شرح المنظومة
1 - كم بين بان الأجرع ورامية ولعلع ... من قلب صب موجع سكران وجد لا يعي
بدأ الناظم رحمه الله هذه المنظومة بما درج عليه الكثيرون من الشعراء قبل الإسلام وبعده من طرق باب الغزل، وأرى أن فيه براعة استهلال، واستجلاب لنظر الحاضر وسمعه في آن واحد، فإن الناظر إلى غيرك قد لا يكون سامعا لك، فالنظر يصرف السمع في الغالب إلى المنظور، وإن سمع شيئا آخر، فضبطه لما سمع، قد يكون خفيفا، ويضاف إلى هذا زيادة استشراف السماع لما يتلو من القول، وهو أقوى في الضبط، وأوعى للسمع، وقد سلك هذا الصحابي كعب بن زهير في قصيدته والتي استهلها بقوله:
بانت سعاد فقلبي اليوم متبول ... متيم إثرها لم يفد مكبول
وما سعاد غداة البيت إذ رحلوا ... إلا أغن غضيض الطرف مكحول
Sayfa 20
والتي يقال إنه أنشدها في المسجد النبوي بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأنه كساه بردته، وقيل إن معاوية طلبها منه بعشرة آلاف # درهم، فأبى وقال: ما كنت لأوثر بها أحدا، فلما مات باعها الورثة على معاوية بعشرين ألف درهم.
كم بين بان الأجرع، ورامية، ولعلع:
ليس المراد الاستفهام، بل المراد الإخبار بكثرة هذا النوع من القلوب، والبان شجر مستقيم الأغصان طويلها كثيرا ما تغنى به الشعراء، والأجرع: هو علم على موضع باليمامة (¬1) ورامية: إما أن تكون رامن: بليدة بينها وبين همذان سبعة فراسخ، وهي من بلاد إيران اليوم، أو أنها رامة: منزل في طريق البصرة إلى مكة، وهي آخر بلاد بني تميم، وبين رامة وبين البصرة اثنتا عشرة مرحلة، أو رامة: من قرى بيت المقدس بها مقام إبراهيم - عليه السلام -، وهو الأقرب في نظري (¬2) ولعلع: موضع على طريق الحاج من البصرة، بينه وبين أقر ثلاثون ميلا (¬3).
من قلب صب موجع سكران وجد لا يعي:
Sayfa 21
أي من قلوب كثيرة أصابها العشق الشديد، فالصب: هو العاشق، والصبابة غاية العشق، ولذلك قال: موجع، أي أصابه # الألم من شدة الوله، وأرقه ما نزل به من ذلك (¬1) حتى أصبح شبيها بمن ولغ المسكر المحرم فأفقده صوابه، وإن كان ذلك من حرام، لكن سكر المشبه هنا من نوع آخر، وهو فقدان الوعي من ولع شديد بشيء مباح، كما هو معلوم من غاية هذه المنظومة، والوجد: الحب الشديد، ومنه ما ورد في حديث ابن عمر، وعيينة بن حصن: "والله ما بطنها بوالد، ولا زوجها بواجد" (¬2).
2 - تراه ما بين الحلل جريح أسياف المقل ... فارفق به ولا تسل عن قلبه المضيع
تراه ما بين الحلل جريح أسياف المقل:
Sayfa 22
أي: تنظر إليه في حلل بهيجة، تدل على مكانة كريمة، وملك وغنى، والحلل مفردها حلة: وهي الفاخر من الثياب، وكانوا لا يسمون اللباس حلة إلا إذا اشتمل على إزار ورداء من نوع واحد، وهي أنواع بحسب العادات والأعراف، مما هو لباس العظماء، من الأغنياء وغيرهم (¬3)، فإذا كان هذا حاله، وهو مع ذلك مضرج جريح، صرعه ما حل به من طعن المقل، جمع مقلة: وهي الحدقة: الناظر من العين، لكنه هنا أراد العين (¬4)، # بلحظها وجمالها، ولم يرد جزءا منها، وقد شبه اللحظ منها بالأسياف الشديدة المضاء والفتك.
فارفق به ولا تسل عن قلبه المضيع:
لأن من كان هذا حاله يرفل في حلل، وهو في الوقت ذاته صريع مضرج، فالأدعى لحاله أن تزيد الشفقة به، فما أوصله إلى هذه الحال إلا أمر جلل، شبه بمن يفقد قلبه، وما حال من فقد قلبه يا ترى؟ ! ! .
