سر يا سيدي على رأس جيشك، وكن نجمه الذي يهتدي به في ظلماته، وملجأه الذي يأوي إليه في شدته، واعلم أنك لن تستطيع أن تنزل منزلة الحب والكرامة في نفوس الذين يحبونك إلا إذا كانت فرنسا أحب إليك منهم، بل من نفسك التي بين جنبيك.
فاستخزى لكلماتها وتضعضع، وقال لها: إذن أنت تحبينني يا روكسان؟ قالت: كيف لا أحب من صميم فؤادي من خفق قلبي خفقة الحزن والألم جزعا لفراقه، وإشفاقا على حياته؟ فصاح: وا طرباه! وا فرحتاه! سأنزل على حكمك في كل ما تريدين، وسأسافر الساعة طوعا لأمرك؛ فاذكريني دائما ولا تنسيني. قالت: لا أستطيع أن أنساك أبدا! فتناول يدها وقبلها، وانحنى بين يديها وانصرف.
وكانت روجينا وصيفة روكسان مختبئة وراء سارية الشرفة تسمع حديثهما وتفهم مغزاه، فما أبعد الكونت إلا قليلا حتى برزت من مخبئها، وهي تغرب في الضحك وتقول: ما أشد حزني لحزنك يا سيدتي! فضحكت روكسان وقالت لها: اكتمي كل شيء عن سيرانو، فإنه لا يغفر لي أبد الدهر حرماني إياه من الحرب، فوا رحمتاه له! ثم هتفت به، فخرج من المنزل وهو يقول: ما أكثر الذين يحبونك يا روكسان! قالت: نعم، ولكنني لا أحب إلا واحدا منهم! ثم قالت له: قد دعيت الليلة إلى هذا المنزل - وأشارت إلى منزل كلومير المقابل لمنزلها - لسماع المحاضرة التي يلقيها «ألكاندر» عن الحب، فأذن لي بالذهاب وابق أنت هنا، فإذا جاء كرستيان فقل له ينتظرني حتى أعود. قال: سأفعل إن شاء الله، ولكنك لم تخبريني كعادتك في أي موضع من مواضيع الحب تحبين أن يتحدث كرستيان الليلة إليك؟ قالت: لقد كان حديثنا بالأمس عن «موقف الوداع»، فليكن حديثنا الليلة عن «النظرة الأولى»، لا بل عن «الغيرة»، لا بل عن «الأمل الضائع»، لا بل اتركه على سجيته، لا تحدد له موضوعا خاصا حتى لا يستعد، فإنني أريد أن أختبر بديهته كما اختبرت رويته من قبل، فقل له يحدثني عن «الحب» وكفى. ثم حيته وانصرفت، وتبعتها وصيفتها.
وكان كرستيان مقبلا في تلك اللحظة، فسمع آخر كلماتها. فقال: ما الرأي يا سيرانو؟ قال: عد بنا إلى المنزل لمذاكرة الدرس الجديد، وما هي إلا ساعة أو بعض ساعة حتى نكون قد فرغنا وعدنا قبل عودتها، فصمت كرستيان هنيهة، ثم رفع رأسه وقال: لا، لا أريد الليلة دروسا ولا مذاكرة، فإني أذوب شوقا لرؤيتها! قال: ولكنك لا تعرف كيف تحادثها؟ قال: دعني وشأني فقد شببت عن الطوق وتجاوزت تلك السن التي يعجز فيها المرء عن أن ينطق إلا بما يلقنه إياه أبواه وأظآره. فقال: إنك تخاطر بنفسك مخاطرة عظيمة. قال: فليكن ما أراد الله، فقد استحييت من نفسي لكثرة ما مثلت من هذا الدور الشائن المعيب، دور الآلة الموسيقية التي يوقع عليها ضاربها، فتنبعث منها نغماتها المطربة دون أن تشعر بنفسها وبما ينبعث منها، على أنني قد استفدت من دروسك الماضية ما يسمح لي بمحادثتها ومذاكرتها والإفاضة معها في كل شأن من الشئون التي أريدها، وما أنا بغبي إلى الدرجة التي تتصورها، فسأكلمها بنفسي، وسأشرح لها جميع عواطفي التي تختلج في صدري، وما أحسبها تطالبني بأكثر من ذلك! قال: وهل أنت على ثقة من نفسك؟ قال: كيفما كان الأمر فقد تجاوزت الصلة التي بيني وبينها حد الذرائع والوسائل، إلى الخالص المتين الذي تغتفر معه الهفوات، وتستحيل فيه السيئات إلى حسنات، ولئن عجزت عن أن أحدثها بلساني فسأحدثها بلسان القبلات واللثمات.
