، فبقي الاثنان فصاعدا، وهو المراد.
واحترز بمفيد مما لا فائدة فيه نحو: السماء فوق الأرض، وتكلم أمس.
واحترز بمقصود من حديث النائم، ومحاكاة بعض الطيور الكلام.
واحترز بأن قيل "مقصود لذاته" من المقصود لغيره كإسناد الجملة الموصول بها والمضاف إليها، فإنه إسناد لم يقصد هو ولا ما تضمنه لذاته بل قصد لغيره، فليس
1 / 7
كلاما بل هو جزء كلام، وذلك نحو: قاموا، من قولك: رأيت الذين قاموا، وقمت حين قاموا.
وزاد بعض العلماء في حد الكلام "من ناطق واحد" احترازا من أن يصطلح رجلان على أن يذكر أحدهما فعلا أو مبتدأ، ويذكر الآخر فاعل الفعل، أوخبر المبتدأ، فإن مجموع النطقين مشتمل على ما اشتمل عليه مثله إذا نطق به واحد، وليس بكلام لعدم اتحاد الناطق، لأن الكلام عمل واحد، فلا يكون عامله إلا واحدا.
وللمستغني عن هذه الزيادة جوابان: أحدهما أن يقول: لا نسلم أن مجموع النطقين ليس بكلام، بل هو كلام لاشتماله على قيود الكلام المعتبرة، وليس اتحاد الناطق معتبرًا، كما لم يكن اتحاد الكاتب معتبرًا في كون الخط خطا، فإنه لو اصطلح رجلان على أن يكتب أحدهما زيد، ويكتب الآخر فاضل، لكان المجموع خطا، فكذلك إذا نطق رجل بزيد، ونطق الآخر بفاضل، وجب أن يحكم على المجموع بأنه كلام، ولم يلزم من ذلك صدور عمل واحد من عاملين، لأن المخبر عنه غير المخبر به.
فإن قيل: لو كان مثل ذلك كلاما كما هو الصادر من ناطق واحد لتساويا في الحكم، فكان يترتب على نطق المصطلحين ما يترتب على نطق الواحد من إقرار وتعديل وتجريح وقذف وغير ذلك، وذلك منتف، فبطل كون ذلك كلاما.
فالجواب أن انتفاء ترتيب الحكم على الكلام لا يمنع كونه كلاما، فإن بعض الكلام صريح، وبعضه غير صريح، فنطق المصطلحين إن كان كلاما فهو غير صريح، لأن السامع لا يعلم ارتباط أحد جزأيه بالآخر، مكما يعلم ذلك من نطق الناطق الواحد، فلذلك اختلفا في الحكم.
والثاني من جوابي المستغني عن تلك الزيادة أن يقال: كل واحد من المصطلحين المشار إليهما إنما اقتصر على كلمة واحدة اتكالا على نطق الآخر بالأخرى، فمعناهما مستحضر في ذهنه، فمجموع ذلك المعنى والكلمة التي نطق بها كلام، كما يكون كلاما قول القائل لقوم رأوا شبحًا: زيد، أي: المرئي زيد، فعلى هذا كل واحد
1 / 8
من المصطلحين متكلم بكلام، وقد تقدم أن من الكلام ما يكون أحد جزأيه غير منطوق به، فثبت أن الزيادة المذكورة مستغنى عنها.
ص: فالاسمُ كلمةٌ يُسْنَدُ ما لمعناها إلى نفسِها أو نظيرِها.
ش: الإسناد عبارة عن تعليق خبر بمخبر عنه، أو طلب بمطلوب منه، فإن كان باعتبار المعنى اختص بالأسماء، وقيل فيه: وضعي وحقيقي، كقولك: زيد فاضل.
وإن كان باعتبار مجرد اللفظ صلح لاسم نحو: زيد معرب. ولفعل نحو: قام مبني على الفتح. ولحرف نحو: في حرف جر. ولجملة نحو: لا حول ولا قوة إلا بالله كنز من كنوز الجنة.
فقد ظهر بهذا لم قيل: "الاسم كلمة يسند ما لمعناها إلى نفسها"، فقيد الإسناد باعتبار المعنى لأنه خاص بالأسماء، بخلاف الإسناد باعتبار مجرد اللفظ فإنه عام.
