Sharh Bulugh al-Maram
فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام ط المكتبة الإسلامية
Araştırmacı
صبحي بن محمد رمضان، أم إسراء بنت عرفة بيومي
Yayıncı
المكتبة الإسلامية للنشر والتوزيع
Baskı Numarası
الأولى
Yayın Yılı
١٤٢٧ هـ - ٢٠٠٦ م
Türler
بسم الله الرحمن الرحيم
شرح مقدمة ابن حجر ﵀
يقول ﵀: "الحمد لله على نعمه الظاهرة والباطنة قديما وحديثا".
ابتدأ الكتاب بـ "الحمد لله" اقتداء بكتاب الله ﷿، فإن القرآن الكريم جعل الصحابة ﵃ أوله فاتحة الكتاب وهي - كما تعلمون- مبدوءة بالحمد لله، وليست فاتحة الكتاب أول ما نزل كما هو معلوم، لكنها أول ما وقع في ترتيب المصحف باتفاق الصحابة، لذلك كان العلماء ﵏ من بعد ذلك يبدءون كتبهم بـ ﴿الحمد لله رب العالمين﴾ اقتداء بعمل الصحابة ﵃ في كتاب الله ﷿ هذا من وجه.
ومن وجه آخر: أن الرسول ﷺ كان يعلم أصحابه خطبة الحاجة التي يخطبونها في مقدمة كل حاجة وهي مبدوءة بماذا؟ بالحمد لله.
ثالثا: أن الرسول ﵊ كان يبدأ خطبته بالحمد والثناء، فلذلك ابتدأ العلماء- ﵏ كتبهم بذلك.
يقول ﵀: "الحمد لله على نعمه الظاهرة والباطنة".
أولا: نتكلم على "أل" في قوله: "الحمد لله" يقول العلماء: "إن "أل" هنا للاستغراق، و"أل" التي للاستغراق علامتها أن يحل محلها "كل" بتشديد اللام، وعليه يكون معنى: "الحمد لله": كل حمد لله، وما هو الحمد؟ الحمد: هو وصف المحمود بالكمال مع المحبة والتعظيم، فخرج بقولنا مع المحبة والتعظيم: المدح؛ لأن المدح وصف للممدود بالكمال لكن ليس مقرونا بالمحبة والتعظيم.
ثم الله تعالى يحمد على كمال صفاته، ويحمد على كمال إنعامه، قال الله ﷾: ﴿وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل﴾. وهذا حمد على ماذا؟ على صفات الله ﷿ الكاملة؛ وكذلك أيضا يحمد الله تعالى على إنعامه، ومن
1 / 43
ذلك قول النبي ﵊: "إن الله ليرضى عن العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها أو يشرب الشربة فيحمده عليها". هذا حمد على ماذا؟ على الإنعام.
المؤلف ﵀ هنا حمد الله على إنعامه وقوله: "لله" ماذا نقول في اللام؟ نقول في اللام أنها تحمل معنيين:
المعنى الأول: الاختصاص.
والمعنى الثاني: الاستحقاق.
أما المعنى الأول: فإن المختص بالحمد الكامل من جميع الوجوه هو الله ﷿، يحمد غير اله لكن حمدا مقيدا وليس على كل حال، أما الرب ﷿ فيحمد على كل حال، لأنه كامل الصفات والإنعام.
كذلك أيضا للاستحقاق يعني: أن تخصيصنا الرب ﷿ بكامل الحمد لأنه مستحق له وهو أهل له ﷾ أما "الله" فيقال: إن أصلها "إله"، ولكن لكثرة الاستعمال فحذفت الهمزة تخفيفا، وذكروا لذلك مثالا آخر وهو "الناس" وأصلها الأناس، وحذفت الهمزة تخفيفا لكثرة الاستعمال، وعلى هذا إذا كانت "الله" بمعنى الإله أصلا فإنها فعال بمعنى مفعول فإله بمعنى: مألوه، أي: معبود محبب محبوب معظم، وليست إله بمعنى: آله كما زعم ذلك المتكلمون؛ لأنهم يفسرون الإله بأنه القادر على الاختراع وهذا خطأ عظيم، ولكن معنى الإله: المعبود حقا.
وقوله: "على نعمه الظاهرة". "نعمه" هذه مفرد مضاف فيشمل جميع نعمه الدينية والدنيوية، الظاهرة والباطنة.
الظاهر: ما يظهر للناس.
والباطن: ما يخفى على الناس، ونعم الله ﷾ لا تعد هي كما قال المؤلف ظاهرة وباطنة كما قال ﷿: ﴿وأسبغ عليكم نعمه ظهرة وباطنة﴾ [لقمان: ٢٠]. فالظاهرة: ما يظهر للعيان ويشاهدها الناس. والباطنة: ما دون ذلك.
فمن الظاهرة: الأمن والرخاء والقوة، والأكل والشرب وما أشبه ذلك، ومن النعم الباطنة: نعم الدين تحقيقا لما في القلب من الإنابة إلى الله، والتوكل على الله والإخلاص وما أشبه ذلك، هذه نعم لا يعلمها الناس، لا يعلمها إلا الله ﷿، هذه هي النعم الباطنة.
وقوله: "قديما" أي: سابقا، "حديثا" أي: لاحقا، وفي قوله: "حديثا" براعة استهلال وهي
1 / 44
معروفة في علم البديع، وبراعة الاستهلال: أن يأتي المتكلم في أول كلامه بما يدل على موضزع كلامه فتسمى براعة استهلال، يعني: أنه استهل كلامه بما يدل على موضوع الكلام لكن بغير تصريح، وذلك يسمى براعة أي: فطنة وذكاء، فما هي براعة الاستهلال هنا؟ هو أن هذا الكتاب في الحديث قديما وحديثا.
"والصلاة والسلام على نبيه ورسوله محمد وآله وصحبه ... " إلخ.
"الصلاة والسلام على" هذه جملة خبرية لكن معناها الدعاء كأنك تقول: اللهم صل وسلم، فما هي الصلاة على الرسول؟ الصلاة على الرسول أحسن ما قيل فيها، ما قاله أبو العالية الرياحي: أنها ثناء الله على عبده في الملأ الأعلى عند الملائكة يعني: ذكر الله تعالى عبده بالذكر الحسن عند الملائكة. هذا ما اختاره كثير من العلماء، ولا سيما المتأخرون منهم، لكن في النفس من هذا شيء: وهو أن أبا العالية ﵀ من التابعين ومثل هذا لا يقال بالرأي، لأن من يقول: إن الله يثني عليه فيحتاج إلى دليل من السنة يتبين به الأمر ويتضح ولكن فسره بعضهم قال: إن الصلاة من الله تعني: الرحمة، وهذا ليس بصحيح أيضا؛ لأن الله تعالى قال في الكتاب العزيز: ﴿أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة﴾ [البقرة: ١٥٧]. والعطف يقتضي المغايرة، وأن الرحمة غير الصلوات وأيضا الرحمة يدعى بها لكل واحد، كل إنسان تقول: اللهم ارحمه، لكن الصلاة لا يدعى بها لكل واحد بل فيها خلاف وتفصيل عند العلماء
إذن فالصلاة لا نستطيع أن نجزم بأنها ثناء الله على عبده في الملأ الأعلى، ولا نقول: إنها الرحمة لفساد هذا المعنى، بل نقول: الصلاة فيها رحمة خاصة فوق الرحمة التي تكون لكل أحد ولا ندري معناها، وحينئذ نسلم من الشبهة، لكن القول بأنها ثناء الله على عبده في الملأ الأعلى فسره كثير من المحققين ﵏.
