شرح الفتوى الحموية [١]
أول الواجبات معرفة الله تعالى، وقد سئل شيخ الإسلام عن طريقة السلف في التعامل مع آيات وأحاديث الصفات، فبين ﵀ مذهب السلف، ورد على من خالفهم، وذكر الأدلة على صحة مذهبهم ووجوب اتباعه.
1 / 1
الواجب لزوم أدلة الكتاب والسنة ومنهج السلف الصالح في باب الصفات وغيره
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فهذا هو الدرس الأول من دروس شرح (الفتوى الحموية الكبرى) لشيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن تيمية رحمه الله تعالى.
[سئل شيخ الإسلام العالم الرباني تقي الدين أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية رحمه الله تعالى: ما قول السادة العلماء أئمة الدين في آيات الصفات كقوله تعالى: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ [طه:٥] وقوله: ﴿ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ﴾ [فصلت:١١] إلى غير ذلك من آيات الصفات وأحاديث الصفات كقوله: ﷺ (إن قلوب بني آدم بين إصبعين من أصابع الرحمن)، وقوله: (يضع الجبار قدمه في النار) إلى غير ذلك، وما قالت العلماء فيه؟ وابسطوا القول في ذلك مأجورين إن شاء الله تعالى.
فأجاب ﵁ ورحمه: الحمد لله رب العالمين؛ قولنا فيها: ما قاله الله ورسوله ﷺ، والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار، والذين اتبعوهم بإحسان، وما قاله أئمة الهدى بعد هؤلاء الذين أجمع المسلمون على هدايتهم ودرايتهم، وهذا هو الواجب على جميع الخلق في هذا الباب وغيره، فإن الله ﷾ بعث محمدًا ﷺ بالهدى ودين الحق؛ ليخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد، وشهد له بأنه بعثه داعيًا إليه بإذنه وسراجًا منيرًا، وأمره أن يقول: ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي﴾ [يوسف:١٠٨]] .
تبين مما تقدم أن هذه الرسالة جواب عن سؤال ورد إلى شيخ الإسلام ﵀، عن صفات الله جل وعلا، وما الواجب فيها؟ وهذه الرسالة تدور على الجواب عن إشكالات أوردها السائل، وفصل في جوابها شيخ الإسلام ﵀، وابتدأ جوابه بقاعدة مهمة أساسية هي بمثابة التوطئة لجميع الإشكالات التي ترد في هذا الباب، وهو ما بينه ﵀ في قوله: (قولنا فيها ما قال الله ورسوله ﷺ، والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان، وما قاله أئمة الهدى بعد هؤلاء) .
فبين ﵀ أن القول في باب الصفات موقوف على ما جاء عن الله جل وعلا وعن نبيه ﷺ، وما كان عليه سلف الأمة من القرون المفضلة ومن سار على طريقهم واهتدى بهديهم إلى يوم الدين.
فهذه القاعدة هي قاعدة أساسية كلية في باب ما يُعتقد في الله جل وعلا؛ لأن الإخبار عن الله جل وعلا إخبار عن أمر غيبي، والخبر الغيبي لا تدركه العقول ولا تستقل بمعرفته، فلابد في هذا الباب من الرجوع إلى ما أخبر الله ﷾ به عن نفسه، وأخبر به نبيه ﷺ، وما قاله السلف الذين أخذوا من هذين -من الكتاب والسنة- وهم أعلم الناس بمراد الله وبمراد رسوله ﷺ.
وبدأ الشيخ ﵀ في جوابه بهذه المقدمة الأساسية، فذكر في هذه المقدمة ما يجب اعتقاده، ثم استدل له، وذلك ببيان أن طريقة السلف هي أحسن الطرق، وأنها الطريق الذي توصل إلى معرفة الله جل وعلا، وأنها الطريق التي جاءت بها الرسل، وأن كل طريق يسلكه العبد ليتعرف به على الله جل وعلا غير طريق هؤلاء، فإنه لا يصل إلا إلى ضلال ولا يحصل إلا خبالًا.
1 / 2
الدليل على وجوب لزوم طريق السلف
وقال في الاستدلال لهذه الطريقة، وهي وجوب الوقوف على ما جاء عن الله، وعلى ما جاء عن نبيه ﷺ، وما جاء عن سلف الأمة من القرون المفضلة ومن بعدهم؛ قال ﵀: (وما قاله أئمة الهدى بعد هؤلاء الذين أجمع المسلمون على هدايتهم ودرايتهم)، وهذا استدلال لصحة هذه الطريقة بإجماع الأمة على صحة طريق هؤلاء.
فإن الأمة أجمعت -على اختلاف مشاربها- على أن طريق هؤلاء هو أحسن السبل وهو أحسن الطرق.
قوله: (وهذا هو الواجب على جميع الخلق في هذا الباب وغيره) يعني: في باب الأسماء والصفات وفي باب الغيبيات الذي جاءت الرسل بالإخبار عنه، كالإخبار عما يكون في يوم القيامة وما يتعلق باليوم الآخر وما إلى ذلك من الأمور المغيبة.
قوله: (فإن الله ﷾: هذا هو التعليل، فبعد أن ذكر الإجماع أتى بالتعليل لصحة هذه الطريقة، وأنها هي الطريقة التي يجب سلوكها قال: قوله: (فإن الله ﷾ بعث محمدًا ﷺ بالهدى ودين الحق؛ ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد)، فإذا كان بعثه بذلك فإن أعظم ما يحتاج إليه الخلق -كما سيذكره الشيخ- هو ما يتعلق بمعرفة الله جل وعلا، إذ إن العباد خلقوا على الفطرة، والفطرة تقتضي أن يتوجه الخلق إلى رب يعبدونه ويحبونه ويلجئون إليه، فإذا كان كذلك فإن من مقتضيات إخراجهم من الظلمات إلى النور أن يخرجهم من الجهل الذي يتعلق بالله ﷿ وأسمائه وصفاته وأفعاله إلى العلم به ﷾ الذي هو النور ﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ﴾ [النور:٣٥]، فهو نور والعلم به من أكمل النور الذي يجب على العبد أن يهتم به ويعتنى به، ولذلك لما كان هذا هو أهم المعلومات، كان أول ما يُسأل عنه العبد في قبره: من ربك؟ لأن بمعرفة الرب تستقيم الأمور كلها.
