Sharh Tasheel Al-Aqeedah Al-Islamiyyah - Vol 2
[شرح] تسهيل العقيدة الإسلامية - ط ٢
Yayıncı
دار الصميعي للنشر والتوزيع
Baskı Numarası
الثانية
Yayın Yılı
١٤٢٤ هـ - ٢٠٠٤ م (وأُعيدَ تصويرها في الطبعة الثالثة)
Türler
- أ -
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
الحمد لله ذي النعم الكثيرة المتوالية، والتي يجب على العباد أن يشكروه عليها بعبادته وطاعته، ومن أعظم نعمه على هذه الأمة أن أرسل إليها أفضل رسله، وهو نبينا وإمامنا وقدوتنا محمد بن عبد الله ﷺ والذي ما ترك خيرًا إلا دل الأمة عليه وأمر به، ولا ترك أمرًا فيه ضرر عليها أو يؤدي بها إلى الضلال والانحراف إلا حذرها منه، حتى ترك أمته على المحجَّة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، ولهذا يجب على كل مسلم ومسلمة أن يحب الله تعالى وأن يحب نبيه محمدًا ﷺ أكثر مما يحب نفسه ووالديه وأولاده وأمواله وأي شيء آخر، كما يجب على المسلمين أن يتأسوا بهذا النبي المبارك، فيعملوا بجميع أوامره، ويجتنبوا جميع ما حذر منه، وألا يقدموا على سنته قول أو اجتهاد أحد من البشر كائنًا من كان، وهذا هو العلامة الظاهرة لمحبة الله تعالى ومحبة نبيه ورسوله محمد ﷺ، قال الله تعالى: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [آل عمران: ٣١].
المقدمة / 1
- ب -
أما بعد:
فهذا كتاب يتناول موضوعات عقدية مهمة، هي:
١ - أهم خصائص العقيدة الإسلامية.
٢ - وسطيَّة العقيدة الإسلامية.
٣ - التوحيد.
٤ - نواقض التوحيد.
٥ - منقصات التوحيد.
٦ - الولاء والبراء.
وقد أسميته "تسهيل العقيدة الإسلامية"، وصدَّرته بتعريف وشرح لبعض المصطلحات العقدية المهمة، ليسهل على القارئ فهمها عند مروره عليها في ثنايا هذا الكتاب.
وتوخَّيتُ في كتابته سهولة العبارة، ووضوح الأسلوب، وتناول أكثر مسائل الموضوعات السابقة على وجه التفصيل والبيان، معضدًا جميع ما أذكر بالأدلة الشرعية من الكتاب، والسنة الصحيحة، والإجماع، وذلك ليكون مناسبًا ومفيدًا للطلبة في المرحلة الجامعية وما يعادلها من المعاهد الشرعية المتخصصة، وطلبة الدورات الشرعية في داخل هذه البلاد وخارجها، ومن هو في مستواهم.
كما أنني توسَّعتُ في حواشي هذا الكتاب وذكرت فيها بعض التفصيلات التي رأيت أن في ذكرها في المتن تطويلًا له، كما ذكرت
المقدمة / 2
- جـ -
فيها نقولات توثيقية عن علماء من المذاهب الأربعة ومن أقوال السلف والأئمة المجتهدين، لتكون هذه الحواشي مرجعًا لمن يريد التوسع في هذه الموضوعات العقدية المهمة من الأساتذة والمتخصصين وغيرهم.
وقد حرصت على نشر جميع أبواب وفصول هذا الكتاب في مجلات علمية محكمة على شكل بحوث مستقلة، وذلك للاستفادة من مراجعة الفاحصين المتخصصين لهذه البحوث، فقمت بتجزئة أبوابه وفصوله إلى ستة بحوث.
وهذه هي أسماء هذه البحوث مبيَّنًا أمام كل بحث المجلة التي قامت بإجراءات نشره:
١ - التوحيد والشرك الأكبر - مجلة جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية.
٢ - الكفر الأكبر - مجلة جامعة أم القرى.
٣ - النفاق الأكبر - مجلة جامعة أم القرى.
٤ - الوسائل التي تؤدي إلى الشرك الأكبر - مجلة جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية.
٥ - منقصات التوحيد - مجلة البحوث الإسلامية التابعة لهيئة كبار العلماء بالمملكة.
٦ - الولاء والبراء - مجلة البحوث الإسلامية.