أما السلام فهو السلامة من كل آفة، والرسول ﵊ بعد موته سالم، أما في حياته فنعم معرض للأمراض، معرض للأذايا، معرض لكل ما يعرض للبشر، لكن بعد موته هو سالم من هذا، فما الفائدة بالدعاء له بالسلامة؟ نقول: وراء الموت أهوال ما هي؟ أهوال يوم القيامة؛ ولهذا كان دعاء الرسل يوم القيامة عند الصراط "اللهم سلم سلم". فهنالك أهوال، ثم إنه - صلوات الله سلامه عليه- سلام مما يحدث من الآفات الجسدية للأحياء، لكن ألا يمكن أن يسلط عليه من يأخذ جسمه مثلا؟ يمكن وقد وقع هذا لكن الله حماه؛ فإنه نزل المدينة غريبان أن يأخذا جسده الشريف ﵊، فنزلا في المسجد
1 / 45
وصارا يحفران خندقا من بعيد من أجل أن يصلا إلى الجسد الشريف، فقيد الله ﷿ السلطان أو أحد الولاة في ذلك الوقت فرأى رؤيا أن الرسول ﵊ قال: "أنقذني من الأزغرين"، والظاهر - والله أعلم- أن صورتهما كشفت لهذا الرائي عنهما، فقدم المدينة فزعا وأقام مأدبة عظيمة، ودعا كل أهل المدينة مرتين أو ثلاثة ولم ير الرجلين اللذين وصفا له فسأل، قال: أين أهل المدينة؟ قالوا: كلهم جاءوا إلا رجلان اثنان في المسجد جاءا من حين مجيئهما وهما معتكفان في المسجد فدعا بهما، فإذا هما الرجلان اللذان نبه عليهما في الرؤيا، سبحان الله! حماية الجسد الشريف من العبث، واطلع على ما صنعا، ثم أمر بهما فقتلا، ثم أمر أن يحفر إلى الجبل من حول القبر الشريف حفرة وصبها بالرصاص والنحاس حتى لا يستطيع أحد أن يصل إلى جسد النبي صثلى الله عليه وسلم وهذا من حماية الله وإذا كان الله حمى أجساد الأنبياء أن تأكلها الأرض المسلطة على كل الجسد، فهو سبحانه يحمي الجسد الشريف من شياطين الإنس.
المهم أن السلام على الرسول ﵊ وارد أو غير وارد؟ وارد في الدنيا والآخرة، أما في حياته فوروده واضح، وأما بعد موته فبأي شيء تكون السلامة؟ سلامة جسده من أن يعبث به.
وقوله: "على نبيه ورسوله" هذا من باب عطف الصفات المترادفة أو المتغايرة، وبدأ بوصف النبوة؛ نبئ بأول سورة "اقرأ" وأرسل بأول سورة "المدثر"؛ فلهذا عطف المؤلف ﵀ الرسالة على وصف النبوة.
فمن هو النبي؟ النبي يقال النبيء، ويقال: النبي؛ فالنبيء بالهمز من النبأ أي: الخبر، وهل هو فعيل بمعنى فاعل أو فعيل بمعنى مفعول؟ كلاهما فهو فعيل بمعنى فاعل لأنه منبئ عن الله ﷿ وبمعنى مفعول؛ لأنه منبأ، أما على قراءة التسهيل - النبي بالياء- فهو إما مشتق من النبأ لكن حذفت الهمزة تخفيفا يعني: سهلت الهمزة تخفيفا، وإما من النبوة وهي الشيء المرتفع لرفعه مقام النبي ﷺ بما أحظاه الله به من الوحي.
فإذا قال قائل: ألا يمكن أن يكون من هذا وهذا؟ بلى؛ لأن لدينا قاعدة ينبغي لطالب العلم أن يعلمها: "كل لفظ يحتمل معنيين على السواء - يعني في الدلالة عليه ولا منافاة بينهما- فإنه يحمل عليهما جميعا؛ لأن تعدد المعاني واتحاد اللفظ كثير في اللغة العربية".
وقوله: "ورسوله"؛ أي: مرسله إلى من؟ إلى الثقلين الإنس والجن، فالنبي - عليه الصلاة
1 / 46
والسلام - مرسل إلى الإنس والجن، أرسله الله تعالى إلى الإنس والجن منذ بعث إلى يوم القيامة، ولا يخفى علينا ما في الإضافة إلى ضمير الله ﷿ قال: "نبيه ورسوله" من الشريف والتكريم.
وقوله: "محمد"، كيف نعربه؟ عطف بيان؛ لأن البدل غالبا يساوي المبدل منه في الدلالة، وعطف البيان يزيد بيان معنى، وهنا زاد بيان معنى وهو أنه دل على الاسم العلم لرسول الله ﷺ محمد وهو اسم المفعول؛ لأنه ﷺ قد حمده ربه ﷾ وحمده الأولون والآخرون، وسيظهر الحمد الكامل يوم القيامة كما قال ﷿: ﴿عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا﴾.
قال حسان بن ثابت صلى ﵁: [الطويل]
وشق له من اسمه ليجله ... فذو العرش محمود وهذا محمد
اسم محمد ورد في القرآن كم مرة؟ أربع مرات، وورد ذكر أحمد مرة واحدة، فما هي الحكمة أن الله ألهم عيسى أن يقول أحمد دون أن يقول محمدا؟
الحكمة: أن أجمد اسم تفضيل، وهو اسم تفضيل مطلق يعني: لم يذكر فيه اسم المفضل عليه فيكون أحمد الخلق على الإطلاق، وهل هو من باب اسم الفاعل أو اسم المفعول؟ أو هما؟ هل المعنى: أحمد يعني: أنه أحمد الناس لله، أو المعنى أحمد أي: أنه أحمد من يحمده الناس؟ كلاهما لا شك، وإنما جاء بصيغة أحمد إقامة للحجة على بني إسرائيل؛ حيث إن عيسى أقر بهذا الاسم أم محمدا أفضل الخلق لأنه سماه أحمد.
يقول: "وآله وصحبه ... " إلخ.
