شرح المعالم في أصول الفقه
تأليف
ابن التلمساني عبد الله بن محمد علي شرف الدين أبو محمد الفهري المصري
(٥٦٧ هـ - ٦٤٤ هـ)
تحقيق
الشيخ عادل أحمد عبد الموجود
الشيخ علي محمد معوض
[الجزء الأول]
Bilinmeyen sayfa
ترجمة صاحب المتن
الرازي بين يدي أصحاب التراجم
إن من طبائع البشر التي جبل الله الناس عليها، التطلع إلى أعين الناس، حبًّا للمدح والشهرة؛ فهذه سنة الله في الذين خلوا من قبل. ولم يشذ عن هذه السنة إلا النادر من بني آدم، الذين أخلصوا دينهم وأعمالهم لله رب العالمين، فأحيا الله ذكرهم، وإن كانوا في الأجداث راقدين.
وإن المرء ليعجب العجب العجاب حين يرى ويسمع عن إمام مات منذ قرون وسنوات طويلة، ثم يخرج الله أثره، ويحيى ذكره وكأن قد حيَّ بعد موات، وأبتُعِثَ بعد رقاد:
وإنما المرء حديث بعده ... فكن حديثًا حسنًا لمن روى
ولقد كان صاحبنا الإمام الرازي أحد أولئك الجهابذة، الذين ابتعث الله أسماءهم وأعمالهم، فكانوا أعلام هدى، ونبراس حياة.
كنيته، اسمه، نسبه:
هو الإمام العلامة: أبو عبد الله محمد بن عمر بن الحسين بن الحسن بن علي، فخر الدين الرازي.
وإنما هو رازيٌّ؛ لأن الرجل ولد في مدينة "الري".
1 / 101
وهو -أيضًا- الطبرستاني؛ نسبة إلى "طبرستان"، حيث كانت أسرته تقيم قبل انتقالها إلى مدينة "الري".
وهو -ثالثًا- القرشي؛ نسبة إلى "قريش"، كما نص غير واحد، منهم النسابة إسماعيل بن حسين بن محمد العلوي المروزي، فقد صنف كتابًا في نسب إمامنا، سماه "الفخريَّ".
وقد وجهنا ابن عنين يمدحه بالعروبة، فقال في ديوانه:
من روحة فخرية عمرية ... طابت مغارس مجدها المتأثل
مكية الأنساب زاكٍ أصلها ... وفروعها فوق السماك الأعزل
وقد أخطأ بعض الناس في نسبتهم الرازي إلى العجمة، منهم:
١ - الدسوقي في حاشيته على شرح القطب على "الشمسية"؛ فإنه قال: "والفخر الرازي والسعد وغيرهما من الأعاجم".
٢ - ابن خلدون في مقدمته؛ فإنه قال في معرض الحديث عن السعد التفتازاني: "وأما غيره من العجم، فلم نر لهم من بعد الإمام ابن الخطيب ... ".
٣ - سامي الكيالي في كتابه: "السهروردي" ص ٧.
وقد نسب الرازي -أيضًا- فقيل: التيمي؛ نسبة إلى تيم قريش، وهي تيم بن مرة، وقد انتسب إليها جماعة من الصحابة والتابعين، أشهرهم أبو بكر الصديق، ومحمد بن المنكدر.
وهو أيضًا: البكري؛ نسبة إلى خليفة المسلمين الأول، أبي بكر الصديق رضي الله
1 / 102
عنه، كما نص على ذلك كثير ممن ترجموا له.
مولده:
ولد أبو عبد الله سنة ثلاث وأربعين -وقيل: سنة أربع وأربعين- وخمسمائة.
هكذا في طبقات ابن السبكي.
وفي "وفيات الأعيان": "وكانت ولادة فخر الدين في الخامس والعشرين من شهر رمضان سنة أربع وأربعين -وقيل: سنة ثلاث وأربعين- وخمسمائة بـ "الري".
وفي "الوافي": "ولد سنة أربع وأربعين وخمسمائة".
وفي "السير" للإمام الذهبي: "ولد سنة أربع وأربعين وخمسمائة". ولعل هذا هو الراجح.
نشأته:
لقد تعلم الفخر في بكورة عمره كما يتعلم أبناء عصره، فنراه يقبل على طلب العلم بِنَهَمٍ وشدة، وهو لا يزال في ربيع حياته وعنفوان شبابه.
ولقد كان من أكبر الدوافع لإمامنا على الطلب شغفه بالمعرفة وحب العلم، فالناس - في عصره- يروحون جيئة وذهابًا في طلب العلم، فيجلسون للشيوخ ويسمعون منهم، ويكتبون عنهم.
وطبيعي أن يتجه الرازي -بدأة- في سبيل تعلمه إلى ساحة والده، فينيخ فيها رحله، وينهل من المنهل الروى، فيسمع منه، ولم لا وقد كان الإمام ضياء الدين أحد كبار علماء الشافعية في عصره، وكان خطيب "الري". وسيأتي الكلام عليه ضمن شيوخه.
والمقصود أن الفخر نشأ نشأة علمية، وحرص ألا يضيع شيء من وقته سدى، فنراه يقول: "والله، إنني لأتأسف في الفوات عن الاشتغال في طلب العلم في وقت الأكل؛ فإن الوقت والزمان عزيز".
ولقد سابق الفخر الأمجاد، فاستولى على الأمد بغلابه، ولم ينض ثوب شبابه. أدمن التعب في السؤدد جاهدًا، حتى تناول الكواكب قاعدًا، وما أشكل على أوائله، ولا سكن إلى راحات بكره وأصائله، فسما إلى رتب الكهول صغيرًا، وشن كتيبة ذهنه على العلوم مغيرًا، فسباها معنى وفصلًا، وحواها فرعًا وأصلًا.
ومما بلّغه هذه المنزلة أن الله -سبحانه- حباه بذهن وقاد، وقريحة مستنيرة، فحفظ في فترة وجيزة كتبا عظيمة، منها "الشامل" في علم الكلام لإمام الحرمين، و"المستصفى"
1 / 103
في علم الأصول لحجة الإسلام الغزالي، و"المعتمد" لأبي الحسين البصري.
حتى قال: "ما أذن لي في تدريس علم الكلام حتى حفظت اثنتي عشرة ألف ورقة".
شيوخه:
١ - عمر بن الحسين بن الحسن، الإمام الجليل ضياء الدين، أبو القاسم الرازي، والد الإمام فخر الدين. ذكره السبكي في طبقاته الكبرى فقال: "كان أحد أئمة الإسلام، مقدمًا في علم الكلام، له فيه "غاية المرام" في مجلدين، وهو من أنفس كتب أهل السنة وأشدها تحقيقًا، وقد عقد في آخره فصلًا في فضائل أبي الحسن الأشعري وأتباعه، أخذ المذكور علم الكلام عن أبي القاسم الأنصاري تلميذ إمام الحرمين، وأخذ الفقه عن صاحب "التهذيب". وكان فصيح اللسان، قوي الجنان، فقيهًا، أصوليا، متكلمًا، صوفيا، خطيبًا، محدثًا، أديبًا. له نثر في غاية الحسن يكاد يحكي ألفاظ مقامات الحريري في حسنه وحلاوته ورشاقة سجعه. ولم يذكر السبكي وقت وفاته.
