الرد على الأشاعرة والماتريدية الذين يثبتون الصفات العقلية وينفون الصفات الذاتية والفعلية وبيان تناقضهم
قال رحمه الله تعالى: [وكذلك يقول هذا كثير من الصفاتية الذين يثبتون الصفات، وينفون علوه على العرش وقيام الأفعال الاختيارية ونحو ذلك].
هؤلاء هم صفاتية أهل الكلام من الأشاعرة والماتريدية الذين يثبتون الصفات العقلية، وينفون الذاتية والفعلية، فينفون علوه سبحانه على العرش، وينفون قيام الأفعال الاختيارية ونحو ذلك؛ لأنهم سلموا بإطلاق تلك القاعدة السابقة: أن الصفات لا تقوم إلا باسم متحيز، وأن الأجسام متماثلة، فلو قامت بها الصفات لا يلزم أن يكون مماثلًا لفعل المخلوقات والأجسام، وهذا هو التشبيه، لذا لما طبقوا هذه القاعدة على صفات الله ﷿ قالوا: إذًا ما أشعر بالمشابهة وبالمماثلة فننفيه عن الله ﷿، فنفوا الاستواء، والعلو على العرش، والأفعال الاختيارية، ظنًا منهم أن تلك القواعد صحيحة.
قال رحمه الله تعالى: [ويقولون: الصفات قد تقوم بما ليس بجسم، وأما العلو على العالم فلا يصح إلا إذا كان جسمًا، فلو أثبتنا علوه للزم أن يكون جسمًا، وحينئذ فالأجسام متماثلة فيلزم التشبيه].
نجد أن أهل الكلام قد بنو هذه القواعد على مقدمات فاسدة، وبالتالي وصلوا إلى نتيجة فاسدة، فصار حكمهم فاسدًا، وعارضوا بذلك الكتاب والسنة.
وقولهم: أما العلو على العالم فلا يصح إلا إذا كان جسمًا.
فيقال لهم: إن قصدتم بالجسم الوجود الذاتي، فيسمى وجودًا، ولا يلزم أن يكون جسمًا، وإن قصدتم بالجسم الجسم المعهود الذي نراه ونشاهده ونحسه بحواسنا، فهذا منفي عن الله ﷿؛ لأنه ليس كمثله شيء، لكن ومع ذلك تقصدون بالجسم الوجود الذاتي، والله ﷿ له وجود ذاتي، وكونكم سميتوه جسمًا فهذا تحكم من عندكم، وإلا فنحن لا نسميه جسمًا؛ لأن (الجسم) كلمة غريبة وجديدة ومحدثة لم ترد في الكتاب والسنة.
فإذًا: مقدماتهم فاسدة، ونتائجها فاسدة، وتطبيقاتها فاسدة؛ لأنهم بنوا فاسدًا على فاسد، والحكم على نتيجة فاسدة، فلذلك سقطت جميع هذه الأمور، ولذلك قلنا: نرجع إلى الأصل، وهو: ما أثبته الله ﷿ لنفسه من الصفات بما فيها العلو على العرش، فإنه يثبت لله ﷿، واللوازم الباطلة منفية، إذ إنهم يقولون: لا يكون علو إلا للجسم! لا يكون استواء إلا للجسم! فنقول: الله أعظم وأجل من أن تقولوا فيه هذه الألفاظ التي لم ترد في الكتاب والسنة، ونقول لهم أيضًا: أريحوا أنفسكم وعقولكم وفطركم، وأريحوا الناس وأريحوا المسلمين بالتسليم لله ﷿، فأثبتوا الاستواء كما أثبته الله لنفسه، ولا تزيدوا على ذلك شيئًا، تبرأ ذممكم، وتسلموا ويسلم الناس من غوائل هذه النقاشات والصراعات الفلسفية التي لا طائل تحتها إلا الإثم والوقوع في الإلحاد والتعطيل كما حصل.
قال رحمه الله تعالى: [فلهذا تجد هؤلاء يسمون من أثبت العلو ونحوه: مشبهًا، ولا يسمون من أثبت السمع والبصر والكلام ونحوه مشبهًا، كما يقوله صاحب (الإرشاد) وأمثاله].
صاحب (الإرشاد) هو الإمام الجويني رحمه الله تعالى.
قال رحمه الله تعالى: [وكذلك قد يوافقهم على القول بتماثل الأجسام القاضي أبو يعلى وأمثاله من مثبتة الصفات والعلو، ولكن هؤلاء قد يجعلون العلو صفة خبرية، كما هو أول قولي القاضي أبي يعلى، فيكون الكلام فيه كالكلام في الوجه، وقد يقولون: إن ما يثبتونه لا ينافي الجسم، كما يقولونه في سائر الصفات.
والعاقل إذا تأمل وجد الأمر فيما نفوه كالأمر فيما أثبتوه لا فرق].
صحيح، ونقول لهم أيضًا: لماذا أثبتم السمع والبصر والكلام ولم تثبتوا العلو، بل إثبات العلو أولى عقلًا وشرعًا؟! فالعلو بدهي فطري، أما الكلام لو لم يرد في الكتاب والسنة لما استطعنا أن نثبته عقلًا.
انظر إلى التناقض، قالوا: نثبت الكلام -وهذا هو الآن مذهب الأشاعرة إلى اليوم- والسمع والبصر وننفي العلو.
وليس المقصود نفي العلو مطلقًا، بل نفي العلو الذاتي، وكون العلو معنويًا اعتباريًا، لا يكفي إثبات العلو؛ لأن الله ﷿ ذكر علوه على خلقه وعلى عرشه وعلى سماواته، فلابد أن يكون العلو أيضًا ذاتيًا، ولا يكون الكمال المطلق إلا باجتماع النوعين الذاتي والاعتباري المعنوي، وإلا فالمعنوي أمر لا يرتبط بحد، هذا من ناحية، والناحية الأخرى: أن المعنوي ليس متعلقًا بالعلو فقط، بينما العلو يعتبر حدًا زائدًا عن العلو الذاتي، وفيه منتهى الكمال، فلا ينتهي به الكمال حتى يجتمع الأمران، فعلى هذا يقول الشيخ: إذا تأمل العاقل وجد الأمر فيما نفوه وهو العلو والاستواء ونحو ذلك، كالأمر فيما أثبتوه، أي: أننا إذا أخذنا بقاعدتهم السابقة وجدنا أنه لا فرق بين الأمرين.
ولذلك يقال لهم: إما أن تثبتوا الجميع؛ لأن الكتاب والسنة ورد بذلك كله، وإما أن تنفوا الجميع حتى تكون قاعدتكم سليمة، وإلا فهي في الحقيقة فاسدة، بمعنى: مطردة، وليست سليمة شرعًا، ولذلك المعتزلة قالوا للأشاعرة: أنتم ليس لكم قاعدة، حتى إن بعض رءوس المعتزلة قالوا: نحن نحترم مذهب السلف وإن كنا نخطئه؛ لأن لهم قاعدة، أما أنتم فلا هنا ولا هناك، و
17 / 5