آله وصحبه هل هو من عطف الخاص على العام أو العام على الخاص أم ماذا؟ هو من باب عطف العام على الخاص؛ لأنه جاء بعده وعلى أتباعه، فهو من باب عطف العام على الخاص. فمن هم آله؟ من المعلوم أنه لا يصلح أن نقول: إن آله قرابته؛ لأننا لو قلنا إن آله قرابته شمل ذلك أبا لهب وغيره من كفار قرابة الرسول ﵊ وهذا غير مراد، ونحن لا نصلي على آل الرسول الذين ليسو بمؤمنين إذن ماذا نقول؟ نقول: آله هم المؤمنون من قرابته، وبهذا يندفع اعتراض الشاعر في قوله: [البسيط]
آل النبي هم أتباع ملته ... من الأعاجم والسودان والعرب
لو لم يكن آله إلا قرابته ... صل المصل على الطاغي أبي لهب
1 / 47
ندفع هذا الإيراد بماذا؟ بأن نقول: "آله" هم المؤمنون من قرابته، "وصحبه" أحسن ما نقول فيهم ما قاله أهل المصطلح: أنهم كل من اجتمع بالنبي ﷺ مؤمنا به ومات على ذلك وهذا من خصائص الرسول ﵊ غير الرسول لابد للصحبة من طول زمان يعني لو اجتمعت بواحد في مجلس من المجالس وتفرقتما هل يقال أنه صاحب لك؟ لا، لكن من خصائص الرسول ﵊: أن الإنسان إاذ اجتمع به لحظة واحدة مؤمنا به فهو من أصحابه، لكن لا شك أن الصحابة يختلفون اختلافا كبيرا في الصحبة والإيمان والتقوى والعمل وغير ذلك. هل آله من صحبه؟ الذين اجتمعوا به يعني: آل الرسول الذين جاءوا من بعده هم آله وليسوا من صحبه، لكن آله الذين كانوا في حياته من صحبه، وبهذا قلنا صحبه من باب عطف العام على الخاص، هذا إذا لم ترد "آل" وحدها فإن وردت "آل" وحدها، فهي قطعا أتباعه على دينه، مثل قوله ﷺ حين علمهم الصلاة عليه: "قولوا: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد". هذا المراد به: جميع الأتباع.
"وعلى آله وصحبه الذين ساروا في نصرة دينه سيرا حثيثا" أصحاب الرسول يجب على الأمة من بعدهم أن يشكروهم؛ لأنهم ساروا في نصرة دينه سيرا حثيثا، لم يكن أحد مثلهم أبدا في سير النصرة؛ وذلك لأنهم جاهدوا في الله وهاجروا في سبيل الله وقاتلوا وقتلوا وأخرجوا من ديارهم وأموالهم وكان شأنهم ذلك ولم يوجد أحد مثلهم من بعدهم أبدا؛ ولهذا قال: ساروا في نصرة دينه سيرا حثيثا.
قال: "وعلى أتباعه"، أتباع من؟ أتباع كل من سبق، فيدخل في هذا: أتباع الرسول ﷺ وأتباع الآل، وأتباع الصحب.
"وعلى أتباعهم الذين ورثوا علمهم" نعم من بعدهم ورث عليهم فلمن الفضل؟ للأول الفضل، الأول هو الذي أعطى من بعده العلم تاما ناضجا، فالأول مورود والثاني وارد.
قال: "والعلماء ورثة الأنبياء" كأنه ﵀ خاف أن يظن ظان أن قوله: "أتباعهم" أتباع الصحب فقال: "الذين ورثوا علمهم" يدخل في ذلك: علم النبي ﵊ ولهذا قال: "العلماء ورثة الأنبياء". جعلنا الله وإياكم منهم، لكن من العلماء الذين هم ورثة؟ العلماء الموصوفون بالعلم الصحيح النقي، العلماء العاملون بعلمهم، العلماء الناشرون لشريعة الله، العلماء الداعون لدين الله، العلماء المجاهدون في سبيل الله لأنه لابد أن يكون الوارد مماثلا
1 / 48
للمورود وإلا لنقص علمه، فليس كل عالم وارثا للنبي لكنه له من إرث النبي نصيب، إذا كان عنده علم وعنده تقصير في العبادة، أو عنده علم وعنده تقصير في نشر العلم، أو عنده علم ونده تقصير في الدعوة إلى الله، أو عنده علم وعنده تقصير في الجهاد ونقول: له من إرثهم نصيب، والوراثة لا تتحقق إلا بإرث جميع الموروث، ابن وأم كم للأم؟ السدس، هل هي ورثت من ابتنها أو في بعض ماله؟ في بعض ماله، كذلك إرث الأنبياء إذا لم يكن على شكل ما جاءت به الأنبياء فإن الإرث يكون ناقصا بحسب ما نقص من العلم.
ثم قال: "أكرم بهم وارثا وموروثا" هذه صيغة تعجب؛ لأن "أكرم بهم" بمعنى: ما أكرمهم وارثا وموروثا، لكن التعجب يكون ب "ما أفعل" ويكون ب "أفعل به". أكرم بهم وارثا وموروثا يقولون: إن "أكرم" تخالف الصيغ العادية لكونها على صيغة أفعل، وكون فاعلها ظاهرا؛ لأن "بهم" الهاء في الحقيقة هل الفاعل وإن كانت جارا ومجرورا.
وقوله: "وارثا" إما أن تكون حالا من الضمير في "بهم"؛ لأنها اسم مشتق، ويمكن أن تكون تمييزا على حد قولهم: لله دره فارسا، بحيث قال: إنه تمييز مع أنه مشتق، على كل حال مسألة الإعراب أمرها هين. "وموروثا" من الموروث؟ الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام- مورثون؛ والوارث من بعدهم من ورث العلم.
قال: "أما بعد"، أما بعد قال بعض المصنفين إنها كلمة يؤتى بها للانتقال من أسلوب إلى آخر لكن هذا فيه نظر ولكنها كلمة يؤتى بها للانتقال من المقدمة إلى الموضوع، ما هو من أسلوب إلى آخر لو تغير الأسلوب ما نجيء ب "أما بعد" لكن نأتي بها للانتقال من المقدمة إلى الموضوع.
سبق لنا أن أصل أدلة الأحكام هو القرآن وأن السنة متممة له، وسبق لنا أن الناظر في أدلة القرآن لا يحتاج إلى البحث عن سنده، لأنه متواتر معلوم علما يقينيا، وأما الناظر في السنة فيحتاج إلى أمرين:
الأمر الأول: ثبوت ذلك عن النبي ﷺ.
والثاني: الدلالة، دلالة النص على الحكم، وعلى هذا فإذا استدل عليك مستدل بآية من القرآن فماذا تطالبه؟ أقول: ما وجه الدلالة، وإذا استدل عليك مستدل بالسنة أطالبه أولا بصحة النقل؛ فإذا صح النقل حينئذ أناقشه في صحة الدلالة، ومن ثم احتاج العلماء ﵏ إلى أن ينظروا في الرواية من وجهين:
الوجه الأول: من حيث الثقة، وذلك يعود إلى الحفظ والأمانة.