وقيل: وفاته سنة تسع وخمسين وخمسمائة.
ولأن الإمام الرازي تلمذ على والده، فقد كان متأثرًا بما سمعه والده من شيوخه وهم كُثْر، نذكر منهم ما ذكره الفخر من سلسلة شيوخه في العقائد، فحكى ابن خلكان قال:
وذكر فخر الدين في كتابه الذي سماه "تحصيل الحق" أنه اشتغل في علم الأصول على والده ضياء الدين عمر، ووالده على أبي القاسم سلمان بن ناصر الأنصاري، وهو على إمام الحرمين أبي المعالي، وهو على الأستاذ أبي إسحاق الإسفرايني، وهو على الشيخ أبي الحسين الباهلي، وهو على شيخ السنة أبي الحسن علي بن إسماعيل الأشعري، وهو على أبي علي الجُبائي أولًا ثم رجع عن مذهبه ونصر مذهب أهل السنة والجماعة.
وعن سلسلة شيوخه في فتيا الفقه والأصول قال:
وأما اشتغاله في المذهب فإنه اشتغل على والده، ووالدهُ على أبي محمد الحسين بن مسعود الفراء البغوي، وهو على القاضي حسين المروزي، وهو على القفال المروزي، وهو على أبي زيد المروزي، وهو على أبي إسحاق المروزي، وهو على أبي العباس بن سُرَيج، وهو على أبي القاسم الأنماطي، وهو على أبي إبراهيم المزني، وهو
1 / 104
على الإمام الشافعي، ﵁.
وهذه ترجمة لسلسلة علم الأصول المباركة:
١ - سلمان -بفتح السين- ابن ناصر بن عمران بن محمد بن إسماعيل بن إسحاق بن زيد بن زياد بن ميمون بن مهران، أبو القاسم الأنصاري. تلميذ إمام الحرمين. كان فقيهًا، إمامًا في علم الكلام والتفسير، زاهدًا، ورعًا، يكتسب من خطه. صاحب أبا القاسم القشيري مدة، ولازم إمام الحرمين، وأتقن عليه الأصلين. وقد شرح "الإرشاد" للإمام توفي في جمادى الآخرة سنة اثنتي عشرة، وقيل غير ذلك.
٢ - عبد الملك بن عبد الله بن يوسف بن عبد الله بن يوسف بن محمد، العلامة إمام الحرمين، ضياء الدين، أبو المعالي ابن الشيخ أبي محمد الجويني. رئيس الشافعية بنيسابور. مولده في المحرم سنة تسع عشرة وأربعمائة، وتفقه على والده، وأتى على جميع مصنفاته، وتوفي أبوه وله عشرون سنة، فأقعد مكانه للتدريس فكان يدرس، ويخرج إلى مدرسة البيهقي حتى حصل أصول الدين وأصول الفقه على أبي القاسم الإسفراييني الإسكاف. وخرج في الفتنة إلى الحجاز، وجاور بمكة أربع سنين يدرس ويفتي ويجمع طرق المذهب، ثم رجع إلى "نيسابور"، وأقعد للتدريس بنظامية "نيسابور"، وبقي على ذلك قريبًا من ثلاثين سنة غير مزاحم ولا مدافع، مسلم له المحراب والمنبر والتدريس ومجلس الوعظ، وظهرت تصانيفه، وحضر درسه الأكابر، والجمع العظيم من الطلبة -وكان يقعد بين يديه كل يوم نحو من ثلاثمائة رجل، وتفقه به جماعة من الأئمة. قال ابن السمعاني: كان إمام الأئمة على الإطلاق، المجمع على إمامته شرقًا وغربًا، لم تر العيون مثله. قال: وقرأت بخط أبي جعفر محمد بن أبي علي الهمذاني، سمعت الشيخ أبا إسحاق الفيروزابادي يقول: تمتعوا بهذا الإمام؛ فإنه نزهة هذا الزمان؛ يعني أبا المعالي الجويني. ومن تصانيفه "النهاية" جمعها بمكة وحررها بنيسابور، ومختصرها له ولم يكمله، قال فيه: إنه يقع في الحجم من النهاية أقل من النصف وفي المعنى أكثر من النصف، وكتاب "الأساليب في الخلاف"، وكتاب "الغياثي" مجلد متوسط، يسلك به غالب مسالك الأحكام السلطانية والرسالة النظامية، وكتاب "غياث الخلق في اتباع الحق" يحث فيه على الأخذ بمذهب الشافعي دون غيره، وكتاب "البرهان" في أصول الفقه، و"التلخيص" مختصر التقريب، و"الإرشاد" في أصول الفقه أيضًا، وكتاب "الإرشاد" في أصول الدين، وكتاب "الشامل" في أصول الدين أيضًا، وكتاب "غنية المسترشدين" في الخلاف.
1 / 105
وتوفي في ربيع الآخر سنة ثمان وسبعين وأربعمائة.
٣ - إبراهيم بن محمد بن إبراهيم بن مهران، الإمام ركن الدين، أبو إسحاق الإسفراييني، المتكلم الأصولي الفقيه، شيخ أهل خراسان. يقال: إنه بلغ رتبة الاجتهاد، وله المصنفات الكثيرة، منها: "جامع الحلى في أصول الدين والرد على الملحدين" في خمس مجلدات، وتعليقة في أصول الفقه. وذكر الرافعي في أثناء الغصب وأثناء النكاح أنه شرح فروع ابن الحداد، وله غير ذلك. خرج له أبو عبد الله الحاكم عشرة أجزاء، وذكره في تأريخه لجلالته -وقد مات الحاكم قبله- فقال: الفقيه، الأصولي، المتكلم، المتقدم في هذه العلوم، انصرف من العراق وقد أقر له العلماء بالتقدم. قال: وبنى له مدرسة لم يبن مثلها فدرس فيها. وقال الشيخ أبو إسحاق: درس عليه شيخنا أبو الطيب وعنه أخذ علم الكلام والأصول عامة شيوخ نيسابور. قال أبو القاسم ابن عساكر: حكى لي من أثق به أن الصاحب بن عباد كان إذا انتهى إلى ذكر ابن الباقلاني وابن فورك والإِسفراييني وكانوا متعاصرين من أصحاب الحسن الأشعري قال لأصحابه: ابن الباقلاني بحر مغرق، وابن فورك صل مطرق، والإسفراييني نار تحرق. توفي يوم عاشوراء سنة ثمان عشرة وأربعمائة بنيسابور، ونقل إلى إسفرايين فدفن بمشهد بها. نقل عنه الرافعي في الحيض، وفي الاجتهاد في دخول وقت الصلاة، وفي استقبال القبلة، وسجود السهو، ثم كرر النقل عنه.
