وكان بين الداخلين «الرجل الهائل» صديق «ليز»، فأطمعه هذا الموقف في حلم سيرانو، وقال في نفسه: لقد فقد الرجل حميته وانطفأت شعلة حماسته، وأظن أني أستطيع أن أتكلم عن أنفه الآن باطمئنان، ثم أشار إلى ليز فاقتربت منه. فقال لها: سأريك الآن منظرا من أبدع المناظر وأبهجها، وأخذ يدور في أنحاء القاعة ويتنشق الهواء بصوت عال كأنما يشعر برائحة غريبة، حتى دنا من سيرانو فلمس كتفه، وقال له: ما هذه الرائحة الغريبة يا سيدي؟ فصمت سيرانو ولم يقل شيئا، فأدنى وجهه من وجهه، وأطال النظر إلى أنفه، وقال له: قل لي ما هذه الرائحة الغريبة المنتشرة في هذا الجو؟ فإنك تستطيع أن تفهمها أكثر مني! فما أتم كلمته حتى لطمه سيرانو على وجهه لطمة هائلة رنت في أرجاء القاعة، وقال: رائحة الذعر أيها الجبان! فصفق القوم تصفيقا شديدا، وأغربوا في الضحك جميعا، حتى «ليز»!
الفصل الثالث
حرفة الأدب
منزل روكسان منزل جميل أنيق، تمتد أمام بابه شرفة عالية بديعة، قائمة على ساريتين ضخمتين، تتسلق فوقهما أغصان شجرة ياسمين مغروسة أمام الباب حتى تصل إلى الشرفة، فتنتشر في أنحائها، ويقابل هذا المنزل منزل آخر يشبهه في شكله ورونقه، ولا يختلف عنه بشيء سوى أن حلقة بابه ملففة بقطعة من نسيج كأنها أصبع مجروحة مضمدة، وبين المنزلين ميدان واسع يتوسطه مقعد مستطيل من الرخام، جلست عليه وصيفة روكسان وراجنو الشواء يتحدثان، فمسح راجنو دمعة كانت تترقرق في عينيه، وقال لها: ولقد حزنت كثيرا لفرارها مع ذلك الضابط الخبيث، وبكيت ما شاء الله أن أفعل؛ لأنها كانت سلوة حياتي، ومعينتي على أمري، وما هي إلا أيام قلائل حتى تكشف الغطاء عن ذلك الإفلاس العظيم الذي كان كامنا في حسابي، والذي كنت أستره بجدي وجدها، وتراكمت علي الديون، وعجزت عن الوفاء، فلم أر بدا من الانتحار، فخلوت في حانوتي ليلة أمس، وألقيت آخية في عنقي، وما هو إلا أن صعدت على الكرسي، ووضعت قدمي على حافته لأدفعه من تحتي، حتى دخل سيرانو، فهاله الأمر وتعاظمه، وفهم للنظرة الأولى كل شيء، فابتدر الحبل فقطعه بسيفه وقال: ماذا أصابك أيها المسكين؟ فنفضت له جملة حالي وبثثته همي، فأشفق علي، وجذبني من يدي حتى جاء بي إلى هنا، وقص على روكسان قصتي، وقال لها: إن راجنو صديقنا، وصاحب اليد البيضاء علينا وعلى الأدباء جميعا شعرائهم وكتابهم، وهو وإن لم يكن من نوابغ الشعراء المجيدين، فهو أديب متفنن، محسن إلى رجال الشعر والأدب، ضنين بهم وبكرامتهم، فلم أحفل كثيرا بتلك الغمزة التي غمزنيها في حديثه، وما زال بها حتى استثار عطفها وشفقتها، فبكت رحمة بي واستدنتني إليها، وواستني ببعض الكلمات الطيبة، ثم عهدت إلي بهذا الشأن الذي أقوم به في منزلها كما تعلمين. فاستعبرت الوصيفة باكية وقالت: لقد كان يخيل إلي يا راجنو أنك سعيد الطالع في أعمالك، وأنك تربح كثيرا، فما الذي دهاك وجر عليك هذا البلاء؟ قال: حرفة الأدب يا سيدتي، فقد كنت أحب رجال الشعر، وكانت ليز تحب رجال السيف، فلم يزل «مارس» يأكل ما يشاء، ثم يلقي ما تبقى منه إلى «أبولون» حتى نزل بي ما ترين.
فرثت الوصيفة لحاله، وظلت تلاطفه وتواسيه حتى هدأ وسكن، ثم نهضت من مكانها واتجهت جهة الشرفة وظلت تنادي: سيدتي روكسان، أسرعي فقد دنا ميعاد المحاضرة، فأجابتها سيدتها من داخل البيت: هأنذي آتية فانتظري قليلا. فقال لها راجنو: أية محاضرة تريدين؟ قالت: سيحضر الساعة إلى منزل «كلومير» - وأشارت إلى ذلك المنزل المقابل لمنزل سيدتها - رجل من العلماء الباحثين، اسمه «ألكاندر»؛ ليلقي محاضرة عن الحب، وقد دعيت سيدتي لاستماعها، وسأذهب معها بالطبع، فضحك راجنو وقال: ما سمعت قبل اليوم أن الحب فن من الفنون التي تلقى فيها المحاضرات. قالت وهي تبتسم: ليس في الفنون ما هو أحق بالمحاضرات من الحب!
