كيفية الحكم على الأشخاص
أقول: إنه كقاعدة عامة -ولا سيما في التصوف- يحكم على قول الشخص، من حيث المعرفة بحقائق الأقوال.
وقد يقول قائل: إن هذا يطول تتبعه.
فأقول: إن الأمر كذلك، بل ربما نقول: لا ينتهي تتبعه، ولهذا فإن الفقه الصحيح الذي ينبغي أن يربى عليه الخاصة والعامة من المسلمين هو أن يعرفوا حقائق السنة والهدي الذي كان عليه النبي ﷺ وأصحابه في العلم والعمل، فمن عرف الهدي الذي بعث به الرسول ﵊، وفقه سبيل السنة والجماعة، فإن هذا يستطيع أن يميز ما يخالفه من جهة، بل ويستطيع أن يبين درجة هذه المخالفة من جهة أخص.
فهما أمران يحصل عنهما أمران:
أولًا: أن يعرف أصول السنة والجماعة بالعلم والعمل، ولكن المعرفة اللفظية الجملية لا تكفي وحدها، بل لا بد أن يعرف ذلك ويفقهه، وإلا لو أردنا أن نأتي على جمل الاعتقاد كجملة: الإيمان قول وعمل، فهذه الجمل بعمومها لا بد منها، لكن من يتكلم في الكلمات المخالفة أو المذاهب المخالفة أو يريد أن يصحح لأصحابها لا يكفي في حقه العلم المجمل الذي قد يكفي للعامة، بل لا بد أن يفقه هذه الجمل من السنة، فيكون عالمًا فقيهًا في هدي النبي ﷺ، وفي أصول السنة التي أجمع عليها السلف، فإذا ما كان فقيهًا عالمًا استطاع بعلمه في الجملة وبفقهه لها أن يعرف ما يخالف ذلك، ولا يكفي هذا، بل ويعرف -وهذا هو الأهم- درجة المخالفة؛ لأن بعض البدع وإن سميت بدعة كما يقول الإمام ابن تيمية ﵀: "لا تكون موجبة للخروج عن السنة والجماعة"، فمثلًا: قول مرجئة الفقهاء، وهو القول الذي تقلده حماد بن أبي سليمان ثم أبو حنيفة وجملة من أهل العلم، هذا القول يقول الإمام ابن تيمية عنه أنه من بدع الأقوال، وليس من بدع العقائد التي يضلل فيها المخالف، ومعنى يضلل المخالف أي: يخرج عن السنة، حتى يقال: هذا من أهل البدع والضلال.
مع أن حماد بن أبي سليمان يقول: إن العمل لا يسمى إيمانًا، ومن المعلوم أن من بدع الإرجاء بدع الجهمية الغالية، وهي بدعة قد نص الإمام أحمد وابن مهدي ووكيع بن الجراح ﵏ على أن القول بها كفر، فهذه تسمى إرجاء وهذا يسمى إرجاء، وبينهما أقوال وسط دون هذا وفوق ذاك.
إذًا: الذي أوصي به طلبة العلم أن لا يعرفوا أصول السنة والجماعة علمًا مجملًا أو ككلمات مجملة، بل لا بد من فقه ذلك، والعناية بمقام الفقه، وهو مقام -مع الأسف- قد قل اليوم، ومن الأدلة على قلته، ولاسيما في هذا العصر: أنه يوجد كثير من تصادم -إن صح التعبير- أهل السنة بعضهم مع بعض، أو بعبارة ربما هي الأشجع عند البعض أو أكثر شيوعًا: من تصادم السلفيين بعضهم مع بعض، ليس في قضايا هينة، بل في قضايا مثل مسألة الإيمان، ومسائل من هذا القبيل، وأحيانًا خوض يقبل الاجتهاد مع ما لا يقبل الاجتهاد، وما هو ضابط مذهب السلف، وما هو الذي ليس بمنضبط مع مذهب السلف، حتى ربما بدّع بعضهم بعضًا وضلل بعضهم بعضًا، وربما اكتملت الأمور إلى نوع من الإغلاق الأخلاقي، فهذا يرمي هذا بأنه متأثر بأصول كذا، وهذا يرمي هذا بأنه متأثر بأصول المرجئة، وما إلى ذلك.
