تمهيد
1 - نبأ من القاهرة
2 - نبوءة أبي زهرة
3 - شجرة الدر
4 - ملوك أربعة!
5 - غيرة الأنثى
6 - طفل ملك
7 - ملك في قفص
8 - ريبة وقلق
9 - أشواك على الطريق
Bilinmeyen sayfa
10 - تدبير وكيد
11 - حساب الماضي
12 - دار على النيل
13 - مساومة على الموت!
14 - هزيمة البطل!
15 - كبير الأمناء
16 - عرش وزوج
17 - قلوب موزعة!
18 - غدر وثأر
19 - ضيافة في سجن
Bilinmeyen sayfa
20 - الجاشنكير يحكم!
21 - دولة تركمانية!
22 - البحث عن رجل!
23 - لمن الملك؟
24 - سباق إلى الموت
25 - أشجان الملك!
26 - أوهام أنثى!
27 - الخاتمة
أعلام مشهورة وردت في القصة
تمهيد
Bilinmeyen sayfa
1 - نبأ من القاهرة
2 - نبوءة أبي زهرة
3 - شجرة الدر
4 - ملوك أربعة!
5 - غيرة الأنثى
6 - طفل ملك
7 - ملك في قفص
8 - ريبة وقلق
9 - أشواك على الطريق
10 - تدبير وكيد
Bilinmeyen sayfa
11 - حساب الماضي
12 - دار على النيل
13 - مساومة على الموت!
14 - هزيمة البطل!
15 - كبير الأمناء
16 - عرش وزوج
17 - قلوب موزعة!
18 - غدر وثأر
19 - ضيافة في سجن
20 - الجاشنكير يحكم!
Bilinmeyen sayfa
21 - دولة تركمانية!
22 - البحث عن رجل!
23 - لمن الملك؟
24 - سباق إلى الموت
25 - أشجان الملك!
26 - أوهام أنثى!
27 - الخاتمة
أعلام مشهورة وردت في القصة
شجرة الدر
شجرة الدر
Bilinmeyen sayfa
قصة تاريخية
تأليف
محمد سعيد العريان
تمهيد
1
تتحدث هذه القصة عن «شجرة الدر» الملكة المشهورة في التاريخ، التي حكمت مصر في منتصف القرن السابع الهجري (الثالث عشر الميلادي).
ويعدها بعض المؤرخين آخر ملوك الدولة الأيوبية؛ ويعدها بعضهم أولى سلاطين المماليك.
وسبب هذا الخلاف أن الملكة «شجرة الدر» تعتبر عضوا من الأسرة الأيوبية، وتعتبر في الوقت نفسه عضوا من أسرة المماليك؛ أما أنها كانت عضوا من الأسرة الأيوبية؛ فلأنها كانت زوجة للملك الصالح نجم الدين أيوب ابن الملك الكامل ابن الملك العادل أخي صلاح الدين الأيوبي، ولا شك أن زوجة الملك عضو من أسرته، على أنها - فوق ذلك - أم الأمير خليل ابن الملك الصالح نجم الدين أيوب، الذي كان يعده وليا لعهده، ويرشحه لولاية العرش من بعده.
وأما أنها كانت عضوا من أسرة المماليك؛ فلأنها كانت جارية مملوكة قبل أن تكون زوجة للملك؛ فكان المماليك لذلك يعدونها واحدة من أسرتهم، ينتسبون إليها وتنتسب إليهم، فلما تولت الحكم بعد وفاة زوجها الملك الصالح نجم الدين أيوب، كانت في رأي الناس واحدة من الأسرة الأيوبية التي تتوارث عرش مصر منذ عهد صلاح الدين الأيوبي، ولكنها لما نزلت عن العرش بعد ذلك، تولاه بعدها مملوك من مماليك الملك الصالح؛ هو الأمير عز الدين أيبك التركماني، ثم صار عرش مصر بعد ذلك وراثة للمماليك، يتوارثونه مملوكا عن مملوك نحو ثلاثة قرون - وتسمى هذه الفترة في تاريخ مصر باسم «عصر سلاطين المماليك» - لذلك لا يخطئ من يقول إن تولي «شجرة الدر» عرش مصر يعتبر أول عصر سلاطين المماليك؛ لأنها كانت مملوكة مثل سائر المماليك الذين تولوا العرش بعدها.