3 - ود الحمى فأخلصا إذ حقه قد حصحصا ... فوده أن يخلصا من الحضيض الأوضع
ود الحمى فأخلصا إذ حقه قد حصحصا:
أي أخلص الود لأهل الحي، والود: المحبة الخالصة (¬1)، ولا يكون الود إلا في مداخل الخير، ولذلك أكد، خلوص الود للحمى قدرا لمن حل به ممن عشق، وقد كان حق هذا الحي قد وجب، ولا مفر من إخلاص الود له فقد نزل به محبوبه، وقد سمى الحي حمى تشبيها بالحمى المصان الممنوع، سواء كان ماديا كأحمية الديار، أو معنويا كما ورد في حديث الإفك من قوله: "أحمي سمعي وبصري"
Sayfa 23
أي أمنعهما من أن أنسب إليهما ما لم يدركاه، وبه أصونهما من العذاب (¬1).
فوده أن يخلصا من الحضيض الأوضع:
أي مرغوبه ومقصوده من هذا الحب أن يكون نظيفا نقيا من الأدران التي تنزل بصاحبها إلى الحضيض: وهو قرار الشيء وأسفله، وأراد الصفات الموغلة المهانة والضعة (¬2) وهنا يبرز مراد الناظم من هذه المقدمة الغزلية، وهو غزل في المكارم والعلا، وليس طلبا للشهوة والهوى.
4 - إلى المقام الأول ومعهد الأنس الحلي ... والمربع السامي العلي سقيا له من مربع
إلى المقام الأول ومعهد الأنس الحلي:
Sayfa 24
لعل الناظم حن إلى مرابع الآباء والأجداد من بلاد الإسلام، بخارى من أعظم مدن ما وراء النهر، وقد خرج منها علماء في كل فن يجاوزون الحد، من أبرزهم أبو عبد الله البخاري صاحب الصحيح، وقد فتحت بخارى مرتين: الأولى في عهد معاوية - رضي الله عنه -، سنة (55) خمس وخمسين من الهجرة، بقيادة سعيد بن عثمان بن عفان، والثانية سنة (87) سبع وثمانين من الهجرة، # بقيادة قتيبة بن مسلم (¬1) أو إلى حران مسقط رأسه، ومقر نشأته ولذلك وقع في النفس كبير، وحران بلدة من الجزيرة، نسبت إلى حران بطن من همدان، كان بها جماعة من الفضلاء والعلماء، وهي من ديار ربيعة أو مضر، ظهر بها الصابئة وهم الحرانيون المذكورون في كتب الملل والنحل (¬2) ولا أظنه أراد سوى الأولى، ولا يبعد حنينه لمسقط رأسه، وما في البيت من كلمات توحي بجواز الأمرين.
والمربع السامي العلي سقيا له من مربع:
المربع مكان الإقامة، والربع هو المنزل، والدار بعينها، والوطن متى كان، وبأي مكان كان، ومنه قول رسول لله - صلى الله عليه وسلم -: (وهل ترك لنا عقيل من ربع؟ وفي رواية: من رباع) وهي المنزل ودار الإقامة (¬3) وقد وصفه بالسمو والعلو في المكارم، والصفات الحسنة، لأنه لا يوصف بذلك سواها، وطلب السقيا والغيث للمرابع، من أحسن الدعاء لما يتبع ذلك من خير وحسن وجمال تكتسي به المرابع من الديار.
Sayfa 25
5 - رحلت عن ذاك الفضا لا باختياري والرضا ... فيا زمانا قد مضى إن عاد ماض فارجع
رحلت عن ذاك الفضا لا باختياري والرضا :
أي: انتقل عن مرابعه وديار نشأته، بسبب ما قضى الله من صروف الحياة، فالقدر نافذ بغير اختيار من العبد، لكنه قد يؤول به إلى الخير إما في دنياه أو في آخرته.
فيا زمانا قد مضى إن عاد ماض فارجع:
فيه إشارة إلى أن ما مضى لا يعود، وإن تمنى المتمني، فكأن الناظم يقول: أتمنى عودة الأيام التي عشتها في تلك المرابع، ولما لم يكن ذلك حاصلا، عدل عنه إلى ما هو واقع من عدم الرجوع، للرد على ما تتمناه نفسه بأن الماضي لا يعود، وذلك آكد في يأسها، وأقوى في إقناعها.
