على أن الأديبة الإيطالية لم تخطئ الحقيقة كلها في حكمها على النظم والنثر في مسرحيات شكسبير، فلولا الإغراق في رأيها لاتفق هذا الرأي مع جملة الآراء في الموازنة بين نثر شكسبير وشعره، فإنه في منثوره واحد من مئات، وإنما الشاعر شكسبير هو شكسبير الخالد، بما نظم من قصيد منفصل أو قصيد متصل بالمسرحيات.
ففي مسرحياته ألوان من الأغاني ومن شعر الوجدان الذي اصطلح الغربيون على تسميته بالشعر الغنائي، وفيها ألوان من شعر الوصف والحكمة ينتظم منها ديوان ضاف وتقوم بها شهرة شاعر كبير، وربما فضلها النقاد من الوجهة الفنية على الشعر المنفصل الذي لا يدخل في أدوار المسرحيات؛ لأنها صاحبت تطور الشاعر من بداءة حياته الأدبية إلى نهايتها، وتشعبت في مذاهب من القول أوسع وأحفل من مذاهب القول في القصائد المنفصلة.
على أن شكسبير الشاعر ينفرد بشيء لم يتوافر عند شكسبير المؤلف كاتب المسرحيات: شيء لا يرجع إلى تفضيل فن على فن أو ملكة على ملكة، ولكنه قد يرجع إلى اختلاف الصلة في الحالتين: صلة المؤلف بالنظارة، وصلة الشاعر بقارئه الذي يستأثر به لنفسه ويتلقى الخطاب منه كأنه يتلقاه من صفيه ووليه.
المؤلف يتصل بالعالم كما يتمثل في النظارة الذين يرون الممثلين قبل أن يروه.
والشاعر يتصل ب «الإنسان» على حدة ويلقاه حيث شاء في خلوته أو في مجتمعه مع غيره، ولا يشترط عليه أن يلقاه في مسرح أو يسمعه على لسان وسيط من الممثلين والمخرجين، بين شركاء من النظارة والمتفرجين.
وقد كان الناشرون يجمعون أعمال شكسبير في مجلد واحد ويقسمونه إلى قسمين: قسم المسرحيات، وقسم الأشعار، وكأن من عادة الناس أن يذهبوا إلى المسرح ليطلعوا على المسرحيات، وأن يفتحوا الصفحات ليطلعوا على الأشعار؛ ولا يمنع ذلك أن يكون للمسرحيات قراء وأن يكون للأشعار نظارة ومستمعون، ولكن الصلة في الحالتين تختلف بين شعور القارئ نحو الشاعر وهو يطالعه، وشعور الناظر نحو المؤلف وهو يلمحه من وراء الممثلين ووراء الأدوار.
وجاء زمن بعد ازدهار المسرح في القرن السابع عشر نسيت فيه المسرحيات وقل الإقبال عليها عند عرضها، بل قل عرضها لغير الصفوة من طلابها، فقامت صلة الشاعر بالعالم - جماعاته وأفراده - على القصائد التي نظمها في غير المسرحيات، وعمد الناشرون إلى الشعر المسرحي فطبعوه للقراءة واستخرجوا منه ما يصلح للقراءة والإلقاء في غير معاهد التمثيل، وكاد شكسبير الشاعر أن يستغني بقرائه عن نظارته ومشاهديه.
ولا تعدم الأشعار المنفصلة أسبابا فنية تنفرد بها وتحببها إلى قرائها، بل إلى نقادها والمشتغلين بدراستها، فإنها معرض للشعر القصصي يقابل الشعر المسرحي في المآسي والملهيات، وفن من أداء الرواية يخالف الفن الذي يؤديها بالحوار وتصوير المناظر وتقسيم الأدوار، وقد برع شكسبير في القصة الشعرية براعته في القطعة المسرحية، واستطاع أن يمثل لقارئه بالقصيدة المكتوبة ما يحتاج إلى مسرح وممثلين على المسرح، لتصويره للعيان وإبلاغه إلى الأسماع وبثه في الخواطر والقلوب، واستخدم طريقة المسرح - بغير المسرح - لتعليق الأفكار والأنظار، وإزجاء المفاجآت على انتظار وعلى غير انتظار.
وللموشحات التي نظمها شكسبير مزية فنية تنفرد بها بين المنظومات التي تستخدم لمواقف التمثيل أو لرواية القصة؛ لأنها تصلح لشعر التأمل وشعر النشيد وشعر العاطفة، ويودعها الشاعر «ترجمة نفسية» لحياته في أعماق وجدانه وخلجات ضميره: ترجمة مباشرة نتلقاها منه بغير وساطة المسرح أو وساطة الرواية أو وساطة المؤرخ وصاحب الأخبار فما يعلمه القارئ عن شكسبير من موشحاته لا يعلمه من كلام قاله في مسرحية أو قصة، ولا من كلام قاله عنه المترجمون والرواة. •••
أول شعر قصصي نظمه شكسبير «أسطورة فينوس وأدونيس» أو «ملكة الغرام ورب الجمال والشباب»، اقتبسها من كتاب «أطوار الحب» للشاعر الروماني أوفيد، وقال عنها في تقديمها إنها باكورة ابتداعه، ونشرها في سنة 1593، ولكنها في تقدير بعض النقاد نظمت قبل ذلك بست أو سبع سنوات، وبدأ الشاعر في نظمها وهو في قريته أو قريب العهد بهجرتها؛ لأنها تنضح بأنداء الريف وترف تحت ظلاله، ولعله نشرها وهو لم يخرج بعد من حضانة القرية؛ لأن ناشرها ريتشارد فيلد كان من أبناء قرية ستراتفورد وممن اعتمد عليهم شكسبير لارتياد طريق الأدب في العاصمة الكبرى، وقد راجت القصة رواجا يفوق تقدير الناشر والشاعر، وأعيد طبعها نحو عشر مرات في عشر سنوات، وكانت من أسباب شهرة الشاعر في عالم التمثيل.
Bilinmeyen sayfa