ولما كان من الأسماء ما لا يقبل الإسناد باعتبار المعنى كأسماء الأفعال والأسماء اللازمة للنداء والظرفية احتيج إلى زيادة في الرسم يتناول بها ما لا يتناول بدونها، فقيل "أو نظيرها" وليس المراد النظير ما وافق معنى دون نوع كالمصدر والصفة بالنسبة إلى الفعل، بل المراد ما وافق معنى ونوعا، كموافقة قول الآمر بالصمت سكوتا لقوله: صه. لكن صه لا يقبل الإسناد الوضعي ويقبله السكوت، فالمسند إلى السكوت بمنزلة المسند إلى صه لتوافقهما معنى ونوعا، وكذا المسند إلى كريم وفلان بمنزلة المسند إلى "مكْرَمان وفُلُ" وإن كان "مكرَمَان وفُلُ" لم يستعملا إلا في النداء، وهذا سبيل محاولة الإسناد إلى نظير ما تعذر الإسناد إليه بنفسه.
ص: والفعلُ كلمةٌ تُسْنَدُ ابدا، قابلةٌ لعلامة فرعيَّة المسند إليه
ش: صدر رسم الفعل "بكلمة" لأنه أقرب أجناسه كما في رسم الاسم، وخرج "بأبدا" ما يسند من الأسماء وقتا دون وقت، وذلك كثير. ولما كانت أسماء الأفعال
1 / 9
مشاركة للأفعال في أنها تسند أبدًا احتيج في الرسم إلى زيادة مخرجة لما لم يخرج بدونها، فقيد الملازم للإسناد بكونه "قابلا لعلامة فرعية المسند إليه" كتاء التأنيث الساكنة، فإن عدم قبولها مميز لشتان من افترق مع توافقهما في المفهوم وملازمة الإسناد، وكياء المخاطبة فإن عدم قبولها مميز لدراكِ من أدرك مع توافقهما في المفهوم وملازمة الإسناد، ومثل الياء في الدلالة على فرعية المسند إليه وكون قبولها مميز الفعل الأمر من اسمه كالألف والواو والنون في: أدْرِكا وأدْرِكُوا وأدْرِكْن. وقد حكم سيبويه بفعلية هَلُمّ على لغة تميم لقولهم: هَلُمِّي وهَلُمَّا وهَلْمُمْنَ. وحكم باسميتها على لغة الحجازيين لأنهم يلزمونها التجريد، كلزومه عند الجميع في دراك وأخواتها.
ص: والحرفُ كلمةٌ لا تقبل إسنادا وَضْعيا بنفسها ولا بنظير
ش: صدر رسم الحرف "بكلمة" كما صدر رسم الاسم والفعل، ثم رسم الحرف بنفي قبوله للإسناد الوضعي احترازا من الإسناد غير الوضعي فإنه صالح لكل لفظ كما تقدم. وأطلق الإسناد لأن المراد نفي قبول الحرف له من طرفيه لأن الحرف لا يُسندُ ولا يُسنَد إليه، أعني إسنادًا وضعيا. ولما كان من الأسماء ما يشارك الحرف في كونه لا يسند ولا يسند إليه كالأسماء الملازمة للنداء احتيج في الرسم إلى زيادة تخرج ما لم يخرج بدونها. فقيل: "لا بنفسها ولا بنظير" لأن الأسماء المشار إليها لا تقبل الإسناد الوضعي بنفسها، ولكن تقبله بنظير كما تقدم، والحرف لا يقبله بنفسه ولا بنظير.
ص: ويعتبر الاسم: بندائه، وتنوينه في غير رَوِيّ، وصلاحيته بلا تأويل لإخبار عنه أو إضافةٍ إليه، أو عودِ ضمير عليه، أو إبدال اسم صريح منه، وبالإخبار به مع مباشرة الفعل، وبموافقة ثابت الاسمية في لفظ أو معنى دون مُعارض.
ش: يستدل بالنداء على اسميه ما له علامة غيره نحو: أيا زيد. وعلى اسمية ما لا علامة له غيره نحو: أيا مَكْرمان، واعتبار صحة النداء بأيا وهيا وأي وأي أولى من اعتبارها بيا، لأن يا قد كثرت مباشرتها الفعل والحرف نحو: يا حبذا، ويا ليتني.