قال ﵀: [فإن الله ﷾ بعث محمدًا ﷺ بالهدى ودين الحق؛ ليخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد، وشهد له بأنه بعثه داعيًا إليه بإذنه وسراجًا منيرًا، وأمره أن يقول: ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي﴾ [يوسف:١٠٨]: فالنبي ﷺ جاء سراجًا منيرًا، داعيًا إلى الله جل وعلا بإذنه، ثم وصف طريقته: بأنه ﷺ على بصيرة فيما يتعلق بما يخبر به عن الله جل وعلا، وفيما يتعلق بما يخبر به من أحكامه وشرعه جل وعلا، فهو على بصيرة في الأمر كله، ولذلك إذا كنا نعتقد أن النبي ﷺ على بصيرة، فالواجب الوقوف على ما جاء عنه ﷺ دون زيادة ولا نقصان؛ وذلك لأن الله ﷾ قد بعث محمدًا؛ ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، فبعثه داعيا إليه ﷾ بإذنه، وبعثه سراجًا منيرًا، وأمره أن يخبر الناس بأنه على بصيرة.
1 / 3
بيان الوجوه العقلية الدالة على صحة مذهب السلف
1 / 4
الوجه الأول من الأدلة العقلية على صحة ما ذهب إليه السلف
قال رحمه الله تعالى: [فمن المحال في العقل والدين أن يكون السراج المنير الذي أخرج الله به الناس من الظلمات إلى النور، وأنزل معه الكتاب بالحق؛ ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه، وأمر الناس أن يردوا ما تنازعوا فيه من أمر دينهم إلى ما بعث به من الكتاب والحكمة، وهو يدعو إلى الله وإلى سبيله بإذنه على بصيرة، وقد أخبر الله بأنه أكمل له ولأمته دينهم وأتم عليهم نعمته - محال مع هذا وغيره أن يكون قد ترك باب الإيمان بالله والعلم به ملتبسًا مشتبهًا، ولم يميز بين ما يجب لله من الأسماء الحسنى والصفات العليا، وما يجوز عليه وما يمتنع عليه.
فإن معرفة هذا أصل الدين وأساس الهداية، وأفضل وأوجب ما اكتسبته القلوب وحصلته النفوس وأدركته العقول، فكيف يكون ذلك الكتاب وذلك الرسول وأفضل خلق الله بعد النبيين لم يحكموا هذا الباب اعتقادًا وقولًا؟!]: هذا هو الوجه الأول من الأدلة العقلية على صحة ما ذهب إليه السلف الصالح فيما يتعلق بالله ﷿ وأسمائه وصفاته، إذ إن من المحال كما قال المؤلف ﵀: (فمن المحال في العقل والدين أن يكون السراج المنير الذي بعثه الله لإخراج الناس من الظلمات إلى النور) أن يترك إخبار الناس وتعليمهم ما يتعلق بالله ﷿ فقال: (محال مع هذا وغيره أن يكون قد ترك باب الإيمان بالله والعلم به ملتبسًا مشتبهًا) .
وذلك لأن النبي ﷺ أتى معلما، وكما أشار الشيخ ﵀ إلى أن أولى ما يتعلمه الناس وآكد ما يحتاجون إلى معرفته هو ما يتعلق بالله ﷿ وأسمائه وصفاته؛ لأنهم يعبدونه، والخلق لا يعبدون شيئًا مجهولًا، فقد فُطرت قلوبهم ونفوسهم على أن يعبدوا ما يعلمون، فكلما ازداد العبد لله معرفة كلما ازداد له عبودية، ولذلك إذا أردت أن تعرف درجة العبد من العبودية فانظر إلى درجته من المعرفة بالله ﷿، فإن كان عالمًا بالله عالمًا بأمره، فإنه في أكمل درجات العبودية؛ ولذلك قال النبي صلي الله عليه وسلم: (والله إني لأعلمكم بالله وأخشاكم له) فجعل العلم سببًا للخشية، والخشية إنما تكون بعد العلم بالله وصفاته وأفعاله جل وعلا.
فكون الرسول ﷺ على هذه الحال، وكون الله شهد له بأنه أكمل الدين وأتم عليه النعمة، يوجب الوقوف على ما جاء عنه ﷺ دون زيادة ولا نقصان، وإن أي زيادة أو أي نقصان أو أي اختيار غير ما جاء عنه ﷺ هو محض ضلال، فإن الله قد سد الطرق الموصلة إليه إلا طريق النبي ﷺ، ولذلك لما ينتهي أهل الجنة من العبور على الصراط المضروب على متن جهنم، ويريدون دخول الجنة، فإنه لا يفتح لهم إلا عن طريقه، فيطرق ﷺ الباب فيقول خازنها: من؟ فيقول: محمد، فيقول الخازن: بك أمرت لا أفتح لأحد من قبلك، وهذا يدل دلالة واضحة على أن كل طريق يسلكه العبد غير طريق النبي ﷺ للوصول إلى مرضاة الله ونعيمه في الدنيا والآخرة، لا يحصل بذلك إلا ضلالًا، وأنه لن يصل إلا عن طريق صراط الله المستقيم الذي بينه النبي ﷺ.
1 / 5
الوجه الثاني من الأدلة العقلية على صحة مذهب السلف
قال رحمه الله تعالى: [ومن المحال أيضا أن يكون النبي ﷺ قد علم أمته كل شيء حتى الخراءة! وقال: (تركتكم على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك)، وقال فيما صح عنه أيضا: (ما بعث الله من نبي إلا كان حقًا عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم وينهاهم عن شر ما يعلمه لهم)، وقال أبو ذر: لقد توفي رسول الله ﷺ وما من طائر يقلب جناحيه في السماء إلا ذكر لنا منه علمًا.
وقال عمر بن الخطاب: (قام فينا رسول الله ﷺ مقامًا، فذكر بدء الخلق حتى دخل أهل الجنة منازلهم وأهل النار منازلهم، حفظ ذلك من حفظه ونسيه من نسيه) .
رواه البخاري] .
هذا هو الوجه الثاني في بيان صحة طريق النبي ﷺ وأصحابه والسلف الصالح، ووجوب اتباع هذا السبيل، فإن النبي ﷺ قد علم أمته دقيق الأمور وجليلها، فمحال على من علم أمته كل شيء حتى آداب التخلي أن يتركهم في جهل والتباس واشتباه، فيما يتعلق بمن يعبدونه ويتوجهون إليه ويسألونه ويرغبونه، فمقتضى تعليم النبي صلي الله عليه وسلم أمته دقيق الأمور وجليلها، أن يكون قد بصرهم وعلمهم بما يجب لله ﷿ وما يتعلق به، سواء في أفعاله أو في أسمائه وصفاته، أو فيما يجب له من الألوهية والربوبية.
