الشحاذ
الشحاذ
الشحاذ
الشحاذ
تأليف
نجيب محفوظ
الشحاذ
1
سحائب ناصعة البياض تسبح في محيط أزرق، تظلل خضرة تغطي سطح الأرض في استواء وامتداد، وأبقار ترعى تعكس أعينها طمأنينة راسخة، ولا علامة تدل على وطن من الأوطان، وفي أسفل طفل يمتطي جوادا خشبيا، ويتطلع إلى الأفق عارضا جانب وجهه الأيسر، وفي عينيه شبه بسمة غامضة. لمن اللوحة الكبيرة يا ترى؟ ولم يكن بحجرة الانتظار أحد سواه. وعما قريب يأزف ميعاد الطبيب الذي ارتبط به منذ عشرة أيام. وفوق المنضدة في وسط الحجرة جرائد ومجلات مبعثرة، وتدلت من الحافة صورة المرأة المتهمة بسرقة الأطفال. رجع يتسلى بلوحة المرعى؛ الطفل، والأبقار، والأفق، رغم أنها صورة زينة رخيصة القيمة، ولا وزن إلا لإطارها المذهب المزخرف بتهاويل بارزة. وأحب الطفل اللاعب المستطلع، والأبقار المطمئنة، ولكن ازدادت شكواه من ثقل جفونه، وتكاسل دقات قلبه. وها هو الطفل ينظر إلى الأفق، وها هو الأفق ينطبق على الأرض. دائما ينطبق على الأرض من أي موقف ترصده، فيا له من سجن لا نهائي! وما شأن هذا الجواد الخشبي؟ ولم تمتلئ الأبقار بالطمأنينة؟ ولفت سمعه في الخارج حركة أقدام ثابتة، ثم ظهر التمرجي عند الباب قائلا: تفضل.
ترى، هل يتذكره رغم مرور ربع قرن من الزمان؟ ها هي حجرة استقبال الطبيب الخطير، وها هو يقف وسط حجرته باسما، بقامته المتوسطة النحيلة، والوجه الغامق السمرة، والعينين البراقتين، والشعر القصير المفلفل. لم يكد يتغير عما كان في حوش المدرسة. وما زالت زاوية فمه تنحرف في سخرية مذكرة بمرحه المطبوع الذي كان يضاهي تفوقه الحاسم. - أهلا عمر، تغيرت حقا، ولكن إلى أحسن. - حسبتك لن تذكرني! (وتصافحا بحرارة.) - ولكنك عملاق بكل معنى الكلمة. كنت طويلا جدا، وبالامتلاء صرت عملاقا.
Bilinmeyen sayfa