1 / 10
وإنما اختص الاسم بالنداء لأن المنادى مفعول في المعنى، والمفعولية لا تليق بغير اسم.
وأما التنوين فإما أن يدل على بقاء الأصالة، وهو تنوين الصرف كرجل وزيدٍ، فلا يلحق غير الاسم، إذ الأصالة له فيدل على بقائها.
وإما أن يدل على تنكير ما هو صالح للتعريف كصه وأفّ فلا يلحق غير اسم لعدم الحاجة إليه.
وإما أن يكون عوضًا عن مضاف إليه كحينئذ، فلا يلحق غير اسم لأن الإضافة من خصائصه.
وإما أن يكون دليلا على مقابلة جمع مؤنث بجمع مذكر كمسلمات، فلا يلحق غير اسم لأن الجمع من خصائصه.
وإما أن يكون عوضا من الإطلاق في رَويٍّ مطلق فلا يختص باسم، لأن الرَّوِي قد يكون بعض فعل، كما يكون بعض اسم، وذلك في لغة تميم، كإنشاد بعضهم:
أقِلّي اللومَ عاذِلَ والعِتابنْ ... وقولي إنْ أصبت لقد أصابنْ
وقد ذكِر أيضًا تنوينٌ سادس يسمى الغالي كإنشاد بعضهم:
وقاتم الأعماق خاوي المخترقنْ
ذكره الأخفش في كتب القوافي، وهو أيضًا غير خاص بالأسماء لأنه يلحق الروي المقيد سواء كان بعض اسم أو بعض فعل، فقد جاء الاحتراز بتقييد الخاص بالاسم بكونه في غير روي، وقد أنكر السيرافي الغالي، ونسب رواته إلى الوهم.
ويتناول اعتبار الاسم بتعريفه التعريف بالأداة نحو: الرجل والغلام، وبالإضافة نحو: معاذ الله، ويا ويح من ليس له ناصر.
1 / 11
ولما كان في غير الأسماء لعلة ما يقبل الإضافة إليه والإخبار عنه بتأويل نحو قوله تعالى: (سواءٌ عليكم أدعوتموهم) (وأن تصوموا خير لكم) (ويومَ نسيِّر الجبال) لم يكن بُد من أن يقال: "بلا تأويل" ليعلم أن المحوج إلى التأويل حين يُخبر عنه أو يُضاف إليه ليس باسم، بل مؤول به.
واعتبار الاسم بعود الضمير كالاستدلال على اسمية مهما بعود الضمير عليها في قوله تعالى "مهما تأتنا به من آية" وكالاستدلال على اسمية ما في: ما أحسن زيدا، بعود ضمير الفاعل المستكن في أحسن إلى ما، والضمير لا يعود إلى غير اسم.
ومن دلائل الاسمية وقوع اسم صريح بدلا مما لم يتبين اسميته نحو: كيف أنت؟ أصحيح أم سقيم؟ فصحيح اسم صريح لقبوله علامات الاسم كلها، وهو مبدل من كيف بدل الشي على سبيل التفصيل، ولا يبدل الاسم إلا من اسم، ولما كان بدلا من اسم مضمن معنى همزة الاستفهام وجب أن يقرن هو بها، كما يجب ذلك في المبدل من كل اسم مضمن معنى الاستفهام نحو: من عندك؟ أزيد أم عمرو؟ وأين خالد؟ أعندك أم في بيته؟ ومتى سفرك؟ أغدا أم بعد غد؟ وكم مالك؟ أعشرون أم ثلاثون؟
ومن دلائل الاسمية الإخبار بالكلمة مع مباشرة الفعل نحو: كيف كنت؟ وخروجُ زيد إذا خرجت، فكيف خبر كان، وإذا خبر المبتدأ الذي هو خروج زيد، وكلاهما مباشر لفعل، فالإخبار بهما ينفي الحرفية، ومباشرة الفعل تنفي الفعلية، فتعينت الاسمية.