الوجه الثاني: ومن حيث الاتصال؛ وذلك يعود إلى العلم بتواريخ حياتهم ولادة ووفاة لئلا
1 / 49
يكون منقطعا؛ فصار النظر في أحوال الرواة من وجهين: من جهة الثقة وهو يعود إلى شيئين العدالة والحفظ ويدخل فيهما أشياء كثيرة مما يخالف ذلك من أسباب الطعن في الحديث، والثاني من حيث اتصال السند، وعلى هذا فلابد من العلم بمواليدهم ووفياتهم حتى نعرف المتصل من غير المتصل.
قول المؤلف رحم الله: "أما بعد، فهذا مختصر" المختصر قال العلماء: هو الذي قل لفظه وكثر معناه، هذا المختصر "يشتمل على أصول الأدلة الحديثية للأحكام الشرعية" أصول الأدلة، أفادنا المؤلف ﵀ أنه لم يستوعب جميع الأدلة الحديثية، وإنما انتخب الأصول فقط يعني التي تدل على ما يكثر من الناس وقوعه في عباداتهم.
وقوله: "الحديثية" نسبة للحديث احترازا من الأدلة القرآنية؛ لأن هذا الكتاب لم يذكر المؤلف فيه شيئا من الأدلة القرآنية، فمثلا "صحيح البخاري" يذكر البخاري ﵀ شيئا من الأدلة القرآنية وكذلك الأدلة الحديثية؛ أما مسلم مثلا فلا يذكر شيئا من الأدلة القرآنية. المؤلف لم يذكر شيئا من الأدلة القرآنية وإنما اقتصر على الأدلة الحديثية.
وقوله: "للأحكام الشرعية" الأحكام: جمع حكم، وهو - أي: الحكم- إثبات شيء لشيء نفيا أو إيجابا، فإذا قلنا مثلا: لا يحل أكل الميتة فهذا إثبات حكم نفي أو إيجاب؟ نفي. وإذا قال: أحل الله البيع، فهذا حكم إيجابي، فالحكم إذن إثبات شيء لشيء نفيا أو إيجابا.
وقوله: "الشرعية" خرج به ثلاثة أحكام: العادية، والعقلية، وبقيت الشرعية، الأحكام الشرعية هي المتلقاة من الشرع: الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس، الأحكام العقلية: هي المتلقاة من العقل، والأحكام العادية: هي المتلقاة من التجارب.
فالأحكام الشرعية مثل: الحلال، والحرام، والوجوب، والاستحباب، والكراهة هذه مأخوذة من الشرع، كون الجزء أقل من الكل والكل أكبر، هذه أحكام عقلية، والأحكام العادية هي ما وصف من العادة مثل أن يكون " السكنجبين" مسهل للبطن مثلا أو ما أشبهه هذا من العادة يعني: اعتاد الناس أنهم إذا تناولوا هذا الشيء سهلت بطونهم أو تسهلت فالأحكام إذن ثلاثة أقسام: شرعية، وعقلية، وعادية؛ ثم الشرعية: إما عملية، أو علمية؛ فما كان أساسه الاعتقاد فهو علمي، وما كان أساسه العمل قولا أو فعلا فهو عملي.
يقول: "حررته تحريرا بالغا". حررته يعني: نفيت عنه كل تعقيد؛ لأنه من تحرير الشيء أي: تخليصه، "تحريرا بالغا" حسب قدرته ﵀.
"ليصير من يحفظه من بين أقرانه نابغا". أشار المؤلف بهذه الكلمة إلى أنه ينبغي لنا أن نحفظ هذا المؤلف؛ لأنه مختصر على أصول الأدلة الحديثية مبينا فيه أحكام ودرجات الأحاديث.
1 / 50
وقوله: "من بين أقرانه" جمع قرن وهو الزميل، و"نابغا" أي: ذا نبوغ وعلوم وكفاء على غيره، وهذا لا شك أن الإنسان إذا حفظ هذا المتن أنه سوف يستغني عن كثير من الأدلة؛ لأنه مستوعب لغالب الأدلة التي يحتاج الناس إليها لكنه يحتاج إلى تعاهد؛ لأنه ﵀ يذكر التخريج أحيانا بكلمات مطولة يحتاج الإنسان إلى أن يتعاهدها وإلا نسيها.
"ويستعين به الطالب المبتدي" "ويستعين بها" أي: يجعلها عونا له، أي: الطالب للعلم المبتدئ.
"ولا يستغني عنه الراغب المنتهي". إذن يحتاج الناس إليه سواء كانوا مبتدئين أو منتهين، أما الطالب المبتدئ فإنه يستعين به، وأما المنتهي فإنه يرجع إليه.
"وقد بينت عقب كل حديث من أخرجه من الأئمة؛ لإرادة نصح الأمة". كلما ذكر حديثا ذكر من أخرجه من الأئمة أي: أئمة الحديث كالإمام أحمد، والبخاري، ومسلم، ومن أشبههم.
"لإرادة نصح الأمة" يعني: قاصدا بذلك النصيحة؛ وذلك أن الإنسان إذا ذكر الحديث ولم يذكر من رواه فقد يظن السامع أنه حديث صحيح لاسيما إذا قاله على وجه الاستدلال، لكن إذا ذكر من خرجه فهذا تمام النصح، إلا أنه أيضا يحتاج إلى شيء آخر والمؤلف سيذكره ﵀، وهو أن يصحح الحديث حتى لو ذكر من خرجه إذا كان من خرجه لا يستلزم إخراج الصحيح ولهذا كان النص الذي في تفسير ابن جرير ﵀ على أنه مستوعب جميع الأقاويل والآثار في التفسير الخلل في هذا النص واضح؛ لأنه لا يتكلم على الأثر ولا على درجته، ولذلك كان يحتاج إلى تخريج حتى يعرف الإنسان درجة هذا الأثر في تفسير الآية، إذن لا يكفي أن نقول: رواه فلان إذا كان فلان ممن لم يلتزم بإخراج الصحيح، لكن المؤلف ﵀ أحيانا - يذكر- يتكلم على أنه سند صحيح أو قوي أو ضعيف.