٤ - أبو الحسين محمد بن محمد بن عبد الرحمن بن سعيد الباهلي.
ولد سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة، كان مؤرخًا، وله تصانيف منها "تاريخ الباهلي" ومصنف في الآثار المأثورة عن رسول الله ﷺ والكلام على أحكامها، وله كتاب في اختلاف العلماء.
٥ - علي بن إسماعيل بن إسحاق بن سالم بن إسماعيل بن عبد الله بن موسى بن بلال بن أبي بردة بن أبي موسى، الشيخ أبو الحسن الأشعري البصري. إمام المتكلمين، وناصر سنة سيد المرسلين، والذابّ عن الدين، والمصحح لعقائد المسلمين. مولده سنة ستين ومائتين، وقيل سنة سبعين. أخذ علم الكلام أولًا عن أبي علي الجبائي شيخ المعتزلة، ثم فارقه، ورجع عن الاعتزال، وأظهر ذلك، وشرع في الرد عليهم، والتصنيف على خلافهم. ودخل بغداد، وأخذ عن زكريا الساجي وغيره. وقال أبو بكر الصيرفي -
1 / 106
وهو من نظراء الشيخ أبي الحسن-: كانت المعتزلة قد رفعوا رءوسهم حتى أظهر الله الأشعري فحجرهم في أقماع السمسم. وقال القاضي أبو بكر الباقلاني: أفضل أحوالي أن أفهم كلام الشيخ أبي الحسن، وكان لا يتكلم في علم الكلام إلا حيث وجب عليه نصرة الحق. قال الخطيب البغدادي: أبو الحسن الأشعري، المتكلم، صاحب الكتب والتصانيف في الرد على الملحدة وغيرهم من المعتزلة، والرافضة، والجهمية، والخوارج، وسائر أصناف المبتدعة. وهو بصري سكن بغداد إلى أن توفي. وحكي عن الأستاذ أبي إسحاق الإِسفراييني أن أبا الحسن كان يقرأ على أبي إسحاق المروزي الفقه وهو يقرأ على أبي الحسن الكلام. وقد جمع الحافظ الكبير أبو القاسم ابن عساكر له ترجمة حسنة، ورد على من تعرض له بالطعن، وذكر فضائله، ومصنفاته، ومتابعته في كتبه المذكورة السنة، وانتصاره لها، وذبه عنها، ومن أخذ عنه من العلماء الأعلام، سماه "تبيين كذب المفتري فيما نسب إلى الشيخ أبي الحسن الأشعري"، وهو كتاب مفيد. وقد صرح الأستاذ أبو إسحاق، وأبو بكر بن فورك في طبقات المتكلمين بأن الأشعري شافعي. توفي في سنة أربع وعشرين وثلائمائة، وقيل سنة عشرين، وقيل سنة ثلاثين. قال أبو محمد بن حزم: إن لأبي الحسن خمسة وخمسين تصنيفًا. ذكره ابن الصلاح في طبقاته.
٦ - هو محمد بن عبد الوهاب بن سلام أبو علي الجبائي. أحد أئمة المعتزلة، أخذ علم الكلام عن الشحام المعتزلي رئيس المعتزلة البصرية في عصره، وأخذ عنه الإمام أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري علم الكلام وله معه مناظرات ذكر الأشعري بعضها في "مقالات الإِسلاميين" ولد سنة ٢٣٥ هـ، وتوفي في شعبان سنة ٢٠٣ هـ.
وأما شيوخ سلسلة فتيا الفقه والأصول فهذه ترجمتهم:
١ - الحسين بن مسعود بن محمد، العلامة محيي السنة أبو محمد البغوي، ويعرف بابن الفراء تارة وبالفراء أخرى. أحد الأئمة، تفقه على القاضي الحسين. وكان دينًا، عالمًا، عاملًا على طريقة السلف، وكان لا يلقي الدرس إلا على طهارة، وكان قانعًا باليسير، يأكل الخبز وحده فعدل عن ذلك فصار يأكله بالزيت. قال الذهبي: كان إمامًا في التفسير، إمامًا في الحديث، إمامًا في الفقه. بورك له في تصانيفه ورزق القبول لحسن قصده وصدق نيته. وقال السبكي في تكملة شرح المهذب: قل أن رأيناه يختار شيئًا إلا وإذا بُحث عنه إلا وُجد أقوى من غيره، هذا مع اختصار كلامه، وهو يدل على: نبل كبير، وهو حري بذلك فإنه جامع لعلوم القرآن والسنة والفقه. توفي بمرو الروذ في شوال سنة
1 / 107
ست عشرة وخمسمائة ودفن عند شيخه. قال الذهبي: ولم يحج، قال: وأظنه جاوز الثمانين. والبغوي منسوب إلى "بغا" بفتح الباء، قرية بين "هراة" و"مرو". ومن تصانيفه "التهذيب" لخصه من تعليق شيخه، وهو تصنيف متين محرر عار عن الأدلة غالبًا، وشرح المختصر وهو كتاب نفيس، أكثر الأذرعي من النقل عنه ولم يقف عليه الإِسنوي. والفتاوى، وكتاب "شرح السنة"، و"معالم التنزيل" في التفسير، و"المصابيح" و"الجمع بين الصحيحين" وغير ذلك.
٢ - الحسين بن محمد بن أحمد القاضي، أبو علي المروزي. صاحب التعليقة المشهورة في المذهب. أخذ عن القفال، وهو والشيخ أبو علي أنجب تلامذة القفال، وأوسعهم في الفقه دائرة، وأشهرهم فيه اسمًا، وأكثرهم له تحقيقًا. قال عبد الغافر: كان فقيه خراسان وكان عصوه تأريخًا به. وقال الرافعي في التذنيب: إنه كان كبيرًا، غواصًا في الدقائق، من الأصحاب الغر الميامين، وكان يلقب بحبر الأمة. وقال النووي في تهذيبه: وله التعليق الكبير وما أجزل فوائده وأكثر فروعه المستفادة ولكن يقع في نسخه اختلاف، وكذلك تعليق الشيخ أبي حامد. قال الإِسنوي: وللقاضي في الحقيقة تعليقان يمتاز كل منهما على الآخر بزوائد كثيرة، وسببه اختلاف المعلقين عنه، ولهذا نقل ابن خلكان في ترجمة أبي الفتح الأرغياني أن القاضي الحسين قال في حقه: "ما علق أحد طريقتي مثله" وقد وقع لي التعليقان بحمد الله. وله الفتاوى المشهورة، وكتاب أسرار الفقه نحو التنبيه" قريب من كتاب محاسن الشريعة للقفال الشاشي يشتمل على معان غريبة ومسائل، وشرح الفروع، وقطعة من شرح التلخيص. توفي في المحرم سنة اثنتين وستين وأربعمائة. وممن أخذ عنه أبو سعد المتولي والبغوي. قال الذهبي: ويقال: إن أبا المعالي تفقه عليه أيضًا. ومتى أطلق القاضي في كتب متأخري المراوزة فالمراد المذكور.