ومن دلائل الاسمية موافقة ثابت الاسمية في وزن يخص الاسم نحو: وَشكان، وبُطْآن، فإنهما من أسماء الأفعال، ويدل على اسميتهما كونهما على وزن يخص الأسماء مع انتفاء الحرفية لكونهما عمدتين، والحرف لا يكون عمدة.
1 / 12
ومن دلائل الاسمية موافقة ثابت الاسمية في معناه دون معارض، كموافقة قد لحسب في قولهم: قَدْك، وقَدْ زيدٍ درهمٌ، فقد بمعنى حسب دون معارض، وحسب ثابت الاسمية متمكن فيها، فوجب كون قد اسما، بخلاف واو المصاحبة في نحو: استوى الماء والخشبة، فإنها بمعنى مع، ولا تلحق بها في الاسمية لأن موافقة الاسمية عارضها كون الأسماء ليس فيها ما هو على حرف واحد إلا وموقعه موقع العجز لا موقع الصدر، كتاء الضمير ويائه وكافه، وإنما يقع موقع الصدر ما هو حرف كباء الجر ولامه وكافه، وفاء العطف وواوه، فلو حكم على واو المصاحبة بالاسمية لزم عدم النظير، بخلاف الحكم عليها بالحرفية، والعلامة اللفظية مرجحة على المعنوية، ولذا حكم على وَشْكان وبُطآن بالاسمية مع موافقتهما لوَشَك وبَطُؤَ في المعنى، وحكم على عسى بالفعلية لاتصالها بضمير الرفع البارز وتاء التأنيث الساكنة مع موافقتها لعل في المعنى، وأمثال ذلك كثير.
ص: وهو لعَيْنٍ أو مَعْنَى اسما أو وصفا
ش: هو من "وهو لعين أو معنى" راجع إلى الاسم المرتفع، فيعتبر. لما فرغ من ذكر علامات الاسم شرع في بيان ما وضع له على سبيل الإجمال، فقال: وهو لعين أو معنى، ثم بيّن أن الدال على عين إما دال عليه دون تَعَرُّض لقيد، وهو المعبر عنه باسم عين كرجل أو امرأة. وإما دال عليها مع قيد، وهو المعبر عنه بوصف العين كعالم وحاكم. وكذا الدال على معنى إما دال عليه دون تعرض لقيد وهو المعبر عنه باسم معنى كعِلْم وحِلم، وإما دال عليه مع قيد وهو المعبر عنه بوصف المعنى كجَليٍّ وخفِيّ، ولا يخرج عن هذا م الأوصاف ما يصلح للعين والمعنى كنافع وضار، ومن هذا القبيل ضمير الغائب، وبعض أسماء الإشارة والموصولات.
1 / 13
ص: ويعتبر الفعل: بتاء التأنيث الساكنة، ونون التوكيد الشَّائع، ولزومه مع ياء المتكلم نون الوقاية، وباتصاله بضمير الرفع البارز.
ش: تاء التأنيث الساكنة علامة تمييز الفعل الماضي متصرفا كان أو غير متصرف، ما لم يكن أفْعل التعجب نحو: زكت هند فعست أن تفلح، ونعمت المرأة هي.
ونون التوكيد علامة للفعل، وتلحق منه المضارع والأمر نحو: لا نَفْعَلَنَّ واذكُرَنَّ الله. وقد تلحق الفعلَ الماضيَ وضعًا المستقبلَ معنًى نحو قوله ﷺ "فإما أدْرَكَنَّ واحدٌ منكم الدجال" فلحقت أدرك وإن كان بلفظ الماضي لأن دخول إما عليه جعله مستقبل المعنى، وكذا قول الشاعر:
دامَنَّ سعدُكِ إن رحِمْتِ متيّمًا ... لولاكِ لم يك للصبابة جانحا
فلحقت دام لأنه دعاء، والدعاء لا يكون إلا بمعنى الاستقبال، وقد تلحق أفعل في التعجب كقول الشاعر:
ومُسْتَبْدِلٍ من بعد غَضْيا صُرَيْمَة ... فأحْرِ به من طُول فَقرٍ وأحْرِيا
أراد أحْرِيَنْ بنون التوكيد الخفيفة، فأبدلها للوقف ألفا.