1 / 6
الوجه الثالث من الأدلة العقلية على صحة مذهب السلف
قال ﵀: [ومحال مع تعليمهم كل شيء لهم فيه منفعة في الدين وإن دقت؛ أن يترك تعليمهم ما يقولونه بألسنتهم، ويعتقدونه في قلوبهم في ربهم ومعبودهم رب العالمين، الذي معرفته غاية المعارف، وعبادته أشرف المقاصد، والوصول إليه غاية المطالب، بل هذا خلاصة الدعوة النبوية وزبدة الرسالة الإلهية، فكيف يتوهم من في قلبه أدنى مسكة من إيمان وحكمة، ألا يكون بيان هذا الباب قد وقع من الرسول على غاية التمام! ثم إذا كان قد وقع ذلك منه: فمن المحال أن يكون خير أمته وأفضل قرونها قصروا في هذا الباب، زائدين فيه أو ناقصين عنه] .
وهذا الوجه مبني على ما تقدم من أن النبي ﷺ يستحيل عليه أن يترك الأمة في جهل وضلال فيما يتعلق بالله ﷾، مع أن المعرفة بالله ﷿ هي زبدة الرسالة وهي غاية البعثة، وانظر إلى قوله: (الذي معرفته غاية المعارف، وعبادته أشرف المقاصد، والوصول إليه غاية المطالب)، فهذا الترتيب ترتيب بديع، فبدأ أولًا بالمعرفة؛ لأنه لا تتم العبادة إلا بعد معرفته، فمن أراد أن يعبد الله حق عبادته فليتعرف عليه حق معرفته، فكلما ازدادت معرفة العبد بربه ازدادت عبادته له ﷾، وتعلقه به وحبه له ﷾، ثم إذا حصلت له المعرفة حصلت له العبادة، وإذا حصلت له العبادة المبنية على المعرفة به ﷾ حصل له الوصول إليه الذي هو غاية المطالب، ويتم الوصول إليه جل وعلا بدخول جنته التي من أعظم نعيمها أن يتجلى جل وعلا لعباده فيكشف لهم الحجاب فيرونه.
قوله: (بل هذا خلاصة الدعوة النبوية وزبدة الرسالة الإلهية) يعني: معرفة الله جل وعلا، وقد ذكر ابن القيم ﵀ كلامًا بديعًا جيدًا، في أن الرسل إنما جاءوا ليعرفوا الخلق بربهم وليدلوهم عليه، فقال ﵀: إن الرسل قد بينوا كل ما يحتاجه الخلق فيما يتعلق بالله ﷿ فبينوا لهم صفاته وبينوا لهم أفعاله ﷾.
قال ﵀: حتى غدا من طالع كلام الرسل كأنما يرى الله جل وعلا بعينه يحكم ما يريد ويفعل ما يشاء ويرفع ويخفض وذكر كلامًا بديعًا جيدًا في أن الرسل أوفوا هذا الجانب حقه وبينوه غاية البيان، وأن هذا الذي جاءوا به واتفقوا عليه، هو بيان ما يجب لله ﷿ في صفاته وأفعاله، ما يجب له في الألوهية والربوبية فصدق ابن تيمية ﵀ في قوله: (بل هذا خلاصة الدعوة النبوية وزبدة الرسالة الإلهية) .
1 / 7
الوجه الرابع من الأدلة العقلية على صحة مذهب السلف
قوله: (فكيف يتوهم من في قلبه أدنى مسكة) أي: بقية (من إيمان وحكمة، ألا يكون بيان هذا الباب قد وقع من الرسول على غاية التمام.
ثم إذا كان قد وقع ذلك منه -أي: البيان- فمن المحال أن يكون خير أمته وأفضل قرونها قصروا في هذا الباب زائدين فيه أو ناقصين) .
لأن المجادل قد يقول: إن النبي ﷺ قد بين ما يجب لله ﷿ وما يتعلق بأسمائه وصفاته غاية البيان، إلا أن الصحابة الذين تلقوا عنه لم يوفوا هذا المقام حقه ولم يقدروه قدره! فيقال له: إن الصحابة ﵃ أنصح الأمة للأمة، وهم أعبد الخلق لله ﷿، بل ذكر الشيخ ﵀ أنهم أفضل خلق الله بعد النبيين، وإذا كانوا كذلك، فمحال على هؤلاء مع شهادة النبي ﷺ لهم بالخيرية أن يكونوا قد قصروا في باب الأسماء والصفات، فهذا أيضًا وجه من الوجوه التي تبين صحة طريق السلف، وتبين وجوب سلوك سبيلهم للوصول إلى معرفة الله جل وعلا.
1 / 8
بيان أن معرفة السلف في باب الأسماء والصفات أعظم من معرفة غيرهم
ثم قال ﵀: [ثم من المحال أيضا أن تكون القرون الفاضلة -القرن الذي بعث فيه رسول الله ﷺ، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم- كانوا غير عالمين به وغير قائلين في هذا الباب بالحق المبين؛ لأن ضد ذلك إما عدم العلم والقول، وإما اعتقاد نقيض الحق وقول خلاف الصدق، وكلاهما ممتنع.
أما الأول: فلأن من في قلبه أدنى حياة وطلب للعلم أو نهمة في العبادة، يكون البحث عن هذا الباب والسؤال عنه ومعرفة الحق فيه أكبر مقاصده وأعظم مطالبه -أعني: بيان ما ينبغي اعتقاده لا معرفة كيفية الرب وصفاته- وليست النفوس الصحيحة إلى شيء أشوق منها إلى معرفة هذا الأمر، وهذا أمر معلوم بالفطرة الوجدانية! فكيف يتصور مع قيام هذا المقتضي -الذي هو من أقوى المقتضيات- أن يتخلف عنه مقتضاه أولئك السادة في مجموع عصورهم! هذا لا يكاد يقع في أبلد الخلق، وأشدهم إعراضًا عن الله، وأعظمهم إكبابًا على طلب الدنيا والغفلة عن ذكر الله تعالى، فكيف يقع في أولئك؟! وأما كونهم كانوا معتقدين فيه غير الحق أو قائليه: فهذا لا يعتقده مسلم، ولا عاقل عرف حال القوم] .