2
Bilinmeyen sayfa
وشجرة الدر - أو شجر الدر كما جاء في بعض التواريخ - اسم مشهور جدا في تاريخ مصر، بل إنها تعتبر أشهر امرأة في هذا التاريخ، لعدة أسباب:
منها: أنها أول امرأة وآخر امرأة تولت عرش مصر الإسلامية، فلا نعرف امرأة قبلها ولا بعدها - منذ أول عهد الإسلام إلى اليوم - تولت عرش هذه البلاد، تأمر وتحكم وتولي وتعزل، وتسير الجيوش للحرب، وتوقع معاهدات الصلح، وتعين الوزراء، وتعقد الألوية للقواد، وينقش اسمها على الدراهم والدنانير، ويدعى لها على المنابر في المساجد.
ومنها: أنها كانت أول «مملوكة» تجلس على العرش، فتصير ملكة يدين لها الملايين بالطاعة والولاء، بعد أن كانت جارية مشتراة بالمال، يأمرها سيدها فتأتمر، وينهاها فتنتهي!
ومنها: أن عهدها كان حدا فاصلا بين مرحلتين من مراحل التاريخ؛ فقد كانت ولايتها آخر عهد الدولة الأيوبية، وأول عهد المماليك.
ومنها: أن عصرها كان مزدحما بالحوادث التاريخية العظيمة؛ ففي عهدها انكسر الصليبيون كسرة شنيعة، وكانوا قد زحفوا من فرنسا وسائر بلاد أوربة، ليستولوا على مصر والشام؛ فانهزموا عند مدينة المنصورة شر هزيمة، وقتل قوادهم وأسر ملكهم لويس التاسع ملك فرنسا، واعتقل في دار الأمير فخر الدين بن لقمان بالمنصورة، فلم يفرج عنه إلا بعد أن افتدى نفسه بمال، وعاهد على ألا يعود إلى غزو مصر.
وفي عهدها كان قد بدأ زحف المغول من أواسط آسيا على البلاد الإسلامية للاستيلاء عليها وإذلال أهلها، واستمر زحفهم حتى استولوا على كثير من البلاد الإسلامية، وتوغلوا فيها يفتكون ويهتكون ويسفكون الدم ويحطمون العروش، حتى أوشكوا أن يبلغوا حدود مصر بعد أن قطعوا إليها مئات الآلاف من الأميال؛ ثم كانت هزيمتهم الساحقة الماحقة على يد الجيش المصري في موقعة «عين جالوت» بفلسطين، بعد وفاة شجرة الدر بأمد قليل، فلم تقم لهم قائمة بعد هذه الهزيمة التي لم ينهزموا قبلها قط.
وفي عهدها بدأت عادة تسيير المحمل في كل عام من مصر إلى الحجاز في موسم الحج، يحمل كسوة الكعبة كما يحمل كثيرا من المؤن والأموال لأهل بيت الله الحرام، وتصحبه فرقة كبيرة من الجيش المصري لحماية الحجاج. وما تزال هذه العادة متبعة إلى اليوم.
وفي عهدها نبغ كثير من الأدباء والشعراء المصريين الذين يذكرون في تاريخ الأدب العربي؛ كبهاء الدين زهير، وجمال الدين بن مطروح وغيرهما ...
ومن أسباب شهرتها وبقاء اسمها مذكورا إلى اليوم المسجد العظيم الذي بنته في حي الخليفة في القاهرة؛ لتدفن فيه بعد موتها، ولم يزل قائما إلى اليوم - بالقرب من مسجد السيدة نفيسة - يقصده الزوار وتؤدى فيه الصلوات.
وما يزال اسم زوجها الملك الصالح كذلك مذكورا مشهورا في مصر إلى اليوم؛ وجميع أهل القاهرة يعرفون «كوبري الملك الصالح»، الذي يوصل بين الفسطاط وجزيرة الروضة؛ وسبب تسمية هذا الجسر بهذا الاسم أن الملك الصالح نجم الدين أيوب - زوج شجرة الدر - بنى له قصرا وقلعة في هذه الجزيرة التي يوصل إليها هذا الجسر، أما القصر فكان يقيم فيه هو وزوجه شجرة الدر، وأما القلعة فكان يقيم فيها - بالقرب منه - مماليكه الأتراك الذين صاروا فيما بعد ملوكا؛ ولذلك يسمون في التاريخ باسم «المماليك البحرية»؛ لأن قلعتهم هذه كانت تشرف على البحر؛ أي النيل.