6 - واركع إذا الليل دجى ركوع خوف ورجا ... وعد في سفن النجا إلى الفضاء الأوسع
Sayfa 26
هنا يكشف الناظم رحمه الله عن مراده من تلك الأمنية العديمة التحقق، فالزمان الماضي لا يعود، لا كلا ولا جزءا، وهذا يستدعي الحرص الشديد على استثمار الوقت فيما ينفع، وإلى ما تجب العناية به في استثمار # الوقت، ما فيه طاعة لله ورسوله، فإنه غراس الآخرة، وهو غراس لا تجنى ثماره إلا في يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم، ومن أسباب السلامة حمل النفس على الطاعات وأعمال الخير، وتزكيتها من الشرور والآثام، فقد أفلح من زكاها، وقد خاب من دساها.
وقد تضمنت هذه المنظومة مباحث مهمة في عبادة واعتقاد المسلم، يجب أن يجعلها ركائز في أعماله وتصرفاته، وكل شؤون حياته:
المبحث الأول
المحافظة على النوافل
يقول الناظم رحمه الله:
واركع إذا الليل دجى ركوع خوف ورجا:
Sayfa 27
تجاوز الناظم رحمه الله التوجيه والإرشاد إلى المحافظة على الفرائض إيماء منه إلى أن الفرائض أمر مفروغ من وجوب المحافظة عليها، وذلك أدنى الكمال من فرط في شيء منه هلك والعياذ بالله، أخرج البخاري من حديث طلحة بن عبيد الله - رضي الله عنه - يقول: جاء رجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أهل نجد، ثائر الرأس، يسمع دوي صوته ولا يفقه ما يقول، حتى دنا، فإذا هو يسأل عن # الإسلام، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (خمس صلوات في اليوم والليلة) فقال: هل علي غيرها؟ قال: (لا إلا أن تطوع) قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (وصيام رمضان) قال هل علي غيره؟ قال: (لا إلا أن تطوع) قال: وذكر له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الزكاة، قال: هل علي غيرها؟ قال: (لا إلا أن تطوع). قال: فأدبر الرجل وهو يقول: والله لا أزيد على هذا ولا أنقص، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (أفلح إن صدق) (¬1) هذا الرجل أقسم أنه لا يزيد على ذلك ولا ينقص، فلم يعنفه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، بل ألزم - صلى الله عليه وسلم - فلاحه بصدقه في عدم النقصان، لأنه أدنى الكمال، ولم يلزمه بالتطوع لأنه زيادة طاعة على الفرض، ولذلك سمي نفلا، فكأن الناظم يقول نحن متفقون على وجوب المحافظة على أدنى الكمال، ولكني أدعو إلى الكمال نفسه، وهو الزيادة على الفرض، ثم بدأ مرة أخرى بالتوجيه إلى الكمال في أعمال النوافل، إيماء منه إلى أن أدنى الكمال في النوافل هو المحافظة على السنن الراتبة، وهي ركعتين قبل صلاة الفجر، لقول عائشة رضي الله عنها: (لم يكن النبي - صلى الله عليه وسلم -، على شيء من النوافل، أشد منه تعاهدا على ركعتي الفجر) (¬2) وقولها: "كان يصلي في بيتي قبل الظهر أربعا، ثم يخرج فيصلي بالناس، ثم يدخل فيصلي ركعتين، وكان يصلي بالناس المغرب، ثم يدخل فيصلي # ركعتين، ويصلي بالناس العشاء، ويدخل بيتي فيصلي ركعتين" (¬1) وما ورد في حديث ابن عمر - رضي الله عنه - قال: "صليت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل الظهر سجدتين، وبعدها سجدتين، وبعد المغرب سجدتين، وبعد العشاء سجدتين، وبعد الجمعة سجدتين، فأما المغرب والعشاء والجمعة، فصليت مع النبي في بيته" (¬2) وقد عبر بالسجدتين وهو يعني ركعتين، فيكون المجموع (12) ثنتي عشرة ركعة في اليوم والليلة، وهو ما ورد في حديث أم حبيبة أنها تقول: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (من صلى اثنتي عشرة ركعة في يوم وليلة، بني له بهن بيت في الجنة) قالت أم حبيبة: فما تركتهن منذ سمعتهن من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال ابن عنبسة: فما تركتهن منذ سمعتهن من أم حبيبة.
وقال عمرو بن أوس: ما تركتهن منذ سمعتهن من عنبسة.
وقال النعمان بن سالم: ما تركتهن منذ سمعتهن من عمرو بن أوس (¬3).