المقدمة / 3
- د -
كما قمت بنشر التمهيد في مجلة "الجندي المسلم" التابعة لوزارة الدفاع والطيران بالمملكة في حلقات متتابعة.
هذا وقد تفضل مشكورًا بقراءة هذا الكتاب وإتحافي ببعض الفوائد والملحوظات العلمية والطباعية عددٌ من المشايخ وطلاب العلم المتخصصين في العقيدة الإسلامية، ومنهم:
١ - أ. د. ناصر بن عبد الكريم العقل الأستاذ بقسم العقيدة بكلية أصول الدين بالرياض.
٢ - د. عبد العزيز بن محمد العبد اللطيف، الأستاذ بقسم العقيدة بكلية أصول الدين بالرياض.
٣ - د. فهد بن سليمان الفهيد، وكيل قسم العقيدة بكلية أصول الدين بالرياض.
فلهم جميعًا ولغيرهم ممن راجع هذا الكتاب أو بعض فصوله جزيل الشكر والتقدير.
كما أشكر كل من تفضَّل بإتحافي بفائدة أو فوائد علمية أثناء تأليف هذا الكتاب، وأخصُّ منهم بالذكر فضيلة الشيخ عبد الرحمن بن ناصر البراك الأستاذ بكلية أصول الدين بالرياض سابقًا، الذي أفادني بفوائد عقدية مهمة جدًا، وفضيلة الشيخ د. عبد العزيز بن عبد الله الراجحي الأستاذ بكلية أصول الدين بالرياض والذي قرأت عليه بعض فصول هذا الكتاب، وأسأل الله أن يثيبهم جميعًا على ذلك أجزل الثواب.
المقدمة / 4
- هـ -
ولا أنسى أن أشير إلى ما أفادني به شيخاي: سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز- ﵀، وفضيلة الشيخ محمد بن صالح بن عثيمين ﵀ من فوائد عقدية مهمة أثناء تأليف هذا الكتاب، فأسأل الله أن يثيبهما وكلَّ مَنْ شارك في مراجعة هذا السِّفْر أعظم الأجر وأن يغفر لي ولهم جميع الذنوب، وأن ينجينا من عذاب القبر ومن أهوال القيامة ومن عذاب النار.
وفي ختام هذه المقدمة آمل من كل من كان لديه أي اقتراح يتعلق بهذا الكتاب سواء كان طلب إضافة مبحث معين، أو التوسع في موضوع من المواضيع التي بحثت، أو طلب اختصار الكلام على مسألة معينة، أو أي ملحوظة أو فائدة مناسبة، أن لا يتردد في إتحافي بذلك على صندوق البريد ٣٢٤٥٤ ورمزه ١١٤٢٨ الرياض.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
قاله وكتبه
عبد الله بن عبد العزيز الجبرين
كلية المعلمين بالرياض - قسم الدراسات الإسلامية -
المقدمة / 5
بسم الله الرحمن الرحيم
التمهيد
ويشتمل على ثلاث مسائل:
المسألة الأولى: بيان بعض المصطلحات العقدية، وتعريفها.
ونبدأ هذه المصطلحات بذكر تعريف العقيدة نفسها.
١ - فالعقيدة في اللغة: مأخوذة من العقد، وهو الشد والربط والإيثاق والثبوت والإحكام"١".
وفي الاصطلاح: الإيمان الجازم بالله تعالى، وبما يجب له من التوحيد، والإيمان بملائكته وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشرِّه، وبما يتفرع عن هذه الأصول ويلحق بها"٢" مما هو من أصول الدين.
وقد أطلق كثير من السلف على العقيدة الصحيحة اسم "السنة"، وذلك لتمييزها عن عقائد ومقولات الفرق الضالة، لأن العقيدة الصحيحة وهي عقيدة أهل السنة والجماعة مستمدة من سنة النبي ﷺ، التي هي مبينة للقرآن.
_________
١ - لسان العرب، مادة "عقد".
٢ - رسالة العقيدة الصحيحة لشيخنا عبد العزيز بن باز ص ٣،٤، ورسالة مجمل أصول أهل السنة والجماعة ص ٥.
1 / 1
وقد ألَّف بعض السلف كتبًا في العقيدة أسموها "السنة"، ومنها كتاب "السنة" للإمام أحمد بن حنبل، وكتاب "السنة" لابن أبي عاصم، وغيرهما"١".