Bilinmeyen sayfa
3
هذا حديث قصير عن الملكة شجرة الدر، وعن زوجها الملك الصالح أيوب.
والآن فلنذكر طرفا من التاريخ الذي يعين على فهم حوادث هذه القصة:
كانت مصر منذ دخلها الإسلام يحكمها أمير من أمراء المسلمين، يعين من قبل الخليفة، في المدينة أو في دمشق أو في بغداد، ويكون تابعا له.
وظل الأمر كذلك إلى أن ولي مصر الأمير أحمد بن طولون في منتصف القرن الثالث الهجري (التاسع الميلادي) في عهد الخليفة المعتز العباسي، فاستقل ابن طولون بملك مصر، وجعلها دولة مستقلة له ولأولاده من بعده، ولكن هذا الاستقلال لم يستمر إلا نحو خمسين سنة؛ إذ ضعفت الدولة الطولونية، فعادت مصر تابعة للخليفة العباسي في بغداد. •••
واستمرت مصر تابعة لبغداد ثلاثين سنة أخرى، إلى أن وليها الأمير أبو بكر محمد الإخشيد في عهد الخليفة المقتدر العباسي؛ ففعل مثل ما فعل ابن طولون من قبل، واستقل بمصر، وصار عرشها وراثة له ولأولاده من بعده، واستمرت «الدولة الإخشيدية» في مصر بضعا وثلاثين سنة، وكان آخر ملوكها كافور؛ وهو عبد مملوك من مماليك بني الإخشيد! •••
ثم ضعفت الدولة الإخشيدية، فطمع في ملك مصر ملك من ملوك المغرب، اسمه المعز لدين الله الفاطمي، فزحف عليها من تونس في جيش كبير، فملكها في منتصف القرن الرابع الهجري (العاشر الميلادي).
وكان هذا الملك «المعز لدين الله» يقول إنه من أبناء السيدة فاطمة بنت سيدنا محمد
صلى الله عليه وسلم ؛ ومن أجل ذلك كان يسمي نفسه «الفاطمي»، ويرى أنه أحق بالخلافة من العباسيين في بغداد؛ فأنشأ خلافة فاطمية في مصر، وأعلن الاستقلال عن الخليفة العباسي في بغداد، وصار عرش مصر وراثة له ولأسرته من بعده أكثر من مائتي سنة.
وكان للفاطميين مذهب في الدين لا يوافقهم عليه أكثر المسلمين؛ لذلك لم تكد بوادر الضعف تظهر على ملوك الدولة الفاطمية في منتصف القرن السادس الهجري (الثاني عشر الميلادي)، حتى أخذ أصدقاء الخلافة العباسية في المشرق يتطلعون إلى غزو مصر، ليخلصوها من الفاطميين ومذهبهم «الشيعي». •••
Bilinmeyen sayfa
وكان مما ساعد على ضعف الدولة الفاطمية، غزوات الصليبيين المتوالية على مصر والشام، فانتهز «صلاح الدين الأيوبي» هذه الفرصة ودخل مصر، وكسر شوكة الصليبيين، وقضى على الدولة الفاطمية، واستقل بحكم البلاد وأزال منها مذهب الفاطميين، وأعلن ولاءه للخليفة العباسي في بغداد؛ وكان ذلك في الثلث الأخير من القرن السادس الهجري (الثاني عشر الميلادي). •••
وكان صلاح الدين قائدا من أعظم القواد ، وحاكما من أعدل الحكام؛ وأصل أبيه من بلاد الكرد، واسمه «أيوب بن شاذي»، فلما ملك صلاح الدين بن أيوب مصر، انتقل أبوه وأسرته إليها، وصار عرش البلاد وراثة لهم، يتوارثونه أيوبيا بعد أيوبي؛ ولذلك تسمى دولتهم «الدولة الأيوبية».
وفي عصر الدولة الأيوبية اتسع ملك مصر حتى شمل الحجاز واليمن إلى شواطئ المحيط الهندي، وامتد على بلاد الشام إلى أطراف العراق وحدود الموصل، ووصل إلى أواسط آسيا وحدود التركستان.
