Yaratıcı Şüphe: Seleflerle Diyalog
الشك الخلاق: في حوار مع السلف
Türler
وهكذا يعيش العالم الآن أزمة عميقة الجذور تجسدها حالة السيولة الفكرية أو الشواش الفكري: جفت ينابيع التقليد بكل معانيه وأزمانه، وتداعت أركان النظام والنظريات المطلقة والأنساق الفكرية الجامدة، وتعيش الإنسانية بغير رؤية نظرية مرجعية هادية تتصف بالدينامية السريعة تسترشد بها في حركتها. وتجاوز البعض وأعلن سقوط الأنساق الفكرية جميعها مطلقة أو نسبية، وارتد البعض الآخر بعد أن أصبح خاوي الوفاض من أي جديد يهديه، ارتد إلى متاع فكري أصولي موروث يستعين به على خواء حياته، وهو في الحالتين غريب ومغترب، عاطل من آلية الفكر والفعل اللذين يربطانه بالواقع؛ ذلك أن الإنسان/المجتمع يتحرك لزوما في تطوره الاجتماعي والتاريخي والإنتاجي، وبحكم وعيه بنفسه وبوجوده وفق إطار أو نسق ثقافي/فكري مرحلي أو نسبي، يحقق له التكيف الفردي والاجتماعي وفق مستوى حضارة العصر، ويهيئ له قوة دفع لحركته المستقبلية التنافسية. ويمثل هذا النسق مرجعيته المرحلية في تشخيص وتحليل الظواهر من حوله. إنه يتحرك لزوما من نسق إلى نسق، وليس في حالة سيولة تفقده الهداية والرشاد. وطبيعي أن لحظة الانتقال هي لحظة آلام مخاض التغيير، وكانت دائما لحظة محدودة الحدود، محلية الطابع.. أما الآن فالتغيير عالمي النطاق والظواهر المطروحة كوكبية الوجود .. والأخطار الماثلة ماحقة للإنسان كنوع بشري .. المستقبل المأمول محفوف بالأخطار واحتمالات تخلف البعض وهيمنة البعض الآخر، بحكم إنجازات العلم والتقانة، قرين الفعالية الاجتماعية هي احتمالات هيمنة شاملة على المستقبل بعيد المدى .. الاحتكار تجاوز الاقتصاد إلى احتكار المصير الإنساني جملة.
وفي ظل حالة السيولة والشواش الفكري يلتمس الإنسان/المجتمع طريقا للخلاص هنا وهناك، ولكن في إطار من الشك وعدم اليقين. ويتجلى هذا واضحا في العديد من النزاعات الفكرية الموسومة بالبعدية أو بالجديدة أو بالنهاية أو شبيه: مثل ما بعد المودرنز وما بعد الحداثة، وما بعد توافق واشنطن .. إلخ، أو الليبرالية الجديدة واليسار الجديد والاشتراكية الديمقراطية الجديدة، أو الكينزية الجديدة وحزب العمال الجديد .. أو نهاية التاريخ ونهاية الاشتراكية .. أو شبه إقطاعي وشبه رأسمالي .. وجميعها مسميات تعني انصرافا عن ماض، ومستقبلا غائما، وأملا في جديد غير محدد المعالم والطريق.
الفصل الأول دراما النصف الثاني من القرن العشرين؛ انتصار لحركة التحرر الوطني سياسيا «أو هكذا!» ووعد بانتصار الحريات وأمل في التنمية والرخاء عن اليسار واليمين. والفصل الثاني أزمة وردفة وتبعية الضعفاء للأقوياء، واتساع الهوة بين الفقراء والأغنياء داخل المجتمعات وفيما بين المجتمعات. الفصل الأول رفض قاطع لأن تكون آلية السوق هي الحاكمة لمصائر الشعوب والمجتمعات لما يمثله هذا من أخطار مدمرة. والفصل الثاني دعوة الليبرالية الجديدة لأن تكون الحاكمية لآلية السوق المتحررة من كل القوانين والضوابط. الفصل الأول إيمان عميق بأن القوى العاملة خاصة البروليتاريا لا تزال على طريق الصعود وأنها الأمل في التغيير.
الفصل الثاني انحسار دور البروليتاريا أو ذوي الياقات الزرقاء وظهور قوى عاملة كبيرة وفاعلة من بين ذوي الياقات البيضاء. بل تغير كيفي في قوى الإنتاج وأدوات وإدارة الإنتاج. والمفارقة الصارخة أنه في عصر فيض المعلومات وأدوات المعرفة تتفاقم أزمة السيولة الفكرية وتتفاقم حالة افتقاد النسق المرجعي.