كما أطلق بعض العلماء على العقيدة اسم "أصول الدين"، وذلك أن ملة النبي ﷺ تنقسم إلى اعتقاديات وعمليات، والمراد بالعمليات علم الشرائع والأحكام المتعلقة بكيفة العمل، كأحكام الصلاة والزكاة والبيوع وغيرها، وتسمى "فرعية"، أو "فروع"، فهي كالفرع لعلم العقيدة، لأن العقيدة أشرف الطاعات، ولأن صحتها شرط في قبول العبادات العملية"٢"، فإذا فسدت العقيدة لم تقبل العبادة، وبطل أجرها،
_________
١- ينظر آخر كتاب السنة لابن أبي عاصم ٢/٦٤٥ ٦٤٧، جامع العلوم والحكم: شرح حديث العرباض ص٣٩٥، كشف الأسرار على أصول البزدوي ١/٨، لوائح الأنوار ١/١٤٧، حكم الانتماء ص٤٦.
٢- قال في الدرة المضية:
وبعد فاعلم أن كل العلم ... كالفرع للتوحيد فاسمع نظمي
لأنه العلم الذي لا ينبغي ... لعاقل لفهمه لم يبتغ
ينظر الدرَّة المضيّة مع شرحها لوامع الأنوار البهية: المقدمة، ج١ ص٤، وص٥٧.
فهذا الإطلاق ينطبق على غالب مسائل العقيدة، كما أن بعض مسائل الأحكام العملية يعتبر من الأمور المهمة في الدين، كالعلم بوجوب الواجبات الظاهرة، مثل أركان الإسلام، ومثل تحريم المحرمات المجمع عليها إجماعًا قطعيًا، ونحو ذلك من الأحكام العملية المجمع عليها، والتي من جحدها كفر كما سيأتي عند الكلام على
1 / 2
كما قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ . [الزمر] .
قال ابن أبي العز في مقدمة شرح الطحاوية: " أما بعد، فإنه لما كان علم أصول الدين أشرف العلوم، إذ شرف العلم بشرف المعلوم"١" - وهو الفقه الأكبر بالنسبة إلى فقه الفروع، ولهذا سمى الإمام أبو حنيفة - رحمه الله تعالى- ما قاله وجمعه في أوراق من أصول الدين "الفقه
_________
=كفر الجحود في الباب الثاني إن شاء الله تعالى -.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: الحق أن الجليل من كل واحد من الصنفين مسائل أصول، والدقيق مسائل فروع. ينظر مجموع الفتاوى فصل في جمل مقالات الطوائف ج٦، ص٥٦، وينظر ج٣ ص٣٦٤٣٦٧، وج١٩، ص١٣٤.
وبما أن غالب مسائل العقيدة من الأصول وغالب المسائل العملية من الفروع فقد اصطلح على تسمية العقيدة "أصول الدين" وعلى تسمية الأحكام العملية "الفروع"، ولهذا أسمى بعض العلماء مؤلفاتهم في العقيدة باسم "أصول الدين"، مثل: "الإبانة عن أصول الديانة" لأبي الحسن الأشعري، و"مسائل من أصول الديانات" لأبي يعلى، و"سلم الوصول إلى علم الأصول" للحكمي، وغيرها. وينظر: عقيدة السلف للصابوني ص١٥٩، ١٦٠، التفريق بين الأصول والفروع للدكتور سعد الشثري.
١- قال البزدوي في كشف الأسرار ١/٨ عند كلامه على هذه المسألة: "لأن شرف العلم وعظمته بحسب المعلوم، ولا معلوم أكبر من ذات الله تعالى وصفاته، الذي يبحث فيه هذا العلم ".
1 / 3
الأكبر" - وحاجة العباد إليه فوق كل حاجة، وضرورتهم إليه فوق كل ضرورة، لأنه لا حياة للقلوب ولا نعيم ولا طمأنينة إلا بأن تعرف ربها ومعبودها وفاطرها بأسمائه وصفاته وأفعاله، ويكون مع ذلك كله أحب إليها مما سواه، ويكون سعيها فيما يقربها إليه دون غيره من سائر خلقه ... ".
هذا وقد أطلق بعض العلماء على العقيدة اسم "الفقه الأكبر"، وذلك لأن العقيدة هي أصل الدين، والفقه العملي - الذي يسمى "الفقه الأصغر" - فروعه، كما سبق.