وظلت هذه البلاد تحت حكم الأيوبيين أكثر من ثمانين سنة، من عهد صلاح الدين إلى عصر شجرة الدر، ثم انتقل الحكم إلى المماليك الذين أنشأهم ورعاهم الملك الصالح نجم الدين أيوب.
وخلال هذه المدة التي حكم فيها الأيوبيون هذه البلاد، كان في كل بلد منها أمير أيوبي؛ ففي دمشق أمير، وفي حلب أمير، وفي اليمن أمير، إلى أمراء آخرين في كثير من البلاد، ولكن أكبر هؤلاء الأمراء وأعظمهم هو السلطان الذي يجلس على عرش قلعة الجبل في القاهرة.
4
وكان الذي يجلس على عرش القاهرة حين بدأت حوادث هذه القصة، هو الملك الكامل ناصر الدين ابن الملك العادل سيف الدين أخي صلاح الدين الأيوبي مؤسس الدولة.
وكان أكبر بنيه هو الأمير نجم الدين أيوب - الذي سمي فيما بعد الملك الصالح - وكان في ذلك الوقت واليا من قبل أبيه الملك الكامل على حصن من حصون المشرق، اسمه «حصن كيفا»، وكان معروفا أن نجم الدين هو ولي عهد أبيه الكامل، وأن ملك مصر سيئول إليه بعد أن يتخلى أبوه عن العرش، وكان مما يقوي هذا الظن، أن نجم الدين كان ينوب عن أبيه في الحكم حين يضطر أبوه إلى الخروج من مصر للحرب أو لسبب آخر.
وكان لنجم الدين أخ أصغر منه، هو الأمير سيف الدين - الذي سمي فيما بعد الملك العادل - وكانت أمه أقرب إلى قلب الملك من أم الأمير نجم الدين، وكانت أم سيف الدين مصرية خالصة النسب، وكان أبوها من شيوخ الفقه المشهورين في مصر، واسمه الشيخ نصر الفقيه.
5
Bilinmeyen sayfa
هذا هو الأمير نجم الدين الذي كان زوجا لشجرة الدر، وهذا هو موقفه من أبيه وأخيه وأسرته، أما شجرة الدر نفسها فكانت فتاة مقطوعة الجذر، لا يعرف لها أب ولا أم ولا أصل، ولم تترك بعد موتها ولدا ولا بنتا ولا ذرية، فكانت حياتها من أعجب العجب؛ إذ ليس لها أصل يذكر ولا فرع يبقى! وماتت قبل أن يأفل شبابها، ومع ذلك ظل ذكرها باقيا على توالي القرون منذ القرن السابع الهجري إلى اليوم، وإلى الغد وإلى الأبد ...
أي قوة من قوى الغيب تجمعت في هذه الجارية الأنثى، فكتبت لها في التاريخ هذا الخلود؟!
كانت جارية ذات أدب وعلم وفن!
وكانت أنثى ذات جمال وفتنة وحيلة!
وكانت زوجة ذات حب ووفاء وغيرة!
وكانت ملكة ذات حزم وإرادة وتدبير!
صفات أربع لا يجتمع مثلها في امرأة، واجتمعن في شجرة الدر.
أحبت وتزوجت وحملت ووضعت، ولكنها لم تنس في أي أحوالها أنها ملكة، على رأسها تاج، وفي يدها صولجان، وتحتها عرش، وبها ترتبط مصاير أمة؛ فكانت - حتى في اللحظة التي تنسى فيها كل أنثى أن لها إرادة - ملكة ذات إرادة وتدبير وكيد ...
وملكت وتسلطت وقبضت على الصولجان، وركع تحت قدميها الرجال، ولكنها لم تنس في لحظة من لحظات السلطان الباطش أنها أنثى، وأن لكل أنثى رجلا تخضع له، وتذوب إرادتها في إرادته، فكانت - حتى في اللحظة التي ينسى فيها كل ذي سلطان أنه بشر - أنثى تستسلم للحب استسلام كل ذات قلب.
فلما جدت في آثارها الحوادث، وأرغمتها على أن تختار بين أن تكون امرأة لرجل أو ملكة لعرش وتاج وصولجان، تنازعتها الكبرياء والغيرة، فطاشت فلم تكن في طيشتها أنثى ذات قلب، ولا ملكة ذات تدبير، وفقدت الرجل والعرش والحياة جميعا. •••
Bilinmeyen sayfa
تلك شجرة الدر: تاريخ أمة في تاريخ أمة!
