İslam Dünyasında Ünlü Kadınlar
شهيرات النساء في العالم الإسلامي
Türler
لم يتدرع جعفر إلا بالنعمة، وكان مرتاح الضمير؛ ولذلك لم يخش خصومة أحد حتى ولا تنكر الخليفة عليه، لم يشك في إنسان ولم يتوهم أن الخليفة قد يحنق أو يحقد عليه في ساعة من الساعات، لم يخطر على باله أن الخليفة قد يرتاب به أو يسيء إليه الظن وهو يشاهد من شرفة قصره جماهير الخلق المحتشدة في الضفة اليسرى من الدجلة حول قصر البرامكة، لم يدرك أن هذا العالم إلى فناء وبوار لأن سجف السعادة والرفاهة كانت تستر الحقيقة عن عينيه.
كان ينظر إلى هذا العالم بعيني مسافر يقطع الصحراء ووجهته السراب يخطو إليه مبتهجا مسرورا مفتونا مأخوذ اللب، كان يعيش آمنا مطمئنا غير حاسب لعاديات الدهر حسابا، لماذا؟ لأنه كان واثقا من مودة الخليفة، كان يعلم أن منزلته من نفس مولاه الرشيد هي منزلة العباسة من نفس أخيها، أجل، إن الرشيد ما كان يستطيع صبرا عن مفارقة أخته العباسة التي شبت ونشأت معه وشاركته في أهوائه وميوله، كان التذاذه من مشافهة العباسة لا يقل لذة عن محادثة جعفر، وإن سروره من سماع أشعارها يعادل ابتهاجه من منادمة الوزير له، وكما كانت أدبيات أخته تجلب له السرور والانشراح، كذلك مواعظ جعفر وأقواله الحكيمة تثلج صدره وتدعوه إلى الاغتباط، كان يفتخر بجاذبية العباسة ويباهي بوقار الوزير ورزانته، وبالإجمال كان لا يحتمل مفارقة أحدهما فكانا يجلسان إليه معا في القصر والحديقة ومغاني اللهو يتناشدون الأشعار ويخوضون فنون الحكمة والفلسفة، كانت العباسة على علم ناضج وأدب رائع، تعد من حكيمات عصرها وعالمات زمانها، وكان الرشيد يسر من الرجوع إليها في كثير من معضلات المسائل العلمية ويناقشها ويجادلها الساعات الطوال في مختلف الفنون، وعندما كان ينبئ الأميرة زبيدة بطرف من هذه الحوادث كانت تغضب ويظهر عليها أثر الانفعال، كانت لا تهضم علو كعب العباسة في العلوم ودرجتها المعنوية الرفيعة، فكانت تنفس عليها هذه الرتبة وتغار منها مع أنها على حظ وفير من العلم.
عندما كان يجلس الثلاثة الرشيد والعباسة وجعفر في المجالس المعنبرة ذات القباب المكسوة بآيات الفن من قصر الخلافة فيخوضون لجة الحديث والمسامرة ويشقون عباب الشعر والموسيقى وتمتلئ نفوسهم بالغبطة والهناءة، ينسون بغداد ولا يخطر على بالهم شأن من شئون العالم، من يدري أي الدرر من غوالي الألفاظ وثمار القرائح ونتاج العلم الناضج كانت تسقط في أرجاء تلك المجالس، لو كان للجدران المغطاة بقطع الديباج والمكسوة بأنفس الحرائر لسان ناطق لأتحفنا اليوم بنكات لطيفة ومعان مبتكرة جميلة وحسنات من اللفظ لا تخطر على البال، ولكن قد تداعت الجدران وطارت الأستار على أجنحة آلهة الشعر وذهبت تلك الأيام أدراج الرياح، ولم يبق لنا من ذلك الماضي المشعشع سوى خزانة محدودة من الخواطر، إننا لنمتطي الآن سفينة الذكرى؛ ذكرى «الأنس المثلث»: الرشيد والعباسة وجعفر، ونخوض خضم تلك الأيام فلا نجد شيئا ولا نشعر إلا برذاذ من أمواجه.