وقد ألّف الإمام أبوحنيفة رسالة في العقيدة أسماها "الفقه الأكبر"١".
٢- أهل السنة والجماعة:
هم أصحاب رسول الله ﷺ ومن تبعهم بإحسان إلى يوم القيامة"٢".
وهم: المتمسكون بالعقيدة الصحيحة الخالية من شوائب البدع
_________
١- قال الشيخ محمد بن إبراهيم مفتي المملكة السابق كما في فتاويه ١٢/١٤٣ عن نسبة هذا الكتاب لأبي حنيفة: "شهرته معروفة، معلومة، ثابت عن أبي حنيفة بالأسانيد الثابتة". وينظر مقدمة شرح الطحاوية ص٥، وكشف الأسرار للبزدوي ١/٨.
٢- التنبيهات السنية ص١٥.
1 / 4
والخرافات وهي العقيدة التي كان عليها رسول الله ﷺ واتفق عليها أصحابه ﵃ "١".
وقد سُمُّوا "أهل السنة" لعملهم بمقتضى سنة النبي ﷺ المبينة للقرآن، عملًا بقوله ﷺ: " عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ ""٢"، فهم يعلمون أن هدي النبي ﷺ خير الهدي، فقدموه على هدي من سواه.
وسُمُّوا "الجماعة" لأنهم اجتمعوا على اتباع سنة النبي ﷺ، وما أجمع عليه سلف هذه الأمة، فهم قد اجتمعوا على الحق، وعلى عقيدة الإسلام الخالية من الشوائب"٣". وأيضًا فقد سمى النبي ﷺ الفرقة
_________
١- ينظر آخر العقيدة الواسطية ص١٨٣، ومجموع فتاوى ابن تيمية ٣/١٥٩، ٣٤٦، ٣٧٥، وفتاوى السعدي ص٦٣، ٦٤، وقد أقر هذا التعريف بعض المخالفين لأهل السنة. ينظر الفصل في الملل ٢/١١٣، وتلبيس إبليس الباب الثاني ص٢٥، ٢٦، والأمر بالاتباع للسيوطي ص٨١.
٢- رواه الإمام أحمد ٤/١٢٦، ١٢٧، والترمذي "٢٦٧٦" وقال "حسن صحيح"، وابن ماجه "٤٢٤٤" من طرق يقوي بعضها بعضًا عن العرباض بن سارية. فهو حديث حسن بمجموع طرقه. وقد جوّد إسناده الحافظ أبو نعيم كما في جامع العلوم ص٣٨٧.
٣- مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ٣/١٥٧، ٣٥٨، شرح الواسطية لمحمد خليل هراس ص١٦، شرح الواسطية للشيخ محمد بن عثيمين ١/٥٢.
1 / 5
الناجية المتبعة لسنته وطريقة أصحابه - وهم أهل السنة والجماعة"١" - سماهم "الجماعة"، فقد ثبت عن معاوية بن أبي سفيان ﵄ قال: قال النبي ﷺ: " إن أهل الكتابين افترقوا في دينهم على ثنتين وسبعين ملة، وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين ملة يعني الأهواء كلها في النار إلا واحدة، وهي الجماعة، وإنه سيخرج في أمتي أقوام تجارى بهم تلك الأهواء كما يتجارى الكَلَبُ"٢" بصاحبه ... ""٣".
_________
"١" فقد قال النبي ﷺ في صفة الفرقة الناجية: " من كان على ما أنا عليه وأصحابي " وسيأتي تخريجه عند تعريف "السلف"، وهذه صفة أهل السنة والجماعة كما سبق.
"٢" الكَلَب بفتح اللام مرض يصيب الكلب، فيصيبه شبه الجنون، فإذا عض إنسانًا أصيب الإنسان بهذا المرض، وأصيب بالعطش الشديد، ولا يشرب، حتى يموت. ينظر النهاية ٤/١٩٥، لسان العرب ١/٧٢٣.
"٣" رواه الإمام أحمد ٤/١٠٢، وأبو داود "٤٥٩٧"، وابن أبي عاصم في السنة "١، ٢، ٦٥" بإسناد حسن. وله شاهد من حديث أنس رواه ابن ماجه "٣٩٩٣"، وابن أبي عاصم "٦٤"، وأحمد ٣/١٤٥، والآجري في الشريعة باب ذكر افتراق الأمم ص١٦، ١٧ من طرق يشد بعضها بعضًا. وله طرق أخرى تنظر في السلسلة الصحيحة "٢٠٤"، وله شاهد آخر من حديث عوف بن مالك رواه ابن ماجه "٣٩٩٢"، واللالكائي "١٤٩"، وشاهد ثالث من حديث سعد رواه الآجري ص١٧، ١٨، وابن بطه في الإبانة "٢٦٧".