وفي التاريخ قصص كثيرة لملكات غير شجرة الدر، ولكن التاريخ لم يأثر عن ملكة منهن ما أثر عن شجرة الدر من صفات لم تجتمع مثلها في أنثى ولا في ملكة.
محمد سعيد العريان
الفصل الأول
نبأ من القاهرة
أطرق الأمير صامتا
1
وطوفت أفكاره تجتاز المسافات وتقطع الأبعاد النائية؛ فهو في مجلسه من ذلك الحصن الذي اتخذه قاعدة لإمارته في أقصى المشرق، ولكنه مما يصطرع في رأسه من الخواطر، وما يتراءى له من صور الماضي القريب والبعيد، كالتائه في البيداء المترامية قد انفسح مداها وتباعد ما بين أطرافها بعد ما بين حصن كيفا والقاهرة.
أفمن أجل ذلك أخرجه أبوه من مصر وانتزعه من بين مماليكه وجنده، وقذف به إلى ذلك المنفى السحيق؟
وثقلت وطأة الصمت على أصحابه، وإن كانوا ليعلمون ما يصطرع في رأسه من خواطر، حتى كأنهم يسمعون حديثه إلى نفسه ويبادلونه الرأي، فقد طالعوا منذ لحظات ما جاء به البريد من أنباء القاهرة، فعلموا أن أميرهم منذ اليوم ليس وليا للعهد؛ لأن ولاية العهد قد صارت منذ اليوم لأخيه الصبي سيف الدين.
Bilinmeyen sayfa
صبي لم يبلغ الحلم، والدولة يكتنفها الخطر ويتربص بها الأعداء من كل جانب؛ فثمة الصليبيون يتحفزون للوثبة على سواحل مصر والشام، والخطر المغولي يمد مده نحو الغرب، ويكاد يبلغ بغداد عاصمة الخلافة ليثب منها إلى الشام ومصر، فماذا يملك مثل ذلك الصبي أن يدفع من هذا الويل؟ ألأن أمه «سوداء بنت نصر»
2
أحظى نساء الكامل وآثرهن عنده؟! فليهنه رضاها، ولا عليه بعد ذلك أن يتبدد ملك بني أيوب وتطأه خيل الصليبيين والمغول.
وإذن؛ فسيبقى الأمير نجم الدين في حصن كيفا أميرا على ما يليه من بلاد الموصل، وسيبقى معه أصحابه وبطانته؛ فإن القاهرة منذ اليوم - أو منذ غد - قاعدة ملك الأمير سيف الدين!
وهم الأمير فخر الدين بن الشيخ
3
أن يتكلم، ثم أمسك حين ارتفع صوت من وراء الحجرات ينشد شعر الإربلي:
4
وإذا رأيت بنيك فاعلم أنهم
قطعوا إليك مسافة الآجال
Bilinmeyen sayfa
وصل البنون إلى محل أبيهم
وتجهز الآباء للترحال!
ورفع الأمير نجم الدين رأسه وأدار عينيه فيمن حوله، وهو يردد في صوت خافت:
وتجهز الآباء للترحال!
قال الأمير فخر الدين قلقا: أتعني يا مولاي ...؟
فابتدر الأمير وعلى شفتيه ابتسامة خابية:
5
ماذا فهمت بالله يا فخر الدين فنال منك الجزع؟ إن هو إلا شعر طرق مسمعي فجرى على لساني، وإنه لأبي وإن غلبته على حزمه وإرادته سوداء بنت نصر!
ثم زم شفتيه وأردف: ولكن ذلك الصبي لن يبلغ ما أرادت له أمه، ولن يكون له عرش مصر!