هذا الوجه في بيان أن الصحابة ﵃ قد أوفوا هذا المقام حقه، وأنهم أتوا بما تلقوه عن رسول الله ﷺ وأخذوه عنه، وأنهم لم يقصروا فيه لا في زيادة ولا في نقصان فقال ﵀: (ثم من المحال أيضا أن تكون القرون الفاضلة -القرن الذي بعث فيه رسول الله ﷺ ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم، غير عالمين وغير قائلين في هذا الباب بالحق المبين) .
فقوله: (غير عالمين) هذا الاحتمال الأول، والاحتمال الثاني: أنهم علموا وكتموا.
وهذا معنى قوله: (وغير قائلين) أي: غير معلمين لهذا العلم الذي تلقوه عن الرسول ﷺ.
فإذا كنت تقول: إن السلف كانوا على طريقة صحيحة، فإنه يستحيل أن يكونوا غير قائلين بها؛ لأنهم بلغوا عن الرسول ﷺ دقيق الأمر وجليله.
ثم بعد أن ذكر هذين الاحتمالين أبطل هذين الاحتمالين فقال: (لأن ضد ذلك: إما عدم العلم والقول، وإما اعتقاد نقيض الحق وقول خلاف الصدق، وكلاهما ممتنع): أي لأنهم إن كانوا على ضد ذلك، أي: العلم، والقول بالحق، فذلك الضد هو إما عدم العلم والقول، وإما اعتقاد نقيض الحق.
(وكلاهما ممتنع) أي: يمتنع أن يكون الصحابة لم يعلموا ما يجب في باب أسماء الله وصفاته، ويمتنع أيضًا أن يكونوا قد علموا ما يجب في باب أسماء الله وصفاته، ثم كتموه ولم يبلغوه للأمة، بل وتواطئوا على الكتم.
كما أن الاحتمال الثاني وهو: أن يكونوا قد اعتقدوا نقيض الحق أيضًا هذا ممتنع؛ لأنهم خير القرون ولا يمكن أن يشهد النبي ﷺ لقرن بأنهم خير القرون، ثم يكون اعتقادهم في أهم الأمور وأجلها وأخطرها وأعظمها -وهو ما يتعلق بأسماء الله وصفاته- أن يكون اعتقادهم في هذا الباب نقيض الحق وخلاف الصدق، فلما كان هذان الاحتمالان ممتنعين رجعنا إلى أن طريقهم هو غاية العلم وغاية الحق وهو سبيل المؤمنين.
ولبيان امتناع هذين الوجهين قال:- (أما الأول) وهو: أن يكونوا غير عالمين بالحق.
قال: (فلأن من في قلبه أدنى حياة وطلب للعلم أو نهمة في العبادة يكون البحث عن هذا الباب)، يعني باب أسماء الله وصفاته وأفعاله وما يتعلق به والسؤال عنه ومعرفة الحق فيه (أكبر مقاصده وأعظم مطالبه أعني: بيان ما ينبغي اعتقاده) في الله جل وعلا، ولذلك جاء كتاب الله ﷿ مليئًا ببيان أفعال الله ﷿، وبيان صفاته، وبيان ما يجب له ﷾، فمحال على من كان راغبًا فيما عند الله عابدًا له على الوجه الصحيح، أن يكون غافلًا عن معرفة هذا المعبود.
ثم استدرك الشيخ فبين أن المحال هو الجهل بما يجب لله ﷿، لا بمعرفة كيفية تلك الصفات التي أخبرت بها الرسل عنه، ولذلك قال: (أعني بيان ما ينبغي اعتقاده لا معرفة كيفية الرب وصفاته) أي: فإن هذا لم يسأل عنه الصحابة ولم يشتغلوا به؛ وذلك لأنهم أيقنوا واعتقدوا قوله جل وعلا: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾ [الشورى:١١] واعتقدوا قوله: ﴿وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ﴾ [الإخلاص:٤]، فمن كان كذلك فإن العقول لا تدرك حقيقة صفاته وكيفيتها.
قال: (وليست النفوس الصحيحة إلى شيء أشوق منها إلى معرفة هذا الأمر) أي: ما يتعلق بالله ﷿ (وهذا أمر معلوم بالفطرة الوجدانية، فكيف يتصور مع قيام هذا المقتضي الذي هو من أقوى المقتضيات -يعني الموجبات للعلم والمعرفة- أن يتخلف عنه مقتضاه في أولئك السادة في مجموع عصورهم) وهي القرن الأول والثاني والثالث.
أما وجه إبطال الثاني وامتناعه، وهو أن يكونوا عالمين بالحق لكن معتقدين بخلافه، فقال: (وأما كونهم كانوا معتقدين فيه غير الحق أو قائليه، فهذا لا يعتقده مسلم)، وهذا حق، فإن المسلم لا يعتقد في القرون الذين شهد الله لهم بالخير، واصطفاهم بصحبة النبي ﷺ، والقرون الذين شهد لهم النبي ﷺ بالخيرية؛ أن يقولوا ويعتقدوا غير الحق، بل هم معتقدون للحق قائلون به.
1 / 9
بطلان قاعدة الخلف في أن مذهب السلف أسلم ومذهب الخلف أعلم وأحكم
ثم قال رحمه الله تعالى: [ثم الكلام في هذا الباب عنهم: أكثر من أن يمكن سطره في هذه الفتوى وأضعافها، يعرف ذلك من طلبه وتتبعه، ولا يجوز أيضا أن يكون الخالفون أعلم من السالفين، كما قد يقوله بعض الأغبياء ممن لم يقدر قدر السلف، بل ولا عرف الله ورسوله والمؤمنين به حقيقة المعرفة المأمور بها: من أن (طريقة السلف أسلم، وطريقة الخلف أعلم وأحكم) فإن هؤلاء المبتدعة الذين يفضلون طريقة الخلف -من المتفلسفة ومن حذا حذوهم- على طريقة السلف، إنما أتوا من حيث ظنوا أن طريقة السلف هي مجرد الإيمان] .
الآن الشيخ ﵀ في هذا المقطع بدأ بكلام جديد، فبعد أن قرر ﵀ صحة مذهب السلف وسلامة طريقهم، وأنهم قائلون في هذا الباب بالحق المبين، وأنهم مستمسكون بما جاء عن الله وعن رسوله الأمين، أتى ﵀ بوجه آخر وهو إبطال طريقة الخلف، وأن الخلف لم يقفوا على شيء في باب معرفة الله جل وعلا وأسمائه وصفاته، وأنهم في هذا الباب بين ضال ومتخبط ومتحير، وسينقل عنهم ﵀ ما يدل على ضلالهم وخطئهم وتحيرهم، ونقل ﵀ جواب المتأخرين وعذرهم في سلوكهم سبيل غير السلف السابقين.