1 / 6
قال شيخ الإسلام ابن تيمية بعد كلام له: "ولهذا وصفت الفرقة الناجية بأنها أهل السنة والجماعة، وأما الفرق الباقية فإنهم أهل الشذوذ والتفرق والبدع والأهواء، وشعار هذه الفرق مفارقة الكتاب والسنة والإجماع. فمن قال بالكتاب والسنة والإجماع كان من أهل السنة والجماعة""١".
وهذه التسمية "أهل السنة والجماعة" وصف صادق يميز أهل العقيدة الصحيحة وأتباع الرسول ﷺ عن الفرق الضالة التي تسير على غير هدي النبي ﷺ، فمن هذه الفرق من يأخذ عقيدته من عقول البشر وعلم الكلام الذي ورثوه عن فلاسفة اليونان، فيقدمونها على كلام الله وسنة رسول الله ﷺ، فيردون النصوص الشرعية الثابتة أو يؤولونها لمجرد أن عقولهم القاصرة لم تقبل أو لم تستسغ ما دلت عليه هذه النصوص. ومن هذه الفرق: الفلاسفة، والقدرية، والماتوريدية، والجهمية، والمعتزلة، والأشاعرة الذين قلدوا الجهمية في بعض آرائهم.
ومن الفرق الضالة من يأخذ عقيدته من آراء مشايخهم وأئمتهم
_________
وقد صحح هذا الحديث الإمام ابن تيمية كما في مجموع الفتاوى ٣/٣٤٥، وحسن الحافظ في تخريج الكشاف ص٦٣ حديث معاوية، وصحح البوصيري حديث أنس في الزوائد ٤/١٨٠.
"١" مجموع الفتاوى ٣/٣٤٥، ٣٤٦.
1 / 7
المبنية في كثير من الأحيان على الهوى، كالصوفية والرافضة وغيرهم، فيقدمون كلامهم على كلام الله وكلام رسوله محمد ﷺ.
كما أن هذه الفرق منها من تنتسب إلى من أسسها وأنشأ أصولها العقديَّة، كالجهمية نسبة إلى جهم بن صفوان، وكالأشاعرة نسبة إلى أبي الحسن الأشعري - وإن كان الأشعري رجع عن هذه العقيدة إلى عقيدة أهل السنة والجماعة"١"، لكن مقلِّدوه استمروا على عقيدته المنحرفة التي رجع عنها -، والأباضية نسبة إلى عبد الله بن أباض، وغيرهم.
ومن هذه الفرق من تنتسب إلى بعض آرائها العقدية الضالة، أو إلى بعض أفعالها السيئة، كالروافض نسبة إلى رفضهم إمامة أبي بكر وعمر وتبرؤهم منهما، والقدرية نسبة إلى نفي القدر، والخوارج نسبة إلى الخروج على الولاة، وغيرهم"٢".
فعصم الله أهل السنة من الانتساب والاتباع لغير سنة المعصوم من
_________
"١" وقد ألف بعد رجوعه إلى عقيدة أهل السنة كتابًا أسماه: "الإبانة عن أصول الديانة" وهو مطبوع، بين فيه أن عقيدة أهل السنة والجماعة هي الحق الذي يجب اعتقاده. وينظر: مجموع الفتاوى ٣/٢٢٧، ٢٢٨، ٢٦١، ٢٦٢، معارج القبول ١/٣٧٧، ٣٧٨.
"٢" التنبيهات السنية ص١٥.
1 / 8
الخطأ والزلل رسول الله محمد بن عبد الله ﷺ، المؤيد بالوحي من السماء، والذي لاينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى، فليس لهم اسم ينتسبون إليه سوى "السنة""١".
وقد سأل رجلٌ الإمامَ مالك بن أنس، فقال: من أهل السنة يا أبا عبد الله؟ فقال: "الذين ليس لهم لقب يعرفون به، لا جهمي، ولا رافضي، ولا قدري""٢".
