Sharh Kitab Al-Jami' li Ahkam Al-Siyam wa A'mal Ramadan - Hutaybah
شرح كتاب الجامع لأحكام الصيام وأعمال رمضان - حطيبة
Türler
مراحل وأحوال تشريع الصيام
الصيام أول ما فرض على النبي ﷺ كان على هيئة معينة، ولذلك نقول: إن للصيام أحوالًا ومراحل تم فيها تشريع الصيام، فقد كان الإسلام يحرم على الصائم الطعام والشراب والجماع منذ أن ينام أو يصلي العشاء الآخرة، فأيهما وجد أولًا حصل به التحريم، فلو أن شخصًا نام في وقت غروب الشمس، فلم يجز له أن يأكل، أو أنه كان مستيقظًا فأكل إلى أن أذن العشاء فلا يجوز له أن يأكل إلى فجر اليوم الثاني، وكان وقت الطعام والشراب والجماع ما بين المغرب والعشاء، بقيد آخر وهو ألا يكون نائمًا في هذا الوقت.
فنسخ هذا الحكم الصعب بحكم آخر أسهل منه وهو الصيام من طلوع الفجر إلى غروب الشمس كما سبق في التعريف، وهذه أحوال الصيام.
وجاء في حديث البراء بن عازب ﵁ في صحيح البخاري قال: كان أصحاب محمد ﷺ إذا كان الرجل منهم صائمًا فحضر الإفطار فنام قبل أن يفطر، لم يأكل ليلته ولا يومه حتى يمسي، وهذا الأمر فيه صعوبة شديدة، والله ﷾ يقول لنا: ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ﴾ [البقرة:٢٢٠]، لشدد عليكم، ولألزمكم العنت والمشقة بالتكاليف الشرعية، ولكن رحمة الله ﷿ خففت على المؤمن من فضل الله ﷾، والحكمة من كونه يشرع لنا حكمًا ثم ينسخه؛ حتى نذوق صعوبة هذا الشيء الذي لو شاء الله لأدامه، فلما فرضه فترة ثم رفعه يعرف المسلم مدى رحمة الله ﷿ وسعة فضله وبيان رحمة رب العالمين ﷾.
ولذلك ربنا ﷾ في البداية أمرهم بصوم طويل صعب ثم خفف بعد ذلك رحمة بعباده.
يقول البراء: كان أصحاب محمد ﷺ إذا كان الرجل منهم صائمًا فحضر الإفطار فنام قبل أن يفطر لم يأكل ليلته ولا يومه حتى يمسي، وإن قيس بن صرمة الأنصاري كان صائمًا، فلما حضر الإفطار أتى إلى امرأته فقال لها: أعندك طعام؟ قالت: لا، ولكن أنطلق فأطلب لك.
جاء وقت غروب الشمس يسأل عن طعام في البيت فلم يجد، فذهبت المرأة تحضر له طعام وكأن الطعام الموجود في البيت هو التمر، ولذلك في بعض الروايات أنه قال: لقد أحرق التمر بطني، أي: من كثر أكل التمر لقد احترقت بطني، فكأنه يسأل عن طعام غير التمر، فذهبت تبحث عن طحين لكي تعجن له شيئًا يأكله، ثم رجعت فوجدته نائمًا ﵁، فقالت: خيبة لك! فنام ولم يأكل شيئًا حتى اليوم الثاني وهذا صيام طويل، قال: (فأصبح صائمًا، فرآه رسول الله ﷺ وقد جهد جهدًا شديدًا، قال: ما لي أراك قد جهدت جهدًا شديدًا؟ قال: يا رسول الله! إني عملت أمس فجئت حين جئت فألقيت نفسي فنمت وأصبح حين أصبحت صائمًا)، فكأن الرجل عند غروب الشمس صلى ثم نام، واستيقظ عند العشاء، وليس له أن يطعم، فصلى العشاء ونام وأصبح على هذه الحال.
وكان عمر قد أصاب من النساء من جارية له أو من حرة بعد أن نام وأتى النبي ﷺ فذكر ذلك له، وهذه من الأسباب التي نسخت الحكم فذكر الله ﷿: ﴿عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ﴾ [البقرة:١٨٧]، وتختانون من الخيانة، وما قال: تخونون، والفرق بينهما أن الإنسان الذي يخون يخون وهو يعلم أنه خائن، أما الذي يختان فيقع في الخيانة ولكن مع الشك هل الأمر الذي يعمله خطأ أم لا.
فـ عمر ﵁ ذهب إلى البيت عند غروب الشمس فاستلقى، والجارية أو المرأة رأته نائمًا، وهو كان يظن أنه ليس بنائم، فقد كانت الجارية تقول له: أنت نمت، وهو يقول: لم أنم، فأتى هذه الجارية ثم ذهب للنبي ﷺ وحكى له هذا الأمر، فأنزل الله ﷿ رحمة بعبادة قوله ﷾: ﴿أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ﴾ [البقرة:١٨٧] إلى قوله: ﴿ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ﴾ [البقرة:١٨٧]، هذه من رحمة رب العالمين سبحانه.
فمعنى ﴿أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ﴾ [البقرة:١٨٧] أي: أنكم تقعون في الخطأ ثم تتأولون لأنفسكم، قال تعالى: ﴿عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ﴾ [البقرة:١٨٧]، فما أعظم رحمة الله ﷾! وقال تعالى: ﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ﴾ [البقرة:١٨٧]، وما قال: حتى يطلع الفجر رحمة منه.
فنزلت هذه الآية الكريمة: ﴿أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ﴾ [البقرة:١٨٧]، ففرحوا بها فرحًا شديدًا، فهم نفذوا ما أمر الله ﷿ به، فلما نزل التخفيف من الله سبحانه فرحوا.
ونزل قوله تعالى: ﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ﴾ [البقرة:١٨٧]، ولكن رحمة الله سبحانه واضحة أنه لما فرض هذا الصوم الشاق جعله على التخيير، إما أن تصوم بهذه الصورة من العشاء إلى مغرب ثاني يوم، أو أن تطعم مكان كل يوم مسكينًا، فجعله مخيرًا رحمة الله ﷿ في كل شيء حتى في الحكم الصعب يجعل له تيسيرًا آخر.
فقوله تعالى: ﴿وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ﴾ [البقرة:١٨٤]، منسوخ بقوله ﷿: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ﴾ [البقرة:١٨٣ - ١٨٤]، ومعنى يطيقونه أي: يستطيع أن يصوم ولكنه يشعر بالمشقة في ذلك، فكانت رخصة للجميع، فكان الذي يشق عليه يطعم بكل يوم مسكينًا، وبعد أن نسخت هذه الآية بقيت الرخصة على الذين لا يستطيع الصوم، فبقيت للمرأة الحامل، وللمرأة المرضع، وللمرأة العجوز، وللشيخ الكبير الضعيف، فهؤلاء إذا صاموا ستكون عليهم مشقة شديدة جدًا وقد لا يطيقون ذلك، فجعل الرخصة لهؤلاء فقط، أما باقي الناس الذين يطيقون الصوم يلزمه الصيام لقول الله ﷿: ﴿فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾ [البقرة:١٨٥]، فصار الجميع يلزمهم الصوم، واستثنى المرضع والحامل والعجوز والشيخ.
2 / 4