وقيد نون التوكيد بالشائع احترازا من شذوذ لحاقها اسم الفاعل في قول الراجز، أنشد ابن جني،
أريْتَ إن جاءتْ به أُمْلُودا ... مُرَجّلًا ويلبَسُ البُرُودا ... أقائِلُنَّ أحْضِروا الشُّهودا
1 / 14
ونون الوقاية اللازمة علامة للفعل، وتلحق منه المتعدي ماضيا كان نحو: أكرمتني، أو مضارعا نحو: تكرمني، أو أمرا نحو: أكرمني. فإن كان اتصالها غير لازم لم يستدل به على الفعلية، لأنها تلحق على سبيل الجواز فعلا وغير فعل. ولا تلحق على سبيل اللزوم إلا فعلا، وسيأتي بيان ذلك في المضمرات.
والاتصال بضمير الرفع البارز علامة قاطعة لا يشارك الفعلَ فيها غيره، وهي وتاء التأنيث الساكنة مميزان لأسماء الأفعال من الأفعال، فأي كلمة دلت بنفسها على حدث ماض وقبلت تاء التأنيث الساكنة فهي فعل ماض كبعد وافترق وإن لم تقبله ولم تكن أفعل تعجب فهي اسم كهَيْهات وشَتّان.
وأي كلمة دلت على الأمر وقبلت الاتصال بضمير الرفع البارز فهي فعل كاسكت وأدْرِك، فإن لم تقبله فهي اسم كصه ودراك.
ص: وأقسامه: ماضٍ، وأمرٌ، ومضارع
ش: لما كَمَّل ما يُحْتاجُ إليه من علامة الفعل شرع في بيان أقسامه الأولية التي تترتب عليها معرفة ما هو منها مبني وما هو منها معرب، وما هو منها مبهم وما هو منها مختص بأحد الأزمنة. وجعل الماضي أولا في الذكر، والأمر ثانيا والمضارع ثالثا، كما فعل سيبويه ﵀ حين قال: "وأما الفعل فأمثلة أخذت من لفظ ثم أحداث الأسماء وبنيت لما مضى، ولما يكون ولم يقع، وما هو كائن لم ينقطع" ثم مثل لما مضى بذهب، ولما يكون ولم يقع باذهب وتذهب ثم بين أن تذهب وشبهه يراد به الحال أيضا، وكأن سيبويه لحظ في هذا الترتيب أن المضارع لا يخلو من زيادة، وأن الماضي والأمر يخلوان منها كثيرا نحو: ضَرَب وشَرِب وقَرُب ودحرج، وخَفْ وبِعْ وقل ودحْرج، والتجرد من الزيادة متقدم على التلبس بها، فقدم ماله في التجرد نصيب على مالا نصيب له فيه، وتجرد الماضي أكثر من تجرد الأمر فقُدِّم عليه. وأيضا فإن كل واحد من الماضي والأمر إذا تجرد من القرائن وفى بما يقصد به على سبيل
1 / 15
التنصيص، بخلاف المضارع فإنه لا يفي ببيان ما قصد به على سبيل التنصيص إلا بقرينة، فكان أضعف منهما فأخر. وأيضا فإن كل حادث مسبوق بأراد، ثم بكُنْ، ثم يعبر عنه بيكون لقوله تعالى "إنما أمرُه إذا أراد شيئا أن يقولَ له كن فيكونُ"، فاستحق الماضي لشبهه بأراد التقدم، والأمر لشبهه بكُنْ التوسط، والمضارع لشبهه بيكون التأخر.
ص: فيُمَيِّزُ الماضي التاءُ المذكورة، والأمرَ معناه ونون التوكيد، والمضارعَ افتتاحُه بهمزة المتكلم مجردًا، وبنون له معظّما أو مُشارَكا، وبتاء المخاطب مطلقا وللغائبة والغائبتين، وبياء المذكر الغائب مطلقا والغائبات
ش: التاء المذكورة هي تاء التأنيث الساكنة، وقد تقدم الإعلام بأنها علامة تميز الفعل الموضوع للمضي متصرفا كان كضرب، أو غير متصرف كنعم. ولم تلحق فعل الأمر للاستغناء عنها بياء المخاطبة نحو: افعلي، ولا المضارع للاستغناء عنها بتاء المضارعة نحو: هي تفعل، ولأنها ساكنة والمضارع يسكن للجزم فلو لحقته التقى فيه ساكنان، ولأن لحاقها للاسم أصل إذ مدلولها فيه بخلاف مدلولها إذا لحقت الفعل فإنه في الفاعل، وفتح ما قبلها في الاسم لازم، فوجب ذلك في الفعل المفتوح الآخر وضعا وهو الماضي، وبهذه التاء يتميز ما يدل على حدث ماض وهو فعل كافترق، مما يدل على حدث ماض وهو اسم كشتان.