فإن الخلف لما سلكوا طريقًا غير الطريق الذي كان عليه النبي ﷺ وأصحابه والقرون المفضلة، احتاج هؤلاء إلى الاعتذار عن مخالفتهم لسبيل السلف الصالح، فأتوا بهذه الجملة التي ترددت في كلامهم وكتبهم، وهي كالاعتذار عن مخالفة طريق السلف الصالحين فقالوا: (إن طريقة السلف أسلم، وطريقة الخلف أعلم وأحكم) .
وهذه الجملة متناقضة وقد حوت حقًا وباطلًا.
أما كونها قد حوت حقا وباطلا، فالحق هو في قولهم: إن طريقة السلف أسلم.
فلا شك أن طريقة السلف أسلم؛ لأنهم أعلم بالله وأعلم بما يجب له ﷾، وأعلم بأسمائه وصفاته.
وأما قولهم: (وطريقة الخلف أعلم وأحكم) فهذا كذب؛ لأن طريقة الخلف لم يصلوا بها إلى علم ولا إلى حكمة، بل وصلوا إلى ضلال وحيرة.
ثم إن عجز هذه الجملة يناقض صدرها، فمقتضى أن طريقة السلف أسلم: أن يكون طريقهم أعلم وأحكم؛ لأن السلامة فرع عن العلم والحكمة، ولذلك شُرع لنا في كل ركعة أن نسأل الله الهداية إلى صراطه المستقيم، وصراطه المستقيم أسلم الطرق الموصلة إليه، وقوام هذا الصراط أمران: العلم والعمل الصالح، ولذلك قال جل وعلا في آخر هذه السورة: ﴿غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ﴾ [الفاتحة:٧]، لأنهم خالفوا مقتضى العلم، وغير (الضالين)؛ لأنهم عملوا بلا علم، فطريقة السلف أسلم؛ لأنها قائمة على العلم والحكمة والعمل الصالح، ولا سلامة إلا بعلم وعمل: ﴿فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾ [الكهف:١١٠] .
إذًا: هذا أول الأوجه في بطلان هذه العبارة، وأنها ليست بصحيحة، ثم سيذكر الشيخ ﵀ أوجهًا أخرى لإبطال هذه العبارة، ولابد أن ندرك ونفهم هذه الأوجه للرد على طريق الخالفين من الخلف الذين خالفوا طريق السلف، فإنهم خالفوا في المقدمات، وخالفوا في النتائج؛ ولذلك كانت نتائج طريقهم الحيرة والضلال.
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
1 / 10
شرح الفتوى الحموية [٢]
ضل كثير من الخلف في باب الأسماء والصفات، وذلك لجهلهم بطريقة السلف أولًا، ثم بزهدهم فيها وظنهم أنها مجرد الإيمان بالألفاظ دون فهم المعاني.
ثم ذهبوا يختطون طريقة أخرى وهي تحريف المعاني الظاهرة إلى معانٍ بعيدة، وعدوا طريقتهم هذه طريقة العلم والمعرفة! وقد بنوا باطلهم على مقدمتين كاذبتين بينهما الشيخ ورد عليهما.
2 / 1
سبب ضلال الخلف: جهلهم وسوء ظنهم بمنهج السلف
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، وأصلي وأسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وعلى من اتبع سنته واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد: قال ﵀: [فإن هؤلاء المبتدعة الذين يفضلون طريقة الخلف من المتفلسفة ومن حذا حذوهم على طريقة السلف؛ إنما أتوا من حيث ظنوا أن طريقة السلف هي مجرد الإيمان بألفاظ القرآن والحديث من غير فقه لذلك، بمنزلة الأميين الذين قال الله فيهم: ﴿وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ﴾ [البقرة:٧٨]، وأن طريقة الخلف هي استخراج معاني النصوص المصروفة عن حقائقها بأنواع المجازات وغرائب اللغات.
فهذا الظن الفاسد أوجب تلك المقالة التي مضمونها نبذ الإسلام وراء الظهر، وقد كذبوا على طريقة السلف، وضلوا في تصويب طريقة الخلف؛ فجمعوا بين الجهل بطريقة السلف في الكذب عليهم، وبين الجهل والضلال بتصويب طريقة الخلف.
وسبب ذلك اعتقادهم أنه ليس في نفس الأمر صفة دلت عليها هذه النصوص، بالشبهات الفاسدة التي شاركوا فيها إخوانهم من الكافرين، فلما اعتقدوا انتفاء الصفات في نفس الأمر، وكان مع ذلك لا بد للنصوص من معنى؛ بقوا مترددين بين الإيمان باللفظ وتفويض المعنى - وهي التي يسمونها طريقة السلف - وبين صرف اللفظ إلى معان بنوع تكلف - وهي التي يسمونها طريقة الخلف - فصار هذا الباطل مركبًا من فساد العقل والكفر بالسمع، فإن النفي إنما اعتمدوا فيه على أمور عقلية ظنوها بينات وهي شبهات، والسمع حرفوا فيه الكلم عن مواضعه.
فلما ابتنى أمرهم على هاتين المقدمتين الكاذبتين الكفريتين، كانت النتيجة: استجهال السابقين الأولين واستبلاههم، واعتقاد أنهم كانوا قوما أميين بمنزلة الصالحين من العامة، لم يتبحروا في حقائق العلم بالله، ولم يتفطنوا لدقائق العلم الإلهي، وأن الخلف الفضلاء حازوا قصب السبق في هذا كله!] .