وقد أطلق بعض العلماء على أهل السنة اسم "أصحاب الحديث" أو "أهل الحديث"، وذلك لأنهم اهتموا بأحاديث النبي ﷺ رواية ودراية"٣"، واتبعوا ما جاءت به من العقائد والأحكام"٤".
و"الحديث" و"السنة" لفظان معناهما متقارب.
_________
"١" مجموع فتاوى ابن تيمية ٣/٤١٥،٤١٦، مدارج السالكين ٣/١٨٠ ١٨٤، حكم الانتماء: الفصل السادس ص٣٧ ٥١، التنبيهات السنية ص٥١.
"٢" رواه ابن عبد البر في الانتقاء ص٣٥، وينظر ترتيب المدارك ١/١٧٢.
"٣" الرواية: ما يتعلق بنقل متن الحديث، وضبطه. والدراية: علم يعرف منه شروط الرواية وأحوال الرواة وشروطهم وأصناف المرويات، وما يتعلق بها. ينظر تدريب الراوي ١/٤٠.
"٤" معرفة علوم الحديث ص٢-٤، مجموع فتاوى ابن تيمية ٤/٩١٩٥، حكم الانتماء ص٤٨.
1 / 9
وأهل السنة كذلك هم الفرقة المنصورة"١" إلى قيام الساعة"٢"، الذين ذكرهم النبي ﷺ بقوله: " لن تزال طائفة من أمتي منصورين، لا يضرهم من خذلهم حتى تقوم الساعة " رواه البخاري ومسلم، وغيرهما"٣".
وهم الفرقة الناجية"٤" المذكورة في حديث معاوية الذي سبق ذكره قريبًا، وغيره.
_________
"١" أي التي أيدها الله تعالى وقواها على من خالفها وعاداها، وجعل الغلبة لها. ينظر التنبيهات السنية على الواسطية للرشيد ص٣٣، وشرح الواسطية للشيخ محمد العثيمين ٢/٣٧٧.
"٢" شرف أصحاب الحديث ص٢٥-٢٧، العقيدة الواسطية ص١٦،١٨٣، مجموع فتاوى ابن تيمية ٢/١٥٩، السلسلة الصحيحة ١/٤٧٨٤٨٦ شرح الحديث "٢٧٠".
"٣" رواه البخاري "٣٦٤٠"، ومسلم "١٩٢١" من حديث المغيرة، ورواه البخاري "٣٦٤١"، ومسلم "١٠٣٧" من حديث معاوية، ورواه مسلم "١٩٢٠" من حديث ثوبان، و"١٧٤" من حديث جابر بن سمرة، و"١٩٢٣" من حديث جابر بن عبد الله، و"١٩٢٤" من حديث عقبة بن عامر، ورواه الإمام أحمد ٥/٣٤، وابن حبان "٦١" من حديث قرة المزني بإسناد صحيح.
"٤" أي التي سلمت من البدع في الدنيا، ومن الهلاك والشرور في الدنيا والآخرة. ينظر العقيدة الواسطية مع شرحها التنبيهات السنية ص١٢، وشرح الواسطية لابن عثيمين ١/٥٠.
1 / 10
٣- السلف:
السلف في اللغة: الجماعة المتقدمون: يقال: سلَف يسلُف أي مضى، وسلَفُ الإنسان: آباؤه المتقدمون"١".
وفي الاصطلاح: هم أصحاب النبي ﷺ ومن تبعهم وسار على طريقتهم من أئمة الدين من أهل القرون الثلاثة المفضلة"٢".
٤- الخَلَف:
الخلف في اللغة: المتأخر، وكل من يجيء بعد من مضى"٣".
وفي الاصطلاح: من انحرف عن طريقة النبي ﷺ وأصحابه في باب العقائد من أهل البدع والأهواء كالخوارج والرافضة، وكأهل الكلام الذين قدموا العقل على النصوص الشرعية: كالجهمية والمعتزلة والأشاعرة والقدرية
_________
"١" ينظر الصحاح، ولسان العرب، مادة "سلف".
"٢" ينظر مقدمة شرح الطحاوية ص١٩، ولوامع الأنوار البهية ١/٢٠، والمدخل لابن بدران ص٤٢١،٤٢٢، ونموذج من الأعمال الخيرية لمنير الدمشقي ص١٠،١١، وشرح الواسطية للدكتور صالح الفوزان ص١٣٠، وشرح الواسطية للشيخ محمد بن عثيمين ٢/٣٧٢.