ثم انفض المجلس، وتفرق أصحاب الأمير، فمضى كل منهم إلى وجه، وخلا الأمير إلى نفسه يدبر أمره، ولزم الطواشي صواب
Bilinmeyen sayfa
6
بابه شاكي السلاح متأهبا لما يصدر إليه من أمر. •••
لم تكن الأنباء التي جاء بها البريد في ذلك اليوم من القاهرة مفاجأة غير منتظرة؛ فقد كان الأمير يعلم علم اليقين منذ أبعد عن القاهرة إلى حصن كيفا، أن ثمة أمرا قد أحكمت بنت نصر تدبيره؛ ليخلو لسيف الدين وجه أبيه، ولكنه مع ذلك لم يكن يتوقع أن يتم ذلك التدبير سريعا قبل أن يستكمل أهبته للمقاومة، ويتكثر من الجند والعتاد، ويصطنع أسباب المودة بينه وبين جيرانه من أمراء الموصل،
7
وبينه وبين ذوي قرابته من أمراء بني أيوب،
8
وليس معه في هذا الحصن النائي من صحابته الأدنين إلا بضعة نفر، وليس له من المماليك إلا بضع عشرات، إلى بضع فرق من الجند لا تغني غناء، ومن أين له بهؤلاء أن يغلب أخاه على العرش حين تحين الساعة؟
وتذكر نجم الدين أميرا من أمراء الموصل يرابط في طريقه إلى مصر متربصا به؛ ذلك هو بدر الدين لؤلؤ، وإن له عند نجم الدين ثأرا منذ غلبه نجم الدين على سنجار
9
فاحتازها إلى إمارته وترك جيشه أباديد
Bilinmeyen sayfa
10
على ظهر البادية، وما كان لبدر الدين أن ينسى ثأره!
وتذكر نجم الدين كذلك ثأرا آخر بينه وبين السلطان غياث الدين صاحب بلاد الروم.
11
أفيكفيه شر ذلك كله بضع عشرات من مماليكه إلى بضع مئات من الجند؟ ولكنه قد عقد النية على أن يكون له دون غيره عرش الأيوبية؛ ولا بد أن يتم له ما أراد.
ذلك كان هم الأمير، على حين كان لكل واحد من أصحابه في ذلك الحصن هم يشغله:
هذا الأمير فخر الدين بن الشيخ، قد أرق جفنيه وأقض مضجعه ما جرى على الأمير نجم الدين، وما يخشى أن يئول إليه أمره وأمر الدولة إذا بدا له أن يشق عصا الطاعة، أو يتمرد على أمر أبيه، وإن على فخر الدين تبعات
12
تقتضيه أن يرحل إلى القاهرة بعد أيام، وليس يدري ما يكون شأن نجم الدين بعد أن يفارقه ويمضي لوجهه.
وهذا الصاحب بهاء الدين زهير
Bilinmeyen sayfa
13
قد برح به الحنين إلى مصر وإلى أصحاب هنالك وصواحب، وإلى منازل آهلة ومغاني مأنوسة، كان يمني نفسه بأن يعود إليها، فالآن هيهات هيهات المعاد وقد صار عرش مصر لغير نجم الدين أيوب، فهو منذ بلغه ذلك النبأ يحسو
14
دمعه وحيدا وينشد:
إلى كم حياتي بالفراق مريرة؟!
وحتام طرفي ليس يلتذ بالغمض؟!
وكم قد رأت عيني بلادا كثيرة!
فلم أر فيها ما يسر وما يرضي
ولم أر مصرا مثل مصر تروقني
ولا مثل ما فيها من العيش والخفض
Bilinmeyen sayfa
15
وبعد بلادي فالبلاد جميعها
سواء، فلا أختار بعضا على بعض
إذا لم يكن في الدار لي من أحبه
فلا فرق بين الدار أو سائر الأرض
وهؤلاء المماليك الكثر من حاشية الأمير في الحصن لا يعنيهم من حياتهم إلا ما يستمتعون به من طيبات الرزق، وما يتقلبون فيه من ألوان النعمة، إذا اجتمعوا فليس لهم هم إلا العبث والفكاهة والضحك العريض، وإذا افترقوا فليس لواحد منهم هم غير طعامه وشرابه، وزيه وشارته، وغلامه وجاريته ...
أما أمير الحصن وسيده، فإنه من الهم والفكر واشتغال البال ...
كريشة في مهب الريح طائرة
لا تستقر على حال من القلق!
الفصل الثاني
Bilinmeyen sayfa
نبوءة أبي زهرة
وكان «أيبك» الجاشنكير
1
من الهم والفكر واشتغال البال في مثل حال سيده الأمير نجم الدين.
بلى، إنه رجل ليس له شأن ولا خطر في ذلك الحصن، ولكنه مما يتخايل لعينيه من بعض الأوهام والأماني في هم مقيم مقعد.