قال: "فالمراد بالسبعة" يعني: إذا قلت أخرجه السبعة: أحمد، والبخاري، ومسلم، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجة، إذا قال السبعة ولا يذكر غيرهم، فإذا قال: أخرجه السبعة فإنه يراد بذلك هؤلاء، واعلم أن من عيب التخريج، أن يذكر الإنسان الأدنى مرتبة مع أنه رواه من هو أعلى منه مرتبة، يعني مثلا يقول: رواه أبو داود والحديث رواه البخاري مع أبي داود، هذا من العيب عند المحدثين؛ لأنك إذا أهملت الأقوى أوهنت الحديث وصار ضعيفا في نظر القارئ أو في نظر السامع، فإذا كان حديث مثلا رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه إما أن يقول: أخرجه السبعة، وإما أن يقول: أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما من أئمة الحديث، أما أن تقول: أخرجه أبو داود وتقتصر؛ فهذا عيب عند المحدثين وهو ظاهر لأنه يوهن درجة الحديث.
1 / 51
يقول: "وبالستة: من عدا أحمد" فيكون خ، م، د، ت، ن، ق.
"وبالخمسة: من عدا البخاري ومسلما" يكون: حم، د، ت، ن، ق.
"وقد أقول: الأربعة وأحمد" ولم يبين المؤلف لماذا كان يقول هذا والظاهر أنه يقول ذلك تفننا في العبارة، وقد يكون اطلع على أنه رواه الأربعة ثم بعد ذلك اطلع على أن الإمام أحمد رواه أيضا فأضافه.
"وبالأربعة: من عدا الثلاثة الأول" وهم: حم، خ، م، فيكون هؤلاء: د، ت، ن، ق.
"وبالثلاثة: من عداهم وعدا الأخير" من الأخير؟ ابن ماجه، فيكون إذا قال: أخرجه الثلاثة: د، ت، ن.
"وبالمتفق عليه: البخاري ومسلم". وهذا الذي اصطلح عليه في المتفق عليه هو الذي عليه عامة الناس الآن يعني: عامة الكتب المؤلفة إذا قال: "متفق عليه" فالمراد: أخرجه البخاري ومسلم، لكن المجد - مجد الدين عبد السلام ابن تيمية ﵀ جد شيخ الإسلام- في "المنتقى" إذا قال: متفق عليه؛ فالمراد: أحمد والبخاري ومسلم، لكن هذا اصطلاح خاص.
"وقد لا أذكر معهما غيرهما" مع من؟ البخاري ومسلم وغيرهما؛ وذلك لأن العلماء تلقوا ما روياه بالقبول، وإذا كان العلماء تلقوا ذلك بالقبول فإضافة شيء آخر من باب النشر فقط.
"وما عدا ذلك" يعني: ما عدا هؤلاء السبعة "فهو مبين" وسيتبين لك إن شاء الله تعالى مما يأتي.
"وسميته: بلوغ المرام من أدلة الأحكام"، نقول: بلوغ، أو بلوغ؟ إن قلنا: "بلوغ المرام من أدلة الأحكام" فإن بلوغ خبر لمبتدأ محذوف، والتقدير: هذا بلوغ المرام، وعليه فتكون الجملة هي المفعول الثاني ل "سميته" على سبيل الحكاية، وإن قلنا: "سميته بلوغ المرام" كما تقول: سميت ابني عبد الله، فإن "بلوغ" تكون هي المفعول الثاني ولا حاجة إلى التقدير.
وقوله: "المرام" يعني: المطلب، أي: أن الإنسان يبلغ مطلبه من أدلة الأحكام بهذا الكتاب.
"والله أسأله ألا يجعل ما علمنا علينا وبالا". "الله" بالنصب على أنه معمول لأسأل مقدم، وتقديم المعمول يفيد الحصر أي: "لا أسأل إلا الله ألا يجعل ما علمنا علينا وبالا" وذلك بأن نعمل به؛ لأن ما علمنا إما أن يكون حجة لنا أو يكون حجة علينا لقول الرسول ﷺ: "والقرآن حجة لك أو عليك". فإن علمت به فهو لك، وإن لم تعمل به فهو عليك "وبال" أي: إثم وعقوبة.
"وأن يرزقنا العمل بما يرضيه ﷾". يرزقنا الرزق والعطاء، "والعمل بما يرضيه" أي: من قول، وعمل، وعقيدة ﷾.
1 / 52
هذه هي خطبة الكتاب ومقدمته، واعلم أن المؤلف قال في الأول: "أما بعد فهذا مختصر" فالمشار إليه هل هو ما قام في ذهنه أو ما حضر بين يديه؟
الجواب: هذا يوجد كثيرا في المؤلفات أما بعد، فهذا وتخريجه كما يأتي إن كان الكتاب قد ألف قبل هذه الإشارة فهو إشارة إلى ما حضر بين يديه وإن كان لم يؤلف وهو الغالب فهو إشارة إلى ما قام في ذهن المؤلف، فهذا يعني ما تصوره في ذهنه ... إلخ ما سيأتي.
1 / 53
كتاب الطهارة
ويشتمل على:
١ - باب المياه
٢ - باب الآنية
٣ - باب إزالة النجاسة وبيانها
٤ - باب الوضوء
٥ - باب المسح على الخفين
٦ - باب نواقض الوضوء
٧ - باب آداب قضاء الحاجة
٨ - باب الغسل وحكم الجنب
٩ - باب التيمم
١٠ - باب الحيض
1 / 55
كتاب الطهارة
ثم قال المؤلف: "كتاب الطهارة": بدأ المؤلفون ﵏ الفقهاء والمحدثون الذين يرتبون كتبهم على أبواب الفقه بدءوا بالطهارة لوجهين:
الوجه الأول: أن الطهارة من آكد شروط الصلاة لقوله تعالى: ﴿يا أيها الذين ءامنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق﴾ [المائدة: ٦].
ولقول النبي ﷺ: "لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ".
والأمر الثاني: أن الطهارة تخلية لأنها تنظيف للمكان فهي تخلية، والتخلية - كما يقال- قبل التحلية، مثلا: اكنس البيت أولا ثم افرشه ثانيا، نظف الأواني عن الأذى أولا ثم اغسلها ثانيا؛ فلذلك بدءوا بكتاب الطهارة.
ثم اعلم أن الطهارة نوعان: طهارة معنوية، وطهارة حسية، وكلام الفقهاء ﵏ على الطهارة الحسية، أما كلام الذين يتكلمون في التوحيد والعقائد فالطهارة عندهم من الطهارة المعنوية وهي الأصل، وهي طهارة القلب من الشرك، والنفاق، والغل، والحقد، والحسد ... وغير ذلك من الصفات الذميمة، وهذه أهم من الطهارة الحسية، لكن مع ذلك الإنسان محتاج إلى الطهارتين جميعا ونقف على هذا.
سؤال: هل أحد من العلماء الذين ألفوا في الحديث على كتب الفقه خالف ابن حجر اصطلاحا في المتفق عليه؟ المجد ابن تيمية في كتاب "المنتقى".
الطهارة بدأنا فيها وقلنا: إن الطهارة تنقسم إلى قسمين: طهارة باطن، وطهارة ظاهر.
طهارة الباطن: تعني طهارة القلب من الشرك، والشك، والنفاق، والحقد، والغل ... وغير ذلك من مساوئ الأخلاق.