وقد أقر هذا التعريف للسلف كثير من الخلف من أهل الكلام. ينظر شرح الجوهرة للبيجوري ص٩١، وكتاب السنة والجماعة لمحمد بن عبد الهادي المصري ص٥١.
"٣" لسان العرب، مادة "خلف".
1 / 11
والمرجئة وغيرهم"١".
وأهل السنة والجماعة يسيرون على منهج السلف، الذين في مقدمهم أصحاب النبي ﷺ، وعلى رأسهم الخلفاء الراشدون أبوبكر وعمر وعثمان وعلي، امتثالًا لقوله ﷺ: " عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ " "٢"، ولأن النبي ﷺ لما سُئل عن الفرقة الناجية قال: " من كان على مثل ما أنا عليه وأصحابي ""٣"، كما أنهم ينتسبون إلى مذهب السلف، ولذلك يقال
_________
"١" ينظر الفتوى الحموية لابن تيمية ص١٤، ولوامع الأنوار ص٢٤.
"٢" سبق تخريجه عند تعريف "أهل السنة والجماعة".
"٣" رواه الترمذي "٢٦٤١"، والحاكم ١/١٢٠، واللالكائي "١٤٧"، وابن بطة العكبري "٢٦٤، ٢٦٥"، والآجري ص١٥، ١٦ من طرق أحدها صحيح عن عبد الرحمن بن زياد بن أنعم، عن عبد الله بن يزيد، عن عبد الله بن عمرو. وإسناده ضعيف، لضعف عبد الرحمن بن زياد، وشيخه ثقة.
وقد حسن هذا الحديث الشيخ محمد ناصر الدين في صحيح سنن الترمذي.
وله شاهد رواه بحشل في تاريخ واسط ص١٩٦، والعقيلي في الضعفاء ٢/٢٦٢، والطبراني في الصغير ١/٢٥٦ من طريق عبد الله بن سفيان، عن يحيى بن سعيد، عن أنس، ورجاله ثقات، عدا عبد الله بن سفيان، فقد ذكره ابن حبان في الثقات، ولم يوثقه غيره. فحديث عبد الله بن عمرو حسن لغيره بهذا الشاهد.
1 / 12
لمن يتبع مذهب السلف "سلفي" "١"، أو "على عقيدة السلف الصالح""٢" أو "من اتباع السلف الصالح" "٣"، وهذه التسمية موافقة في المعنى لتسميتهم بـ"أهل السنة" لأن عقيدة السلف الصالح أصحاب النبي ﷺ ومن سار على نهجهم هي ما كان عليه النبي ﷺ، كما سبق في الحديث.
أما من سار على منهج الخلف، فيقال له "خلفي""٤"، و"الخلف" يقرون بهذه التسمية، بل إن كثيرًا منهم يجترئ فيفضل مذهب الخلف على مذهب السلف"٥" الذين في مقدمتهم أصحاب النبي ﷺ، وهذا اعتراف صريح منهم بمخالفة طريقتهم لطريقة أصحاب النبي ﷺ،
_________
"١" ينظر معجم الشيوخ للذهبي ٢/٢٨٠، ٣٦٩، وشرح الواسطية للشيخ محمد بن عثيمين ١/٥٤، وحكم الانتماء للشيخ بكر أبو زيد ص٤٦، ورسالة: نظرات وتعقيبات على كتاب السلفية للشيخ د. صالح الفوزان، ورسالة: مجمل أصول أهل السنة والجماعة للدكتور ناصر العقل ص٥، ٦.
"٢" ينظر معجم الشيوخ للذهبي ١/٣٤.
"٣" ينظر رسالة "نظرات وتعقيبات على كتاب السلفية" ص١٥.
"٤" حكم الانتماء ص٤٦.
"٥" ينظر شرح الجوهرة ص٩١. وقد ألف الحافظ ابن رجب في الرد عليهم رسالة "بيان فضل علم السلف على علم الخلف"، وهي مطبوعة، وينظر الحموية ص١٣، ومقدمة شرح الطحاوية ص٢١، ولوامع الأنوار ص٢٠، ٢٥.
1 / 13
والتي كان عليها رسول الله ﷺ، وكفى بهذا اعترافًا بالانحراف عن العقيدة الصحيحة"١".