وهذا سببه قلة الفقه، ومع قلة الفقه أحيانًا تكون قلة الدين والورع عند بعض الناس، وإلا فإن من صدق مع الله في تدينه، واجتهد في طلب الحق يهدى ويسدد إليه؛ لأن الله يقول: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا﴾ [العنكبوت:٦٩] أي: بذلوا الجهد ﴿فِينَا﴾ [العنكبوت:٦٩] أي: المخلصين لله ﴿لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا﴾ [العنكبوت:٦٩].
إذًا: هذه هي الدرجات الثلاث، وعليه كنتيجة لهذا يقال: إن التصوف تأثر إما بأصول كمقدمات من السنة والجماعة، فأخطأ من أخطأ من الصوفية في تفسيرها، أو غلوا ببعض مقاماته ﵊ التي ظهر فيها زهده وانفكاكه عن الدنيا، حتى جعلوها أحوالًا عامة، أو عطلوا بعض مقامات سنته أو هديه ببعض.
فإنه ﵊ لم يكن يتكلف في مطعمه ومشربه ومأكله، ولربما تقلل من الحال، وهذه أحوال معروفة له ﵊، وربما صادف شيئًا من سعة الحال فأصابها، وكذلك في لباسه ﵊، وفي كثير من شأنه، فلربما أخذ البعض منهم وجهًا وترك وجهًا آخر.
إضافة إلى معنى أشار إليه بعض أهل العلم، وذلك أنه يوجد في كتب التراجم -كما في تاريخ بغداد أو في كتب الذهبي ولاسيما المطولة بقصد التراجم كالسير ونحوه- في تراجم بعض الأئمة الذين لم يضافوا إلى التصوف كالإمام أحمد والشافعي وبعض أئمة بغداد ونحوهم من المحدثين أحوال نقلت عنهم، مثل أنه بقي على لباس معين كذا من السنين، أو أنه ترفع عن كذا، أو أنه تباعد عن لبس بعض أنواع الملابس، فهذه أحوال أصدق ما يقال فيها: إنها ليست سنة، وليس فلان وفلان من الناس محلًا للاقتداء به، ولكن لا يشنع على من ذكر عنه ذلك لأنه قد خالف السنة؛ لأن مثل هؤلاء الكبار كـ أحمد ﵀ وأمثاله ما كانوا يأمرون الناس بها، بل كما يقول ابن تيمية ﵀: "بعض النفوس الصالحة لا ينتظم صلاحها إلا بترك بعض المباحات"، يقول: "وترك بعض المباحات لا على وجه التحريم لها، بل على وجه إصلاح النفس بتركها، وأن النفس إذا انطلقت إلى ترف مباح تأثرت به"، يقول: "هذه أحوال تحصل لبعض الخاصة من الأئمة، فهي ليس محلًا للاقتداء، ولكنها إذا صدرت من مثل أحمد وأمثاله فليست محلًا للإنكار؛ لأنهم لم يفعلوها على وجه التغيير للسنة، ولا على وجه الدعوة إليها، وإنما هي من فقه إصلاح الحال، والناس يختلفون في ذلك".
فبعض الناس إذا اغتنى صلحت حاله، واستقر دينه، وبعض الناس إذا كان فقيرًا صلح حاله واستقر دينه، فإذا اغتنى تكبر، وبعض الناس إذا كان فقيرًا ربما انشغلت نفسه عن العبادة بطلب المال أو بالتفكير فيه ..
وهلم جرا، وهذه أمور يختلف الناس في وضعها.
3 / 10