Sayfa 29
وهذا هو الكمال في الرواتب، وأدنى الكمال في النوافل، أما الكمال في النوافل فهو الإتيان بمزيد على هذا، وهو كمال نسبي يتفاوت من شخص لآخر، على قدر ما ينال # من جهد وحرص على ما وجه إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هذا الباب، ومن ذلك الحرص على صلاة الضحى، والتي تسمى صلاة الأوابين، وأقلها ركعتان، وأكملها ثمان، وقد أخبرت عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله صلاها أربعا ويزيد ما شاء، وفي حديث أم هاني: أنه صلى ثمان ركعات (¬1) فكأن الناظم رحمه الله يقول: أنا وأنتم متفقون على المحافظة على السنن الراتبة، ولكن هلموا إلى المزيد مما هو أكمل، وذلك ما كان يفعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ورد في حديث عائشة رضي الله عنها، عن صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في تطوعه فقالت: "كان يصلي من الليل تسع ركعات. فيهن الوتر، وكان يصلي ليلا طويلا قائما، وليلا طويلا قاعدا، وكان إذا قرأ وهو قائم، ركع وسجد وهو قائم، وإذا قرأ قاعدا، ركع وسجد وهو قاعد، وكان إذا طلع الفجر، صلى ركعتين" (¬2) وهذا ما عناه الناظم رحمه الله بقوله:
واركع إذا الليل دجى ركوع خوف ورجا:
Sayfa 30
فإنه إرشاد منه إلى هذا العمل الجليل الذي حرص عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمته، لما فيه من الخير والصلاح والفلاح في الدنيا والآخرة، ومن فضل الله على هذه الأمة أنه تعالى يقبل منهم العمل الصالح القليل، ويعطي عليه # الأجر الكثير، ولم يوجب عليهم كثير من الطاعات سواء كانت بدنية أو مالية، وإنما ندب إلى ذلك على لسان عبده ورسوله نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -، وسواء التزم ما كان يفعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أو زاد في قيامه فذلك خير لا ينكر استنادا إلى حديث ابن عمر رضي الله عنهما: أن رجلا سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن صلاة الليل؟ ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا خشي أحدكم الصبح، صلى ركعة واحدة، توتر له ما قد صلى) (¬1).
المبحث الثاني
الخوف والرجاء
واركع إذا الليل دجى ركوع خوف ورجا:
Sayfa 31
هذا من مباحث العقيدة لبيان أن المسلم يدور أمره في الحياة بين الخوف والرجاء، وهو في كل شؤون الحياة الدينية والدنيوية يعمل بناء على هذه القاعدة العقدية العظيمة، فإن وقع منه عمل صالح استبشر ورجا الثواب من الله - عز وجل -، وإن وقع في معصية اشتد ندمه على ما فعل خوفا من عقاب الله - عز وجل -، فالجمع بين الخوف والرجاء من # الواجبات الشرعية، لتلازمهما في كمال التوحيد، كتلازم الشهادتين في الإيمان بالله ورسوله، وهذا منهج أهل السنة والجماعة، داعين إليه متمسكين به إلى قيام الساعة.
الخوف
:
هو من العبادات القلبية التي يتقرب بها إلى الله تعالى، فهو القائل سبحانه: {إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين} (¬1) وهو ينقسم إلى قسمين:
1 -
الخوف
الطبعي، أو الجبلي
: وهو
الخوف
Sayfa 32
الذي أوجده الله في نفس الإنسان بحكم الطبع البشري، فهذا لا حرج على المسلم من أن يخاف من عدوه، أومن مؤذيات كالحيات والعقارب ونحوها، أو من السباع، أومن نار، أو أي شيء فيه أذى وهلاك، فإن ذلك أمر جبلي، لا عيب في وجوده، ولا مانع من الأخذ بالأسباب المنجية منه بإذن الله تعالى، ومن هذا القبيل خوف نبي الله موسى - عليه السلام -، قال تعالى: {فأوجس في نفسه خيفة # موسى} طه: 67 (¬1) لم يعنفه الرب سبحانه، بل قال: {قلنا لا تخف إنك أنت الأعلى} (¬2) وقد ذكر الله - عز وجل - هذا النوع من الخوف وأنه يحدث للمؤمنين ابتلاء وتمحيصا قال تعالى: {ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين} (¬3) وقال تعالى: {قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين} (¬4) وذكره تعالى في وصف المنافقين فقال تعالى: {أشحة عليكم فإذا جاء الخوف رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت فإذا ذهب # الخوف سلقوكم بألسنة حداد أشحة على الخير أولئك لم يؤمنوا فأحبط الله أعمالهم وكان ذلك على الله يسيرا} (¬1) وقال تعالى: {وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلا} (¬2) إذن هذا النوع خوف جبلي في الإنسان المؤمن وغيره على حد سواء، بل يتعدى الإنسان إلى الدواب بكل أشكالها، حتى الأسد مثلا يخاف من صياده ولو قاوم.
