من الآن فصاعدا أنت الطبيب؛ فأنت حر، والفعل الصادر عن الحرية نوع من الخلق. حتى ولو يكن مقاومة مستمرة لشهوات البطن. ولنقل: إن الإنسان لم يخلق ليكتظ بالأطعمة، وبتحرر المعدة تتحرر الروح كذلك وتحلق. لذلك ترق السحب، وترنم عواصف أغسطس الصاخبة. ولكن ما أشد الزحام، والرطوبة، ورائحة العرق! وأجهدك المشي، وناءت به قدماك، كأنما تتعلمه لأول مرة. والأعين ترمق العملاق وهو يوسع الخطى حتى ينال منه التعب؛ فيجلس على أول أريكة تصادفه على طريق الكورنيش. وعيناك ترمقان الناس بعد عمى ربع قرن. هكذا شهد الشاطئ مولد آدم وحواء، ولكن لا يدري أحد من سيخرج من الجنة. وقديما قطع الشاب الطويل النحيل ابن الموظف الصغير القاهرة طولا وعرضا على قدميه دون تذمر. وسلسلة طويلة من آبائه وأجداده تهرأت أقدامهم من معاندة الأرض، ثم تساقطوا من الإعياء، وقريبا سيخرج الماضي من السجن؛ فيتضاعف عذاب الوجود. - عثمان، لماذا تنظر إلي هكذا؟ - ألا تريد أن تلعب الكرة؟ - أنا لا أحب الرياضة. - لا شيء غير الشعر؟!
وأين المهرب من نظرتك الثاقبة؟ وما الجدوى من مجادلتك؟ وأنت تعلم أن الشعر هو حياتي، وأن تزاوج شطرين ينجب نغمة ترقص لها أجنحة السماوات. - أليس كذلك يا مصطفى؟
وهتف المراهق الأصلع: هذا الوجود من حولنا ليس إلا تكوينا فنيا.
ويوما هتف عثمان في حال من التجلي: عثرت على الحل السحري لجميع المشاكل.
واندفعنا برعشة حماسية إلى أعماق المدينة الفاضلة، واختلت أوزان الشعر بتفجيرات مزلزلة. واتفقنا على ألا قيمة ألبتة لأرواحنا، واقترحنا جاذبية جديدة غير جاذبية نيوتن، يدور حولها الأحياء والأموات في توازن خيالي لا أن يتطاير البعض، ويتهاوى الآخرون. وعندما اعترضتنا دورة فلكية معاكسة انتقلنا من خلال الحزن والفشل إلى المقاعد الوثيرة، وارتقى العملاق بسرعة فائقة من الفورد إلى الباكار حتى استقر أخيرا في الكاديلاك، ثم أوشك أن يغرق في مستنقع من المواد الدهنية.
وها هي الشماسي تترامى ملتصقة الشراريب، فتكون قبة هائلة دانية مختلطة الألوان، تستلقي تحتها الأبدان شبه العارية. وتنتشر في الجو رائحة آدمية عميقة الأثر في الحواس مذابة في رائحة البحر المتحدية تحت شمس تخلت عن بطشها. ووقفت بثينة بقدها الممشوق، مبللة الجسد، محمرة الذراعين والساقين، مدسوسة الشعر في غطاء أزرق من النايلون، مفترة الثغر لفرحة الشاطئ. وأنت شبه عار، مغطى الصدر بدغل من الشعر الكثيف الأسود، وقد استكنت بين ساقيك جميلة وهي تبني هرما من الرمال. واضطجعت زينب على مقعد جلدي طويل، وراحت تطرز أفواف وردة على رقعة كانفاه، متباهية بتضخم صحي، فلم تعدم نظرات مراهقة بلهاء تحوم حول صدرها الناهض.
عزيزي مصطفى، قرأت تعليقاتك الفنية الأسبوعية. بديعة، ولاذعة، وموحية. تقول إنك بائع لب وفشار؟ مهلا، لكنك من أصل كريم، وصاحب قلم تمرس طويلا بالنقد الجدي والمسرحي، فحتى تسلياتك لها نكهة خاصة. أشكرك على سؤالك عنا، ولكن خطابك جاء موجزا لدرجة مزعجة، ولعلك اعتبرته تكملة شكلية لمقالاتك، ولكني في مسيس الحاجة إلى ثرثرة لا نهائية. زينب عال، وهي تقرئك السلام، وتذكرك بالدواء الذي رجتك أن تحصل عليه من الخارج بواسطة أي من زملائك الرحل. متاعب مصرانها هينة في رأيي، ولكنها مغرمة بالدواء كما تعلم. بثينة سعيدة، وكم أود أن أتسلل إلى عقلها، ولكن أسعدنا بغير جدال هي جميلة التي لا تفهم شيئا بعد. ولو أنك رأيتني لدهشت للتقدم الذي أحرزته؛ فقد نقصت ثمانية كيلو، ومشيت آلاف الكيلومترات، وضحيت بأطنان من اللحوم، والبطارخ، والزبد، والبيض. وعرفت الاشتياق إلى الطعام بعد شبع طويل لدرجة الموت. ولأنك بعيد؛ فإنني لا أجد من أحادثه كما أحب، ولذلك كثيرا ما أحدث نفسي. كلام زينب أعقل مما يجب. لماذا يثيرني الكلام العاقل في هذه الأيام؟ الشخص الوحيد الذي أعجبني حديثه رجل مجنون، يرفع يده بالتحية على طريقة الزعماء طوال الطريق، ويلقي خطبا عجيبة. وقد التقيت به فيما وراء شاطئ جليم بكيلو على الأقل، فبادرني: ألم أقل لك؟
فأجبته باهتمام: فعلا. - ولكن ما الفائدة؟ ... ستمتلئ المدينة غدا بسمك موسى، ولن تجد موضعا لقدم. - على البلدية أن ...
لكنه قاطعني بحدة: لن تفعل البلدية شيئا، سوف ترحب به تشجيعا للسياحة، وسوف يتكاثر بصورة مذهلة حتى يضطر السكان الأصليون للهجرة؛ فيمتلئ الطريق الزراعي بطوابير المهاجرين. ورغم ذلك كله سيواصل ثمن السمك صعوده.
وتمنيت أن أتسلل إلى رأسه أيضا. لغته لا تقل غرابة عن لغة العلماء الأفذاذ أصحاب المعادلات، وما أضيعنا نحن العقلاء بين الاثنين! نحن الذين نعيش في السماجة المجسمة، لا نعرف لذة الجنون، ولا أعاجيب المعادلات. رغم ذلك فأنا رب أسرة سعيدة. تعال وشاهدني وأنا أناجي بثينة على حين تهاجمنا جميلة بالرمال. وبيتنا في جليم مريح جدا، وحنيني إلى الويسكي يشتد بصورة ملحوظة. وأمس ونحن في الكابينة مساء ترامى إلينا صوت جارنا، وهو يتحدث قائلا: العمارات ستؤمم.
Bilinmeyen sayfa