_________
"١" قال شيخ الإسلام ابن تيمية كما في مجموع الفتاوى ٤/١٥٦ ١٥٩: إن كثيرًا من أتباع أبي الحسن الأشعري يصرحون بمخالفة السلف في مثل مسألة الإيمان، ومسألة تأويل الآيات والأحاديث يقولون: "مذهب السلف: أن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص. وأما المتكلمون من أصحابنا: فمذهبهم كيت وكيت"، وكذلك يقولون: "مذهب السلف: أن هذه الآيات والأحاديث الواردة في الصفات لا تتأول، والمتكلمون يريدون تأويلها إما وجوبًا وإما جوازًا"، ويذكرون الخلاف بين السلف وبين أصحابهم المتكلمين. هذا منطوق ألسنتهم ومسطور كتبهم.
أفلا عاقل يعتبر؟ ومغرور يزدجر؟: أن السلف ثبت عنهم ذلك حتى بتصريح المخالف، ثم يُحدثُ مقالة تخرج عنهم، أليس هذا صريحًا: أن السلف كانوا ضالين عن التوحيد والتنزيه، وعلمه المتأخرون؟ وهذا فاسد بضرورة العلم الصحيح والدين المتين. وأيضًا فقد ينصر المتكلمون أقوال السلف تارة وأقوال المتكلمين تارة، كما يفعله غير واحد مثل أبي المعالي الجويني، وأبي حامد الغزالي، والرازي وغيرهم. ولازم المذهب الذي ينصرونه تارة أنه هو المعتمد. فلا يثبتون على دين واحد، وتغلب عليهم الشكوك. وهذا عادة الله فيمن أعرض عن الكتاب والسنة.
وتارة يجعلون إخوانهم المتأخرين أحذق وأعلم من السلف، ويقولون: "طريقة السلف أسلم، وطريقة هؤلاء أعلم وأحكم"، فيصفون إخوانهم بالفضيلة في العلم والبيان والتحقيق والعرفان، والسلف بالنقص في ذلك والتقصير فيه، أو الخطأ والجهل. وغايتهم عندهم: أن يقيموا أعذارهم في التقصير والتفريط. ولا ريب أن هذا شعبة من الرفض، فإنه وإن لم يكن تكفيرًا للسلف كما يقوله من يقوله من الرافضة والخوارج - ولا تفسيقًا لهم - كما يقوله من يقوله من المعتزلة والزيدية وغيرهم =
1 / 14
...................................................................................
_________
كان تجهيلًا لهم وتخطئة وتضليلًا، ونسبة لهم إلى الذنوب والمعاصي، وإن لم يكن فسقًا، فزعمًا: أن أهل القرون المفضولة في الشريعة أعلم وأفضل من أهل القرون الفاضلة.
ومن المعلوم بالضرورة لمن تدبر الكتاب والسنة، وما اتفق عليه أهل السنة والجماعة من جميع الطوائف: أن خير قرون هذه الأمة - في الأعمال والأقوال، والاعتقاد وغيرها من كل فضيلة أن خيرها -: القرن الأول، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم. كما ثبت ذلك عن النبي ﷺ من غير وجه، وأنهم أفضل من الخلف في كل فضيلة: من علم، وعمل، وإيمان، وعقل، ودين، وبيان، وعبادة، وأنهم أولى بالبيان لكل مشكل. هذا لا يدفعه إلا من كابر المعلوم بالضرورة من دين الإسلام، وأضله الله على علم، كما قال عبد الله بن مسعود ﵁: "من كان منكم مستنًا فليستن بمن قد مات، فإن الحي لا يُؤمن عليه الفتنة، أولئك أصحاب محمد: أبر هذه الأمة قلوبًا، وأعمقها علما، وأقلها تكلفا، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه، وإقامة دينه، فاعرفوا لهم حقهم، وتمسكوا بهديهم، فإنهم كانوا على الهدى المستقيم"، وقال غيره: "عليكم بآثار من سلف فإنهم جاءوا بما يكفي وما يشفي، ولم يحدث بعدهم خير كامن لم يعلموه".
هذا، وقد قال ﷺ: " لا يأتي زمان إلا والذي بعده شر منه حتى تلقوا ربكم "، فكيف يحدث لنا زمان فيه الخير في أعظم المعلومات وهو معرفة الله تعالى؟ هذا لا يكون أبدًا.
وما أحسن ما قال الشافعي ﵀ في رسالته: "هم فوقنا في كل علم وعقل ودين
1 / 15