رقيق من الترك، قذفت به المقادير إلى ذلك الحصن في مجموعة من الأرقاء والجواري، فزم الخدمة في مطبخ الأمير جاشنكيرا، يشرف على إعداد الطعام، ويتذوقه قبل أن يمد الأمير إليه يده؛ ليستوثق من جودة طهيه وطيب مذاقه، فأتاحت له هذه الفرصة أن يكون أدنى إلى الأمير منزلة وأحظى لديه من عامة المماليك، وقد كان سعيدا بهذه المنزلة التي بلغ، لولا حديث جرى منذ أيام بينه وبين أبي زهرة المنجم، فرده من السلام والطمأنينة إلى حال من القلق واشتغال الفكر، لا طاقة لمثله باحتمالها؛ فهو منذ سمع ذلك الحديث في هم وفكر ووحشة، لا يكاد يتحدث إلى أحد أو يستمع إلى حديث أحد؛ وما ظنك بمملوك ممتهن بين الأوعية والقدور، يقع في وهمه أن سيصير يوما ملكا يجلس على العرش، وتأتمر بأمره الملايين!
وقد ضاق أيبك آخر الأمر بسره ذاك، فأفضى به إلى طائفة من صحابته ليتخفف منه، فما كان إفضاؤه به إليهم إلا هما على هم، فقد ركبه أصحابه بالعبث والسخرية، وجعلوا حديثه نادرة وأفكوهة يتملحون بها كلما طاب لهم الحديث في سر أو علانية، وكان أشدهم سخرية منه وعبثا به أصحابه الثلاثة: آق طاي، وبيبرس، وقلاوون.
2
ولم يكن همه الجديد عبثهم وسخريتهم؛ فإنه لأرحب صدرا من أن يستفزه الغضب لمثل ذلك، ولكنه يخشى أن يمتد الحديث حتى يبلغ الأمير فتكون الطامة، وهل يقع في وهم أحد أن يطمع مثل أيبك في العرش والإمارة إلا إذا كان منطويا لأميره على نية الغدر!
فإنهم لفي حديثهم وعبثهم به ذات يوم، إذ قال قلاوون: فإن كان أيبك قد خيلت له أوهامه أنه سيصير يوما ملكا تأتمر الملايين بأمره، فإن من حق تلك الفتاة التي التقطها الجند منذ أسابيع في سنجار أن تكون ملكة على عرش بني أيوب!
Bilinmeyen sayfa
قال بيبرس عابثا: وإنها لأهل لذاك.
فانتفخت أوداج أيبك واحمرت عيناه غضبا لرجولته، وهتف مغيظا: بالله ماذا تعني يا بيبرس؟!
قال آق طاي في هدوء: حسبكم أيها الرفاق، فإنكم لتوشكون أن تقتحموا مهلكة؛ إذ تخوضون في حديث هذه الفتاة؛ فليس يجمل منذ اليوم أن يجري حديثها على لسان وقد احتظاها سيدنا ومولانا الأمير نجم الدين، فهي اليوم سرية من سراياه،
3
بل إنها منذ نزلت دار الحريم أحظى جواريه إليه وآثرهن عنده.
ثم أردف باسما وهو يقلب وجهه بين أيبك وقلاوون: ولم يبعد قلاوون حين بدا له أنها أدنى منزلة إلى العرش من أيبك، وإن كانت أنثى؛ إلا أن يكون أيبك أكثر إدلالا بحظوته عند الأمير!
وأغرق المماليك الثلاثة في ضحك عريض واحمر وجه أيبك، ولكن شفتيه لم تنبسا بحرف؛ فقد آثر أن يتوقى الهلكة وقد عرض ذكر مولاه، ثم لم يلبث أن نهض ليشرف على إعداد مائدة العشاء للأمير، وسرح كل واحد من أصحابه في واديه!
الفصل الثالث
شجرة الدر
لم يكن أحد في حصن كيفا يعرف إلى أي جنس من الناس تنتسب تلك الفتاة الملثمة التي التقطها جند الأمير ذات غداة في سنجار؛ فلا هي تركية ولا أرمنية ولا جركسية ولا من بنات الفرنجة، فليس في وجهها ولا في لسانها ولا في حركتها ما يومئ إلى الأصل الذي انشعبت منه،
Bilinmeyen sayfa