كان الرشيد مغتبطا بهذا «الأنس المثلث»، وكان يرمي بنفسه في أحضان هذين العزيزين لينسى مشاغل اليوم ومتاعب الإدارة، كان يشعر بهناءة كبرى من تلك المحادثات والمنادمات التي يعقدها في المجالس ذات القباب ولا يكتم شعوره هذا عن العلماء وأكابر رجال الدولة ممن يمثلون بين يده.
كان يثني على ذكاء العباسة ويقدر بلاغة جعفر ويباهي بمنادمتهما له، هذه الحالة الروحية كان ينفر منها العلماء الذين كانوا يتغافلون أو يتغاضون عن مجالس اللهو والشراب المنتشرة في العصر الثاني من الهجرة، كبر عليهم مجالسة العباسة للرشيد في حضور جعفر فسددوا إليه سهام نقدهم ولومهم، لم ينتقدوا رفاهة العظماء واستفحالهم في ضروب اللذة، الأمر الشائع في ذلك العصر مثل انتقادهم لهذا الأمر، وكان الرشيد لا يستهجن هذا النقد ويرى أنهم محقون في هذا اللوم، ولكنه لم يستطع أن ينقطع عن أمر يشبع روحه باللذائذ المعنوية، فلم يأل جهدا في التفكير وإعمال الروية لإيجاد حل معقول للمسألة، وفي النهاية جمع علماءه في القصر فعقدوا مجلسا لهذه الغاية.
أعمل العلماء رويتهم وشحذوا قرائحهم فوجدوا أحسن حل للمسألة أن يعقد لجعفر على العباسة، إلا أن الرشيد لم يقنعه هذا الرأي، إن العباسة الشريفة سليلة العائلة النبوية لا يمكنها أن تتزوج بجعفر، لا يجوز لمملوك إيراني أن يقترن بسيدة من عقيلات بني هاشم، فلا مناص إذن من إيجاد حل آخر، كان الفقهاء في موقف دقيق لا يسعهم أن يكونوا هدفا لغضب خليفتهم، فاحتاروا وأسقط في يدهم؛ لأنه محتم عليهم أن يوفقوا بين أوامر الشريعة ورغبات الخليفة، وبينما هم في لجج الحيرة والدهشة خطرت على بال أحدهم فكرة عرضها على مولاه فنالت الاستحسان، رأى هذا العالم أن يزوجها حتى يحل له النظر إليها ولكن لا يقربها،
1
وهكذا أجازوا تلك المسامرات الليلية في قصر الخلافة تحت هذا الشرط، فقبل الخليفة أن يعقد له عليها ورضي بالشرط، وبذلك تخلص الرشيد من قيل الناس وقالهم وعاد إلى منادمة صديقيه العزيزين وجليسيه الأليفين.
لم يكن بعد هذه الحادثة إنسان أسعد حالا من الرشيد، إنه ليقاوم أصعب الأزمات فيفرجها برأيه، إنه ليقف باسما هازئا أمام الشدائد والصعاب يتحكم في القوانين والشرائع والعادات ويبسط سلطان نفوذه على غرائز الطبيعة فيظهر ازدراءه لما يظنه الناس أمرا مستحيلا.
أيها الغرور! أيها الطابع الأزلي للإنسانية، كم نفسا تحطمت على صخرتك العالية؟! وكم أملا تكسر عند أقدامك؟! وكم رغبة حارة رددت أنفاسها الأخيرة فوق مذبحك؟! وأي إنسان استطاع مقاومة مغناطيسيتك؟! لو أحصينا الذين رموا بأنفسهم في أحضانك فكم يبلغ عددهم؟!
Bilinmeyen sayfa