ولما كانت الدلالة على الأمر تستفاد من فعل كانزل، ومن اسم كنزال، دعت الحاجة إلى ما يميز الفعل ونو نون التوكيد، فأي كلمة دلت على الأمر وصلحت لها فهي فعل، وإلا فهي اسم، فلذلك حكم باسمية نزال ودراك مع مساواتهما لانزل وأدرك في المعنى، وشارك فعل الأمر في لحاق نون التوكيد الفعلُ المضارع، لكن فعل الأمر يؤكد لهما لمجرد كونه على صيغة الأمر، ولا يؤكد بهما المضارع إلا بسبب عارض يسوغ له ذلك كوقوعه جواب قسم، واقترانه بحرف طلبي.
1 / 16
واعلم بأن المضارع يميزه من غيره صلاحيته لأن تدخل عليه السين أو سوف أو لم أو لن أو كي، وافتتاحه ببعض "نأتي" بشرط أن تشعر الهمزة بأنا، والنون بنحن، والتاء بحضور أو تأنيث، والياء بغيبة. والإحالة على الافتتاح بأحد هذه الأحرف المشعرة بما ذكر أولى من الإحالة على سوف وأخواتها، لأن افتتاحه بأحد الأحرف الأربعة لازم لكل مضارع، وليست الصلاحية لسوف وأخواتها لازمة، إذ من الأفعال المضارعة ما لا يدخله شيء منها كأهاء وأهلم، فإنهما فعلان مضارعان لافتتاحهما بالهمزة المشعرة بأنا، ولا يقعان في كلام العرب غالبا إلا بعد لا أو لم، كقول من قيل له: هأ وهلم: لا أهاء ولا أهاء، ولا أهلم ولا أهلم.
وتقييد الأحرف الأربعة بالمعاني المذكورة واجب، لأن أمثالها في اللفظ قد يفتتح بها الماضي نحو: أكرَمَ وتَكَرَّم. ونَرْجَسَ الدواء إذ جعل فيه نرْجِسا، ويَرْنأ الشيب إذا خضبه باليُرنّاء وهو الحناء، ولكنها لا تشعر بالمعاني المذكورة، فلم يكن ما افتتح بها مضارعا بل ماضيا.
ص: والأمر مستَقْبَلٌ أبدا، والمضارعُ صالح له وللحالِ، ولو نُفي بلا خلافا لمن خصهما بالمستقبل.
ش: لما كان الأمر مطلوبا به حصول ما لم يحصل كقوله تعالى: "قمْ فأنذِر" ودوام ما حصل كقوله تعالى "يا أيُها النّبي اتقِ الله" لزم كونه مستقبلا، وامتنع اقترانه بما يخرجه عن ذلك.
وأيضا فإن الفعل فعل بدلالته على الحدث والزمان المعين، وكون أمرا أو
1 / 17
خبرا معنى زائد على ذلك مطلوب بقاؤه، إذ لا يمتاز أحد النوعين من الآخر إلا به، والاستقبال لازم للأمرية، فلو انتفى بتبدله انتفت الأمرية، بخلاف الخبرية المستفادة من الماضي والمضارع فإنها لا تنتفي بتبديل المضي باستقبال، والاستقبال بمضي، وكون المضارع مستقبلا جَليٌّ، بخلاف كونه حالا فإن فيه إشكالا، لأن كثيرا من الناس يعتقدون أن الحال هو المقارن وجود معناه لوجود لفظه، وليس كذلك، لأن مدة وجود اللفظ لا تتسع لوجود معنى الفعل، ولاشترط ذلك في المضارع المراد به الحال، بل جوز في كل فعل طالت مدته أو قصرت.