2 - الخوف الشرعي: ينقسم إلى قسمين
:
أ - خوف شرعي مأمور به
Sayfa 34
: وهو ما كان على نحو قول الله تعالى: {وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم # ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع لعلهم يتقون} (¬1) وقوله تعالى: {يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون} (¬2) وقوله تعالى: {رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار} (¬3) وقوله تعالى: {وتركنا فيها آية للذين يخافون العذاب الأليم} (¬4) فهذا النوع من الخوف مطلوب شرعا، وهو عبادة لله، يعين على فعل الخير، ويمنع من الوقوع في الشر.
ب - خوف شرعي منهي عنه
Sayfa 35
: وهو الخوف الذي لا يجوز أن يكون إلا من الله وحده لا شريك له، ومن وقع فيه فسبب ذلك الشرك بالله - عز وجل -، وهو ما يقع وله تعلق بالاعتقاد، فيكون في قلب الإنسان الخوف من أي شيء # كان أنه ينفع ويضر من دون الله - عز وجل -، فيعمل أعمالا يتقرب بها إليه خوفا من أن يصيبه بمكروه، وسواء كان المخوف منه من الإنس أو الجن أو غير ذلك من المخلوقات، فإنه من الشرك الذي حرم الله الجنة على أهله، قال تعالى: {إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار} (¬1) وقال تعالى: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما} (¬2) ونفي المغفرة يقتضي عدم دخول الجنة، فمن أفرد الرب سبحانه، بالخوف في أمر النفع والضر فقد حقق التوحيد لقوله تعالى: {إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين} (¬3) لأن أمر الله تعالى لعباده بعدم الخوف من الشيطان وأوليائه، هو أمربأحد أفراد التوحيد وهو الخوف منه دون سواه، وهو # في نفس الأمر نهي عن أحد أفراد الشرك، كالخوف من الشيطان وأوليائه، وقوله تعالى: {فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين} (¬1) هذا دليل على أن الخوف عبادة يجب أن يوحد الله تعالى بها، على حد قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - لابن عباس - رضي الله عنه -: (يا غلام، إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وان اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف) (¬2) ولذلك أثنى الله على بعض عباده فقال تعالى: {ياأيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء # والله واسع عليم} (¬1) ومنه ما كان على نحو قول الله تعالى: {أفي قلوبهم مرض أم ارتابوا أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله بل أولئك هم الظالمون} (¬2) وقوله تعالى: {كلا بل لا يخافون الآخرة} (¬3).
الرجاء
:
Sayfa 38
الأصل فيه قول الله تعالى: {قل ياعبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم} (¬4)، وقوله سبحانه تعالى : {قال ومن يقنط من رحمة # ربه إلا الضالون} (¬1) وقول الله سبحانه تعالى: {يابني اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه ولا تيأسوا من روح الله إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون} (¬2) هذا التوجيه الرباني إلى عدم القنوط واليأس من روح الله تربية للمؤمنين على أن رحمة الله واسعة، منبها على أن ملازمة القنوط واليأس لا تكون إلا من الكافرين، الذين لم يعرفوا رحمة الله ولا فضله وإحسانه، فوقعوا في هذه الصفة الذميمة، فنتج عن أمنهم من مكر الله سبحانه، عدم خوفهم من الله - عز وجل -، وقد حذر الله من ذلك فقال تعالى: {أفأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون} (¬3) ولا يتم الخوف والخشية إلا لمن عرف الله - عز وجل -، ولذلك قال تعالى: {إنما يخشى الله من عباده العلماء إن الله عزيز غفور} (¬4).
Sayfa 39
وقد يرد سؤال بناء على هذا الترغيب من الله - عز وجل - في الرجاء، فيقال: أيهما أولى بالمسلم تغليب الخوف أم الرجاء؟ .
والجواب أن الإنسان لا يخلو من إحدى ثلاث:
1 - إما أن يكون من الصالحين المسارعين إلى فعل الطاعات، وهو في صحة وعافية، فهذا يتساوى في حقه الخوف والرجاء، فلا ينفصل أحدهما عن الآخر، فالرجاء في حقه قائم باعتباره صاحب طاعة، وعمل صالح، وهو من أهل السلامة والعافية، وكذلك الخوف قائم باعتبار الحذر من سوء العاقبة، أو الخاتمة.
