ويذهب قدما إلى عائشة فيفض إليها الخبر، فتطير نفسها شعاعا، وتسرع إلى ثيابها لترتديها، فيصيح بها أخوها: إلى أين يا عائشة؟ - إلى أبي الطيب. هلم معي إليه فوالله ما يمنعني من الذهاب وحدي إلا أني امرأة، ولن يليق بنا يا أخي أن نترك الرجل الغريب المسكين يموت وحده منكودا محسورا. إن من اسمه يملأ فم الدنيا، وشعره تتغنى به الآفاق، يرقد الآن مسجى في قاعة مظلمة، يطلب العطف فلا يجده إلا في قسوة الأقدار، والحنان فلا يراه إلا في مخالب الموت! هلم يا أخي إليه، فلعلنا نستطيع أن نعمل له شيئا إن بقي هناك شيء يعمل.
ويصلان إلى الدار، ويدخلان حجرة المريض وهو يصلى بلهيب الحمى، ويئن أنينا، وقد عاوده الهذيان فجعل يصيح: حاذر سيف الدولة ... إن العلج وراءك وسيفه في يده ... لقد قتلت الملعون برمحي ... قتلته ... قتلته ... ما هذه النيران التي ترسلها علينا الروم كأنها قطع الجحيم؟ ... أبعدوا هذه القرود عني ... أنا اليوم والي صيداء ... أقبلوا أيها الوفود ... هل من ظلامة؟ ... الصل الأسود! ... أبعدوا الصل الأسود عني ... إنه كاد يقتلني ... مدحته ... مدحته ... وماذا في يدي؟ ... لا شيء ... لا شيء ... آمالي؟ ... أطماعي؟ ... طموحي؟ ... هواء ... هواء ... هواء.
وغلبته الحمى فحبست لسانه، وسمعه صالح وعائشة فغلبهما البكاء، وأخذت عائشة تهز رأسها في حزن ممض وتقول: وا حسرتاه على البطولة الوثابة، والرجولة الغلابة! وا حسرتاه على الخلق الراسخ، والمجد الشامخ! على مثلك أبا الطيب تشق الجيوب وتمزق القلوب. أسفي على ذلك اللسان العضب الذي كان ينثر فرائد الحكم، كيف أصبح يهذي كما يهذي الممرور! وعلى ذلك العقل القهار، كيف اضطرب ميزانه والتهمته النيران!
ثم قامت متعثرة متخاذلة، وهي تقبض على يد أخيها وتقول لمحسد: لابد له من طبيب. لا يصح أن نترك شاعر الدنيا وحكيمها يموت دون أن نبذل كل شيء في سبيل شفائه. سأذهب أنا وأخي إلى الطبيب.
ثم يخرجان في عجلة حتى يصلا إلى دار بزقاق القناديل، كان يسكنها «نسطاس بن جريج» أشهر أطباء مصر في هذا العهد، حتى إذا طرقا الباب وأخبرا الطبيب الخبر، لبس ثيابه على عجل، وخرج معهما حتى بلغوا دار المتنبي، وبعد أن اختلى الطبيب بمحسد وأخبره بكل شيء، دخل على المريض فجس يده، وهز رأسه وقال: إن المرض شائع معروف بمصر، وهو سليم العاقبة إذا عني بالمريض. ثم التفت إلى عائشة فرأى الدموع تنهمر من عينيها، فضحك طويلا، وربت كتفها وهو يقول: لا تخافي يا سيدتي على شاعرنا، فإني عالجت آلافا من أمثاله، وقد شفوا جميعا، والذي أوصي به أن تبعدوا عنه اللحم والسمك، وأن تقصر غذاءه على اللبن، وأن تسقوه إذا عطش ماء السكر الممزوج بعصير الليمون، وسأبعث إليكم بقارورة دواء يشرب منها نصف كأس ثلاث مرات في كل يوم. إنه سيجد الدواء مرا، ولكنه دواء شاف سريع الأثر. ثم التفت إليهم وقال في سخرية تحب دائما من الأطباء: لا تخافوا يا أولادي، فإنه سيشفى بعد أيام، ثم حياهم وانصرف، وقد ملأ نفوسهم آمالا، وبدلهم من بعد خوفهم أمنا، والتفتت عائشة إلى محسد كالمستأذنة المتهيبة، وقالت: هل من بأس في أن أبيت أنا وأخي هنا الليلة؟ فأجاب مسرعا: لا يا سيدتي، إن ما تبثينه حول المريض من رحمة وحنان سيكون أشفى له من كل دواء.
واستيقظ المتنبي في الصباح مضنى منهوكا، فلما فتح عينيه ورأى صالحا وعائشة جالسين إلى سريره كاد ينكر ما أبصر، فحملق في دهش، وقال في صوت خافت: أنت هنا يا صالح؟! أنت هنا يا سيدتي؟!! الآن لا أحس بأوجاع الداء. جزاكما الله عن الغريب المسكين خيرا! لا تخافا علي، فإني لا أظن أني مائت في هذه الرقدة؛ لأن الله أكرم من أن يقضي علي قبل أن أنال من آمالي شيئا.
وبعث الطبيب بالدواء، ومرت أيام على أبي الطيب كان يشعر فيها بدبيب الشفاء يسري في أوصاله، فلما استطاعت يده أن تقبض على القلم طلب من محسد ورقا، ثم وضع يده على جبهته، وسرى في بادية من الخيال، وأخذ يكتب، وعاد بعد حين صالح وعائشة إلى زيارته فمد إليهما يده بورقة فاختطفتها عائشة ونظرت فيها مليا، فإذا قصيدة من أروع ما تنفس به الشعر العربي! بدأها بالشكوى وضعف الثقة بالناس. ثم ثنى بوصف الحمى التي أصابته، ثم عاد إلى ذكر سوء حاله بمصر، وإلى تمني الرحيل عنها، في أسلوب يستنزل العصم، ويذيب الصخور الصم. نظرت عائشة في القصيدة ثم قرأت بصوت عال:
ولما صار ود الناس خبا
جزيت على ابتسام بابتسام
وصرت أشك فيمن أصطفيه
Bilinmeyen sayfa