وهنا سمع صوت روكسان، وهي خارجة من منزل «كلومير» في جمع عظيم من النساء. فقال سيرانو لكرستيان: قد فات الأوان فأذن لي بالذهاب، فذعر كرستيان واستطير عقله، وقال: بل ابق معي يا صديقي! قال: لا، فقد أصبحت غنيا بنفسك عني! وتركه وانصرف.
ولكنه لم يبعد إلا قليلا حتى عاد متسللا من حيث لا يشعر به أحد، واختبأ وراء حائط الحديقة يتسمع حديثهما.
الشرفة
قالت روكسان لكرستيان - وقد جلسا معا على المقعد الرخامي في وسط الساحة: لم أدرك من المحاضرة الغرامية التي ألقيت في منزل «كلومير» إلا ختامها، فلم أستفد منه شيئا، فحدثني أنت عن الحب وأطلق لنفسك العنان فيه ما شئت، وها هو ذا الليل قد أظلنا بسكونه وهدوئه، وها هي ذي باريس قد أوت جميعها إلى مضجعها، فتحدث فإني مصغية إليك.
فارتجف كرستيان ارتجاف الطالب الضعيف في موقف الامتحان، ولكنه لم ير له بدا من أن يتكلم، فانثنى إليها وقال لها: أحبك يا روكسان! وصمت فقالت له: وأنا أحبك أيضا يا كرستيان، ثم ماذا؟ فلم يفتح الله عليه بكلمة أخرى؛ فعاد إلى نغمته الأولى وقال لها: أحبك يا روكسان حبا جما، وسكت. فقالت له: هذا هو النسيج فوشه وطرزه، فازداد ارتباكه واضطرابه، وقال: آه ما أشد حبي لك يا روكسان! قالت: ما شككت في ذلك قط، ولكني أريد أن تقول لي كيف تحبني؟ قال: أحبك حبا ما أحبه أحد من قبلي أحدا. قالت: صور لي عواطفك وشعورك. قال: ليتك تضمرين لي في قلبك من الحب مثل ما أضمر لك. قالت: إنك تقدم لي من اللبن مخيضه وأنا لا أريد إلا زبدته، قل كيف تحبني؟ قال: أحبك حبا يعجز لساني عن التعبير عنه؛ لأنه فوق طاقتي. قالت: ولكنني أريد أن تعبر لي عنه وأن تلمس بيدك أوتار قلبي، وتملك علي عواطفي وشعوري. قال: آه لو استطعت أن ألثم جيدك الفضي الجميل! فجزعت وانحرفت عنه قليلا، وقالت: كرستيان، إنك قد جننت! قال: ما أشوقني إلى لثمة من فيك أبرد بها غليلي! فنهضت قائمة وقالت: إنك تضايقني الليلة كثيرا يا سيدي! وأرادت الذهاب، فأمسك بثوبها وقال: عفوا يا روكسان فإن ذنبي عظيم، وما زال يضرع إليها بنظراته المنكسرة حتى هدأت وجلست. فقال لها: آه لو تعلمين كم أحبك! قالت: أهذا كل ما عندك؟ وأرادت النهوض مرة أخرى، فأمسك بيدها وقد طار صوابه والتاث عليه أمره وظل يقول لها: لا، لا تغضبي يا روكسان فإنني لا أحبك! فضحكت وقالت له: ذلك خير لي، فانتبه إلى هفوته وقال: لا تصدقي ما قلت لك فإني أردت أن أقولك لك: إنني لا أحبك فقط، بل أعبدك وأدين بك، فتململت وقالت: لقد ضاق صدري! قال: أعترف لك بأني قد أصبحت بليدا لا أفهم شيئا. قالت: ذلك ما يحزنني كثيرا، فالبلادة عندي والدمامة سواء، فاذهب الآن واجمع شتات ذهنك ثم عد إلي الليلة الآتية، ونهضت قائمة: فتشبث بها وقال: انتظري قليلا فإنني سأقول لك شيئا جميلا، انتظري يا روكسان فإنني أريد أن أقول لك.
فقاطعته وقالت: تريد أن تقول لي: إنك تحبني وتعبدني، وتموت وجدا بي؛ فلقد عرفت ذلك ولا أريد أن أسمع منه شيئا فاذهب لشأنك فقد ضقت بك ذرعا.
Bilinmeyen sayfa