٣ - عبد الله بن أحمد بن عبد الله المروزي، الإِمام الجليل، أبو بكر القفال الصغير. شيخ طريقة خراسان، وإنما قيل له القفال لأنه كان يعمل الأقفال في ابتداء أمره، وبرع في صناعتها حتى صنع قفلًا بآلاته ومفتاحه وزن أربع حبات. فلما كان ابن ثلاثين سنة أحس من نفسه ذكاء، فأقبل على الفقه، فاشتغل به على الشيخ أبي زيد وغيره، وصار إمامًا يقتدى به فيه. وتفقه عليه خلق من أهل خراسان، وسمع الحديث، وحدث وأملى. قال الفقيه ناصر العمري: لم يكن في زمان أبي بكر القفال أفقه منه، ولا يكون بعده مثله،
1 / 108
وكنا نقول: إنه ملك في صورة إنسان. وقال الحافظ أبو بكر السمعاني في أماليه: أبو بكر القفال وحيد زمانه فقهًا، وحفظًا، وورعًا، وزهدًا، وله في المذهب من الآثار ما ليس لغيره من أهل عصره وطريقته المهذبة في مذهب الشافعي التي حملها عنه أصحابه أمتن طريقة، وأكثرها تحقيقًا. رحل إليه الفقهاء من البلاد وتخرج به أئمة. وذكر القاضي الحسين أن أبا بكر القفال كان في كثير من الأوقات يقع عليه البكاء في الدروس، ثم يرفع رأسه، ويقول: ما أغفلنا عما يراد بنا. وقال الشيخ أبو محمد: أخرج القفال يده فإذا على ظهر كفه آثار فقال: هذا من آثار عملي في ابتداء شبيبتي. وكان مصابًا بإحدى عينيه. توفي بمرو في جمادى الآخرة سنة سبع عشرة وأربعمائة وعمره تسعون سنة. ومن تصانيفه "شرح التلخيص" وهو مجلدان، و"شرح الفروع" في مجلدة، وكتاب "الفتاوى" له في مجلدة ضخمة، كثيرة الفائدة.
٤ - محمد بن أحمد بن عبد الله، الشيخ الزاهد، أبو زيد، الفاشاني -بفاء وشين معجمة ونون- المروزي. ولد سنة إحدى وثلاثمائة. أخذ عن أبي إسحاق المروزي وجاور بمكة سبع سنين. قال الحاكم: كان أحد أئمة المسلمين، ومن أحفظ الناس لمذهب الشافعي، وأحسنهم نظرًا، وأزهدهم في الدنيا. سمعت أبا بكر البزاز يقول: عادلت الفقيه أبا زيد من نيسابور إلى مكة فما أعلم أن الملائكة كتبت عليه خطيئة. وقال الخطيب: حدث بصحيح البخاري عن الفربري، وأبو زيد أجل من روى ذلك الكتاب. وقال الشيخ أبو إسحاق: كان حافظًا للمذهب حسن النظر مشهورًا بالزهد، وعنه أخذ أبو بكر القفال المروزي وفقهاء مرو. وقال إمام الحرمين في النهاية في باب التيمم: إنه كان من أذكى الناس قريحة. توفي في رجب سنة إحدى وسبعين وثلاثمائة. و"فاشان" قرية من قرى "مرو" خرج منها جماعة من العلماء. ويقال: باشان -بالباء الموحدة أيضًا-: قرية من قرى "هراة". و"قاشان" -بالقاف والشين المعجمة- مدينة قريبة من "هراة".
٥ - إبراهيم بن أحمد، أبو إسحاق المروزي. أحد أئمة المذهب، أخذ الفقه عن عبدان المروزي ثم عن ابن سريج والإِصطخري. وانتهت إليه رئاسة المذهب في زمانه، وصنف كتبًا كثيرة، وأقام ببغداد مدة طويلة، يفتي ويدرس وانتفع به أهلها وصاروا أئمة كابن أبي هريرة وأبي زيد المروزي وأبي حامد المروزي. قال العبادي: وهو الذي قعد في مجلس الشافعي بمصر سنة القرامطة، واجتمع الناس عليه، وضربوا إليه أكباد الإِبل، وسار في الآفاق من مجلسه سبعون إمامًا من أصحاب الشافعي. وقال الشيخ أبو إسحاق: انتهت
1 / 109
إليه الرئاسة في العلم ببغداد، وشرح المختصر، وصنف الأصول، وأخذ عنه الأئمة، وانتشر الفقه عن أصحابه في البلاد، وخرج إلى مصر ومات بها في رجب سنة أربعين وثلاثمائة، ودفن عند الشافعي. ومن تصانيفه: "شرح المختصر" في نحو ثمانية أجزاء، وكتاب "التوسط بين الشافعي والمزني" لما اعترض به المزني في المختصر، وهو مجلد ضخم، يرجح فيه الاعتراض تارة، ويدفعه أخرى.
٦ - أحمد بن عمر بن سريج، القاضي أبو العباس البغدادي. حامل لواء الشافعية في زمانه وناشر مذهب الشافعي. تفقه بأبي القاسم الأنماطي وغيره، وأخذ عنه الفقه خلق من الأئمة. قال أبو علي بن خيران: سمعت أبا العباس بن سريج يقول: رأيت كأنا مطرنا. كبريتًا أحمر، فملأت أكمامي وحجري، فعبر لي أن أرزق علمًا عزيزًا كعزة الكبريت الأحمر. وقال أبو الوليد الفقيه: سمعت ابن سريج يقول: قل ما رأيت من المتفقهة من اشتغل بالكلام فأفلح، يفوته الفقه ولا يصل إلى معرفة الكلام. وقال العبادي في ترجمة ابن سريج: شيخ الأصحاب، وسالك سبيل الإِنصاف، وصاحب الأصول والفروع الحسان، وناقض قوانين المعترضين على الشافعي، ومعارض جوابات الخصوم. وقال الشيخ أبو إسحاق: كان من عظماء الشافعيين، وعلماء المسلمين، وولي قضاء شيراز، وكان يفضل على جميع أصحاب الشافعي حتى على المزني. قال: وسمعت شيخنا أبا الحسن الشيرجي الفرضي صاحب ابن اللبان يقول: إن فهرست كتب أبي العباس تشتمل على أربعمائة مصنف، وقام بنصرة هذا المذهب، ورد على المخالفين، وفرع على كتب محمد بن الحسن.
