وفي تلك الدقيقة انقطعت آلامها، وانتهت أوجاعها بالموت ...
وما فاضت نفس الراهبة التقية حتى سمعت ساعة برج القديس إسطفانوس تدق نصف الليل، وانفتحت وقتئذ أبواب ملاعب العاصمة النمسوية، فانبعثت منها الأنوار والأصوات الموسيقية، وكان النمسويون يخرجون منها زرافات حتى امتلأت الشوارع بشرا، منهم يركبون العربات الناهبة بهم الأرض نهبا، فيسمع لها أعظم دوي، ومنهم يسيرون مشاة فرقا فرقا يتحدثون بتلك اللهجة الحميمة التي عرف بها سكان فينة، على أنه لم يمض المديد من الزمن حتى عاد السكوت والسكون إلى تلك الشوارع التي أصبحت كالقفر خلوة من بني آدم.
بيد أن الجرس الذي في قبة دير «الراهبات الممرضات» كان إذ ذاك يرن رنة الحزن، وكان صوت الجرس الشبيه بأنين الباكي أو تلهف الشاكي يعلن للمارة القليلين المتأخرين في الإياب إلى منازلهم أن نفسا من النفوس اجتازت من هذه الدنيا إلى ما وراء أبواب الأبدية.
15
وكانت الحياة قد أصبحت علقما مرا على المسيو «ب» وزوجته بعد أن رحلت عنهما الراهبة «أغنس» وسمعا بانحراف مزاجها، أجل! إن وجود تلك الراهبة عندهما كان من شأنه أن ينشئ من وقت إلى آخر أشعة من شمس الرجاء في قلب تلك الأسرة التي جار عليها الزمان، واتخذتها المصائب مقعدا ومركبا، بل كانوا يحسبونها لهم روحا محييا، وإذا ما رأوها في البيت تخطو ذهابا وإيابا عدوها من جملة الملائكة الذين تخيلهم الشعراء واقفين على أمهاد الأطفال ليزجوها ويتولوا حراستها.
وكان أهل البيت طلبوا مرارا بإلحاح إلى تلك الراهبة الفاضلة أن تخفف العناء والتعب عن نفسها؛ لئلا تقصر أيامها قبل الأوان، أما هي فكانت تجاوبهم قائلة والابتسام يبدو على ثغرها بلطف عجيب: «إن الحياة ليست بالأمر المهم لدينا، فإن الواجب المفروض علينا نحن إنما هو أن نخلص الخدمة بنزاهة ونشاط، بل أن نموت في سبيل خدمة القريب إن لزم الأمر؛ ولهذا فإني إن مت فإن واحدة من رفيقاتي الراهبات تقوم مقامي في الخدمة، أما هو - وقد أشارت بقولها إلى البارون - فمن الواجب أن يحيا، بل وقد تحدثني نفسي أنه سيحيا بل سيشفى تماما.»
وكانت قائمة على ذلك المريض في مرضه تخدمه بإخلاص ونزاهة، وترقب حركاته وسكناته آناء الليل وأطراف النهار، وبأثناء ذلك لحظت أن ذلك العليل الفاقد الصواب كان يتخلل هذيانه فترات يبدو فيها على أحسن حال التعقل والرشد، وذلك ما كان يدلها على أنه سائر في طريق الشفاء.
وكانت في بعض الليالي يستولي عليها العناء من كثرة السهر، فتنطبق جفونها من شدة النعاس ومن الحمى التي كانت أخذت في أن تضنيها وتتآكل لحمانها رويدا رويدا، على أنها ما كانت تلبث أن تستيقظ مذعورة بظنها أنها أهملت الواجب المفروض عليها، ولا يسكن جأشها ويعود إليها الاطمئنان حتى تقوم وتدنو من المريض وتستقصي خبره وتمسح عرق جبينه.
وكان البارون يكثر من الهذيان نهارا، فإذا ما حان الليل وقدمت الراهبة «أغنس» لتبيت عند فراشه كان يعود إليه شيء من عقله، وكان في بعض الأحيان يبسط ذراعيه إلى الأمام كمن يرى شبحا محبوبا لا ينظره سواه، وإذ ذاك كانت شفتاه الرقيقتان تتلفظان باسم خطيبته «وردة».
وقد دامت هذه الحال أسابيع كثيرة بدون أن تقبل الراهبة «أغنس» التماس شيء من الراحة تحيي الليل في الصلاة حتى كادت سبحتها تتلف لكثرة ما مرت حباتها بين أصابعها العجيفة.
Bilinmeyen sayfa