2 / 2
معرفة الله بأسمائه وصفاته هو زبدة الرسالة
تقدم حكاية قول ابن القيم ﵀ حول زبدة الرسالة التي جاءت بها الرسل جميعًا، فقد تكلم عن هذا بكلام طيب في مدارج السالكين، فهذا هو الموضع الذي تكلم به ﵀ فقال: (والرسل من أولهم إلى خاتمهم صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين أرسلوا بالدعوة إلى الله وبيان الطريق الموصل إليه، وبيان حال المدعوين بعد وصولهم إليه، فهذه القواعد الثلاث ضرورية في كل ملة على لسان كل رسول، فعرفوا الرب المدعو إليه بأسمائه وصفاته وأفعاله تعريفًا مفصلا، حتى كأن العباد يشاهدونه سبحانه وينظرون إليه فوق سماواته على عرشه، يكلم ملائكته، ويدبر أمر مملكته، ويسمع أصوات خلقه، ويرى أفعالهم وحركاتهم، ويشاهد بواطنهم كما يشاهد ظواهرهم، يأمر وينهى، ويرضى ويغضب، ويحب ويسخط، ويضحك، ويجيب دعوة مضطرهم، ويغيث ملهوفهم، ويعين محتاجهم، ويجبر كسيرهم، ويغني فقيرهم، ويميت ويحيي، ويمنع ويعطي، يؤتي الحكمة من يشاء، مالك الملك يؤتي الملك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء، ويعز من يشاء ويذل من يشاء، بيده الخير، وهو على كل شيء قدير، كل يوم هو في شأن، يغفر ذنبًا، ويفرج كربًا، ويفك عانيًا، وينصر مظلومًا، ويقصم ظالمًا، ويرحم مسكينًا، ويغيث ملهوفًا، ويسوق الأقدار إلى مواقيتها، ويجريها على نظامها، ويقدم ما يشاء تقديمه ويؤخر ما يشاء تأخيره، فأزمة الأمور كلها بيديه، ومدار تدبير الممالك كلها عليه، وهذا مقصود الدعوة وزبدة الرسالة) .
انتهى كلامه ﵀.
وهو كلام بديع يزيد في الإيمان، ويبين عظم ووجوب الاهتمام بما ذكر الله ﷾ عن نفسه في كتابه، وستجد أن الشيخ ﵀ وافق شيخ الإسلام في هذه العبارة حيث قال: (وهذا مقصود الدعوة وزبدة الرسالة)، أي: ما تقدم من التعريف بالله جل وعلا، وبيان أوصافه وأفعاله وما يجب له، وهذا هو زبدة الرسالة ومقصود الدعوة التي جاءت بها الرسل، ولذلك قال الشيخ ﵀ في الكلام السابق: (فلأن من في قلبه أدنى حياة وطلب للعلم، أو نهمة في العبادة، يكون البحث عن هذا الباب) يعني: باب أسماء الله ﷿ وصفاته (والسؤال عنه ومعرفة الحق فيه، أكبر مقاصده وأعظم مطالبه)، ثم ذكر بعد ذلك أن هذا هو الذي يعد زبدة الرسالة ومقصودها.
فهذا يبين وجوب الاهتمام بهذا الباب، وأن الاهتمام بباب الأسماء والصفات ليس لمجرد الرد على قول المبتدعين والمخالفين من المتكلمين وغيرهم، بل الاهتمام بباب الأسماء والصفات؛ ليزداد الإيمان ولتتم معرفة العبد بربه جل وعلا ليحصل له كمال العبودية، ولذلك لما كان أكثر الخلق علمًا بالله ﷿ هو النبي محمد ﷺ كان أعبد الخلق لربه، ولذلك قال: (والله إني لأعلمكم بالله وأخشاكم له)، فالعبادة والخشية وسائر المقامات هي فرع عن تمام العلم به ﷾.
2 / 3
تنفيذ كلام الخلف في عدولهم عن طريقة السلف
أما كلام الشيخ ﵀ -المتقدم- فهو في تفنيد العبارة التي يذكرها المتكلمون في بيان اعتذارهم عن مخالفة طريق السلف الصالحين، وسلوكهم طريق المتكلمين من المتفلسفة وغيرهم في باب أسماء الله وصفاته، فبدأ في الرد عليهم ببيان سبب هذا الضلال الذي وقعوا فيه فقال: (فإن هؤلاء المبتدعة الذين يفضلون طريقة الخلف من المتفلسفة ومن حذا حذوهم، على طريق السلف إنما أتوا) يعني: إنما وقعوا فيما وقعوا فيه؛ (لأنهم ظنوا أن طريقة السلف هي مجرد الإيمان بألفاظ القرآن والحديث من غير فقه لذلك)، فهذا هو السبب الأول الذي أوقع المتكلمين في الضلال في باب الأسماء والصفات: حيث ظنوا أن السلف ﵏ لم يفقهوا آيات الصفات ولم يعلموا ما فيها، وأن غاية ما عندهم هو المعرفة لألفاظها دون الوقوف على حقائقها ومعانيها، ولا شك أن ما ظنوه من طريقة السلف خطأ وضلال وجهل، فإن السلف هم أعلم الناس بالله ﷿؛ لأنهم تلقوا ذلك عمن لا ينطق عن الهوى ﷺ، ولكن السلف لم يدخلوا في باب الأسماء والصفات، وفي باب ما يتعلق بالله ﷿ بآرائهم وخيالاتهم وعقولهم، بل قبلوا ما جاء عن الله وعن رسوله على ما تقتضيه اللغة، دون الدخول في تكييف ذلك والبحث عن كنهه وحقيقته؛ لأن الباب قد أغلق بقوله جل وعلا: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾ [الشورى:١١] .
فالسبب الأول والركيزة الأولى التي بنى عليها المتكلمون مخالفتهم لطريق أهل السنة والجماعة: أنهم ظنوا أن عقيدة السلف التفويض، ولذلك فهم يرون أن التفويض هي عقيدة القرون المفضلة، وأنهم يؤمنون بالألفاظ ويقفون عن المعاني فلا يقولون فيها شيئًا، بل يقولون: أمروها كما جاءت! والسلف لاشك أنهم يقولون: أمروها كما جاءت، ولكن هذا اللفظ المنقول عنهم لا يدل على أنهم لم يقفوا على معاني هذه الأسماء والصفات، فإنهم وقفوا على معانيها وأجروها على ظاهرها، ولم يدخلوا فيها بالرأي والخيال والقول على الله بغير علم، ولا شك أن القول بنسبة السلف ﵏ إلى التفويض من أسوأ النِسب ومن أردئها ومن سوء الظن بهم ﵃؛ لأن مقتضى التفويض التجهيل، ولذلك سيشير الشيخ ﵀ إلى رداءة هذا القول وإلى بيان ضلاله وأن السلف لم يكونوا على هذه الطريقة.
ثم قال: (بمنزلة الأميين الذين قال الله فيهم) أي: فهؤلاء قد جعلوا السلف بمنزلة الأميين الذين قال الله فيهم ﴿وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ﴾ [البقرة:٧٨]، والأميون: جمع أمي، وهو من انتسب إلى أمه لعدم قراءته وكتابته.
وقد اختلف المفسرون في معنى الأميين في هذه الآية على قولين: القول الأول: أن الأميين في هذه الآية هم من لا يقرأ ولا يكتب.