مات في جمادى الأولى سنة ست وثلاثمائة عن سبع وخمسين سنة بـ "بغداد" ودفن بالجانب الغربي.
٧ - عثمان بن سعيد بن بشار، أبو القاسم الأنماطي البغدادي الأحول. أحد أئمة الشافعية في عصره، أخذ الفقه عن المزني والربيع، وأخذ عنه أبو العباس ابن سريج، قال
1 / 110
الشيخ أبو إسحاق: كان هو السبب في نشاط الناس لكتب فقه الشافعي وتحفظه. قال الخطابي في "الرسالة الناصحية": أنبأ أبو عمر غلام ثعلب قال سمعت ابن بشار الأنماطي يقول: سمعت المزني يقول: قال لي الشافعي: إياك وعلمًا إذا أخطأت فيه قيل لك: كفرت، وعليك بعلم إذا أخطأت فيه قيل لك: أخطأت أو لحنت. قال السبكي في "الطبقات الكبرى": وعليه تفقه ابن سريج والإِصطخري وابن خيران ومنصور التميمي وابن الوكيل. مات في شوال سنة ثمان وثمانين ومائتين.
٨ - إسماعيل بن يحيى بن إسماعيل بن عمرو بن إسحاق أبو إبراهيم، المصري، المزني، الفقيه الإِمام صاحب التصانيف. أخذ عن الشافعي وكان يقول: أنا خلق من أخلاق الشافعي، ذكره الشيخ أبو إسحاق: أول أصحاب الشافعي، وقال: كان زاهدًا، عالمًا، مجتهدًا، مناظرًا، محجاجًا، غواصًا على المعاني الدقيقة، صنف كتبًا كثيرة؛ قال الشافعي: المزني ناصر مذهبي. ولد سنة خمس وسبعين ومائة وتوفي في رمضان، وقيل: في ربيع الأول سنة أربع وستين ومائتين، وكان مجاب الدعوة. قال الرافعي في باب الوضوء: وعن المزني أن التخليل واجب، ورواه ابن كج عن بعض الأصحاب، فإن أراد المزني فتفرداته لا تعد من المذهب إذا لم يخرجها على أصل الشافعي، لكن نقل الرافعي في باب الخلع عن الإمام أنه قال: أرى كل اختيار للمزني تخريجًا؛ فإنه لا يخالف أصول الشافعي، لا كأبي يوسف ومحمد، فإنهما يخالفان أصول صاحبهما كثيرًا.
٩ - محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن الشافع، بن السائب، بن عبيد، بن عبد يزيد، بن هاشم، بن عبد المطلب بن عبد مناف، جدِّ النبي ﷺ. وشافع بن السائب هو الذي ينسب إليه الشافعي. لقي النبي ﷺ في صغره، وأسلم أبوه السائب يوم بدر، فإنه كان صاحب راية بني هاشم، وكانت ولادة الشافعي بقرية من الشام يقال لها "غزة" قاله ابن خلكان، وابن عبد البر. وقال صاحب "التنقيب": بمنى مكة وقال ابن بكار: عسقلان. وقال الزوزني باليمن والأول أشهر، وكان ذلك في سنة خمسين ومائة، وهي
1 / 111
السنة التي مات فيها الإمام أبو حنيفة ﵀. ومنهم من قال إنه ولد يوم مات أبو حنيفة، قال البيهقي: والتقييد باليوم لم أجده إلا في بعض الروايات، أما التقييد بالسنة فهو مشهور من بين أهل التواريخ، ثم حمل إلى مكة وهو ابن سنتين، ونشأ بها وحفظ القرآن وهو ابن سبع سنين، ثم سلمه أبوه للتفقه إلى مسلم بن خالد مفتي مكة، فأذن له في الإفتاء وهو ابن خمسة عشر سنة، فرحل إلى الإمام مالك بن أَنس بالمدينة، فلازمه حتى توفي مالك ﵀، ثم قدم "بغداد" سنة خمسة وتسعين ومائة وأقام بها سنتين، فاجتمع عليه علماؤها، وأخذوا عنه العلم، ورجع كثير عن مذاهبهم إلى قوله، وصنف بها الكتب القديمة وستعرف أسماءها إن شاء الله تعالى، ثم خرج إلى "مكة" حاجًّا، ثم عاد إلى "بغداد" سنة ثمان وتسعين ومائة، فأقام بها شهرين أو أقل، فلما قتل الإمام موسى الكاظم -رضي الله تعالى عنه- خرج إلى مصر فلم يزل بها ناشرًا للعلم، وصنف بها الكتب الجديدة، فأصابته ضربة شديدة فمرض بسببها أيامًا، فدخل عليه أحمد ابن حنبل والمزني يعودانه قالا: كيف أصبحت يا أبا عبد الله؟ ! فقال: يا إخواني أصبحت من الدنيا راحلًا، ولإخواني مفارقًا، ولكأس المنية شاربًا، ولسوء أعمالي ملاقيًا، وعلى الله واردًا، فلا أدري روحي تصير إلى الجنة فأهنيها، أو إلى النار فأعزيها، ثم بكى وأنشأ يقول: [من الطويل]:
وَلَمَّا قَسَا قَلْبِي وَضَاقَتْ مَذَاهِبِي ... جَعَلْتُ الرَّجَا مِنِّي لِعَفْوكَ سُلَّمَا
تَعَاظَمَنِي ذَنْبِي فَلَمَّا قَرَنْتُهُ ... بعَفْوكَ رَبِّي كَانَ عَفْوُكَ أَعْظَمَا
فبكى وبكى من حوله، فنظر إليهم وقال: الوداع الوداع يا أصحابي! الفراق الفراق يا أحبابي! ثم توجه إلى القبلة، وتكلم بالشهادتين، وانتقل إلى رحمة الله تعالى، إنا لله وإنا إليه راجعون! اللهم ارفعه إلى مرام همته وشفعه في زمرته! كان ذلك يوم الجمعة سلخ رجب سنة أربع ومائتين، ودفن بالقرافة بعد العصر في يومه.
وهذا عود إلى شيوخ الفخر الرازي:
أحمد بن زِرّ بن كُمّ بن عقيل أبو نصر، الكَمال، السِّمْنَانِيّ
قال السبكي: أبوه "زِرّ" بكسر الزاي بعدها راء مُشدَّدة. وجده "كُمّ" بضم الكاف، بعدها ميم مشددة. كذا أحفظه.
وسمعت من يقول: بل والده زَرْين كُمّ، بفتح الزاي، ثم الراء الساكنة الخفيفة، ثم آخر الحروف، ثم نون، ثم كاف مضمومة، ثم ميم مشددة.
قال: وهو اسم عجمي، على هيئة مضاف ومضاف إليه، وجده عقيل.
1 / 112
و"السمناني" بكسر السين المهملة، وسكون الميم وفتح النون وفي آخرها نون أخرى، هذه النسبة إلى سمنان، وهو اسم يطلق على مدينة وقريتين.