وهنا سمعا صوت قيثارة آتية من بعيد فالتفتا وراءهما، فإذا سيرانو مقبل ووراءه غلامان صغيران يحمل كل منهما في يده قيثارة يوقع عليها، وهو ينهرهما ويتغيظ عليهما كأنهما طالبان بين يدي مؤدبهما، ويقول لهما: قد أمرتكما أيها البليدان أن تثلثا النغمات، وأنتما تأبيان إلا تثنيتها. فقال له راجنو: بخ بخ يا سيرانو! متى كان عهدك بمعرفة المثالث والمثاني! قال: عهدي بها منذ ذلك اليوم الذي جثوت فيه بين يدي جاصندي الموسيقي العظيم، وما أنا إلا تلميذه وخريج مدرسته ، ثم التفت إلى أحد الغلامين وانتزع منه قيثارته، واستقبل شرفة روكسان، وأخذ يغني هذه القطعة: «قد جئت أسلم على ياسمينك، وأقدم تحياتي لورودك، وألثم بخضوع وخشوع أوراق زنابقك البيضاء ...» فسمعت روكسان صوته، فخرجت إلى الشرفة فرأته. فقالت: هأنذي قادمة يا سيرانو، وكانت قد فرغت من زينتها ولباسها، فنزلت فحيته وقالت له: ما هذا المنظر الغريب! ومن هذان الغلامان الصغيران؟ قال: هما ولدان موسيقيان قد ربحتهما اليوم في رهان، فضحكت وقالت: أي رهان؟ قال: قد جادلت اليوم «داسوسي» في مسألة نحوية موضوعها: «الفرق بين لا، وبلى»، واشتد بيننا اللجاج ساعة، فاستحمق وأشار إلى هذين الغلامين - وكانا واقفين بين يديه - وقال لي: سأراجع المسألة الآن في مظانها من الكتب، وليكونن هذان الغلامان طوع أمرك ليلة كاملة تذهب بهما حيث تشاء، ويغنيانك ما تريد، إن كان الفوز لك فيه، ثم قام إلى خزانة كتبه فراجع المسألة، فكان الحق في جانبي، فأخذت الغلامين وسرت بهما يغنيانني ويأتمران بأمري في كل ما أقترحه عليهما من الضروب والألحان حتى وصلنا إلى هنا. قالت: وهل أنت راض عنهما؟ قال: إنهما يجيدان بعض الإجادة، وقد طربت لنغماتهما ساعة ثم سئمتها، ولا أدري ماذا أصنع بهما الآن، وأحسب أني لا أستطيع احتمالهما حتى مطلع الفجر. وصمت هنيهة ثم ابتسم، والتفت إليهما وقال لهما: أتعرفان منزل مونفلوري الممثل البطين؟ قالا: نعم. قال: اذهبا إليه وقفا تحت نافذة مخدعه الذي ينام فيه، واضربا لحنا طويلا مزعجا مضطرب النغمات يذهب براحته وسكونه، ويملأ صدره غيظا وحنقا، ثم عودا إلي بعد ذلك.