فيكون معنى الآية ﴿وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ﴾ [البقرة:٧٨] أي: لا يقرءون ولا يكتبون ﴿لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ﴾ [البقرة:٧٨] يعني: إلا بالخرص والكذب واختلاق القول على الله ﷿.
والقول الثاني: أن معنى الأميين: من يقرءون الكتاب لفظًا دون فهم معناه، وهذا القول أشار إليه ابن القيم ﵀ في الصواعق المرسلة، وهو ظاهر مراد الشيخ ﵀؛ لأن المتكلمين يقرون أن السلف كانوا يقرءون الكتاب، لكنهم يقولون: إنهم يقرءونه دون فهم لمعانيه.
2 / 4
حقيقة ما يقول المتكلمون نبذ الإسلام
ثم قال: (وأن طريقة الخلف هي استخراج معاني النصوص المصروفة عن حقيقتها بأنواع المجازات وغرائب اللغات): أي: فلما فضلوا طريقة الخلف على طريقة السلف ظنوا أن طريقة الخلف هي الوقوف على المعاني، ولكن الحقيقة أن وقوفهم على المعاني ليس على ما تقتضيه الألفاظ من المعاني الظاهرة المتبادرة إلى الأذهان، وإنما هو صرف لهذه المعاني عن حقائقها والمتبادر منها، وسلكوا في هذا الصرف طريقين: الأول: أن يحملوا الآيات على المجاز، وعلى غرائب اللغة.
وستمر معنا نماذج لتأويلاتهم الباطلة وشبههم المنحرفة التي حرفوا فيها الكلم عن مواضعه، وحملوا ظواهر النصوص على معان غريبة ومجازات بعيدة.
قال: (فهذا الظن الفاسد) أي: ظنهم أن السلف لم يقفوا على المعاني إنما وقفوا وأجروا الألفاظ دون النظر إلى معانيها، (أوجب تلك المقالة التي مضمونها نبذ الإسلام وراء والظهر)، لأن حقيقة الأمر أن يكون الإسلام له ظاهر وباطن، فعلى هذا يكون له ظاهر يلغى، وباطن يختلف الناس في الوقوف عليه وفي بيان حقيقته، ومقتضاه أيضًا أن الله ﷾ خاطب الخلق وخاطب الناس بما لا يعقلون، أو خاطبهم بألفاظ مجردة عن معانيها، وقد تكلم شيخ الإسلام ﵀ في مواطن كثيرة عن سوء بدعة التفويض وأنها من شر البدع؛ لأن فيها التهمة لله جل وعلا التهمة للنبي ﷺ بعدم البيان (وقد كذبوا على طريقة السلف وضلوا في تصويبهم طريقة الخلف) فجمعوا بين سوءتين: الكذب والضلال؛ الكذب على السلف بأن طريقهم لم يكن فيه الوقوف على المعاني، والضلال في تصويب طريقة الخلف على طريقة السلف (فجمعوا بين الجهل بطريقة السلف بالكذب عليهم، وبين الجهل والضلال في تصويب طريقة الخلف) .
2 / 5
اعتقاد الخلف أن الله لا يوصف في نفس الأمر بما وصفته الآيات
(وسبب ذلك) يعني: سبب هذا القول، وهذا ثاني ما بنى عليه المتكلمون طريقتهم وتصويبهم لطريقة الخلف: أنهم قالوا: (إنه ليس في نفس الأمر صفة) يعني: أن الله ﷾ لا يوصف بصفة، فلما اعتقدوا أن الصفات ممتنعة على الله جل وعلا وأنه لا يوصف بصفة، احتاروا في النصوص التي أُثبتت فيها الصفات، فذهبوا إلى تأويلها وصرفها عن ظاهرها، فاجتمع عندنا أمران سبّبا الضلال عند المتكلمين: الأمر الأول: طعنهم وجهلهم بطريقة السلف.
السبب الثاني: اعتقادهم أن الله ﷾ لا يوصف بصفة؛ لأن الصفة تقتضي التجدد والحدوث والله ﷾ لا تحل فيه الحوادث.
وسنتعرض لهذه الشبه في تفصيل ما يثبت من الأجوبة على أعيان المسائل التي سأل عنها السائل في سؤاله للشيخ.
قال: (وسبب ذلك اعتقادهم أنه ليس في نفس الأمر صفة دلت عليها هذه النصوص، بالشبهات الفاسدة التي شاركوا فيها إخوانهم من الكافرين) أي: الذين عطلوا الله ﷾ عن أوصافه فقالوا: لا يوصف بصفة.
قوله: (فلما اعتقدوا انتفاء الصفات في نفس الأمر، وكان مع ذلك لابد للنصوص من معنى، بقوا مترددين)، أي: بين أن يسيروا على طريقة السلف؛ فيجروا الألفاظ دون الوقوف على معانيها -كما زعموا- وبين أن يدخلوا في هذه الألفاظ التي وردت بها النصوص بآرائهم فيؤولولها ويصرفوها عن ظاهرها.
قوله: (مترددين بين الإيمان باللفظ وتفويض هذا المعنى) وهذا بزعمهم طريقة السلف، كما قال: (وهي التي يسمونها طريقة السلف، وبين صرف اللفظ إلى معان بنوع التكلف وهي التي يسمونها طريقة الخلف، فصار هذا الباطل مركبًا من فساد العقل والكفر بالسمع) .
وهذا (من فساد العقل)؛ لأنهم قالوا: إنه لا يوصف بصفة أي: إن الله لا يتصف بصفة، ومن (الكفر بالسمع): إذ إنهم اعتقدوا أن ظاهر الألفاظ كفر؛ لأنها تثبت الصفات فاجتمع عندهم باطلان: فساد العقل، حيث ظنوا أن الله لا يوصف بصفة، والكفر بالسمع، حيث قالوا: إن ظاهر القرآن وظاهر النصوص كفر؛ لأنها تثبت الصفات التي يحيلها العقل.
2 / 6
اعتماد الخلف في نفي الصفات على شبهات ظنوها بينات
قال: (فإن النفي إنما اعتمدوا فيه على أمور عقلية ظنوها بينات وهي شبهات، والسمع حرفوا فيه الكلم عن مواضعه.