تفقَّه على محمد بن يحيى. وكان مُقدَّم أصحابه، ومُعيدَ درسه. مات بنيسابور، سنة خمس وسبعين وخمسمائة".
ثم قرأ الفخر الحكمة على المجد الجبلي بـ "مَرَاغَة"، وهو من كبار علماء الحكمة المشهورين.
تلاميذه:
تلمذ للإمام الرازي كثيرون من طلبة العلم، حتى صاروا أعلامًا يشار إليهم بالبنان، ويعقد على تعظيمهم الأركان، ويقر بفضلهم الإنس والجان، وآية ذلك أن خلد ذكرهم الزمان.
وهذه ترجمة لهم:
١ - عبد الحميد بن عيسى بن عمريه بن يوسف بن خليل بن عبد الله بن يوسف، العلامة شمس الدين أبو محمد الخسروشاهى، الفقيه المتكلم، ولد بـ "خسروشاه" سنة ٥٨٠ هـ، أخذ علم الكلام عن الإمام فخر الدين الرازي وبرع وتفنن في علوم متعددة ودرس وناظر. وقد اختصر المهذب في الفقه، والشفاء لابن سينا، وله إشكالات وإيرادات جيدة. وسمع الحديث من جماعة. روى عنه الدمياطي، وممن أخذ عنه الخطيب زين الدين بن المرحل. قال السيد عز الدين: اشتغل بعلم المعقول على الإمام فخر الدين وبرع فيه، وأقرأه مدة. وكان أحد العلماء المشهورين الجامعين لفنون من العلم. مات في شوال سنة اثنين وخمسين وستمائة بدمشق، ودفن بقاسيون. وخسروشاه قرية بقرب تبريز.
1 / 113
٢ - زكيّ بن الحسن بن عمر، أبو أحمد البيلقاني، فقيه، مناظر، متكلم، أصولي، محقق.
ولد سنة اثنتين وثمانين وخمسمائة.
ودخل "خُراسان" وقرأ على الإمام فخر الدين، وعلى تلميذه القُطْبِ المِصْرِيّ، وسمع الحديثَ من المُؤيَّد الطُّوسِيِّ، وغيرِه. وقدم "دمشق" فحدَّث بها.
روى عنه الشيخ جمال الدين الصَّابُونِيّ، والمُحَدِّث نور الدين عليُّ بن جابر الهاشِمِيّ، وشهاب الدين أحمد بن محمد الإسْمَرْدِيّ، وغيرُهم.
وسلك سبيلَ المُتَّجَر، وأقام بالإسْكَنْدَرِيَّة مُدَّةً على هيئةِ التُّجَّار، ثم دخل اليمنَ، واشْتَهر بها، وشغَل الناسَ بالعلم.
قال ابنُ جابر: كان فريدَ دهره؛ علمًا، وزهدًا، ووَرَعًا.
قال: وتُوُفِّيَ بِثَغْرِ عَدَن، سنة ست وسبعين وستمائة.
٣ - إبراهيم بن عبد الوهاب بن علي، عماد الدين، أبو المعالي، الأنصاري الخزرجي الزنجاني. له على الوجيز تعليق في جزأين، مشتمل على فوائد، ذكر في خطبته ما حاصله أنه شرع فيه في حياة الرافعي، وانتقاه من الشرح الكبير له المسمى بالعزيز، وسماه "نقاوة العزيز"؛ وذكر في آخره أنه فرغ منه في شعبان سنة خمس وعشرين وستمائة، وفيه أبحاث حسنة واستدراكات قوية. وأخذ المذكور عن الإمام فخر الدين الرازي ونقل عنه في شرحه في الردة وغيرها.
٤ - إبراهيم بن علي بن محمد، السلمي المغربي، الحكيم المعروف بالقطب المصري. قدم "خراسان"، وقرأ على الإمام فخر الدين الرازي، وصار من كبار تلامذته. وصنف كتبًا كثيرة في الطب والفلسفة، وشرح الكليات بكمالها من كتاب القانون. قتل فيمن قتل بنيسابور سنة ثمان عشرة وستمائة. أخذ عنه قاضي الشام شمس الدين الخويي وغيره.
1 / 114
٥ - أحمد بن الخليل بن سعادة بن جعفر بن عيسى المهلبي، قاضي القضاة شمس الدين، أبو العباس، الخويي. ولد بخوي في شوال سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة، ودخل "خراسان" وقرأ بها الأصول على القطب المصري صاحب الإمام فخر الدين، وقيل: بل على الإِمام نفسه. قال السبكي في "الطبقات الكبرى": وقرأ الفقه على الرافعي، وقرأ علم الجدل على علاء الدين الطوسي، وسمع الحديث من جماعة. وولي قضاء القضاة بالشام. وله كتاب في الأصول، وكتاب فيه رموز حكمية، وكتاب في النحو، وكتاب في العروض. وفيه يقول الشيخ شهاب الدين أبو شامة:
أحمد بن الخليل أرشده اللـ ... ـه كما أرشد الخليل بن أحمد
ذاك مستخرج العروض وهذا ... مظهر السر منه والعود أحمد
قال الذهبي: كان فقيهًا، إمامًا، مناظرًا، خبيرًا بعلم الكلام، أستاذًا في الطب والحكمة، دينًا، كثير الصلاة والصيام. توفي في شعبان سنة سبع -بتقديم السين- وثلاثين وستمائة.
ثناء العلماء عليه:
نال الإمام الرازي محبة الناس وثناءهم عليه، ونحن نذكر طرفًا من كلام أئمة العلم الذين نعتوه، وذكروا أخباره وسيرته. قال العلامة ابن السبكي:
"إمام المُتكلِّمين، ذو الْباع الواسِع في تَعْليق العُلوم، والاجْتماع بالشَّاسِع من حَقائق المَنْطوق والمَفْهوم، والارْتفاع قدرًا على الرِّفاق وهل يَجْرِي من الأقدار إلَّا الأمرُ المَحْتوم. بحرٌ ليس للبحر ما عندَه من الجواهر، وخَبَرٌ سَما على السماءِ وأين للسَّماء مثلُ ما لَه من الزَّوَاهر، وروضةُ علمٍ تَسْتِقلُّ الرّياضُ نَفْسَها أن تُحاكِي مَا لَدَيهِ من الأزاهر.
انْتظَمت بقَدْرِهِ العظيم عُقودُ المِلَّة الإسلامية، وابْتَسَمت بدُرِّه النَّظِيم ثُغورُ الثُّغور المحمَّدية، تنَوَّع في المباحث وفُنونِها، وترفَّع فلم يَرْضَ إلَّا بِنُكَتٍ تسحره ببُيُونِها، وأتى بجَنَّاتٍ طَلْعُها هَضِيم، وكلمات يُقْسِم الدهرُ أن المُلْحِد بعدَها لا يقدِر أن يضيم.
