48

وڨيكتور هيجو، وهوند لڨولتير في النقد وفهم الشعر، يفضل الفن الحديث على فن الإغريق لأن الفن الإغريقي يخرج «النشوز النافر» من حسابه ولا يلتفت إلى الصلة بينه وبين الروعة والجلال، ولكن المحدثين - وفي طليعتهم شكسبير - يعرفون كيف يتزحزح أحدهما فينسرب في غمار الآخر، وكيف يصبح النافر جليلا كما يصبح الجليل نافرا، وينظرون آخر الأمر إلى النقيضين في أطوار الطبيعة، فلا ينسون التقريب بينهما؛ حيث يقتربان في الحقيقة ولا يبتعدان إلا بتكلف من عمل الإنسان.

ويناصي ڨولتير وهيجو في زمرة النقاد الأدباء هردر وفردريك شليجل الألمانيان، وعندهما أن المسرحية العظيمة لن تخلو من الفن؛ لأن الفن ينبع من الروح ولا ينشأ بداءة من حيل اللباقة أو تزويق الصورة المحسوسة، ويقول هردر: إنه لا يدفع عن شكسبير ولكنه يستند إليه ليرد على ناقديه، فإنه ترجمان الطبيعة التي تتكلم بألسنة كثيرة، ومن قرأه فلا عليه أن ينسى المسرح والممثل وينظر إلى الأوراق المتطايرة من صفحات الكتاب الأبدي: كتاب الكون والحياة.

وبنديتو كروشي الإيطالي ند لهؤلاء جميعا إذا عدوا من النقاد أو عدوا من الفلاسفة، وجوابه لهم فيما افترقوا فيه أن الفن يلتقط أبطاله من الحياة ولكنه لا يماثلها في صورها العامة المشتركة، وأن شكسبير عبقرية عالمية لا يحدها زمانها ولا تحدها فترة واحدة كائنة ما كانت، وهو يمثل لنا أشتاتا من البشر على تباين شديد في بواطنها وظواهرها، ولكنه يشرف عليها لتمثلها على سواء ولا ينعزل عنها؛ إذ نحن نفرق بينها على حسب شعورنا بها في صورتها المعروضة علينا من صنع يديه، ولو كان بمعزل عنها لما افترق أحد منها عن أحد في شعورنا، وإن شكسبير على هذا الإشراف فوق الشخوص والأمزجة ليطوي كل شيء في شخصه مما تعلمه أو اختبره في حياته، وبهذه الخصلة فيه استطاع أن يأخذ الموشحات من ينبوعها الإيطالي ويودعها ترجمة حياته.

ولعل الأدب الأوروبي لم يعرف بين أوائل القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين ناقدا فنيا من الباحثين في فلسفة الجمال أبرع من جورج براند الكاتب الدنمركي صاحب الآراء المأثورة في مباحث «الإسطاطيقا» وتطبيقاتها على الشعر والمسرحية بصفة خاصة، فربما نبغ في عصره من أصحاب هذه المباحث كثيرون من نظرائه وأقرانه، ولكن آراء براند لا تزال حتى الآن في مقدمة الآراء عند من يرجعون بالفن والأدب إلى أصول فلسفة الجمال وأصول الفلسفة على الإجمال.

فهذا الناقد الفنان الفيلسوف يرى أن الوحدة في العمل الفني شرط لازم، ولكنه لا يحصرها في شروط الوحدة التي نص عليها الأقدمون، بل يفضل عليها أحيانا وحدة الباعث والحركة ووحدة الجو الوجداني الذي يحيط بالأمكنة والأزمنة والحوادث والشخوص، ويعرض براند للعناية باللفظ فلا ينفي أن شكسبير كان يتخير اللهجة الخطابية في أشعاره ومسرحياته، وإنما يعزو ذلك إلى حكم الموقف الذي لا فكاك منه بعد انتقال التعبير من اللاتينية إلى الكلمات السكسونية فالإنجليزية، فليس من الفن ولا من التأثير الفني أن تأخذ الألفاظ السوقية لتضعها على حالها في موضع اللغة التي قدستها التقاليد ودرجت عليها أساليب النخبة الأفذاذ من نوابغ الشعر والنثر والحكمة، وهذه العناية بسوق الألفاظ في مساق الخطابة والتأثير هي الموازنة التي لا بد منها لمجاراة الأدب السلفي في مجاله، وما زالت مراعاة المقام في كل كلام شرطا من شروط الفن الأصيل كيفما اختلفت عليه الموازين والآراء.

ومدرسة الفن للفن لا تغيب عن هذا المعترك الذي تتلاقى فيه الآراء أو تفترق حول الفن والفكر، أو الفن والأخلاق، أو الفن المستمد من أعماق الروح، أو الفن الذي ينقل عن الطبيعة ويلتقط منها نماذج الصور والألوان.

وإمام هذه المدرسة في الأدب الإنجليزي «والتر پاتر» الذي يلقب بالكاتب المرصع أو الكاتب الموشي؛ لأنه يجري الكتابة مجرى الصور فيما تعرضه من الأصباغ والظلال أو مجرى العقود فيما تنتظمه من الفصوص والجواهر على تناسب الأحجام والألوان.

عند پاتر أن مدرسة الفن للفن تجد رضاها في شكسبير؛ لأن رواياته «توليفة» من النفوس البشرية تمتزج وتنفرد كما تمتزج أشعة الطيف الشمسي مع الحركة السريعة أو الحركة البطيئة، فلا تنافر بينها في امتزاجها، ولا يتراءى عليها التنافر وهي منفردة إلا ريثما تتحول من مادة صبغية إلى صورة متناسقة التلوين والتظليل، ويختار پاتر ملهاة «الحب الضائع» - وهي من أوائل المسرحيات التي ألفها شكسبير - ليورد منها الأمثلة على اللفظ المنتقى لجمال إيقاعه والنماذج الإنسانية المتلاقية؛ لما بينها من تجاوب الأشكال والشيات.

1 •••

وربما اتفق الناقدان من مدرسة واحدة على فهم واحد للشعر ولم يتفقا على مواضع الاستحسان في موضوعاته وأقسامه.

Bilinmeyen sayfa