فانحنى الغلامان بين يديه وانصرفا، فالتفت سيرانو إلى روكسان وقال لها: قد جئت أسأل سيدتي كما أسألها كل ليلة: ما رأيها في حبيبها كرستيان؟ ألا تزال تراه إنسانا كاملا خاليا من العيوب والهنات حتى الآن؟ قالت: نعم، ما في ذلك ريب، فلقد جمع الله له بين فضيلتي الجمال الباهر والذكاء النادر، وقلما اجتمعا لإنسان سواه. قال: أترين أنه ذكي إلى هذا الحد؟ قالت: نعم، بل أذكى من كل من عرفت في حياتي، حتى أنت يا سيرانو! فاغتبط سيرانو في نفسه اغتباطا عظيما، ولكنه تظاهر بالتبرم والاستياء، وهز رأسه كالمرتاب وقال: ربما! قالت: ولقد بلغ من الذكاء والفطنة تلك المنزلة التي يتكلم فيها المرء بأشياء غريبة مدهشة يظنها السامع لأول وهلة أنها لا شيء، والحقيقة أنها كل شيء، ولقد يضعف نور ذكائه أحيانا ويشرد ذهنه حتى يخيل إلي أنه عيي أو غبي، ولكنه متى عاد إلى نفسه صاغ بلباقة ومهارة تلك الجواهر البديعة، التي لم أر مثلها في حياتي! قال: وهل يحسن الكلام عن القلب؟ قالت: إنه لا يقنع بالكلام عنه حتى يحلله تحليلا دقيقا. قال: وما رأيك في كتابته؟ قالت: إنه يكتب أحسن مما يتكلم، وكأن أسلوبه الماء النمير المترقرق على بياض الحصباء، وما أجمل كلمته التي يقول فيها: «خذي من قلبي ما شئت، فسيبقى لي منه ما يكفيني»، ألا ترى أنه معنى بديع؟ قال: لا بأس به. قالت: واسمع هذه الجملة أيضا وقل لي ما رأيك فيها: «إن كان لا بد لك من أن تحتفظي بقلبي لديك فأعيريني قلبك بدلا منه، فإني في حاجة إليه لاحتمال ما ألاقيه في سبيلك من الآلام والأوجاع!» فقال وهو يكاد يطير في نفسه فرحا: إنه يناقض نفسه بنفسه، وأحيانا يغالي، وأحيانا يكون غير وفي! ولا أدري ماذا يريد بقلبه، فتململت روكسان وقالت: إنك تضايقني كثيرا يا سيرانو، وما أحسبك إلا غيورا، فانتفض سيرانو وخيل إليه أنها قد ألمت بسريرة نفسه: فظل ناظرا إليها ذاهلا لا يدري ماذا يقول، حتى قالت له: وكذلك أنتم - معشر الشعراء - لا يطيق أحدكم أن يسمع كلمة ثناء على رفيقه! فهدأ روعه وعلم أين ذهبت في حديثها، ثم قالت له: واسمع هذه الجملة أيضا فهي غاية الغايات في قوتها ومتانتها: «لو كان في استطاعتي أن أرسم قبلاتي على صفحات قرطاسي، لقرأت كتابي بشفتيك بدلا من عينيك!» ما رأيك في هذه أيضا؟ هل تستطيع أن تجد فيها مأخذا؟ قال: لا أنكر أنها جميلة بديعة، لولا ركة في بعض أجزائها، فاربد وجهها غيظا وقالت له: إنك عنيد يا سيرانو، فاسمع هذه القطعة أيضا، فهي خير من جميع ما مضى، فقاطعها وقال لها: وهل بلغ الاهتمام بأمره أن تستظهري كلماته وتعيها في صدرك؟ قالت: نعم. قال: ما يطمع كاتب من الكتاب في منزلة أعظم من هذه يا سيدتي. قالت: إنه نابغة عظيم ما في ذلك ريب، فاحمر وجهه خجلا كأنما خيل إليه أنها قد ألمت بسريرة قلبه، وأنها إنما تعنيه بكلامها، وقال: إنك تغالين يا روكسان.
وإنهما لكذلك إذا أقبلت الوصيفة مسرعة وقالت: قد جاء الكونت دي جيش، فاضطربت روكسان وقالت لسيرانو: لا أحب أن يراك هذا الرجل عندي، فأنت صديق كرستيان، وأخاف إن رآك هنا أن يدرك سر غرامي فيفجعني فيه، فادخل المنزل ولا تظهر له حتى ينصرف لشأنه. قال: سأفعل كل ما يرضيك يا روكسان، ودخل المنزل ودخلت الوصيفة وبقية الخدم وراءه.
دهاء المرأة
أقبل الكونت دي جيش، فرأى روكسان واقفة وحدها في مكانها، فانحنى بين يديها وحياها وقال لها: قد جئتك اليوم يا سيدتي مودعا، وربما كان الوداع الأخير! قالت: أمسافر أنت؟ قال: نعم، قد صدر الأمر إلى الجيش بالسفر إلى «أراس» بعد بضع ساعات لنخلصها من يد العدو، ويظهر لي أن نبأ سفري لم يؤثر عليك أقل تأثير. قالت: لا تظن ذلك يا سيدي الكونت. قال: أما أنا فإني حزين لفراقك حزنا شديدا، ولا أدري ما الله صانع بي بعد اليوم؟ هل كتب لي في لوح مقاديره أن أراك مرة أخرى؟ أم هو الفراق الدائم الذي لا لقاء من بعده؟ وأطرق برأسه حزينا مكتئبا، ثم قال لها: وهل علمت أن الملك قد عهد إلي برئاسة أركان حرب الجيش؟ قالت: ما كنت أعلم ذلك من قبل، وإنه لنجاح باهر يا سيدي الكونت، فلله درك! قال: أي إنني أصبحت صاحب السلطان المطلق على الجيش بأجمعه بعد القائد العام، وفي استطاعتي أن أنتقم لنفسي في ميدان المعركة من جميع أعدائي وخصومي، خصوصا ذلك الرجل الوقح الجريء ابن عمك سيرانو، وأن أحاسبه حسابا غير يسير على جرائمه وآثامه.
Bilinmeyen sayfa