وله شِعار أوَى الأشْعَرِيُّ من سُنَنِه إلى رُكْنٍ شَدِيد، واعْتَزَل المُعْتزليُّ عِلْمًا أنه ما يلْفِظ من قَوْلٍ إلَّا لدَيه رَقِيبٌ عَتِيد.
1 / 115
وخاضَ من العلوم في بحارٍ عميقة، وراضَ النفسَ في دَفْعِ أهلِ البِدَع وسُلوك الطريقة. أما الكلامُ فكلٌّ ساكتٌ خَلْفَه، وكيف لا وهو الإمام رَدَّ على طوائفِ المُبْتدِعة، وهَدَّ قَواعِدَهم حين رفض النفس للرفض، وشاع دَمارُ الشيعة، وجاء إلى المعتزلة فاغْتال الغَيلانيَّة، وأوْصَل الوَاصِلِيَّة النَّقَماتِ الوَاصِبِيَّة، وجعَل العُمَرِيَّةَ أعْبُدًا لطَلْحةَ والزُّبَير، وقالت الهُذَليَّة: لا تنْتهِي قدرةُ الله على خيرٍ وصَبْر، وأيقَنت النَّظَّاميَّة بأنه أذاق بعضَهم بَأْسَ بعض، وفَرَّق شَمْلَهم وصَيَّرهم قِطَعًا، وعبَست البِشْرِيَّة لما جعل مُعتزلَهم سبعًا، وهَشَم الهِشاميَّة والبَهْشَميَّة بالحُجَّة المُوَضِّحة، وقَصَم الكَعْبِيَّة فصارت تحتَ الأرْجُل مُجرَّحة، وعلمت الجبائية مُذ قطعها أن الإسلام يجُبُّ ما قبله، وانهزم جيش الأحيدية فما عاد منهم إلَّا مَن عاد إلى القِبْلة، وعَرَّج على الخَوارِج فدخلُوا تحت الطاعة، وعَلِمت الأزارِقَةُ منهم أن فَتَكاتِ أبْيَضِه المحمديَّة، ونارَ أسْمَرِه الأحْمديَّة، لا قِبَلَ لهم بها ولا اسْتِطاعة، وقالت المَيمُونيَّة: اليُمْنُ من الله والشَّرّ، وخنَست الأخْنَسِيَّة وما فيهم إلَّا مَن تَحَيَّز إلى فِئَةٍ وفَرَّ، والْتفَت إلى الرَّوافِض، فقالت الزَّيدِيَّة: ضرب عمروٌ وخالدٌ وبكرٌ زيدًا، وقالت الإماميَّة: هذا الإمام ومَن حاد عنه فقد جاء شَيئًا إدًّا، وأيقَنَت السُّلَيمانيَّة أن جِنَّها حُبَّسٌ في القَنانِي، وقالت الأزَلِيَّة: هذا الذي قدَّر الله في الأزَل أن يكون فَرْدًا وعَوَّذَه بالسَّبْع المَثانِي، وقال المنتظِرون: هذا الإمام وهذا اليوم الموعود، وجُعِلت الكَيسَانِيَّة في ظلال كَيسِه وسجَّل عليهم بالطاعة في يومٍ مَشْهود، ونظَر إلى الجَبْريَّة شَزْرًا، فمشى كلٌّ منهم على كُرْهِ الهُوَينا كأنه جاء جَبْرًا، وعلمت النَّجَّارِيَّة أن صُنْعَها لا يُقابِل هذا العظيم النَّجار، ونادَت الضَّرارِيَّة: لا ضَرَر في الإِسْلام ولا ضِرار، وتطلَّع على القَدَرِيَّة فعبَس كلٌّ منهم وبَسَر، ثم أقْبَل واسْتَصْغَر، وكان من الذُّباب أقَلَّ وأحْقَر، فقُتِل كيف قَدَّر، وانْعَطَف إلى المُرْجِئة وما أرْجأهم، وجعل العدميَّة منه خَالِديَّةً في الهُون وساءَهم بنارهم، ودعا الحُلولِيَّة فحَلَّ عليهم ما هو أشَدُّ من المَنِيَّة، وأصبحت الباطِنِيَّةُ تأخُذ أقواله ولا تتعدَّى مذهبَ الظَّاهِريَّة، وأما الحَشْويَّة قَبَّحَ المَنِيَّة صُنْعهم وفضَح على رُءوس الأشْهاد جَمْعَهم، فشربوا كأسًا قطَّع أمعاءَهم، وهربوا فِرارًا إلى حَسِيِّ الأماكن حتى عدم الناس مَحْشاهم، وصار القائلُ بِالجِهَةِ في أحسَن الجهات وعُرِض عَليه كل جسم وهو يضرب بسَيف الله الأشْعَرِيِّ ويقول: (هَلْ مِنْ مَزِيد)، هات، حتى نادَوا بالثُّبُور، وزال عن الناس افْتراؤُهم ومَكْرُهم (وَمَكْرُ أُولئِكَ هُو يَبُور)، وأما النَّصارى واليهود فأصبحوا جميعًا وقلوبُهم شَتَّى، ونفوسُهم حَيارَى ورأيت الفريقين (سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكارَى)، وما مِن نَصْرانِيٍّ رآه إلَّا وقال: أيها الفَرْد لا نقول بالتَّثْليث بين يديك، ولا يهُودِيٌّ إلَّا سلَّم، وقال: (إِنَّا هُدْنَا إِلَيك).
1 / 116
هذا ما يتعلَّق بعقائد العقائد، وفرائد القلائد.
وأمَّا علومُ الحُكَماء، فلقد تدَرَّع بِجِلْبابها، وتلَفَّع بأثْوابهَا، وتسَرَّع في طَلَبها، حتى دخل من كلِّ أبْوابها، وأقْسَم الفيلسوف: إنه لذو قَدْرٍ عظيم، وقال المُنْصِف في كلامه: هذا (مِنْ لَدُنْ حَكِيم)، وآلَى ابنُ سِينا بالطُّور إليه من أن قَدْرَه دون هذا المِقْدار، وعَلِم أن كلامَه المنثورَ، وكتابَه المنظوم، يكَادُ سَنَا بَرْقِهما يذهبُ بالأبْصار، وفهم صاحبُ أقليدس أنه اجْتهد في الكواكب، وأطْلَعها سَوافِر، وجَدَّ حتى أبْرَزَها في ظلام الضَّلال غُرَر نهارٍ لا يتمَسَّك بِعصَم الكَوافِر.