2 - وإما أن يكون العكس، قلة الطاعة، وضعف المبادرة إلى الخيرات، فهذا يغلب جانب الخوف، فيجب أن يخاف أن يدركه الأجل وهو على حال تؤول به إلى سوء الخاتمة، وتغليب الخوف يجعله يترك العصيان، ويبادر بالتوبة، وإن كان الرجاء قائم في حقه لكنه أضعف من الخوف.
3 - وإما أن يكون في حال صحة متردية، وضعف مستمر، فيجب عليه أن يغلب الرجاء، وإن كان الخوف في حقه قائما لكنه أضعف من الرجاء، لما ورد في حديث جابر - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل موته بثلاثة أيام، يقول: (لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله - عز وجل -) (¬1).
Sayfa 40
وعد في سفن النجا إلى الفضاء الأوسع:
أي: أدخل واركب مطية تنجيك من الهلاك، وقد شبه الناظم رحمه الله الطاعات فرضا ونفلا، شبهها بالسفن التي تعبر بمن امتطاها الأنهار والبحار والمحيطات، وقد أوردها الناظم بلفظ الجمع دون المفرد إيماء إلى أن كل طاعة يجريها العبد قاصدا بها وجه الله - عز وجل -، فهي سفينة نجاة في حد ذاتها، لكنها لا تغني عن المجموع المطلوب منها قدر الوسع والطاقة، فهي في الحقيقة سفن في سفينة واحدة، هي العمل بالكتاب والسنة، ولا تكون الطاعات منجية إلا إذا كانت مبنية على عقيدة صحيحة، بهذا يصل المسلم إلى الفضاء الأوسع، وهو الدار الآخرة، والمراد الجنة وما فيها من الرحابة والسعة، والنعيم صفة لها، ولا يقال ذلك للنار أجارنا الله منها، لأنها موصوفة بدار الجحيم والعذاب الأليم، وذلك من الضيق وليس من السعة في شيء.
Sayfa 41
المبحث الثالث
الترغيب في الطاعات
7 - عليك بالتهجد وقم طويلا واسجد ... وبت نديم الفرقد واشرب كؤوس الأدمع
Sayfa 42
هذا توكيد لما ذكر في البيت السابق، من الإرشاد إلى ملازمة الطاعات فرضا ونفلا، على نحو ما أوضحنا، والتهجد: هو من الأضداد يطلق على السهر والنوم، لكن التهجد إذا أطلق فالمراد به قيام الليل، والمتهجدون المصلون بالليل (¬1) وقد ندب الناظم رحمه الله إلى الطول في القيام والسجود، وعنى بطول القيام طول القراءة، وبطول السجود طول التسبيح والدعاء، وهذا عمل حسن، فعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لكنه غير واجب والاقتصار على المستطاع هو الكمال، ومن خفف فلا بأس، ومن أعظم ما يحصل لصاحب هذا العمل أن صلاته مشهودة من ملائكة الرحمة، وقد ورد ذلك في حديث جابر - رضي الله عنه - قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: (من خاف أن لا يقوم من آخر الليل فليوتر أوله، ومن طمع أن يقوم آخره فليوتر آخر الليل، فإن صلاة آخر الليل مشهودة، وذلك # أفضل) (¬1) وما ورد من أن في الليل ساعة لا يوافقها مسلم إلا أعطي ما سأل، ورد ذلك في حديث جابر - رضي الله عنه - قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: (إن في الليل لساعة، لا يوافقها رجل مسلم يسأل الله خيرا من أمر الدنيا والآخرة، إلا أعطاه إياه، وذلك كل ليلة) (¬2) ولا ريب أن هذه الساعة هي ما ورد في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا، حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول: من يدعوني فأستجيب له، ومن يسألني فأعطيه، ومن يستغفرني فأغفر له) (¬3).
وبت نديم الفرقد واشرب كؤوس الأدمع:
توجيه من الناظم رحمه الله إلى أن يكون المسلم حريصا على الطاعات، كثير الخشية من الله - عز وجل -، فالخشية أخص من الخوف، وهي جالبة لدمع العين، ومن دمعت عينه من خشية الله حماها الله من النار، لما ورد في حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (عينان لا تمسهما النار عين بكت من خشية الله، وعين باتت تحرس في سبيل الله) (¬4).
Sayfa 43