وطهارة الظاهر: تشمل الطهارة من الحدث والطهارة من النجاسة، وذكرنا أيضا فيما سبق: أن العلماء بدءوا بالطهارة لأنها مفتاح الصلاة، والصلاة آكد أركان الإسلام بعد الشهادتين،
1 / 57
ولهذا ذكروا الطهارة، ثم الصلاة، ثم الزكاة، ثم الصيام، ثم الحج على الترتيب الذي جاء في حديث عمر بن الخطاب ﵁ حين سأل جبريل النبي ﷺ عن الإسلام.
١ - باب المياه
ثم قال المؤلف: "باب المياه" جمعها باعتبار مصادرها؛ لأن المياه إما مياه بحار، أو غمام، أو آبار، فلهذا جمع، فمياه الأمطار التي تأتي من المطر كالأودية والغدران وما أشبه ذلك، مياه البحار معروفة وكذلك مياه الآبار، وربما نضيف أيضا مياه الأنهار فجمعها المؤلف وإلا فالأصل أن الماء جنس واحد لا يجمع لكن باعتبار مصادره وأنواعه ذكرها بالجمع، (والمياه)؛ هي ذلك الجوهر الساكن، وهو من أسهل الأمور تناولا، وهي أغلاها عند الحاجة إليه، ربما يكون الفنجان الواحد عند الحاجة إليه يساوي مئات الدراهم؟ إذن هو غال رخيص؛ ولهذا قال العلماء: لو أن إنسانا أتلف قربة من الماء في مفازة قيمتها هناك خمسمائة درهم وقيمتها في البلد درهمان فهل يضمن خمسمائة درهم أو درهمين؟ يضمن بالأول؛ لأنها غالية في مكانها.
طهارة مياه البحر:
١ - عن أبي هريرة ﵁ قال: قال رسول الله ﷺ في البحر:
أبو هريرة هو أكثر الصحابة رواية عن النبي ﷺ لأنه اعتنى بالحديث وحفظه وصار متفرغا وإلا فإننا نعلم أن أبا بكر ﵁ أكثر تلقيا من أبي هريرة بالنسبة لحديث رسول الله ﷺ: لأنه أكثر ملازمة منه، لكن أبا بكر ﵁ في حياة النبي ﷺ التحديث عنه قليل؛ لأن الناس يأخذون عن النبي ﷺ مباشرة بدون واسطة، وبعد موته تعلمون أن أبا بكر ﵁ اشتغل بأعباء الخلافة وتدبير الدولة، والناس أيضا يهابون أن يشغلوه بالتلقي عنه وهو لا يتفرغ لهم؛ فلهذا كان أقل بكثير مما نقل عن أبي هريرة؛ ولهذا لو سئلنا أيهما أكثر حديثا أب هريرة أو أبو بكر؟ نقول: أما بالنسبة للتلقي عن الرسول ﷺ فهو أبو بكر لا شك عندنا في هذا، أما بالنسبة لنقل الحديث عن الرسول ﷺ فهو أبو هريرة ﵁.
"قال: قال رسول الله ﷺ في البحر": "في البحر" هذا من كلام ابن حجر ﵀ ليس من كلام أبي هريرة، ولا من كلام النبي ﷺ، لكن المؤلف - كما تعلمون- جعل هذا كتابا مختصرا
1 / 58
فقال في البحر، قال: "هو الطهور ماؤه الحل ميتته". وللحديث سبب، سببه: أن قوما أتوا إلى النبي ﷺ وقالوا: إننا يا رسول الله نركب البحر وليس معنا ماء - يعني: يتوضئون به-، أفنتوضأ بماء البحر؟ فقال النبي ﷺ فيه: "هو الطهور ماؤه الحل ميتته". لم يقل: نعم، بل قال: "هو الطهور ماؤه الحل ميتته"، مع أن الرسول ﵊ إذا سئل عن مثل هذا السؤال يقول: نعم، سأله رجل أنتوضأ مع لحوم الإبل، قال: "نعم"، لكن هنا عدل عن كلمة "نعم" إلى قوله: "الطهور ماؤه"؛ ليكون ذلك أشمل وأعم فيتطهر به ولا يتطهر منه؛ بمعنى: أنه لو أصاب الثوب والبدن فإنه لا يجب أن يتطهر منه؛ لأنه طهور، وأيضا يتطهر به من الحدث الأصغر والأكبر والنجاسة، وهذا من حسن جواب الرسول ﵊.
فكلمة "الطهور ماؤه" أعم من كلمة "نعم"؛ لأنه لو قال: نعم؛ لكان المعنى: تطهروا به، أو توضئوا به، لكن قال: "هو الطهور ماؤه".
أيضا زادهم على ذلك قال: "الحل ميتته". "الحل"؛ يعني: الحلال، ميتته، والمراد ب "ميتته": ميتة ما لا يعيش إلا فيه إلا في البحر، وليس المراد: ما مات في البحر؛ ولهذا إذا سقطت شاة في البحر وماتت فهي حرام ميتة، لكن المراد ب "ميتته": مضاف إلى البحر؛ يعني: ميتة ما لا يعيش إلا في البحر حلال، هكذا كان جواب النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم-.
وكلمة "الطهور" بفتح الطاء وهو اسم لما يتطهر به كالسحور اسم لما يسحر به، والوجور اسم لما يوجر به المريض وهلم جرا، أما الطهور بالضم فهو مصدر أو اسم مصدر وهو عبارة عن الفعل، فمثلا إذا قرب الإنسان ماء يتوضأ به، فالماء يسمى طهورا أو يسمى وضوءا ونفس الفعل الوضوء يسمى طهورا، أو وضوءا، فالفرق إذن بين فتح أوله وضمه هو أنه أريد الفعل فهو مضموم، وإن أريد ما يتطهر به فهو بالفتح، ونظيره السحور اسم لما يؤكل في السحر، والسحور اسم للأكل.
1 / 59
في هذا الحديث فوائد:
منها: حرص الصحابة: ﵃ على تلقي العلم، وذلك بمعرفة سبب الحديث وهو سؤالهم النبي ﷺ، والصحابة لا شك أنهم أحرص الناس على العلم؛ ولهذا كل ما ورد عليك من الأشياء التي لم يسأل عنها الصحابة وهي مما ينقدح في الذهن، فاعلم أن سؤالك عنها بدعة كما قال العلماء ﵏ فيمن سأل عن كيفية صفات الله، فقالوا: إن هذا السؤال بدعة؛ لأن الصحابة لم يسألوا عنه.
ومن فوائد هذا الحديث: أن ماء البحر طهور بدون استثناء إلا ما يقيده في الأحاديث الآتية؛ يعني: إلا إذا ما تغير بنجاسة، وإلا فإنه طهور، حتى لو فرض أنه لو طفا على سطحه شيء من الأذى، أو من الدهن، أو من البنزين، أو ما أشبه ذلك، فإنه طهور؛ لأن هذا لم يغيره.