وأمَّا الشَّرْعيات تفسيرًا، وفقهًا، وأصولًا، وغيرها، فكان بحرًا لا يُجارَى، وبدرًا إلا أن هداه يشرق نهارًا، هذا هو العلم كيف يليق أن يتغافل المؤمن عن هذا، وهذا هو دوا الذهن الذي كان أسْرَعَ إلى كل دقيقٍ نَفاذًا، وهذا هو الحجةُ الثابتة على قاضي العقل والشرع، وهذه هي الحجة التي يثبُت فيها الأصلُ ويتفرَّع الفَرْع، ما القاضي عنده إلا خَصْم، هذا الجلل إن ماثَلَه إلَّا ممن تلبَّس بما لم يُعْطَ، ولم يَقِفْ عند حَدٍّ له ولا رَسْم، وما البَصْرِيُّ إلا فاقد بصره وإن رام لَحاقَ نَظرِه فقد فَقَدَ نَظَرَ العَين، ولا أبو المعالي إلَّا ممَّن يُقال له: هذا الإمام المُطْلَق إن كنتَ إمامَ الحرمين.
ولقد أجاد ابن عُنَيْن، حيث يقول فيه:
ماتتْ به بِدَعٌ تمَادَى عمرُها ... دهرًا وكاد ظلامُها لا ينْجَلِي
وعَلا به الإسلامُ أرْفعَ هَضْبةٍ ... ورَسَا سِواه في الحَضِيضِ الأسْفَلِ
غَلِطَ امْرُؤٌ بأبي عليٍّ قاسَهُ ... هيهات قصَّر عن هُناه أبو علِي
لو أن رَسْطاليِسَ يسمَعُ لفظةً ... من لَفْظِه لَعَرَتْه هِزَّةُ أفْكَلِ
ولَحار بَطْليموسُ لو لاقَاه من ... بُرْهانِه في كل شَكْلٍ مُشْكلِ
ولَو أنَّهم جُمِعُوا لَدَيهِ تيقَّنُوا ... أن الفضيلةَ لم تكنُ للأوَّلِ
وقال الإمام الذهبي في سيره:
"العَلامة الكبير ذُو الفُنون فخرُ الدِّين محمد بن عُمر بن الحُسين القُرَشِيُّ، البَكْرِيُّ، الطَّبَرَستانيُّ، الأصُوليُّ، المُفَسِّر، كبيرُ الأَذكياء والحُكماء والمُصَنِّفين".
وقال العلامة ابن قاضي شهبة:
"العلامة سلطان المتكلمين في زمانه، فخر الدين أبو عبد الله، القرشي، البكري،
1 / 117
التيمي، الطبرستاني الأصل، ثم الرازي ابن خطيبها، المفسر، المتكلم، إمام وقته في العلوم العقلية، وأحد الأئمة في علوم الشريعة. صاحب المصنفات المشهورة، والفضائل الغزيرة المذكورة.
وقال العلامة ابن الأثير:
الفقيه الشافعي، صاحب التصانيف المشهورة في الفقه والأصولَين وغيرهما، وكان إمام الدنيا في عصره.
وقال العلامة ابن خلكان:
"الفقيه الشافعي، فريد عصره ونسيج وحده، فاق أهل زمانه في علم الكلام والمعقولات وعلم الأوائل، له التصانيف المفيدة في فنون عديدة ... وكان له في الوعظ اليد البيضاء، ويعظ باللسانين العربي والعجمي. وكان يلحقه الوجد في حال الوعظ ويكثر البكاء، وكان يحضر مجلسه بمدينة "هراة" أرباب المذاهب والمقالات، ويسألونه وهو يجيب كل سائل بأحسن إجابة، ورجع بسببه خلق كثير من الطائفة الكرامية وغيرهم إلى مذهب أهل السنة، وكان يلقب بـ"هراة": شيخ الإسلام.
وقال الصلاح الصفدي:
"الإمام، العلامة، فريد دهره، ونسيج وحده".
علامة العلماء والبحرُ الذي ... لا ينتهي ولكلّ بحرٍ ساحِلُ
ما دار في الحنك اللسان وقلّبتْ ... قلمًا بأحسن من ثناه أنامِلُ
وكان إذا ركب يمشي حوله نحو ثلاثمائة تلميذ فقهاء وغيرهم، وكان خوارزم شاه يأتي إليه. وكان شديد الحرص جدًّا في العلوم الشرعية والحكمة اجتمع له خمسة أشياء ما جمعها الله لغيره فيما علمته من أمثاله وهي سعة العبارة في القدرة على الكلام وصحّة الذهن والاطلاع الذي ما عليه مزيد والحافظة المستوعبة والذاكرة التي تعينه على ما يريده في تقرير الأدلّة والبراهين، وكان فيه قوة جدلية ونظره دقيق، وكان عارفًا بالأدب له شعر بالعربي ليس في الطبقة العليا ولا السفلى وشعر بالفارسي لعلّه يكون فيه مجيدًا. وكان عبل البدن، رَبع القامة، كبير اللحية، في صورته فخامة، كانوا يقصدونه من أطراف البلاد على اختلاف مقاصدهم في العلوم وتفنُّنهم، فكان كل منهم يجد عنده النهاية فيما يرومه منه.
1 / 118
رقته وتواضعه:
تقدم أن الإمام الرازي كان حسن الوعظ، مليح العبارة، وقد روى أهل الأخبار أن الإمام الرازي وعظ أبا المظفر الغزنوي صاحب "غزنة" وكان أحد المشكورين من الملوك الموصوفين بمحبة العلماء، فقال له: "يا سلطان العالم! ! لا سلطانك يبقى، ولا تلبيس الرازي يبقى ﴿وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ﴾ [غافر: ٤٣].
وأما رقته فهي رقة الصالحين من العلماء العاملين، السائرين على هدى نبينا محمد ﷺ.
قال الصلاح الصفدي:
ذكر ابن مَسدي في معجمه عن ابن عُنين ﵀ يقول: سمعت أبا المحاسن محمد بن نصر الله ابن عُنين ﵀ يقول: كنت بخراسان في مجلس الفخر الرازي إذ أقبلت حمامةٌ يتبعها جارحٌ فسقطت في حجر الرازي وعاذت به وهو على منبره، فقمت وأنشدت بديهًا:
يا ابن الكرام المُطعِمين إذا شَتَوا ... في كلّ مَسغبةٍ وثلجٍ خاشفِ
والعاصمين إذا النفوس تطايرتْ ... بين الصوارم والوشيج الراعفِ
من نبأ الورقاءَ أنّ محلّكم ... حرمٌ وأنك ملجأ للخائفِ
وَفدتْ إليك وقد تدانى حَتْفُها ... فحبَوْتَها ببقائها المستأنَفِ
ولو أنها تُحبَى بمالٍ لانثنتْ ... من راحتَيك بنائلٍ متضاعفِ
جاءت سليمان الزمانِ حمامةٌ ... والموت يلمَعُ من جناحَي خاطفِ
فخلع عليه جبّةً كانت عليه، قال: فكان هذا سببًا لإقبال السعود عليّ وتسنَّي الآمال لدي.
1 / 119