فلما ابتنى أمرهم على هاتين المقدمتين الكفريتين الكاذبتين: كانت النتيجة استجهال السابقين الأولين واستبلاههم) أي: فاستبلهوا السلف واستجهلوهم بناء على أن السلف لم يقفوا على المعاني وإنما أجروا الألفاظ على ظاهرها، وظنوا أن طريقتهم هي الطريقة الصواب، فلما أصبحوا في مفترق الطرق: إما أن يسيروا على طريق السلف وهي طريق الجهال والبلهاء -في نظرهم- أو طريق الخلف التي هي طريق العلماء والحكماء؛ فسلكوا طريق الخلف وذموا طريق السلف، وقالوا: إن طريق السلف أسلم؛ لأن حقيقتها الإيمان الخالي عن المعاني، وطريقة الخلف أحكم وأعلم؛ لأنها تؤدي إلى الإيمان المبني على العلم والحكمة، وكذبوا في ذلك وضلوا.
قوله: (واعتقاد أنهم كانوا قومًا أميين بمنزلة الصالحين من العامة؛ لم يتبحروا في حقائق العلم بالله، ولم يتفطنوا لدقائق العلم الإلهي، وأن الخلف الفضلاء حازوا على قصب السبق في هذا كله) .
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
2 / 7
شرح الفتوى الحموية [٣]
لما كانت طريقة الخلف مبنية على مقدمات خاطئة، كانت النتيجة التي وصلوا إليها: الحيرة والشك، لذلك نرى كثيرًا منهم اضطرب في آخر أمره ورجع إلى منهج السلف، وأخبر أنه سيموت على عقيدة أمه، وبهذا نعلم عظمة ما كان عليه السلف من علم ومعرفة بالله سبحانه، ونعلم سوء ما عليه الخلف من تخبط وجهل وحيرة.
3 / 1
فساد النتيجة التي وصل إليها الخلف
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين وعلى آله وصحبه والتابعين.
وبعد: فإن الشيخ ﵀ استمر في بيان ضلال طريقة الخلف وخطورتها فقال رحمه الله تعالى: [ثم هذا القول إذا تدبره الإنسان وجده في غاية الجهالة، بل في غاية الضلالة] الآن الشيخ ﵀ يبين ضلال هذه النتيجة التي وصل إليها الخلف متعددة، فأولها وأبينها وأظهرها في إبطال هذه الطريقة: أنها لا تؤدي إلى العلم والحكمة، قال ﵀: [كيف يكون هؤلاء المتأخرون -لا سيما والإشارة بالخلف إلى ضرب من المتكلمين- الذين كثر في باب الدين اضطرابهم، وغلظ عن معرفة الله حجابهم، وأخبر الواقف على نهاية إقدامهم بما انتهى إليه مرامهم] .
إذًا: أول استدلال استدل به الشيخ ﵀ على إبطال هذه الطريقة هو: النظر إلى ما أوصلته طريقتهم وبدعتهم التي يقولون: إنها أعلم وأحكم، فإنها لم توصلهم إلا إلى اضطراب وضلال وحيرة، وجهل بالله ﷾، فإذا كانت كذلك فإنها طريقة ضالة لا توصل إلى المقصود، بخلاف طريقة السلف التي توصل إلى العلم، والحكمة، والخشية، وكمال العبادة.
نقف على إبطال هذه النتيجة التي توصلوا إليها وأول ما ذكر شيخ الإسلام هو الاستدلال بحال هؤلاء على إبطال طريقتهم، نسأل الله أن يثبتنا وإياكم في الدنيا والآخرة.
3 / 2
شهادة كبار علماء الكلام على بطلان طريقتهم
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: [وهذا القول إذا تدبره الإنسان وجده في غاية الجهالة، بل في غاية الضلالة.
كيف يكون هؤلاء المتأخرون -لا سيما والإشارة بالخلف إلى ضرب من المتكلمين- الذين كثر في باب الدين اضطرابهم، وغلظ عن معرفة الله حجابهم، وأخبر الواقف على نهاية إقدامهم بما انتهى إليه من مرامهم حيث يقول: لعمري لقد طفت المعاهد كلها وسيرت طرفي بين تلك المعالم فلم أر إلا واضعًا كف حائر على ذقن أو قارعًا سن نادم وأقروا على أنفسهم بما قالوه متمثلين به أو منشئين له فيما صنفوه من كتبهم، كقول بعض رؤسائهم.
نهاية إقدام العقول عقال وأكثر سعي العالمين ضلال وأرواحنا في وحشة من جسومنا وحاصل دنيانا أذى ووبال ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا لقد تأملت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية، فما رأيتها تشفي عليلًا ولا تروي غليلًا، ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن؛ أقرأ في الإثبات: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ [طه:٥]، ﴿إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ﴾ [فاطر:١٠]، وأقرأ في النفي: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ [الشورى:١١]، ﴿وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا﴾ [طه:١١٠]، ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي] .
مازال الكلام في هذه المقدمة المباركة حول تقرير صحة مذهب السلف وبيان بطلان ما سلكه الخالفون من الخلف؛ فيما غايروا فيه طريقة السلف وخالفوهم فيه في باب أسماء الله تعالى وصفاته، فذكر الشيخ ﵀ بطلان طريقة الخلف، وأنها لا توصل إلى علم، وأن قولهم: (إن طريقة السلف أسلم وطريقة الخلف أعلم وأحكم)، غير صحيح، وأن ما وصل إليه هؤلاء وما حصلوه من سعيهم وسبيلهم وطريقهم ضلال، فقال ﵀: (كيف يكون هؤلاء المتأخرون -لا سيما والإشارة بالخلف إلى ضرب من المتكلمين- الذين كثر في باب الدين اضطرابهم وغلظ عن معرفة الله حجابهم)، ثم ساق من الأقوال التي نطقوا بها وتكلموا بها واستشهدوا بها على بيان سوء حالهم، وأنهم لم يصلوا بعد سعيهم ونظرهم إلا إلى ضلال وعطب، فيكون هذا دليلًا على بطلان طريقتهم.
وأما قوله ﵀ (من المتكلمين) فالمتكلمون: هم كل من تكلم في أسماء الله وصفاته بما يخالف الكتاب والسنة، فهذا ضابط أو تعريف ينتظم المتكلمين.
وذكر الشيخ ﵀ نقولًا منها: النقل الأول والثاني وما سينقله أيضًا، وكلها تبين سوء حال هؤلاء وسوء عاقبتهم، فقال ﵀ بعد ذلك: (وأقروا على أنفسهم بما قالوه) يعني بما أخبروا به مما حصلوه (متمثلين به) أي: منزلين تلك الأقوال على حالهم، (أو منشئين له) أي: إنهم قالوا قولًا مبتدعًا في بيان سوء عاقبتهم، وأنهم لم يصلوا في بحثهم وطلبهم معرفة الله ﷿ إلى شيء.
3 / 3