ومن فوائد هذا الحديث أيضا: حسن تعليم الرسول ﵊ وإجابته حيث يعمد إلى الأشياء الجامعة العامة، "وقد أعطي ﷺ جوامع الكلم واختصر له الكلام اختصتارا"، وجه ذلك: أنه قال: "الطهور ماؤه".
ومن فوائد هذا الحديث: جواز زيادة الجواب على السؤال إذا دعت الحاجة إلى ذلك، وجهه: أن الرسول ﵊ زاد على سؤال السائلين ببيان حكم ميتة البحر، فقال: "الحل ميتته" لماذا؟ لأن هؤلاء إذا كان أشكل عليهم الوضوء في ماء البحر فالظاهر أنه سيشكل عليهم ميتة البحر، إذا وجدوا سمكا طافيا على الماء ميتا فسوف يشكل عليهم من باب أولى؛ فلهذا أعلمهم النبي ﷺ بحكم ميتة البحر مع أنهم لم يسألوا عنها.
ومن فوائد هذا الحديث: أن جميع الأسماك والحيتان حلال لعموم قوله: "ميتته"، وميتة هنا مفرد مضاف فيعم، فكل ميتة البحر من أسماك وحيتان فإنه حلال، وطاهر أو غير طاهر؟ طاهر، من أين علمنا أنه طاهر، من أنه حلال، لأن لدينا قاعدة مفيدة وهي: "أن كل حلال فهو طاهر وليس كل طاهر حلالا، وكل نجس فهو حرام وليس كل حرام نجسا".
كل حلال طاهر واضح وليس كل طاهر حلالا مثل الأشياء الضارة كالسم والدخان، والحشيشة، وما أشبه ذلك، فهذه طاهرة وهي حرام على خلاف في مسألة الحشيشة والخمر، لكن القول الراجح أنها طاهرة.
ثانيا: كل نجس حرام، الدليل: ﴿قل لا أجد ما أوحى إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن
1 / 60
يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس﴾ [الأنعام: ١٤٥]. فعلل الله تعالى التحريم بالنجاسة، فدل ذلك على أن كل نجس فهو حرام، هذا من جهة الأثر - الدليل الأثري-، الدليل النظري: إذا كان يجب علينا أن نزيل أثر هذا الشيء من ظواهرنا فكيف ندخله إلى بواطننا وليس كل حرام نجسا، صحيح وهو كذلك كالدخان والسم وشبهه فإنه حرام وليس بنجس، إذن نستفيد من هذا الحديث: ان جميع ميتات البحر حلال، وجميع حيتانه وأسماكه حلال حيها وميتها.
فإن قال قائل: ما تقولون فيما كان من جنس السباع من الحيتان أحلال هو أم لا؟
الجواب: الأصل حلال يوجد حيوانات - أسماك وحيتان- في البحر تعدو على الإنسان وتأكله كما يعدو السبع في البر ويأكل الإنسان، فهل هذه حرام؟ الجواب: لا، حتى لو كانت على صورة حية، أو على صورة إنسان، أو على صورة كلب فإنها حلال لعموم الأدلة.
فإن قال قائل: هل في القرآن ما يدل على حل ميتة البحر؟
قلنا: نعم وهو قوله تعالى: ﴿أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم﴾ [المائدة: ٩٦]. قال ابن عباس ﵁ في تفسير قوله: "طعامه": إنه ما أخذ ميتا.
[مسألة]:
لو أن الماء تغير بسمك ميت فهل يكون طهورا؟ نعم يكون طهورا؛ لأنه تغير بشيء طاهر حلال فلا يضر.
ثم قال: أخرجه الأربعة، وابن أبي شيبة، واللفظ له، وصححه ابن خزيمة، والترمذي، ورواه مالك، والشافعي، وأحمد. الأئمة الثلاثة رووا الحديث.
وقوله: "اللفظ له" اعلم أن العلماء ﵏ الذين ينقلون من الأصول كصاحب البلوغ وغيره قد يختارون أحد الألفاظ ولو ممن دون غيره رتبة في الصحة؛ لأنه أشمل وأوسع، فيختارون هذا اللفظ وإن كان قد رواه من هو أشد تحريا منه للصحيح؛ لكنه يكون بلفظ مختصر، أو سياق ليس بجيد، أو ما أشبه ذلك، المهم أنهم قد يختارون اللفظ المخرج وإن كان أقل رتبة من الآخر لحسن سياق اللفظ.
وقوله: "صححه" أي: حكم بصحته. واعلم أن الحديث الصحيح عند العلماء هو ما اجتمع فيه خمسة شروط:
الأول: أن يكون الراوي له عدلا ... والثاني: أن يكون تام الضبط.
1 / 61
والثالث: أن يكون إسناده متصلا. ... والرابع: أن يكون سالما من الشذوذ.
والخامس: أن يكون سالما من العلة القادحة.
خمسة شروط هذا هو الصحيح، فإن اختل بتمام الضبط- بأن كانت الشروط تامة إلا تمام الضبط- فيكون الرواة أو أحدهم عنده خفة في الضبط انتقل من الصحة إلى الحسن وصار حسنا، فإن اختلت العدالة فهو ضعيف، وإن اختل الضبط كله فهو ضعيف، وإن اختل اتصال السند فهو ضعيف، وإن اختلت السلامة من الشذوذ فهو ضعيف، وإن اختلت السلامة من العلة القادحة فهو ضعيف، حتى لو فرض أن الحديث روي في كتاب يعتبر من الكتب الصحيحة، ومن ذلك مثلا ما رواه مسلم في صفة صلاة الكسوف أن الرسول ﷺ "صلى ثلاث ركعات في كل ركعة". فهذا وإن كان في صحيح مسلم فإنه شاذ لعدول البخاري عنه، واتفاق البخاري ومسلم على أن في كل ركعة ركوعين، وقد أجمع المؤرخون على أن النبي ﷺ لم يصل صلاة الكسوف إلا مرة واحدة، وعلى هذا فيحكم على ما سوى الركوعين في كل ركعة بأنه شاذ.
ومن ذلك أيضا ما رواه مسلم في حديث المعراج حيث إنه رواه عن شريك، وقدم فيه وأخر فيعتبر هذا المخالف لما اتفق عليه الإمام البخاري ومسلم شاذا؛ ومن ذلك - على القول الراجح- "أفلح وأبيه إن صدق". فإن قوله: "وأبيه" لم ترد في البخاري إنما وردت في إحدى روايات مسلم وعلى هذا فتكون شاذة.