وأيضا فإن المخبر الفعل الماضي يتقدم شعوره بمضيه على التعبير عنه، والمخبر بالمستقبل يتقدم شعوره باستقباله على التعبير عنه، فكذا المخبر بالحال لا بد من تقدم شعوره بحاليته على التعبير عنه، وذلك موجب لعدم المقارنة المتوهمة، بل مقصود النحويين أن الحال ما قارن وجود لفظه لوجود جزء من معناه، كقولنا: هذا زيد يكتب، فيكتب هنا مضارع بمعنى الحال، ووجود لفظه مقارن لوجود بعض الكتابة لا جميعها، وعبر بالحال عن اللفظ الدال على الجميع لاتصال أجزاء الكتابة بعضها ببعض، لأن أجزاءه المستقبلة مَدَّة لجزئه المقارن، ولما كان بعض مدلول المضارع المسمى حالا مستأنفة الوجود أشبه المستقبل المحض في استئناف الوجود، فاشتركا في صيغة المضارع اشتراكا وضعيا لأن إطلاقه على كل واحد منهما لا يتوقف على مسوغ من خارج، بخلاف إطلاق المضارع مرادا به المُضيّ، وإطلاق الماضي مرادا به الاستقبال، فإن ذلك يتوقف على مسوِّغ من خارج نحو: لو تقوم أمس لقمت، وإن قمت غدا قمت، فلولا "لو" و"إن" ما ساغ إعمال تقوم في أمس، ولا قمت في "غدا".
وإذا نفى المضارع بلا لم يتعين الحكم باستقباله بل صلاحية الحال باقية، رُوي ذلك عن الأخفش نصا، وهو لازم لسيبويه وغيره من القدماء لاجتماعهم على صحة
1 / 18
قول القائل: قاموا لا يكون زيدا، بمعنى: إلا زيدا. ومعلوم أن المستثني مُنْشِئٌ للاستثناء، والإنشاء لا بد من مقارنة معناه للفظه، و"لا يكون" هنا استثناء فمعناه مقارن للفظه، فلو كان النفي بلا مُخَلِّصا للاستقبال لم تستعمل العرب "لا يكون" في الاستثناء لمباينته الاستقبال.
ومثل هذا الإجماع إجماعهم على إيقاع المضارع المنفي بلا في مواضع تنافي الاستقبال نحو: أتظن ذلك كائنا أم لا تظنه؟ وأتحبه أم لا تحبه؟ ومالك لا تقبل وأراك لا تبالي، وما شأنك لا توافق؟ ومثل ذلك في القرآن كثير كقوله تعالى "وما لنا لا نؤمن بالله" و"لا أجد ما أحملكم عليه" و"والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا" و"ومالكم لا تؤمنون" و"مالكم لا ترجون" و"مالي لا أرى الهدهد" و"مالي لا أعبد".
وهو في غير القرآن أيضًا كثير، ومنه قول الشاعر:
يرى الحاضرُ الشاهدُ المطمئن ... من الأمرِ ما لا يرى الغائب
وقال آخر:
إذا حاجةٌ وَلّتْك لا تستطيعها ... فَخُذْ طَرفًا من غيرِها حين تَسْبِق
وقال آخر:
كأن لم يكنْ بَينٌ إذا كان بعده ... تَلاقٍ ولكنْ لا إخالُ تلاقيا
1 / 19
والذي غَرّ الزمخشريَّ وغيرَه من المتأخرين قولُ سيبويه في باب نفي الفعل (وإذا قال: هو يفعل أي هو في حال فعل فإن نفيه ما يفعل. وإذا قال: هو يفعل، ولم يكن الفعل واقعًا فإن نفيه: لا يفعل) فاستعمل (ما) في نفي الحال و(لا) في نفي المستقبل، وهذا لا خلاف في جوازه، وليس في عبارته ما يمنع من إيقاع غثر (ما) موقع (ما) ولا من إيقاع غير (لا) موقع (لا) وقد بيَّن في موضع آخر أن (إنْ) النافية مساوية لما، فيلزم من ذلك أن تستعمل لنفي الحال كما تستعمل (ما) وبَين أيضًا أن (لن) لنفي سيفعل، فيلزم من ذلك موافقتها للا، ولم يتعرض لذلك في باب نفي الفعل، فلا يوجب ذلك عدم جوازه فكذا لا يجب من تخصيص ما يقع على الحال امتناع نفيه بغير (ما)، ولكنه قصد في باب نفي الفعل التنبيه على الأولى في رأيه، والأكثر في الاستعمال، وذلك أن استعمال (ما) في النفي أكثر من استعمال (إنْ)، ونفي الحال بها أكثر من نفيه بلا، وكذلك "لا" في المثال المذكور راجحة على "لن" من قبل مشاركة اللفظ، لأن الفعل المتقدم مرفوع، فإذا نفي الثاني بلا قوبل مرفوع بمرفوع، فيكون الفاعلان متشاكلينن وإذا نفي بلن قوبل مرفوع بمنصوب فتفوت المشاكلة وهي مهمة في كلامهم، حتى حملهم الاهتمام بها على إخراج الشي عن أصله نحو قولهم: أخذه ما قَدُم وما حَدُث، فضموا "دال" حدث لتشاكل "دال" قدم، ولو أفرد حدث تعين فتح داله، وقد قال سيبويه في باب عدة ما يكون عليه الكلم: "وتكون (لا) ضدًا لنعم، وهذا إشعار بعدم تقيدها في النفي بزمان دون زمان، كما لا يتقيد نعم، لأن نعم تصديق لما قبلها ماضيا كان أو حاضرًا أو مستقبلا نحو: أقام زيد؟ وأتظنه قائمًا؟ وأتسافر غدًا؟ فنعم بعد الثلاثة الأفعال مقتضية لثبوت القيام الماضي، والظن الحاضر، والسفر المستقبل، ولا بعدهن مقتضية لنفيهن، على أن كلام سيبويه لو كان صريحًا في أن
1 / 20
المضارع المنفي بلا لا يكون إلا مستقبلا لم يجز الأخذ به بعد وجود الأدلة القاطعة بخلاف ذلك كما قدمنا.
ص: ويَترجّحُ الحالُ مع التجريد، ويتعين عند الأكثر بمصاحبة الآن وما في معناه، وبلام الابتداء، ونفيه بليس وما وإن.
ش: لما كان للماضي في الوضع صيغة تخصه كفعَل، وللمستقبل صيغة تخصه كافْعَلْ ولم يكن للحال صيغة تخصه، بل اشترك مع المستقبل في المضارع، جعلت دلالته على الحال راجحة عند تجريده من القرائن، ليكون جابرًا لما فاته من الاختصاص بصيغة، وإذا كان التجرد من قرائن الحال وقرائن الاستقبال مرجحًا للحال، فوجدان قرينة من قرائنه تؤكد الترجيح، فيصير الحال بها متعينًا، كإعمال المضارع في الآن وما في معناه نحو: زيد يصلي الآن والساعة، وكذا اقترانه بلام الابتداء نحو: إني لأحبك، ونفيه بليس كقول الشاعر:
فلست وبيتِ الله أرضى بمثلها ... ولكنَّ مَنْ يمشي سَيَرْضَى بما رَكِبْ
ونفيه ما كقوله تعالى: (وما أدْرِي ما يُفْعَلُ بي ولا بكم) وبإنْ كقوله تعالى: (وإن أدري أقريبٌ أم بعيدٌ ما تُوعَدُون).
وبعض العلماء يجيز بقاء المقرون بالآن مستقبلا، لأن الآن قد تصحب فعل الأمر مع أن استقباله لازم كقوله تعالى (فالآن باشروهن) فعبر بالآن عن المدة التي رفع فيها الحرج عن المباشرين نساءهم في ليالي الصوم، وعن مدة بلوغ ذلك المخاطبين، وعن المدة التي تقع فيها المباشرة، لأن الآن ليس عبارة عن المدة المقارنة لنطق الناطق فحسب، بل الآن عبارة عن مدة ما حضر كونه، فلو أن الكائن لا يتم كونه إلا في شهر فصاعدا جاز أن يقال فيه: الآن هو كائن، ومنه
1 / 21