وشهد الفصل الثاني تغيرا مفصليا في مسار تطور ودور وفعالية المجتمعات وفي علاقة القوى بينها، وهو التغير الموسوم بالعولمة، وإن كانت الكلمة غير محددة المعنى والمدلول شأن كلمات أخرى كثيرة تزخر بها حياتنا الثقافية. تغير المشهد العالمي، ودفع هذا التغير بجميع الأطر الفكرية إلى الخلف بعد أن أفلت الواقع الحياتي من بين محدداتها ومعاييرها.
وإذا كانت العولمة لها ركائزها وتجالياتها العلمية والتقانية وتجالياتها الوظيفية للمجتمعات وللوعي الإنساني، إلا أن لها أيضا تجليات ونتائج وظيفية تمثل الركيزة لقوى الليبرالية الجديدة. أولى هذه النتائج هي حركة نقل الأموال والمضاربات السريعة في العالم. وثانيتها أنها دعمت طرازا جديدا من النظام الشمولي الكوكبي على عكس كل ما يشاع عن سقوط الشمولية؛ إذ إن الشمولية ليست نظاما مستبدا سياسيا، بل هي، وكما حدد جيدنز، قوة أو نظام أو قطب له هيمنة على مجالات الاقتصاد والثقافة والإعلام والقوة العسكرية والعلاقات الدولية.
ولكن العولمة تتعدد وتتباين معانيها مع تباين مقاصد المتحدثين عنها والداعين إليها أو إلى مناهضتها. فهي حينا زعم بأن الكوكب قرية واحدة تهاوت فيها الحدود القومية مع إعلان وفاة أو نهاية الدولة - الأمة - القومية. والعولمة أيضا تدويل للحياة الاقتصادية والسياسية سقطت معه الحواجز الحمائية، وهي الحدود المفتوحة للشركات المتعدية القومية لدخول استثماراتها المالية ومنتجاتها، وتكريس للاستسلام لآليات السوق الحرة المتحررة من الضوابط والقوانين الاجتماعية. ويرى البعض الآخر العولمة في ضوء التحولات العلمية التقانية وتجلياتها، من حيث حالة التماس والاتصال المباشر بين الناس أفرادا وجماعات على صعيد الكوكب، وتأثيراتها السلوكية والثقافية الممتدة إلى أعماق الوعي الباطني للإنسان، وتدفق حر آني للمعلومات له انعكاساته على وعي الفرد وثقافة المجتمع والعلاقات بين الحكام والمحكومين. ويراها هؤلاء خلفا جديدا لاقتصاد جديد هو اقتصاد المعرفة وما له من تجليات نافذة إلى كل جوانب الحياة.
وتتجلى أيضا حالة الشواش الفكري لدى اليسار واليمين من خلال توجهات وكتابات الكثيرين من المفكرين الضالعين في عملية التغيير أو التجديد أو لنقل محاولات الترميم، إذا صح هذا الوصف، أو الالتفاف على الواقع والحديث بلغة مقبولة ظاهريا للتعبير عن أهداف تقليدية مضمرة.
ولنقرأ معا ما قالته «سوزان جورج» في كلمتها تحت عنوان «موجز تاريخ الليبرالية الجديدة» أمام مؤتمر «السيادة الاقتصادية في عالم معولم»، الذي عقد في 24-29 مارس 1999م، حيث تجمل في حديثها تشخيصا لواقع حال العالم في المشهدين الأول والثاني، وتقول: «عقب الحرب العالمية الثانية، كان كل مفكر اقتصادي أو سياسي إما كينزي المذهب وإما ديمقراطيا اشتراكيا، وإما اشتراكيا ديمقراطيا مسيحيا، وإما يمثل لونا من ألوان الطيف الماركسية. أما فكرة أن السوق ستكون صاحبة الدور الرئيسي في اتخاذ القرارات الاجتماعية والسياسية؛ أو فكرة أن الدولة سوف تتنازل طوعا عن دورها في الاقتصاد؛ أو أن المؤسسات الاقتصادية الكبرى ستكون لها حرية كاملة، وأن النقابات سيأفل دورها وأن المواطنين سيتمتعون بحماية أقل كثيرا مما كانت عليه الحال عقب الحرب العالمية الثانية .. هذه الأفكار لو قيلت لبدا صاحبها مجنونا.»
وتضيف: أصدر الباحث الكبير «كارل بولاني» رائعته «التحول العظيم» عام 1944م. والكتاب نقد شرس لضراوة مجتمع القرن ال 19 الصناعي المرتكز على السوق الحرة. وله مقولة نبوءة؛ إذ قال إن «السماح لآلية السوق بأن تكون المدير الأوحد الموجه لمصير البشرية وللبيئة العالمية .. يعني تدمير المجتمع. وإنما الأولوية للمجتمع على النظام الاقتصادي.»
Bilinmeyen sayfa