على كل حال: الشذوذ في الحقيقة وإن كان مخرجا في كتاب صحيح، فإن الوهم وارد على كل إنسان ليس كل أحد معصوما من كل وهم. لابد أيضا أن يسلم من العلة القادحة وهي التي تقدح في أصل الحديث أو في سند الحديث، وأما غير القادحة فإنها لا تضر، ومن غير القادحة: اختلاف الرواة في مقدار ثمن جمل جابر، واختلافهم أيضا في مقدار ثمن القلادة التي في حديث فضالة بن عبيد هل هو اثنا عشر دينارا أو أقل أو أكثر، هذا لا يضر؛ لأن العلة غير قادحة، المهم الصحيح إذا قيل ما هو الصحيح في اصطلاح المحدثين؟ قلنا: ما رواه عدل تام الضبط بسند متصل وسلم من الشذوذ ومن العلة القادحة، فإذا اختل تمام الضبط وباقي الشروط موجودة فهو الحسن، وإن اختلت بقية الشروط فهو الضعيف.
1 / 62
طهارة الماء:
٢ - وعن أبي سعيد الخدري ﵁ قال: قال رسول الله ﷺ: "إن الماء طهور لا ينجسه شيء". أخرجه الثلاثة وصححه أحمد.
"إن الماء" أي: جنس الماء، ف"أل" هنا للجنس فيشمل كل أنواع المياه، "طهور": أي مطهر؛ لأننا قلنا: الطهور ما يتطهر به. "إن الماء طهور لا ينجسه شيء". كلمة "شيء" نكرة في سياق النفي فتعم، كل شيء يقع في الماء فإنه لا ينجسه، ومن المعلوم أن هذا العموم غير مراد بلا شك، لأنه لو وقع في الماء نجاسة فغيرته؛ فإنه يكون نجسا بالإجماع، وعلى هذا فيكون هذا العموم مخصوصا بما تغير بالنجاسة؛ فإنه يكون نجسا بالإجماع، وعلى هذا فيكون هذا العموم مخصوصا بما تغير بالنجاسة؛ فإنه يكون نجسا بالإجماع، ولهذا قال النبي ﵊ في السمن تقع فيه الفأرة قال: "ألقوها وما حولها". لأنها هي وما حولها ستكون نجسة؛ لأنها إذا ماتت أنتنت رائحتها وأنتن معها السمن.
في هذا الحديث من الفوائد: أن الماء طهور مطهر من كل نجاسة سواء كانت نجاسة مغلظة كنجاسة الكلب، أو مخففة كنجاسة الصبي الذي لم يأكل الطعام، أو بين ذلك، وسواء كانت الطهارة حدث أو طهارة خبث، فالماء يطهرها.
ومن فوائد هذا الحديث: أن الأصل في الماء الطهارة لقوله: "إن الماء طهور". وعلى هذا فإذا شككنا في ماء هل هو طهور أو نجس؟ فهو طهور.
ومن فوائد هذا الحديث: أن الماء إذا تغير بطاهر فإنه طهور لقوله: "لا ينجسه شيء".
ومن فوائد الحديث: طهارة الماء إذا غمس الإنسان يده فيه بعد قيامه من نوم الليل مع أن الرسول نهى الرجل إذا قام من النوم من الليل أن يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثا، لكن الرسول ﵊ لم يقل: إن الماء نجس، وإنما نهى عن الغمس فقط، وإذا كان لم يقل: إنه ينجس دخل في عموم هذا الحديث أنه يكون طهورا باقيا على طهوريته.
ومن فوائد هذا الحديث: جواز تخصيص السنة بالإجماع لقوله: "لا ينجسه شيء". قلنا: إن هذا مخصوص بالإجماع؛ لأن الماء إذا تغير بالنجاسة فإنه يكون نجسا على أن هذا التخصيص قد يعارض في كونه ثابتا بالإجماع؛ لأن هناك نصوصا تومئ إلى أن ما تغير بالنجاسة فهو نجس كما سنذكره - إن شاء الله- فيما بعد. اه
1 / 63
٣ - وعن أبي أمامة الباهلي ﵁ قال: قال رسول الله ﷺ: "إن الماء لا ينجسه شيء". المؤلف هنا يقول: "ﷺ" وهذا هو المشهور عند العلماء في نقل الأحاديث، ولكن لو قال قائل: لماذا لا نكمل فنقول: على آله؟ لأن الرسول ﷺ لما قيل: كيف نصلي عليك؟ قال: "قولوا: اللهم صل على محمد، وعلى آل محمد"، ونأتي بكلمة "على" للفرق بين هذا وبين صلاة الرافضة؛ لأن الرافضة يقولون: صل على محمد وآله، بدون ذكر "على"، فإذا أتيت بها حصلت موافقة الحديث الذي علم الرسول ﵊ أمته بذلك، وحصلت مخالفة الرافضة في صيغة الصلاة، وإن اقتصرت على ما عليه العلماء فهذا شيء لا ينكر، مشى عليه العلماء وفيه خير إن شاء الله.
"إن الماء لا ينجسه شيء إلا ما غلب على ريحه وطعمه، ولونه". أخرجه ابن ماجه، وضعفه أبو حاتم.
يقول: "إن الماء لا ينجسه شيء" قارن بينه وبين الحديث الأول حيث قال: "إنه طهور لا ينجسه شيء"، وعلى هذا فيكون المعنى: إن الماء لا ينجسه شيء هو معنى: إن الماء طهور لا ينجسه شيء؛ لأنه إذا كان لا ينجسه شيء فهو طهور؛ إذ ليس عندنا إلا طهور ونجس كما يتبين من الأحاديث.
كيف ينتقل الماء من الطهورية إلى النجاسة:
قال: "إلا ما غلب على ريحه وطعمه، ولونه". "غلب"، أي: تغير الماء به؛ لأنه إذا تغير الماء به فقد غلب بالريح بأن غلبت رائحة النجاسة وبانت من الماء.
ولكن هل يشترط أن تكون هذه الغلبة ظاهرة لكل أحد، أو يكفي إذا ظهرت ولو لبعض الناس إذا كان غير موسوس؟ الظاهر: الثاني؛ إذا ظهرت ولو لبعض الناس، إذن شرط ألا يكون موسوسا؛ لأن الموسوس يتوهم ما لم يتغير متغيرا، لكن إذا ظهر ولو لبعض الناس ثبت الحكم، كما أن الناس إذا رأى واحد منهم الهلال في رمضان ثبت الحكم كذلك هذا إذا وجدنا اثنين أحدهما شمه ضعيف والآخر شمه قوي، فقال الثاني: إنه تغير بالنجاسة- كفى.
والحديث يقول: "إلا ما غلب على ريحه وطعمه"، وهذا أيضا المذاق يختلف الناس فيه اختلافا عظيما: من الناس من هو دقيق في مذاقه لو يتغير الشيء أدنى تغير لعلم به، ومن الناس من يكون مذاقه ضعيف لا يميز ولا يفرق إلا إذا كان التغير قويا، فالعبرة بماذا؟ . بوسط الناس أو
1 / 64